نقل لي أحد الأصدقاء: إنه دخل ذات مرة بستاناً، فرأی إن صاحب البستان ربط شيخاً كبيراً ب(الناعور) الذي ينقل الماء بدل الدابّة والشيخ يدور، وينقل معه الماء.
قال: فناديت صاحب البستان وأخذت في تأنيبه وقلت له: ألا ترحم هذا الشيخ الكبير تُحمّله مالا يطيق؟ هل هو دابة؟ فمن هذا الرجل ومن أين جئت به؟ قال صاحب البستان: انه أبي، ويساعدني في شؤون هذا البستان..
ولمّا عرفت أنه أبوه أخذت في التشديد علیه بكلمات قارصة نابية، وقلت له: ألا تستحي أن تفعل بأبيك هذا الفعل؟ و.. و..
قال الرجل: وإذا بالشيخ يضحك ويقول: دع ولدي يا هذا، إن ما أداه هو جزاء عملي، فلقد ربطت أنا أبي بنفس هذا (الناعور) مكان الدابة، الآن ولدي يجازيني جزاءاً وفاقاً.
ونقل صديق آخر، إن تاجراً دعاه هو وجماعة للطعام، قال: وعلی المائدة كان ولد التاجر موجوداً، وصار بينهما كلام خشن، فقام الابن ولطم أباه فتوتر المجلس وذهب الولد، ونحن لم نتمكن من تناول الطعام، فقمنا نريد الانصراف.
فقال التاجر: علی رسلكم، وهدّأ من روعنا، ثم قال: لا تستغربوا من هذا العمل، فقد لطمت ذات مرة أبي، وهذا جزاء ذاك، قد حفظه الدهر لي والآن جازاني بنفس العمل الذي قمت به أيام شبابي، صفعاً بصفع..
ولا بأس أن أتم قصة هذا الأب والولد وإن كان خارجاً عن الموضوع لأن فيه عبرة .
قال الصديق: وكان الولد خماراً فاسقاً، يحاول الاستيلاء علی مال أبيه، لكنه لا يقدر علی ذلك، ولما حضرت الأب الوفاة، أوصي بالخمس والثلث والحج والصلاة والصيام والخيرات، وجعل نفس هذا الولد وصياً، وبمجرد أن مات الأب، أخذ الولد يتصرف في أموال الأب، تصرفاً حراماً..
وذات مرة، سكر سكراً شديداً فذهب إلي المقبرة وخاطب أباه، إنك وصيت بكذا وكذا، ثم تغوّط علی قبر أبيه، وقال: هذا خمسه، وسآتي إليك بعد ذلك بسائر ما وصيت!
وهل تعلم عاقبة هذا الولد؟. إنه صرف كل الأموال في الفساد، فآل أمره إلي المرض والفقر والنكبة.
وأنا رأیت، أباً خلف لولده كمية كبيرة جداً من المال والعقار، والولد صرفها في الحرام، ثم صار موظفاً بسيطاً، راتبه كل شهر (سبعة عشر ديناراً). وهكذا يأخذ الظالم جزاءه، ولو بعد حين.
ليس يوم الحساب من بعد موت كل يوم يمرّ يوم حساب
هل يعتبر الظالمون
المتوكل العباسي، أحد الطغاة الذين سوّدوا صفحات تاريخ البشرية، بله الإسلام بمخازيه.وكان رجلاً يشرب الخمر، يلعب القمار، يقترف الموبقات، فاسقاً.. ماجناً، وكان بالإضافة إلي كل فسقه هذا، يقتل الناس بلا حساب، ويؤذي الصالحين بلا كتاب.
ذات مرة أحضر الإمام الهادي(علیه السلام) في مجلس خمره، وأساء الأدب بالنسبة إلي الإمام(علیه السلام).. فأنشد الإمام(علیه السلام) له أبيات جدّه أمير المؤمنين(علیه السلام) وقال:
باتوا علی قلل الجبال تحرسهم غلب الرجال فلم تنفعهم القلل
إلي آخر الأبيات.
وكان المتوكل يستهزأ بالإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) فيربط وسادة علی بطن رجل اسمه (عبادة) ويشبهه بالإمام(علیه السلام) فيرقص عبادة في المجلس، ويقلد علیاً(علیه السلام) فيضحك المتوكل وأعوانه علی هذا المنظر.
إلي غيرها.. وغيرها..
وقد كان المتوكل شديد الخوف من الناس، فإن (الخائن خائف) ولذا أكثر من حرسه الخاص حتی وصل عدد حرسه الذين كانوا مأمورين بحفظه إلي تسعين ألف..
بالله! هل تسعون ألف إنسان لحماية شخص واحد؟.
ولماذا يظلم الإنسان حتی يحتاج إلي كل هذه الأمور؟
ولكن (العدل أساس الملك) كما قال أمير المؤمنين(علیه السلام) لا الحرس.. كما أنشد الإمام الهادي(علیه السلام) في الأشعار التي سبقت.
وإذا بولده المستنصر مع جماعة من نفس الحرس يدخلون مجلسه فيجدونه مع وزيره (فتح بن خاقان) في حالة السكر الشديد، فيهوون بسيوفهم علیهما بأشد الضرب، حتی يخلط لحم الأمير بلحم الوزير، وقد قطعتهما السيوف إرباً إرباً … بحيث لم يمكن إجراء مراسيم الإسلام من الغسل والكفن والحنوط علیهما …
وما كانا جديرين بمراسيم الإسلام، وقد خدما الكفر ونذرا أنفسهما له طول عمرهما.
فلقي الرجل بعض جزائه في دار الدنيا ليكون عبرة لمن خلفه..
ولكن هل يعتبر الظالمون؟
وقد صدق سبحانه وتعالي حيث يقول: ( أتواصوا به بل هم قوم طاغون).
لقد شهد الحجل
كان أحد الأمراء بسط مائدة طعام وعلی مائدته جمع من أصحابه، وإذا بأحدهم يضحك ضحكاً من دون مبرر.قال الأمير: لماذا ضحكت؟
قال: تذكرت قصة.
قال الأمير: وما هي؟
قال الرجل: ليست بمهمة.
فأصرّ الأمير أن يبيّنها.
قال الرجل: رأیت (الحجل) علی المائدة، فتذكرت حمق إنسان أشهد الحجل علی قتله..
قال الأمير: وكيف كان ذاك؟.
قال الرجل: في أيام شبابي كنت سارقاً، وذات مرة التقيت بإنسان في الصحراء، فسلبته، ثم فكرت في أن أقتله تخلصاً منه ولما جرّدت السيف وكان الرجل أعزل، أخذ يلتمس ويتوسل أن أتركه قائلاً: لقد أخذت ما معي فلماذا تقتلني؟
وكلما أصر في أن لا أقتله، لم أقبل منه.
ولما رأی الرجل إصراري علی قتله نظر يمنة ويسرة، وإذا بسرب (حجل) يطير، فخاطب الحجل قائلاً: أيها الحجل اشهد لي إنه يقتلني ظلماً، فلم أمهله حتی علوته بالسيف وقتلته، ولما رأیت الآن الحجل ذكرت القصة، وضحكت من حمق الرجل كيف يخاطب الحجل؟
فلما سمع الأمير ذلك.. توجه إليه وقال: نعم، لقد شهد له الحجل، يا جلاد علیك بالنطع والسيف.
فأحضر الجلاد، النطع والسيف، وربط يد الرجل ورجله وأجلسه علی النطع وضرب رأسه، ثم شرع الأمير بصرف الطعام مع سائر أصحابه.
نعم.. كل شيء يشهد ضدّ المجرم حتی ينتقم منه: قال تعالي: (ولا تحسبن الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار).
وليس معني (يؤخرهم) إنه لا ينتقم منهم في الدنيا، بل ينتقم منهم هنا وهناك، وإنما الانتقام الحقيقي هناك في الآخرة.
بل أكثر من هذا، الانتقام يكون حتی من ذوي الإنسان، قال تعالي: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا علیهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً).
وفي حديث: (من لاط فعل بعقبه ذلك).
وفي حديث آخر: (من زني فعل بأهله ذلك).
إنه طبيعة الحياة، وقانون الكون وسنّته.. أليس من كان به مرض ساري يعدي إلي غيره، ومن كان به آفة وراثية سرت إلي نسله؟
وهل ذلك الغير وذلك النسل مذنبون؟
كلا.. وإنما لكل فعل رد فعل، يتلقاه الإنسان نفسه، وأحياناً يتلقاه ذريته وأهله، وأحياناً سائر الناس أيضاً..!
جيش القلوب
ينقل في أحوال (نظام الملك) الوزير السلجوقي، إنه كان ذكياً، وكان يتصرف في الملك بلا منازع وكان الملك السلجوقي قد أعطاه مقاليد البلاد اعتماداً علی عقله وفكره وتدبيره … حتی توفي الملك وخلفه ولده (ملك شاه).وكان الملك الجديد شاباً لم يجرب الحياة بعد، فاغتنم حساد الوزير الفرصة لإبعاد الوزير من الملك الجديد، بعدما أعيتهم الحيلة في إبعاده عن الملك السابق.
جاء الحسّاد إلي (ملك شاه) وقالوا له: إن (نظام الملك) يتصرف في الدولة حسب هواه، لا حسب ما تقتضيه المصلحة، وإنه يتلف أموال الدولة الكثيرة في غير شؤون المملكة، ولذا تجد أن واردات الدولة كذا، بينما مصروفات الدولة لاتصل إلي نصف هذا المبلغ، أما النصف الآخر فلا يعلم أحد أين يذهب؟ وقالوا.. وقالوا.. حتی شحنوا صدر (ملك شاه) ضدّ الوزير.
فطلب الملك الوزير، وعاتبه وقال له: أين تصرف أموال الدولة؟
فعرف الوزير بالوشاية وقال: أيها الملك: إنك شاب جميل، لو باعوك في سوق النخاسة كانت قيمتك ستين درهماً، لجمالك ولقوتك ولشبابك، وأنا شيخ ضعيف لو باعوني في سوق النخاسة لم تزد قيمتي من عشرين درهماً، والأعداء محيطة بالبلد وسهام جيشنا لا تبعد أكثر من خمسمائة ذراع وسيوفهم لا تبعد عن باع، فهل بهذه السهام وهذه السيوف نتمكن أن نحفظ البلاد؟
أم نتمكن أن نحفظ البلاد بثمنك وثمني؟
فلا قيمتنا الشخصية، ولا قدرتنا الدفاعية قادرة علی حفظ البلاد من الأعداء المتربصين.
إني قد هيئت لك جيشاً من القلوب بالمال يرعاك نهاراً، ويرفع أكفّهُ بالدعاء لبقاء دولتك ليلاً، ومادامت القلوب معك لا يتمكن الأعداء من السيطرة علی بلادك.
فاقتنع (ملك شاه) بصواب خطّة (نظام الملك) واستحسن عمله وأبقاه في منصبه بعد أن عرف قدره وازداد رفعةً عنده.
وهكذا فإن الدولة تحتاج إلي جيش القلوب، وإلاّ تآمر الناس ضد الدولة حتی أسقطوها بالقوة، إن لم يتمكنوا من إسقاطها بالوسائل الديمقراطية.. وقد رأینا في العشرين سنة الأخيرة كيف تسقط دولة إثر دولة كأوراق الخريف.
فقد سقط (فاروق مصر) وسمّ (عبد الناصر) والجدير بالذكر إنه كان يقتل الناس بالسمّ.
وقتلوا العائلة المالكة في العراق ونوري السعيد وعبد الكريم قاسم وأحرقوا عبد السلام عارف وشردوا عبد الرحمن عارف …
وتكررت القصة وأمثالها في كل من سوريا والسعودية وإيران ولبنان والأردن وتركيا وليبيا وأثيوبيا وقبرص وأوغندا ومناطق من أفريقيا وآسيا وأمريكا الشمالية.
كما سقط (نكسون) وكبير ألمانيا، و(خرشوف) وغيرهم.. وغيرهم.. كثيرون.
إني لا أريد أن أقول إن كل ما قام به الانقلابيون، بالانقلاب السلمي، أو الانقلاب الدموي كان صحيحاً وكانوا علی حق، وإن كل الذين سقطوا أو قتلوا أو أحرقوا أو سفروا، كانوا يستحقون نوع الانتقام الذي انصبّ علیهم..
إنه مما لاشكّ فيه إن التفاهم الاستعماري، أو التحالف الاستعماري، أو الأطماع الشخصية، أو ما أشبه، كان وراء بعض تلك الأحداث.. كما أنه مما لاشك فيه إن بعض الذين جاءوا بعد الانقلابات ليحكموا البلاد، كانوا أسوء بكثير وكثير من الذين كانوا يحكمونها قبل الانقلابات.
بل أريد أن أقول: إنه يجب علی الهيئة الحاكمة أن لا يظلموا الناس حتی يهيئوا الظروف المتاحة للانقلاب علیهم، انقلاباً أبيض أو أحمر.
فإن المثل المعروف يقول: (يتمكن الإنسان أن يصنع بالسلاح كل شيء، لكنه لا يتمكن أن يجلس علیه).
المصادر :
راسخون 2017