
إنّ النبي صلىاللهعليهوآله لمّا قدم إلى المدينة مهاجراً ، القى زمام ناقته فمشت حتى بركت عند باب المسجد ، فقال صلىاللهعليهوآله : «هذا المنزل إن شاء الله».
ثم أخذ في النزول فقال : (وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ) ، وبنى مسجده على أرض تقدر مساحتها بـ «٣٥ × ٣٠» متر ، وأقامه على عشرة أساطين من جذوع النخل ، وزاد فيه السنة السابعة للهجرة حتى صار مربعاً.
واستمر الخلفاء والسلاطين في توسيعه وإعماره جيلاً بعد جيل حتى بلغ اليوم ـ وبعد ألف وأربعمائة سنة من الهجرة ـ «١٦٣٢٦» متراً ، وكانت آخر توسعة له في العهد السعودي زهاء «٦٠٢٤» متراً.
وكان لهذه التوسعات أثراً بالغاً في دثر معالم المسجد الذي بناه النبي صلىاللهعليهوآله بيديه الكريمتين وبأيدي أصحابه ، إلّا أنّه ـ ومن حسن الحظ ـ لا زالت المعالم الأصلية من قبيل موضع حجراته صلىاللهعليهوآله وحدوده الأصلية محددة من خلال تعليم الاسطوانات المنصوبة في الجهات الأربعة في المسجد (١).
الحجرة الشريفة وحجرة فاطمة الصديقة :
لمّا بنى النبي صلىاللهعليهوآله مسجده الشريف بنى لأزواجه حجراً ، وبنى حجرة لفاطمة عليهاالسلام ، وكانت هذه الحجرة باقية على حالها إلى سنة ٨٨ هجرية ، وكانت الحجرة الشريفة في يد الامامين الحسنين (عليهماالسلام).أجمل وصف للحجرة النبوية
يقول الناقد والباحث في تاريخ المدينة المنورة محمد الدبيسي لـ"العربية.نت": كثير من المؤرخين شغفوا بتاريخ المدينة المنورة والكتابة عنه، لقد أحصيت أكثر من 500 كتاب إضافة إلى الأبحاث العلمية التي نشرت في دوريات، فمثلا أول كتاب عن تاريخ المدينة كان لابن زبالة في القرن الثاني الهجري، بعد ذلك كتب مؤرخون آخرون مثل المراغي والسخاوي والسمهودي، الأخير له كتاب باسم (وفاء الوفاء في اخبار دار المصطفى) في القرن العاشر الهجري "عام 1325هـ" والذي يحتوي على مجلدين، ويعتبر مرجعا في هذا الباب، لكن أجمل وصف وقفت عليه بخصوص الحجرة النبوية وجدته في كتاب (مرآة الحرمين) للدكتور ابراهيم رفعت باشا الذي جاء من مصر وزار الحرمين ووصف الحجرة بأورع ما يمكن.
ويقول الدبيسي إن الحجرة تقع شرق المسجد النبوي الشريف، وكان بابها يفتح على الروضة الشريفة التي وصفها الرسول عليه السلام بأنها روضة من رياض الجنة، وهي حجرة السيدة عائشة بنت الصديق التي قبضت فيها روحه فدفن بها، وكان قبره جنوب الحجرة، وكانت عائشة بعد وفاته تقيم في الجزء الشمالي منها، وكما يُذكر تاريخيا بأنه عليه السلام قد دفن ورأسه الشريف إلى الغرب ورجلاه إلى الشرق ووجهه الكريم إلى القبلة.
وعن القبر الخالي في الحجرة النبوية يشير محمد الدبيسي إلى إن بعض العلماء يذكرون أن هذا القبر سيدفن فيه النبي عيسى عليه السلام. أما قصة تسمية الكوكب الدري الموجود في الحجر النبوية، فقد كان يوجد في الجدار القبلي من الحجرة تجاه الرأس الشريفة مسمار فضة، ويذكر رفعت ابراهيم باشا أنه ابدل بقطعة من الألماس كانت بحجم بيضة الحمام، وتحته قطعة أخرى أكبر منها، والقطعتان مشدودتان بالذهب والفضة، ومن ثم اطلق عليهما اسم "الكوكب الدري".
ويطلق على الحجرة في بعض الكتب – والكلام للدبيسي – المقصورة الشريفة، ولها ستة أبواب، الباب الجنوبي ويسمى باب التوبة، وعليه صفيحة مكتوب عليها تاريخ صنعه 1026 هـ، والباب الشمالي ويسمى باب التهجد، والبال الشرقي ويسمى باب فاطمة، والباب الغربي ويسمى باب النبي وبعض الناس يسمونه باب الوفود، وعلى يمين المثلث داخل المقصورة باب آخر، ثم باب سادس على يسار المثلث في داخل المقصورة أيضا.
ويضيف أن الملك عبدالعزيز آل سعود أعطى عناية كبيرة بالحجرة البنوية والقبة الخضراء، ووجه بالمحافظة على البناء العثماني لها، مع الترميم إذا احتاج الأمر لذلك، وكذلك بطلاء القبة كلما بهت لونها.
ويقول إن عمر بن عبدالعزيز بنى حول الحجرة سور من خمسة أضلاع خوفا من أن تشبه الكعبة فيصلى عليها. ويوضح أن كتاب مرآة الحرمين ذكر أن الخيزران أم هارون الرشيد هي أول من كسا الحجرة الشريفة بالدائر المخمس، ثم كساها ابن أبي الهجاء بالديباج الأبيض والحرير الأحمر وكتب عليه سورة يس، ثم كساها الخليفة الناصر بالديباج الأسود ثم صارت الكسوة ترسل من مصر كل ست سنوات من الديباج الأسود المرقوع بالحرير الأبيض وعليها طراز منسوج بالذهب والفضة.
ويشير إلى أن تكاليف كسوة الحجرة النبوية عندما أصبحت تأتي من مصر، أوقفت على بيت مال المسلمين في مصر في عهد السلطان الصالح اسماعيل الناصر، وكانت تجدد كل خمس سنوات.
ويقول إن كتاب "مرآة الحرمين" يؤكد أن الهدايا التي أهديت للمسجد النبوي والحجرة الشريفة في عهده عام 1325هـ تقدر بسبعة ملايين من الجنيهات و620 قنديلا معلقة، ونجف من البلور، وأربع شجرات على أعمدة بلور مفرعات بأغصان مائلة عليها تنانير صافية وضعت بالروضة الشريفة.
وحول الحجرة الشريفة 106 من القناديل كلها بالذهب المرصع بالألماس والياقوت وحول الحجرة كذلك معاليق من الجواهر الثمينة ومن اللؤلؤ الفاخر.
وأهدى السلطان عبد المجيد الحجرة النبوية سنة 1274 هـ شمعدانين مصنوعين من الذهب الخالص المرصع بالألماس الفاخر، وتم وضعهما بمقصورة الحجرة الشريفة أحدهما باتجاه الرأس الشريف والآخر بمحاذاة رجليه الكريمتين، كما جاء في كتاب مرآة الحرمين.
ويؤكد الدبيسي أن الكتب التاريخية تشير إلى تعرض الحجرة النبوية للسلب والنهب عبر العصور المختلفة قبل الدولة السعودية، وأن بعض الأشياء التي تعرض في بعض المتاحف التركية، أخذت في عهد الدولة العثمانية من مقتنيات الحجرة، التي يقال إنها كانت تضم الذهب والفضة.
ويشير إلى أن ابراهيم رفعت باشا ذكر في كتابه أن الملك العادل نور الدين الشهيد أمر عام 557 هـ ببناء خندق صب فيه الرصاص حول الحجرة النبوية، عندما علم أن هناك من يحاول الوصول إلى جسد الرسول.
ويقول إن الحجرة مرت بمراحل في بنائها، فقد كانت إبان العهد الأول مبنية باللبن وجريد النخل على مساحة صغيرة ثم أبدل الجريد بالجدار في عهد عمر بن الخطاب ثم أعاد عمر بن عبد العزيز بناءها بأحجار سوداء.
قال المؤرخون : إنّ حجر أزواج النبي صلىاللهعليهوآله أدخلت في المسجد بأمر الوليد بن عبد الملك.
قال عطاء الخراساني : أدركت حجرات أزواج النبي صلىاللهعليهوآله من جريد على أبوابها المسوح من شعر أسود ، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يُقرأ يأمر بادخال حجر أزواج النبي صلىاللهعليهوآله ، فما رأيت يوماً أكثر باكياً من ذلك اليوم (2).
محراب النبي صلىاللهعليه وآله :
القبر الشريف :
دفن النبي صلىاللهعليهوآله في بيته ويقال لموضع قبره «الحجرة المطهرة» ، وطولها «١٦» متراً وعرضها «١٥» متراً ، ومساحتها الاجمالية «٢٤٠» متراً مربعاً.
أساطين المسجد النبوي صلىاللهعليهوآله :
كان في المسجد النبوي الشريف عدّة أساطين ، بيد أن بعضها صار معلّماً وذا اسم خاص لمناسبة تاريخية أو حادثة مهمة اقترنت بها ، ومنها :
١ ـ أسطوانة التوبة.
٢ ـ أسطوانة السرير.
٣ ـ أسطوانة المحرس.
٤ ـ أسطوانة الوفود.
٥ ـ أسطوانة المهاجرين.
٦ ـ أسطوانة مقام جبرئيل.
٧ ـ أسطوانة التهجد.
١ ـ أسطوانة التوبة :
وهي الأسطوانة التي ربط أبو لبابة نفسه اليها ، وحلف لا يحلّ نفسه حتى يحلّه رسول الله صلىاللهعليهوآله أو تنزل توبته.
فلمّا نزلت توبته جاءت فاطمة عليهاالسلام تحلّه.
فقال : لا حتى يحلّني رسول الله صلىاللهعليهوآله.
فقال صلىاللهعليهوآله : إنّما فاطمة بضعة مني (4).
٢ ـ أسطوانة السرير :
وكان سرير النبي صلىاللهعليهوآله يوضع عندها.
٣ ـ أسطوانة المحرس :
وتسمى أسطوانة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام ، وكان أمير المؤمنين يجلس في صفحتها التي تلي القبر ، مما يلي باب رسول الله صلىاللهعليهوآله ، يحرس النبي صلىاللهعليهوآله ، وهي خلف أسطوانة التوبة من جهة الشمال.
قال الأقشهري : إنّ أسطوان مصلّى علي ـ كرم الله وجهه ـ اليوم أشهر من أن تخفى على أهل الحرم ، ويقصد الأمراء الجلوس والصلاة عندها إلى اليوم. وذكر أنّه كان يقال لها «مجلس القلادة» لشرف من كان يجلس فيه (5).
٤ ـ أسطوانة الوفود :
وكان رسول الله يجلس اليها لوفود العرب إذا جاءته ، وكانت تعرف أيضاً بمجلس القلادة لشرف من كان يجلس اليها من بني هاشم وسروات الصحابة وأفاضلهم (6).
٥ ـ أسطوانة القرعة :
وهي الأسطوانة التي هي واسطة بين القبر والمنبر عن يمينها إلى المنبر أسطوانتان ، وبينها وبين القبر أسطوانتان ، وبينها وبين الرحبة أسطوانتان ، وهي واسطة بين ذلك. وإنّ النبي صلىاللهعليهوآله صلّى اليها بضع عشرة المكتوبة ، ثم تقدم إلى مصلاه الذي وجاه المحراب في الصف الأوسط ، وانّ المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها ، وكان يقال لذلك المجلس مجلس المهاجرين ، ويقال : الدعاء عندها مستجاب (7).
٦ ـ أسطوانة مقام جِبرائيل :
كانت باب بيت فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله في المربعة التي في القبر ، وكان مسلم بن أبي مريم وغيره يقول : لا تنس حظك من الصلاة اليها ، فانّها باب فاطمة عليهاالسلام الذي كان علي يدخل عليها منه.
ومن فضلها ما أسنده يحيى عن أبي الحمراء قال : شهدت رسول الله صلىاللهعليهوآله أربعين صباحاً يجيىء إلى باب علي وفاطمة وحسن وحسين حتى يأخذ بعضادتي الباب ويقول : السلام عليكم أهل البيت (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا).
وفي رواية له : رابطت بالمدينة سبعة أشهر كيوم واحد ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوآله يأتي باب عليّ كلّ يوم فيقول : الصلاة الصلاة ثلاث مرات (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا).
٧ ـ أسطوانة التهجد :
كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يخرج حصيراً كلّ ليلة إذا انصرف الناس إلى منازلهم ، فيطرح وراء بيت علي ، ثم يصلي صلاة الليل (8).
وقد دخلت بعض هذه الأسطوانات داخل شباك القبر الشريف ، فحرم المؤمنون من فضيلة الصلاة عندها.
أصحاب الصفة :
الصفة : ظلّة في مؤخر مسجد النبي صلىاللهعليهوآله يأوي اليها المساكين وضعفاء المسلمين ممن لا مأوى له ولا أهل ، واليها ينسب «أهل الصفة».وكان النبي صلىاللهعليهوآله يأمر كلّ رجل ، فينصرف برجل أو اكثر ، فيبقى من بقي ، فيؤتي النبي صلىاللهعليهوآله بعشائه فيتعشى معهم ، فاذا فرغوا قال : ناموا في المسجد ، وكان صلىاللهعليهوآله يجالسهم ويأنس اليهم ، وإذا أتته الصدقة بعث بها اليهم ولم يتناول منها شيئاً ، وإذا أتته هدية أرسل اليهم وأصاب منها وأشركهم منها (9).
عن فضال بن عبيد قال : كنّا نصلّي مع رسول الله صلىاللهعليهوآله فيخرّ قوم من قامتهم من الخصاصة.
وروى آخر فقال : لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ، ما منهم رجل عليه رداء ، إما إزار وإما كساء قد ربطوه ، فمنها ما يبلغ نصف الساقين ، ومنها ما يبلغ الكعبين ، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته (10).
القبة الخضراء :
الضريح المقدس :
صنع الضريح المقدس من الفولاد ، وله أربعة أبواب :
باب الرسول صلىاللهعليهوآله في الطرف الجنوبي.
باب فاطمة عليهاالسلام في الجانب الشرقي.
باب التهجد في الطرف الشمالي.
باب الوفود في الجانب الغربي.
وتوجد في جهة الرأس الشريف عمامة من الزمرد الأخضر تقدر بالمليارات (11).
المصادر :
1- ما يخص المسجد النبوي الأعظم مفصلاً في وفاء الوفاء ١ / ٣٢٢ الباب الرابع.
2- انظر للزيادة وفاء الوفاء : الجزء الأول الباب التاسع والباب السادس عشر.
3- وفاء الوفاء ١ / ٥٢٥ الفصل السابع عشر.
4- وفاء الوفاء ١ / ٤٤٣ الفصل السابع.
5- وفاء الوفاء ١ / ٤٤٩ الفصل السابع.
6- وفاء الوفاء ١ / ٤٤٩.
7- أنظر : وفاء الوفاء ١ / ٤٤٠.
8- وفاء الوفاء ١ / ٤٥٠.
9- أنظر : وفاء الوفاء ١ / ٤٥٣ وما بعدها.
10- وفاء الوفاء ١ / ٤٥٤.
11- أنظر : كتاب «أقرأ قبل الحج» لآية الله الحاج الشيخ علي الافتخاري الگلپايگاني.