![الانتظار من أجل العدل الانتظار من أجل العدل](https://rasekhoon.net/_files/thumb_images700/article_ar/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%B8%D8%A7%D8%B1%20,%D9%85%D9%86%20,%D8%A3%D8%AC%D9%84,%20%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D9%84.jpg)
المهديّة مسألةٌ إسلاميّةٌ يلتقي المسلمون عليها، وإن حاول بعض المسلمين في السنين المتأخرة بفعل وضع سياسيّ معيّن أن يطلقوا الحديث حول إنكار هذه المسألة، ولكنها مما تواتر الحديث فيها عند المسلمين جميعاً، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل في أنَّه هل وُلِد، وهو ما يلتقي الإمامية الاثنا عشريّة عليه، أو لم يولد، وهو ما يذهب إليه غالبيّة المسلمين من أهل السُّنّة؟ وقد نقل المرحوم السيد محسن الأمين أنَّ هناك من علماء السُّنّة مَن يقول إنَّه وُلِد، ويلتقي مع الشيعة في اسمه واسم أبيه، فيقول: إنَّ الأخبار بخروجه (عجل الله فرجه الشريف)متواترة، والإجماع من كافة المسلمين حاصل، وقد صنّف أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي كتاباً سمّاه (البيان في أخبار صاحب الزمان)، وله أيضاً كتاب (كفاية الطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب)، قال في كتاب البيان: إنّي جمعت هذا الكتاب وعرّيته من طرق الشيعة ليكون الاحتجاج به آكد. وجمع الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني صاحب كتاب (حلية الأولياء) المشهور أربعين حديثاً في أمر المهدي أوردها صاحب كتاب (كشف الغمّة) بحذف الأسانيد، مقتصراً علي ذكر الراوي عن النبيِّ(صلی الله عليه وآله وسلم)... وذكر غيرهما كثيراً من أخبار المهديّ، مثل صاحب (مشكاة المصابيح) و (درر السمطين) و (جواهر العقدين) و (كنوز الدقائق) وغيرها..فالكنجي بإسناده عن زر بن حبيش عن النبيّ(صلی الله عليه وآله وسلم): لا تذهب الدنيا حتي يملك العربَ رجلٌ من أهل بيتي يواطيء اسمُه اسمي (مشكاة المصابيح) عن ابن مسعود مثله، ثم قال: رواه الترمذي وأبو داود. قال الكنجي: وفي رواية: يلي رجلٌ من أهل بيتي يواطيء اسمه اسمي. رواه الترمذي في جامعه
وقال(عليه السلام): لا تذهب الدنيا حتي يملك العرب رجلٌ من أهل بيتي يواطيء اسمه اسمي، أخرجه أبو داود في سننه، وبإسناده عن حذيفة عن النبيّ(صلی الله عليه وآله وسلم): لو لم يبقَ من الدنيا إلا يومٌ واحدٌ لبعث الله رجلاً اسمه اسمي وخُلُقه خُلُقي يُكنّي أبا عبد الله.. وعن (أربعين الأصفهاني) وبسنده عن حذيفة: سمعت رسولَ الله(صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: ويح هذه الأمة من ملوك جبابرة كيف يقتلون ويخيفون المطيعين إلا من أظهر طاعتهم، فالمؤمن التقيّ يصانعهم بلسانه ويفرُّ منهم بقلبه، فإذا أراد الله عزَّ وجلَّ أن يعيد الإسلام عزيزاً قصم كلَّ جبّار عنيد، وهو القادر علي ما يشاء أن يُصلح أمّة بعد فسادها، فقال(عليه السلام): يا حذيفة، لو لم يبقَ من الدنيا إلا يومٌ واحد، لطوّل الله ذلك اليوم حتي يملك رجلٌ من أهل بيتي تجري الملاحم علي يديه ويُظهر الإسلام لا يخلف الله وعده وهو سريعُ الحساب. وبسنده عن أبي سعيد الخدري عنه(صلی الله عليه وآله وسلم): لا تنقضي الساعة حتي يملك الأرضَ رجلٌ من أهل بيتي يملأها عدلاً كما مُلِئَت قبله جوراً.(1) .
وعلي هذا، فنحن نؤمن بالمهديّة، لأنَّ الصادق المصدَّق الذي جاء بالصدق وصدّق به أخبرنا بذلك في خطين من الحديث: حديث الثقلين الذي يقول: إني مخلفٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلّوا ما تمسكتم بهما وإنهما لن يفترقا حتي يردا عليَّ الحوض. ويستوحي الكثير من العلماء من هذا الحديث أنَّه في كلِّ وقت يكون الكتاب فيه موجوداً ـ وهو موجودٌ علي مدي الزمن ـ لا بدَّ أن يكون هناك إمامٌ من العترة النبويّة الطاهرة معه بفعل الحديث عن عدم الافتراق.
التمسك بالقرآن و قيادة اهل البيت
وهناك مسألةٌ لا بدَّ أن نعالجها، وهي أنَّ مسألة الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف)في ما قُدِّمت لنا في كلام رسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم)، ننطلق فيها من خطين يتمثّلان في كلمتين لرسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم)، يحدّثنا في الأولي التي ذكرناها آنفاً عن التمسّك بالقرآن والتمسّك بالعترة، ويحدّثنا في الثانية عن المهدي(عجل الله فرجه).الكلمة الأولي هي: إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنّهما لن يفترقا حتي يردا عليَّ الحوض، هذه الكلمة تعطينا فكرةً أننا علي مدي التاريخ كمسلمين، لا بدَّ لنا أن نلتزم بالقرآن، لا نستبدل به غيره، وأن نلتزم بأهل البيت(عليه السلام) الذين لا يفترقون عن القرآن في فكرهم وسيرتهم وحياتهم، فدائماً هناك الخطُّ وهناك القيادة، القرآن يمثّل الخطَّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والأئمة من أهل البيت(عليه السلام) بعد رسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم) يمثّلون القيادة الأمينة الصالحة التي ترعي حركة القرآن في حياة النّاس، والتي تحفظ المفاهيم من الانحراف والزيغ والزلل. علي هذا الأساس، لا بدَّ لنا في خط السير دائماً من أن ندقق في كلِّ مسيرتنا الفكريّة والعمليّة: هل نحن متمسكون بالقرآن أم لا؟ لأنَّ التمسّك بالقرآن هو التمسك بكلِّ ما فيه من مفاهيم ومن شرائع ومناهج، ومن وسائل وأهداف، ومن تخطيط للعلاقات..
وهذا هو معني التمسّك بالقرآن، فليس معني التمسّك بالقرآن هو أن تحمله علي صدرك كرمز، أو تضعه في بيتك كواجهة، أو تقرأه قراءةً غير مركّزة، والله تعالي عندما أرادك أن تتمسّك بالقرآن، أمرك أن تجعله الهدي الذي تهتدي به إذا ضلَّ الناس وضاعوا، وأن تجعله النور الذي تستضيء به إذا أطبقت الظلمات عليك، وأن تجعله الإمام الذي تأتمر به، وأمرك أيضاً أن تجعل القرآن أمامك وتسير وراءه، فلا تتكلّم بكلمة إلاَّ إذا وافقت كلام القرآن، ولا تنطلق في عمل إلاَّ إذا وافق القرآن.ثم بعد ذلك، لا بدَّ لك أن تلتزم بالقيادة الثانية، وهي قيادة أهل البيت(عليه السلام)، الذين هم أمناء الله والرسل في حلاله وحرامه، لتكون قيادتك منطلقةً في خطِّ قيادتهم، فإذا كانوا في حضورهم فالتزمهم، وفي غيبتهم التزم مَنْ يمثّلونهم: مَنْ كانَ من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه، أو الأحاديث التي تقول: وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلي رواة حديثنا، فإنَّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم، أو الأحاديث العامة: العلماء وَرَثَةُ الأنبياء والفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول الله، وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتّباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم علي دينكم وإذا رأيتم العالم محبّاً للدنيا فاتهموه علي دينكم، فإنَّ كلَّ محبٍّ يحوط ما أحبّ.إذاً، في غيبة الإمام(عجل الله فرجه الشريف)، العلماء المجتهدون الورعون المنفتحون علي الرسالة الإسلاميّة، والذين يتحرّكون علي أساس خطِّ الإسلام، هم الذين ينبغي أن نركّز القيادة في وجودهم وحركتهم وفي عملهم بالمستوي الذي يتطابق مع القرآن، لتسير القيادة مع القرآن، فتتكامل عندنا النظريّة التي يقدّمها إلينا القرآن، فلا نظرية لنا في الجانب الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصاديّ والأمنيّ إلاَّ النظريّة القرآنية، بل الحقيقة القرآنية التي هي كلام الله.. وكذلك لا قيادة لنا إلاَّ القيادة التي تجعلنا نعمل علي أساس أن يكون الإسلام هو خطّنا، وأن يكون رضي الله هو هدفنا، ليكون التكامل مع أولياء الله والتنافر مع أعداء الله هو الواقع الذي يحدّد لنا علاقاتنا في الحياة.هذا هو معني الكلمة الأولي، أما الكلمة الثانية التي قالها رسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم) وهو يحدّثنا عن الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف)، فهي: يخرج ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً. فما معني ذلك؟ معناه أنَّ الحديث يريدنا أن نتطلّع إلي أنَّ الظلم شيءٌ مرفوض، وهو يمثّل مشكلةً للحياة، وأنَّ العدل هو الذي يحلّ المشكلة، ويمكن أن يحقق النموّ والاستقرار والحماية للإنسان وللحياة. يريدنا أن نحدّق دائماً في هذه المسألة: إذا كانت مسألة المهدي(عجل الله فرجه الشريف)هي أن يتحرّك(عجل الله فرجه الشريف)ليقمع الظلم، ويبقي العدل هو الأساس في الحياة، لينتشر هذا العدل في العالم بإذن الله، وليمحو الظلم بإرادة الله وبجهاده(عجل الله فرجه الشريف)وجهاد المجاهدين معه، فكيف يمكن لنا أن نحدّد موقفنا نحن من ذلك؟ فإذا كنّا ننتظره، فإننا ننتظره من أجل أن يحقّق لنا العدل، وإذا كنا نحبّ العدل ونريده، فينبغي أن يتحوّل هذا الحبُّ للعدل إلي واقعٍ في حياتنا.. إذا كنت تحب شيئاً وتريد أن تحقّقه، فمن الطبيعي أن تعمل علي أن تحقّقه في حياتك وحياة الناس ومَا لَكَ وما عليك، عادلاً مع ربِّك في ما لك وفي ما عليك، عادلاً مع أسرتك وزوجتك في ما لها وفي ما عليها، عادلاً مع أولادك وجيرانك وإخوانك ومَنْ تتعامل معهم، ألاَّ تظلمهم في كلمة ولا في ضربة، ولا تظلمهم في مال تأخذه منهم، أو حقٍّ يستحقّونه عليك، هذا معني أن تكون عادلاً.. وإذا كنت غير ذلك، فعلي أيِّ أساسٍ تنتظر المهدي(عليه السلام)؟ إذا كنت رمزاً للظلم في شخصيتك، فأنت ممن يقمعهم الإمام(عليه السلام)، لأنَّه يقمع الظلم كلَّه، فإذا كانت حياتك تعبّر عن الظلم، فكيف يمكن لك أن تنتظره؟ وهكذا يجب عليك أن تكون مع العادلين لا مع الظالمين، لأنَّك إذا كنت مع الظالمين، تؤيّدهم، تصفّق لهم، تنفّذ خططهم، تقاتل معهم، تعمل أعمالهم، إذا كنت كذلك، كانوا هم جماعتك وحزبك، فإذا كان هؤلاء جماعتك، فكيف تنتظر ظهور المهدي(عليه السلام)، وهو يريد مواجهة جماعتك ومواجهتك، باعتبار التقائك معهم.لهذا، فانتظار المهدي(عليه السلام) يعني أن تتخذ لنفسك موقفاً يجعلك في الدائرة التي تتحرّك فيها معه، وفي الطريق الذي تجاهد فيه معه.أنت تريد أن تكون معه، وتقول: اللهم اجعلني من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه.. فأعوانه أعوان الإسلام والعدل، وأنصاره أنصار العدل والإسلام، والمستشهدون بين يديه هم الذين يستشهدون علي أساس رسالة الله ودين الله، وعلي أساس ما أراده الله من حماية أوليائه والمستضعفين من عباده، فإذا كنت عوناً للكافرين ونصيراً للظالمين ومقاتلاً مع المنحرفين، فكيف يمكن أن تكون من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه. فلنفكّر في المسألة جيّداً، لأنَّ تفكيرنا إذا ارتكز علي السطح ولم يكن في العمق، فقد نُفَاجَأ بأننا من أعدائه ولسنا من أنصاره.وعلي ضوء هذا نقول: إنَّ مسألة العدل في الإسلام هي مسألة العدل لكلِّ الناس، وهذا ما نستوحيه من قول الله تبارك وتعالي: (ولا يَجْرِمَنَّكُم شَنانُ قومٍ عَلي ألاَّ تَعْدِلوا اعْدِلُوا هُوَ أقربُ للّتقوي) [المائدة:8]، أي لا تمنعكم العداوات، سواء كانت دينية أو اجتماعية أو سياسيّة، أن تعدلوا مع الذين تعادونهم وتخاصمونهم، فالعداوة شيء والعدالة شيءٌ آخر، فقد يكون الإنسان من أكفر الكافرين، ولكن إذا كان لديه حقٌّ عندك فعليك أن تحمي حقَّه وأن تعطيه حقَّه.هذا أولاً. وثانياً، ورد في الحديث عن أئمة أهل البيت(عليه السلام) في كتاب الكافي: أوحي الله إلي نبيٍّ في مملكة جبّار من الجبّارين، قال له: ائتِ هذا الجبّار، وقل له إنَّما استعملتك لتكفَّ عني أصوات المظلومين، فإنّي لن أدعَ ظلامتهم ولو كانوا كفّاراً، فالله تعالي لا يريد للظلم أن يتنوّع، ليكون هناك ظلمٌ مشروع وظلمٌ غير مشروع، وهكذا كان خطاب الله لنا: (إنَّ الله يأمرُ بالعدل والإحسان) [النحل:90]، (وإذا قُلْتُم فاعْدِلوا ولو كانَ ذا قربي) [الأنعام:152]، (يا أيّها الّذين امنوا كونوا قوّامين بالقِسْط شهداءَ لله ولو علي أنفسِكم أو الوَالِدَيْن والأقربين إنْ يكنْ غنيّاً أو فقيراً فاللهُ أولَي بِهِما فلا تَتَّبِعُوا الهوي أن تعدلوا) [النساء:135].إذاً، ينبغي ونحن نؤمن بفكرة العدل، أن نتحرّك في كلِّ الاتجاهات بوعي ويقظةٍ وشجاعة وتخطيط، لأنَّ هناك عنواناً كبيراً يشير الحديث إليه: يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً، ومعني ذلك أنَّ العدل الشامل هو هدفٌ للحياة كلِّها، وهو في الوقت نفسه خطُّ الإسلام، وإذا استنطقنا الآية التي نقرأها دائماً في سورة الحديد: (لَقَدْ أرسلنَا رُسُلَنا بالبيِّنات وأنزلنا معهم الكتابَ والميزانَ ليقومَ النّاسُ بالقِسط) [الحديد:25]، والقسط هو العدل، فنري أنَّه منذ آدم(عليه السلام) حتي زمن نبيّنا محمد(صلی الله عليه وآله وسلم)، كانت الرسالات حركة عدل في العقيدة والشريعة والمفاهيم، وفي الواقع في علاقة الإنسان بنفسه وبربِّه وبالناس من حوله وبالحياة. فمسألة العدل إذاً، هي مسألة القاعدة التي يرتكز عليها الإسلام، فيعدل الإنسان مع نفسه فلا يظلمها بالكفر والانحلال والانحراف، ويعدل مع ربِّه فيوحّده ولا يشرك به شيئاً ويطيعه ولا يعصيه، ويعدل مع النّاس كما قلنا فلا يظلم أحداً، ويعدل مع الحياة، فلا يبغي في الأرض بغير الحقّ.
العدل علي صعيد الحركات
ولعلَّ مشكلة أكثر الحركات الإسلاميّة وغير الإسلاميّة ممن يتحرّك في عملية التغيير السياسيّ، أنَّهم يطرحون العدل السياسيَّ في مستوي الحكم ولا يطرحون العدل الفرديَّ والاجتماعي، ونحن نعرف أنَّ العدل الفرديّ يؤسّس للعدل الاجتماعي، والعدل الاجتماعي يؤسّس للعدل السياسيّ، لأنَّ مسألة التغيير هي مسألة الإنسان (إنَّ الله لا يغيِّرُ ما بقومٍ حتي يغيّروا ما بأنفسهم) [الرعد:11]، فإذا لم يغيّر الإنسان نفسه لمصلحة العدل، فكيف يمكن أن يغيّر الواقع؟ فالإنسان في الحقيقة صانع الواقع، لأنَّ الله سبحانه أوكل إليه مهمة صنعه، وأراد له ـ وهو خليفته في الأرض ـ أن ينظّم الأرض بحسب قدرته وإرادته ووعيه علي الخطّ الذي أراده في رسالاته..والسؤال: لماذا لم تنجح أكثر الدعوات الإسلامية وغير الإسلاميّة، سواء الإصلاحية أو التغييريّة؟ والجواب علي ذلك هو أنَّ بعض الذين يحرّكون هذه الدعوات ليسوا عادلين، لأنَّهم يعيشون العصبيّة الشخصيّة، وإذا تجاوزوا العصبيّة الشخصيّة، فإنَّهم يعيشون العصبيّة الفئويّة، فبدلاً من أن تنطلق الحركة لتنفتح علي النّاس كلِّهم، فإنَّها تنغلق علي نفسها، وتعتبر نفسها العنصر المميّز الذي ينظر إلي النّاس من فوق، وتبدأ بالتآكل من الداخل.. ولذا، لا بدَّ لنا كأفرادٍ وجماعات وحركات من أن نعيش في الهواء الطلق، وألاّ نحبس أنفسنا في زاوية شخصيّة أو فئويّة أو عائليّة أو طائفيّة أو مذهبيّة، وعلينا أن ننفتح علي الساحة كلِّها، لنكون للنّاس كلِّهم، ولنكون للإنسان كلِّه وللإسلام كلِّه.لهذا، إذا أردنا للواقع أن يتغيّر، فعلينا أن نُخرج أفكارنا وعواطفنا ومشاعرنا من هذه الزنزانة الضيّقة التي تضجُّ بعصبيّاتنا وذاتياتنا.. لأننا إذا كنا نؤمن أنَّ الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف)سوف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فعلينا أيضاً أن نؤمن أنَّ عقل الإمام سوف يكون عقل العالم، وأنَّ قلبه سوف يكون مفتوحاً للعالم، وأنَّ حركته لن تتجمّد في زاوية عرقيّة أو إقليميّة أو قوميّة أو ما إلي ذلك، بل تكون للإنسان كلِّه، فالله ربُّ العالمين، والرسول رسولٌ للعالمين، والإمام إمام العالمين، ولا بدَّ أن يكون المصلح للعالمين جميعاً.وإذا كان المسلم الرسالي يعيش كلَّ هذه المعاني، فينبغي أن يكون إنسان العالم الذي يفكّر بحجم العالم بمستوي قدرته، من أجل أسلمة العالم بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد بحجم الظروف.إنَّ الساحة مفتوحةٌ للجميع، وهي تتحرّك في الهواء الطلق وفي إشراقة الشمس، فلا نحبس أنفسنا في الغرف المغلقة، ولا نحبس عقولنا في الزنزانات الضيّقة، ولا نحبس قلوبنا في الأحقاد القاسية.. لننطلق مع الهواء الصافي النقيّ، هواء الرسالة، فلعلّنا نُعِدُّ أنفسنا لنكون من أنصار المسيرة الكبري في إقامة دولة العدل التي يُعَزُّ بها الإسلام ويُذَلُّ بها النفاق ونكون من الدعاة إلي طاعة الله.اسس الاعتقاد بالمهدي غيب من غيب الله
وفي الحديث عن الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف)، نطلُّ علي العقيدة الإسلامية التي ارتكزت علي أساس الاعتقاد بالإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف)الذي حدّثنا رسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت(عليه السلام) عنه أنّه يخرج ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. (2) .وعند ظهور الإمام سينتشر الإسلام في كلِّ الأرض وفي كلِّ الحياة.. وفي الحديث عن غيبته، نريد أن نؤكّد مسألة الغيبة الطويلة من ناحية مبدئية.. فالمسألة عندما تثبت عندنا من طريق رسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم) ومن طريق أوصيائه الذين هم أئمة أهل البيت(عليه السلام)، فلا بدَّ أن نعتبر أنَّ المسألة تمثّل الحقيقة في العقيدة علي هذا الأساس، ثم بعد ذلك عندما نجد في المسألة بعض الغيب مما قد لا يدرك الإنسان تفاصيله في مسألة حكمة الله في ذلك، فإنَّنا نؤمن به، ونحاول أن نلاحق الاحتمالات التي توصلنا إلي النتائج الحاسمة إن أمكننا ذلك. وعلي هذا، فما ثبت صدوره من رسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم)، سواء كان في دائرة الغيب أو كان في دائرة الحضور والحسّ، لا بدَّ أن نؤمن به علي أنَّه حقيقةٌ إيمانية، لأنَّ رسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم): (وَمَا يَنطِقُ عن الهوي- إنْ هُوَ إلاَّ وحيٌ يُوحَي) [النجم:3ـ4]، فما يبلّغه(صلی الله عليه وآله وسلم) ويثبت عنه بطريقة قطعيّة فهو الحقيقة، فإذا كانت غيباً فإننا نؤمن بهذا الغيب، وإذا كانت حضوراً فإننا نواجه هذا الحضور..وعلي أيّ حال، فإنَّ قضيّة الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف)غيبٌ من غيب الله علي أساس عقيدة الإمامية في المسألة، لأنَّ مسألة أن يظهر شخصٌ ينشر العدل ليكون عالمياً هي مسألة غيب وليست مسألة عاديّة، فالله هو القادر علي كلِّ شيء، وهو الذي يختصُّ برحمته مَن يشاء، ولذلك تبقي التفسيرات لغيبته عاجزةً عن إدراك الواقع الذي لا يعلمه إلاَّ الله تعالي.
الغيب و العقل
وُلِد الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف)كما يُولَد كُلُّ الناس، وغاب بإرادة الله وعلمه، وأخبرنا رسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة من بعده بأنَّه سيظهر ليملأ الأرضَ قسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً، وعندما نريد أن نؤكّد المسألة الغيبيّة في العقيدة، فإنَّ علينا أن نفهم أنَّنا عندما نؤمن بالغيب، فإنَّ الغيب يرتكز علي العقل، ويرتكز أيضاً علي النقل.. ونحن هنا نسأل: إنَّنا نؤمن بالجنة والنّار، ونؤمن بالآخرة من دون أن نشاهد الجنّة والنار وواقع الآخرة، ونؤمن بالملائكة من غير أن نراهم، ونؤمن بكثير من الأمور غير المحسوسة لدينا، فكيف آمنّا بكل ذلك؟ آمنا بذلك في البداية من خلال أننا بحثنا: هل هذا الأمر ممكن، أو غير ممكن؟ هل هو مستحيل أو ليس مستحيلاً؟ وتساءلنا أيضاً: هل يمكن أن يعيد الله الإنسان بعد أن يصير تراباً، هل يمكن أن يخلقه الله أم هذا مستحيل؟ ويأتي الجواب: الله القادر علي الإيجاد قادرٌ علي الإعادة (وَضَرَب لَنا مثَلاً ونَسِيَ خَلْقَه قالَ مَنْ يُحيي العظامَ وهِيَ رميم- قُلْ يُحْييها الذي أنشأها أوّل مرّةٍ وهُوَ بكلِّ خَلْقٍ عَليمٌ) [يس:78ـ79]، فإذا كان إخراج الحياة من العدم ممكناً ومقبولاً، فإعادة الحياة بعد أن تتحوّل إلي عدم أمرٌ ممكنٌ أيضاً، لأنَّ القادر علي هذا قادرٌ علي ذلك، بل إنَّ عمليّة الإعادة أهون من عملية الخلق، لأنَّ عملية الخلق هي عمليّة إيجاد من دون نموذج، أي من دون مثال، بينما عملية الإعادة هي عملية خَلْقٍ علي أساس النموذج الذي كان، فعمليّة الإيجاد عمليّة إبداع، وعندما يعيدها، يعيدها بعد أن صنع المثال.ويبقي أن نجيب علي أنَّ ليس كلّ ممكن يصير وجوداً، فالجنة والنار واليوم الآخر أمورٌ ممكنة، لكنها لم توجد، فكيف نُثبتها؟ نقول: جاءنا الأنبياء(عليه السلام) وحكّمنا عقلنا في تصديقهم، فنحن عندما صدّقنا محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم)، فليس من خلال محبتنا له، بل صدّقناه من خلال الأدلة القاطعة علي نبوّته، إمّا من طريق المعجزة، التي هي علي شكل معجزات الأنبياء السابقين موسي وعيسي وإبراهيم(عليه السلام)، أو من خلال القرآن وغيره من المعجزات التي تمثّل صِدْقَ رسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم).انطلاقاً من هذا، وبعد أن أثبتنا أنَّ محمداً(صلی الله عليه وآله وسلم) هو رسولٌ من الله، وأنَّه صادقٌ في ما يُخبرنا، جاء رسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم) وأخبرنا أنَّ هناك جنّة وناراً من خلال كتاب الله، وأخبرنا أيضاً من خلال كتاب الله أنَّ هناك ملائكة وعذاباً ونعيماً وما إلي هنالك، أخبرنا(صلی الله عليه وآله وسلم) أيضاً أنَّ هناك مهديّاً يخرج آخر الزمان فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً.ومن هنا، فنحن آمنّا بالغيب علي أساس أنَّ الإيمان بالغيب ارتكز علي الإيمان بالحسّ من خلال تصديق رسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم)، ومن خلال الدليل الذي دلّنا علي أنَّه نبيٌّ من عند الله.. فإذاً، ليست مسألة الغيب مسألة معلّقةً في الهواء، أو نؤمن بها افتراضاً، بل لا بدَّ أن يرتكز الإيمان بالغيب علي حقيقة علميّة أو عقليّة علي الطريقة التي بينّاها، ونحن آمنا بالغيب لأننا آمنّا برسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم) وصدّقناه وأخبرنا رسول الله عن ذلك.. ولمّا كان الأمر ممكناً، فقد آمنّا به.طول العمر
إذاً، إنَّ مسألة العمر الطويل هي من المسائل التي لا يرفضها العقل، فالعقل لا يمنع أن يعيش الإنسان وقتاً طويلاً إلي ما شاء الله ما دامت أجهزته تستطيع أن تستمرّ، والنظريات العلميّة التي تبحث الآن في المسألة الإنسانية وفي مسألة طول العمر، لا تري مانعاً مبدئياً من أن يعيش الإنسان مدّةً طويلة إلي ما شاء الله، ولكنَّ العلم يقول لم نستطع حتي الآن أن نصل إلي الأسس أو النظريات التي نستطيع من خلالها اكتشاف سرِّ تجدّد الخلايا واستمرارها، وإذا اكتشفنا ذلك، فيمكن أن يطول عمر الإنسان إلي أمد طويل، فالعلم من ناحية نظرية لا يمنع ذلك، ولكنه يقول لم أستطع أن أصل إلي السرّ الذي يمكنني من خلاله أن أتحرّك في اتجاه تحويل الموضوع إلي أمرٍ واقعيّ في هذا المجال.. العقل لا يمنع والعلم لا يمنع، والقرآن يُثبت لنا عمراً طويلاً لأحد أنبياء الله تعالي، وهو نوحٌ(عليه السلام)، الذي لبث في قومه ألف سنة إلاَّ خمسين عاماً، وذلك قبل الطوفان، ولا ندري كم عاش بعد ذلك..فالذي يمكن له بقدرة الله أن يعيش ألف سنة إلاَّ قليلاً، يمكن له أن يعيش الألف الثاني، وما إلي ذلك، فالأمور التي تبدو ممكنةً في هذه الدائرة، فإنَّها تكون ممكنةً في الدائرة الأخري.. إذاً، القرآن الكريم يؤكّد أنَّ مسألة طول العمر ليست من المسائل المستحيلة، وحتي أنّها ليست من المسائل البعيدة في ما حدّثنا به عن نوح(عليه السلام) كما ذكرنا.ونحن في عصرنا هذا نسمع كثيراً من الأحاديث عن أناس عاشوا مائتي سنة، أو عاشوا ثلاثمائة سنة، وعندما يمكن حصول ذلك في هذا الحجم، تصبح المسألة ممكنة، وقدرة الله فوق ذلك كلِّه.. فالمسألة علي هذا، تُعتبر من الحقائق الإسلامية التي يمتزج فيها الجانب الغيبـيّ بجانب الحضور والحقّ.
مسؤولياتنا زمن الغيبة
إنَّ علينا أمام هذه القضيّة أن ندرس طبيعة دورنا.. فكما قلنا إنَّ دور الإمام المهدي(عليه السلام) رساليٌّ غيبـيّ، ولسوف يظهر ليقدّم لنا إسلاماً أصيلاً واضحاً لا لبْسَ فيه ولا مجال فيه لاختلاف المذاهب وتنوّع الاجتهادات، حتي يخيّل للناس كما ورد في بعض الأحاديث أنَّه جاء بدين جديد، وليس بعد رسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم) دينٌ جديد كما يؤكّد القرآن الكريم: (اليومَ أكملتُ لَكُم دينَكُم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لَكُمُ الإسلامَ ديناً) [المائدة:3] وفي الحديث: حلال محمد حلال إلي يوم القيامة وحرامه حرامٌ إلي يوم القيامة، (3)فلا يملك أحدٌ أن يبدّل أو يغيّر، لكنَّ ابتعاد الناس عن الإسلام واختلاف الاجتهادات التي أضاعت الكثير من ملامح الإسلام تدعو إلي الحاجة لمثل الإمام المعصوم ليعيد الأمور إلي نصابها، لأنَّنا عندما نجد في مسألةٍ واحدة عشرة آراء أو أكثر، فلا يمكن أن نحكم بكونها كلِّها إسلاماً، إذ لا بدَّ أن يكون بعضها أو واحد منها إسلاماً، ويكون الباقي بعيداً عن الإسلام، لأنَّ حقيقة الإسلام واحدة.فعندما يعيش النّاس في كلِّ هذا المدي الطويل إسلام المذاهب وإسلامَ المجتهدين، فقد يبتعدون عن الصورة المشرقة الوضيئة للإسلام الأصيل، لذلك يخيّل للإنسان أنَّ ما يراه هو دينٌ جديد، وإن كنا نستغرب مثل هذا التعبير ولا نتبنّاه، ولكن في ما يخيّل للناس في هذه الأيام وفي غيرها عندما يرون بعض الفتاوي التي لم يألفها النّاس فيما هو مشهورٌ بين الفقهاء، فإنَّهم يقولون إنَّ هذا فقهٌ جديد، وهو ليس فقهاً جديداً، ولكنه فهمٌ جديدٌ للفقه، وثمّة فرقٌ بين أن تأتي بفقهٍ جديد لم يكن في عهد الرسالة، وبين أن تأتي بفهم جديد للفقه الذي كان في عهد الرسالة.ويبقي السؤال: ما هي مهمتنا ومسؤوليتنا في زمن الغيبة؟لقد دلَّنا الإمام(عجل الله فرجه الشريف)علي الطريق الذي يجب أن نسلكه بعد أن أجاب علي أسئلة أحد الرواة، فعرّف أتباعه آنذاك في أيام السفراء الأربعة، بأنَّ الغيبة الصغري التي كان الناس يتصلون فيها به بشكل مباشر من خلال هؤلاء السفراء قد انتهت، وأنَّ الغيبة الكبري قد بدأت، فقال(عليه السلام) وهو يجيب هذا السائل: وأمّا الحوادث الواقعة ـ ما يستجدُّ من أحداث تحتاجون فيها إلي معرفة أحكامها وخطوطها ـ فارجعوا فيها إلي رواة أحاديثنا ـ هؤلاء الذين جمعوا أحاديث أهل البيت(عليه السلام) فرتّبوها ونظّموها وفهموها ـ فإنَّهم حجتي عليكم ـ لأنَّكم لن تعيشوا في فراغ ـ وأنا حجّة الله. (4).
لذلك، من مسؤولياتنا في زمن الغَيْبَة أن نرجع إلي العلماء الذين يملكون عِلمَ الإسلام وتقواه، الذين أخلصوا لله ولرسوله ولم يرتبطوا بسلطان جائر، أو يخضعوا لأيِّ حاكم ظالم، ولم يتحرّكوا في خطِّ الانحراف السياسيّ أو الاجتماعيّ أو الاقتصاديّ، وذلك كما قال رسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم): العلماء أمناء الرُّسُل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال(صلی الله عليه وآله وسلم): اتّباعُ السلطان. الذين يتّبعون حكّام الجور ويبرّرون لهم أفعالهم، ويؤيّدونهم في مواقفهم وأوضاعهم، ويمنحونهم فتوي هنا عندما يريدون فتوي بالحرب، وفتوي هناك عندما يريدون فتوي بالسلم، بحيث يُخضعون علمهم لحكّام الجور طمعاً في الحصول علي موقع أو مالٍ أو جاهٍ عندهم، وهؤلاء الحكّام الجائرون في أيِّ زمانٍ ومكان لا يمكن أن يُعطوا إنساناً شيئاً إلا إذا أخذوا من دينه ومواقفه الكثير الكثير.. لذلك، لا بدَّ للعالِم الذي يكون نائباً لإمام الزمان ووريثَ الأنبياء وأمين الرُّسُل، من أن يكون الإنسان الذي لا يبيع دينه بدنيا غيره، أو دينه بدنياه، ولا يبرّر للظالمين ظلمهم وللفاسقين فسقهم، بل ينطلق من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلي، وأن يكون كما قال أمير المؤمنين عليٌّ(عليه السلام): لا يزيدني كثرة النّاس حولي عزّةً ولا تفرّقُهم عني وحشةً، الذليل عندي عزيزٌ حتي اخذ الحقَّ له، والقويُّ عندي ضعيف حتي آخُذَ الحقَّ منه، أن ينطلق العالِم مع الحقِّ والعدل في جميع مواقعه، وينطلق مع الضعفاء، يعيش معهم ويرحمهم وينصحهم ويعلّمهم ويقدِّر إخلاصهم، انطلاقاً من قوله تعالي وهو يوجّه نبيّه(صلی الله عليه وآله وسلم): (واصبرْ نَفْسَك مَعَ الذينَ يَدْعُونَ ربَّهُم بالغَدَاةِ والعَشيِّ يريدونَ وَجْهَهُ ولا تَعْدُ عيناكَ عَنْهُم تريدُ زينةَ الحياة الدُّنيا ولا تُطِعْ مَنْ أغفلنا قلبَه عن ذكرِنا واتّبع هواه وكان أمرُهُ فُرُطاً) [الكهف:28].ينبغي للعالم أن ينطلق في مواقع حياته مفتوح القلب للناس، بأن يحبَّ النّاس جميعاً، يحب الناس الذين يؤمنون ليتعاون معهم علي خطِّ الإيمان، ويحبّ الناس الذين لا يؤمنون ليهديهم إلي السير في خطِّ الإيمان، أن لا يحمل في قلبه حقداً، تماماً كما كان رسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم) المفتوح القلب علي النّاس كلِّهم، والطيّب اللسان بكلِّ رقّةٍ ورحمةٍ علي النّاس كلِّهم، وبأن يكون العالِمَ صاحبَ الخُلُق العظيم الذي يعيش مع النّاس بكلِّ رأفةٍ ورحمةٍ وانفتاح، يعفو عمن أساء إليه، ولا يعمل علي إيجاد الفتنة بين المؤمنين أو ترسيخ العصبيّة في داخل المجتمع الإيمانيّ، سواء كانت العصبيّة عصبيّةً لشخصٍ أو حزب أو طائفة، لأنَّ الحديث الشريف يقول: من تعصَّب أو تُعصِّب له فقد خلع ربقةَ الإسلام من عنقه.ثم يكمل(عجل الله فرجه الشريف): فإذا رأيتم العالم محبّاً لدنياه ـ لا يهتمّ برسالته ودينه، ولا يتحرّك من أجل رِفْعة أمته وإعزاز الإسلام، بل يهتمّ بمصالحه ونزواته والحصول علي المال أجاء من حلال أو حرام ـ فاتهموه علي دينكم، لا تتحرّكوا معه لتأخذوا منه الدين أو لتتبعوه في خطِّ الدين.وهكذا نجد أنَّه(عليه السلام) أوكل إلي الصلحاء المؤتمنين علي رسالة الإسلام وعلي تراث أئمة أهل البيت(عليه السلام) أن يُجيبوا عن كلّ ما يسأل الناسُ عنه، ومن هنا كانت المسؤوليّة التي يتحمّلها المجتهدون نوّاب الإمام، حيث كلُّ مجتهدٍ عادلٍ منفتحٍ علي الإسلام بعلمه وعلي النّاس برسالته، وعلي حركة الحياة بمسؤوليته هو نائبٌ للإمام يتحرّك من موقع النيابة في الخطوط العامة والخاصّة.. وإنَّ مسألة الرجوع إليهم في الفتاوي مما اصْطُلح عليه بالتقليد مسألةٌ في عمق الإسلام، فقد ورد عن الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه.وقضية التقليد للمجتهدين في المسائل الشرعيّة قضيةٌ إسلامية إنسانية عقلائية تنطلق من باب رجوع الجاهل إلي العالم، والله تعالي قال: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتمُ لا تعلمون) [النحل:43]، فكما يرجع النّاس إلي الأطباء في قضاياهم الصحيّة، وإلي المهندسين في المسائل العمرانية، فكذلك يرجعون إلي المجتهدين في أحكام دينهم.إذاً، إنَّ غيبة الإمام المنتظر(عجل الله فرجه الشريف)لم تترك النّاس في فراغ، وذلك بوجود حركة العلماء المجتهدين العادلين الأتقياء المنفتحين علي المسؤولية، والذين يلاحقون قضايا النّاس في كلِّ ما يحتاجونه في ثقافتهم وقضاياهم، وهؤلاء يجسّدون الخطَّ الإماميّ الذي يمتدُّ من خطِّ النبيّ(صلی الله عليه وآله وسلم) حتي آخر الحياة، ومسؤوليتنا اتجاههم هي أن نرتبط بهم، لأنَّهم باعوا أنفسهم لله، ويتحملون الأذي في جنبه، لذلك، علينا أن نعرفهم وننصرهم، لأنَّ نصرتهم نصرةٌ للإمام الحجّة(عجل الله فرجه الشريف).ماذا لو كان بيننا؟في زحمة التحديات الصعبة التي تواجه واقعنا المعاصر والمخاطر الكبيرة التي تهدّد وجودنا، وفي ظلّ التعقيدات التي تحاصرنا، يتساءل البعض: ما هو دور المراجع والعلماء والحوزات في التصدّي لذلك؟ إنني أمام هذا السؤال أقول: لو كان الإمام الحجّة (عجل الله فرجه الشريف) موجوداً بيننا الآن، وكانت له الإمكانات الإعلاميّة والثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والأمنيّة.. لو كان موجوداً الآن، فكيف يتصرّف؟ هل يبتعد عن الساحة؟ هل يقف موقف اللامبالاة أمام التحديات الفكريّة؟ هل ينسحب من مواجهة التحدّي؟ أم أنَّه يتحدّي ويقتحم وينطلق ويصارع ويهيّيء الأجواء، ويحلُّ المشاكل ويحتوي الواقع؟!إنّني أعتقد أنَّ المسألة هي مسألة وجود فرص ملائمة للمراجع وللعلماء وللحوزات في اقتحام العالم ثقافياً، إذا لم نستطع أن نقتحمه سياسيّاً أو اقتصاديّاً..
ونحن نستطيع إذا أحسنّا أسلوبنا السياسيّ، أن نجعل العالم يحترمنا سياسياً، إذا ما انفتحنا علي قضايا العالم في أكثر من موقع.. فلو توزّعنا الأدوار، وانطلق كلُّ فريق مسلم في موقعه بمسؤوليته تجاه قضايا الإسلام، ولو أنَّ كلّ الفعاليات، سواء كانت دينية بالمعني المصطلح، أو كانت مجموعات المثقفين خارج الحوزات، شعرت بالمسؤولية تجاه قضايا الإسلام والمسلمين، لأمكننا أن نعمل شيئاً كبيراً في العالم..إنَّ العالم اليوم منفتحٌ علي الإسلام، ولكنّ علينا أن نعرف كيف نقدّم الإسلام له، ونعرف كيف نفهمه، ونعرف كيف نفهم نحن الإسلام.. وأنصح كلَّ إخواننا من العلماء، ومن طلاب الحوزات الدينيّة، ومن المثقفين المسلمين، بأنْ يفكروا بروح العصر ويتعلّموا لغة العصر وأسلوب العصر، وافهموا النّاس جيّداً، وافهموا حركة الحياة جيّداً، وافهموا أنفسكم جيّداً، وافهموا إسلامكم جيّداً.. فالعالم الآن منفتحٌ علي الإسلام أكثر مما كان منفتحاً عليه في زمن النبي(صلی الله عليه وآله وسلم)، لأنَّ الكثيرين صاروا يملكون فكراً ويحبّون أن يحاوروا صاحب الفكر، ويعيشون كثيراً من المشاكل، ويحبّون أن يحاوروا في كلِّ تلك المشاكل. لذلك لا تعتبروا أنَّ العالم معقّد، مشكلتنا أننا نحن المعقّدون، ونظنّ أنَّ الناس معقّدون، تماماً كما هو قولُ المتنبي:إذا ساء فعلُ المرءِ ساءت ظنونه وصدَّق ما يعتـاده من توهّممشكلتنا أننا نحبُّ الراحة ونحبّ الاسترخاء، ولكنَّ المسألة في أن ننطلق، لنكون كما قال الله تعالي:(الذينَ يُبَلِّغُون رسالاتِ اللهِ ويَخْشَوْنَه ولا يَخْشَوْنَ أحداً إلاَّ اللهَ وكَفَي باللهِ حسيباً) [الأحزاب:39]، وأن نكون كأولئك (الذينَ قالَ لَهُم النَّاسُ إنَّ النَّاسُ قَدْ جَمَعُوا لَكُم فاخْشَوْهُم فَزَادَهم إيماناً وقالوا حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ- فانقَلَبُوا بنعمةٍ من اللهِ وفَضْلٍ لم يَمْسَسْهُم سُوءٌ واتّبعوا رضوانَ الله واللهُ ذو فضلٍ عظيم) [آل عمران:173ـ174]، كلُّ من يزرع الخوف في نفوسكم، والخوفَ في حركة الدعوة إلي الله، والخوف في حركة الموعظة من أجل الله، والحركة من موقع الجهاد في سبيل الله، كلّ من يزرع في نفوسكم الخوف، فإنَّ أسلوبه شيطاني، لأنَّ الله يقول: (إنَّما ذَلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّف أولياءَه فَلا تَخَافُوهُم وخافُونِ إنْ كنتُم مُؤمِنين) [آل عمران:175]، (إذْ يَقولُ لصاحِبهِ لا تَحْزَنْ إنَّ الله مَعَنا) [التوبة:40] في أشدِّ ساعات الحرج، القوم يقفون أمام الغار، وليس بينهم وبينه إلاَّ أشبار أو أصابع ويقتحمون الغار، وصاحبه خائفٌ حزين، ورسولُ الله يعيش الطمأنينة (لا تحزنْ إنَّ اللهَ معَنا فأنزلَ الله سكينَتَهُ عليه وأيّده بجنودٍ لم تروْها وجَعَلَ كلمةَ الذين كفروا السُّفلي وكلمة الله هي العليا) [التوبة:40].نحتاج أن نثق بالله أكثر، أكثر مما نثق برؤساء الدول الكبري.. فبعض الجهات أو الدول تقول، طالما أنَّ أميركا معنا وبريطانيا وفرنسا معنا فمن يستطيع الوقوف بوجهنا.. ولكن نحن نقول: حسبنا اللهُ ونِعمَ الوكيل.. لأنَّ ذلك يعمّق إحساسنا بقوتنا، ويجعلنا نثبت ونتماسك ونفكّر بكيفيّة تحريك عناصر القوّة، وليس من الضروريّ أن تكون قويّاً بحيث تهاجم فوراً، بل أن تكون قويّاً، بأن تخطّط وتتحرّك، بأن تدرس الواقع.. عندما انطلقنا علي أساس (أشدّاءُ علي الكُفَّار رحماءُ بينهم) [الفتح:29] انتصرنا، وعندما كان اليهود (بأسُهُم بَيْنَهُم شديدٌ تَحْسَبُهُم جميعاً وقلوبهم شتّي) [الحشر:14]، انكسروا..
ولما تبدّلت القضية أصبحوا أشداء علي المسلمين رحماء بينهم، وأصبح بأسنا بيننا شديداً وقلوبنا شتي، لذلك (ولَنْ تجدَ لِسُنَّةِ اللهِ تبديلاً) [الأحزاب:62]، لأنَّ الله سبحانه جعل قضايا النصر تنطلق من خلال الواقع.. والتجربة أمامنا.. ومشكلة بعض النّاس أنّهم عندما يؤمنون بالإمام الحجّة(عجل الله فرجه الشريف)يقولون ممنوعٌ أن يقوم إنسانٌ بعمل إسلاميّ، حتي أنَّ بعضهم يري أنَّ الإصلاح حرام، وأنَّ الموعظة حرام، لأنَّك كلما وعظت الناسَ أكثر، كلما صار الناس أوادم، وبالتالي يتعطّل خروج الحجّة (عجل الله فرجه الشريف)، وكلما عملت للإسلام، وأسّست دولة إسلاميّة هنا، ودولة إسلاميّة هناك، خرّبتَ العمل علي صاحب الزمان عجّل الله تعالي فَرَجَه الشريف.هؤلاء يجمّدون الإسلام، والإسلام لم يتجمّد في أحكامه في أيِّ زمان: حلال محمد حلالٌ إلي يوم القيامة، وحرامُ محمد حرامٌ إلي يوم القيامة، لم يتجمّد الجهاد، ولا الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يتجمّد شرع الله.. وأما أنَّ كلّ راية تخرج في زمن الغيبة قبل الظهور (فإنَّها راية ضلال)، فهذه روايةٌ محلُّ تحفّظ كبير..وعندما يدعو الإنسان للإسلام ولخطِّ أهل البيت(عليه السلام)، ويواجه العالم كلَّه كالإمام الخميني (قده)، هل يمكن القول إنَّ رايته راية ضلال؟ لذلك، فبعض الروايات، لا بدَّ للإنسان فيها أن يفهم إمَّا أنَّها موضوعة، أو أنَّه يُراد منها شيءٌ آخر.. كما لو كان الأمر في حجم مرحلة معينة لا يملك فيها أهل الحق إمكانات الثورة وحركية التغيير. هل يمكن أن يقول الله سبحانه للناس، لا تطالبوا بتطبيق الإسلام، ولا تُصلحوا الناس؟ هل هذا معقول؟ الله تعالي خلق لنا عقلاً، وأعطانا قرآناً، وأمرنا باتباع ما صحَّ من السنّة النبويّة ومن تراث أهل البيت(عليه السلام)، لذلك، لا يصحّ أنَّ مجرد رواية كهذه تعطّل لنا كل هذا.أمام كلِّ هذا، هل نجمّد إسلامنا وحركتنا ونصادر كلَّ أحلامنا ومشاريعنا في التغيير لأنَّه سيأتي يومٌ يتغيّر فيه العالم كلُّ العالم؟إنَّ القرآن يرفض ذلك، لأنَّ الله تعالي لم يوقّت الدعوة إليه سبحانه بوقت، ولم يوقّت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بوقت، ولم يوقّت الجهاد بوقت، ذلك أنَّ النّاس بأجمعهم مسؤولون عن الإسلام كلِّه بأن يحملوه أمانةً في أعناقهم، أمانةً من الله، وأمانةً من رسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم): (أفإنْ ماتَ أو قُتِلَ انقلبْتُم علي أعقابِكُم) [آل عمران:144] بل لا بدَّ لكم أن تستمروا وتتابعوا المسيرة جيلاً بعد جيل (وَلْتَكُنْ منكم أمّةٌ يَدْعُون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هُمُ المفلحون) [آل عمران:104].لذلك، فإنَّ الإمام في مرحلته سيكون هذا هو دوره، وإذا بلغنا ذلك الزمن، فإنَّ دورنا يكون علي هامش دوره، لنكون من جنوده وأنصاره، أما الآن، فإنَّ دوره في مدي الزمن لا يلغي دورنا الراهن، بل لا بدَّ أن نؤكّد ونأخذ من هذا الوعد الإلهيّ بأنَّ العدل ـ وكما قلنا في بدايات هذا البحث ـ في خط الإسلام، سوف يشمل العالم، وأن نأخذ من ذلك فكرةً واقعيّة في أن نتحرّك من أجل العدل والإسلام.وقد يكون هناك فرقٌ بين تلك المرحلة من حيث الشموليّة أو في إسلام العدل، أو عدل الإسلام العالميّ، لكنَّ المسألة علي مستوي الجزئيات تصبح ممكنة، لأنَّ الإنسان هو الإنسان، فالإنسان هناك سوف يفتح الله عقله وقلبه، وربما يصل من خلال تتابع الحضارات وتطوّر العلم ومن خلال اتّساع المعرفة إلي المستوي الفكريّ والروحي، بحيث تنفتح الحقيقة أمامه بدون ضباب، وربما يكون إنسان تلك المرحلة مميَّزاً، وليس من الضروريّ أن يكون كلُّ إنسان كذلك، ولكن علينا أن نفهم من خلال الانتصار الشامل، أنَّ هناك قسماً كبيراً من الناس يبلغ درجةً من الوعي والمعرفة والعقل بالمستوي الذي يستطيع فيه أن يدرك الحقيقة، وإذا كان إنساننا الآن لا يملك هذا الأفق الواسع من معرفة الحقيقة، لأنَّ هناك ضباباً ثقافياً وسياسيّاً واجتماعياً وغرائزياً يمكن أن يحجب الحقيقة عنه، فإنَّ هناك أكثر من نافذة في عقل الإنسان تُطِلُّ علي المعرفة، فإذا أتقن فتحها وأطلّ منها وتحرك نحوها، كان من الممكن جدّاً أن نطبّق إسلاماً ضمن منطقةٍ أو مجموعة أو محور أو ما إلي ذلك.وأمامنا تجربة رسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم) الذي عاش الدعوة من خلال بشريّته، فقد حرّكها بطاقاته البشرية ولم يحرّكها بطريقة غيبيّة، وإن كان الغيب قد أطلَّ عليه بين فترةٍ وأخري ليحمي الله المسيرة عندما تتعرّض للخطر، كما في موقعة بدر، ولكنه نجح(صلی الله عليه وآله وسلم) في أن يفتح العالم علي الإسلام، وإن لم يستطع بقدرته البشريّة أن يستكمل التجربة ليكون العالم كلُّه مسلماً، لذلك قال الله تعالي: (لَقَدْ كان لَكُم في رسولِ الله أسوةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب:21]، فلقد دعا رسول الله(صلی الله عليه وآله وسلم) بالوسائل الإنسانية، وجاهد بالوسائل المادية المتوفّرة لديه مما يتوفّر لدينا مثلها أو أكثر منها.
دراسة الساحة
لذلك، يتمثّل دورنا في هذه المرحلة من حياتنا بأن نقف في السّاحة لندرسها في كلِّ مواقعها: ساحة الإنسان وساحة التحديات وساحة الصراع، لندخلها مسلّحين بكلِّ السلاح الذي تفرضه علينا هذه المرحلة، وعلينا ونحن نتطلّع إلي القمّة الواقعيّة للإسلام، أن نسعي إليها بكلِّ جهدنا، وعلينا أن نعرف أنَّ الله أنزل كلَّ الرسالات، لا لتطبّق في زمان النبيّ ـ أيِّ نبيّ ـ فقط، فكلُّ نبيٍّ دعا وجاهد وعاني وتألّم واستطاع أن يُدخل إلي الإيمان مجموعة من المؤمنين في زمانه، ثم اتّسعت دعوته وأخذت حجماً معيّناً، لكنها لم تلغ الكفر والانحراف والاستكبار، ولذلك فإنَّ الله تعالي أرسل رسالاته لتكون للإنسان قمّة يتطلّع إليها ويحاول كلُّ جيلٍ أن يزحف إليها ويقترب منها، وقد أراد الله للبشريّة أن تصل إلي مرحلةٍ تُطبّق فيها كلُّ رسالة الإسلام التي تجمّعت كلُّ الرسالات في داخلها، وهي مرحلة الظهور التي أراد الله للحياة ألاّ تغيب عن الدنيا قبل أن تطبّق الرسالة بالكامل، وأمرنا ألاّ نعتبر أنَّ الإسلام الذي أنزله هو دينٌ يحلّق في الفضاء من دون أن يعيش الواقع أو أن يبقي حُلُماً كبيراً نحلم أنَّه قد يتحقّق، أو مجرّد قمّة نتطلّع إليها في الأعالي دون أن نستطيع بلوغها.. لقد أرادنا سبحانه أن نعرف أنَّ الإسلام واقعيٌّ في أحكامه وفي حلوله لمشاكل الإنسان، ولن يبلغ هذه الفعليّة في الواقعية إلاّ إذا توفرت له الظروف الموضوعيّة.لذلك، علينا ونحن نتحرّك في خطِّ المسيرة، أن نوفّر ظرفاً موضوعياً هنا، وظرفاً موضوعيّاً هناك، ليعيش الناس الإسلام، وإنَّ علينا أن نعمل لندخل الإسلام إلي عقل وقلب كلِّ جيلٍ من الأجيال، لأنَّ فهم الإسلام مسؤولية الجميع.لهذا، فإنَّ دورنا في هذه المرحلة هو أن نستوحي من هذه الشمولية الواقعية الفعلية للإسلام في المرحلة التي سيظهر فيها الإمام(عليه السلام)، وذلك بأن يظلّ الواحد منّا سائراً بهذا الاتجاه، ليكون ارتباطه بهذه النتيجة الحاسمة الشاملة ارتباطاً طبيعيّاً، تماماً كما هي السواقي التي تنطلق من هنا وهناك لتؤلف النهر الكبير، والذي عندما تهطل الأمطار بعد ذلك تملأه بما لم تستطع السواقي أن تملأه، لذلك، فلا ينبغي أن نتخدّر بالمستقبل ونتجمّد من خلال الضغوط والمشاكل التي تحيط بنا، بل لا بدَّ أن نبدع الفكرة في الخطِّ الاجتهادي السليم، والحركة في التجربة الإسلاميّة الرائدة، وأن نبدع في فهم الواقع، لأنَّ من لم يفهم الواقع لا يستطيع أن يتحرّك في خطِّ الاستقامة.. ولعلَّ مشكلة الكثيرين من الذين ينظّرون أو من الذين يجتهدون، أنَّهم يحدّقون في الكتاب ـ أيِّ كتاب ـ أكثر مما يحدّقون في الواقع، فيما الكتاب كتبه أناسٌ عاشوا الواقع من خلال ظروفهم، فلماذا لا ندرس كتاب الواقع من أجل أن نصنع للمستقبل كتاباً جديداً ينطلق من تجربةٍ جديدة؟!معني الانتظار
ويبقي أن نقول إنَّنا عندما نتذكره(عجل الله فرجه الشريف)، علينا أن نعرف أنَّ معني انتظارنا له ليس هو الانتظار السلبي كمن يجلس حائراً قلِقاً ينتظر إنساناً يأتي إليه، ولكنّه الانتظار الإيجابيّ الذي يقول فيه الإنسان لنفسه، ويقول فيه المجتمع لأفراده: إنَّ الإمام(عليه السلام) سوف يظهر من أجل أن يعيد الإسلام جديداً، ومن أجل أن يعيد الحقَّ قويّاً، ومن أجل أن ينشر العدل الشامل في الأرض كلِّها.إذاً، نحن ننتظره من أجل حركيّة الإسلام ليشمل العالم، ومن أجل حركيّة الحق، ليدخل كلَّ عقلٍ وقلبٍ وموقع.. ونحن ننتظره من أجل أن يكون العدل عدلاً خاصّاً وعامّاً، حتي ينتشر في الأرض كلِّها بكل جهدٍ وجهاد. فإذا كنا نؤمن بالإسلام وبالحق وبالعدل، فعلينا أن نمهّد له الطريق، وأن نصنع له ولجنوده موقعاً للإسلام هنا وموقعاً للإسلام هناك.. فأن ننتظر الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف)، أن ندرس ما هي طاقتنا وإمكاناتنا في خدمة الإسلام.. لنخدم الإسلام في بيوتنا، بأن نجعل من عوائلنا عوائل إسلاميّة، وفي أسواقنا لنجعلها أسواقاً إسلاميّة شرعيّة، لا تتحرّك بالغشّ ولا بالخداع، ولا بأكل أموال النّاس بالباطل، ونخدم الإسلام في حركة الواقع السياسيّ، ليكون واقعنا السياسيّ واقعاً إسلامياً ينطلق من قواعد الإسلام وأحكامه، لننهج في السياسة نهجاً إسلاميّاً، وألا يقول واحدنا إنَّ الدين شيء والسياسة شيء آخر، وهذا المنطق يخاطب الواحد فينا: كُنْ متديناً، صَلِّ جيِّداً وصُمْ جيِّداً وما إلي ذلك، ولكن العب لعبة السياسة بالغشّ والخداع والتجسّس والخيانة.نحن نؤمن أنَّ الإنسان إنسانٌ واحد، وُلِد كياناً واحداً ويعيش ويُبعث كياناً واحداً، ليس هناك إنسانان، إنسانٌ يعبد الله في صلاته وصومه وحجِّه، وإنسانٌ يعبد الشيطان في سياسته واقتصاده وعلاقاته.. ولذلك يجب أن تكون كلُّ حياتنا وعلاقاتنا ومواقفنا لله.. أن نحوّل الحياة إلي مسجد كبير نتعبّد فيه لله، فيكون بيعنا وشراؤنا علي خطِّ الله في أحكامه، وتكون علاقاتنا بأولادنا وأزواجنا وجيراننا وأرحامنا وكلّ النّاس من حولنا مبنيّة علي أساس تقوي الله ومحبته.إذاً، إنّ انتظار الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف)يفرض علينا أن نعدَّ أنفسنا علي أساس المواصفات التي يتميّز بها أنصاره وأتباعه والسائرون في طريقه، لأننا عندما لا نكون كذلك، فإننا سوف نكون في الخطِّ الآخر، خطِّ أعدائه لا خطّ شيعته وأعدائه، وهذا ما ينبغي أن نفكِّر فيه.فمع الإمام المنتظر(عجل الله فرجه الشريف)، ونحن ننتظره لا انتظار الغافلين، ولا انتظار المرتاحين، بل انتظار الرساليّين، لأنَّه في معناه في وجداننا الإسلاميّ رسالةٌ نعيش روحانيتها في الحاضر، وننتظر حركتها في المستقبل.ونردّد علي الدوام: اللهمّ أرنا الطلعة الرشيدة والغرّة الحميدة، واجعلنا من أتباعه والمستشهدين بين يديه والسائرين في طريقه.المصادر :
1- في رحاب أئمة أهل البيت، ج:4، ص:27 وما يليها.
2- بحار الأنوار، ج:2، ص:100.
3- الكافي، ج:1، ص:58.
4- نهج البلاغة، الخطبة:37.