
إنَّ من قضاء الله تعالى وقدره الحتميِّين ، أنه جلَّ جلاله ، يختار في كل قرنٍ رجالاً ، هم صفوة الناس ، بهم ، يثير دفائن العقول ، ويذكِّرهم منسيُّ الفطرة إتماماً للحجة ، وإيضاحاً للحجَّة ، وممَّن اختاره الله تعالى ، لهذه الموهبة العظمى ، الامام الهمام ، ووصيُّ مَن هو للانبياء شرفٌ وختام جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب عليهمالسلام ، الذي يروي عن أجداده عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، عن جبرائيل ، عن الله جلَّت عظمته ، جميعَ المعارف التكوينية والتشريعية ، فهو عليهالسلام ، لسانُ خاتم النبيِّين ، بل جميع الانبياء ومِّمن أخذ قطرة من هذا البحر ، الذي لا ساحلَ له ، علم الاعلام ، الحجَّة قرة المتتبِّعين العظام .
يشير الشيخ باقر شريف القرشي إلى حقيقة ، تقصر عن معرفتها إفهام ذوي العقول ، وورد ساحة تزلُّ دونها أقدام الفحول ، فهو المثل الاعلى ، علماً وعملاً ، وصار أهلاً لان تكون له هذه « الصحيفة الصادقية » الغراء التي يحق أن يقال فيها أنها من تجليات المدعو في الداعي ، وتفاني الداعي في مرضاة المدعو ، عند التوجه والثناء ، فرفع الله الدعاء ، سمو في الروح ، وإشراق في النفس ، يربط الانسان بربه خالق الكون ، وواهب الحياة ، من بيده مجريات الاحداث ، وهو بكل شيء محيط.
الله الرَّحْمنِ الَّرحِيمِ
« وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادي عَنَيِّ فَاِّني قَريبٌ أُجيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ » (١)
أمَّن يجيبُ المضطَّر إذا دَعَاهُ وَيَكْشفُ السوءَ « وَإذَا مَسَّ الانْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعداً أوْ قَائِماً » (٢)
« وإذا مَسَّ الانسان ضُرِّ دعا ربه منيباً إليه » (٣)
« وَإذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرِّ دَعوْا رَبَّهُمْ مُنيِبيِنَ إلَيْه » (٤).
إن علاقة الانسان بربه ، علاقة ذاتية ، ومتأصلة في نفس الانسان ، فهو يفزع إليه ، أذا دهمته كارثة من كوارث الدهر ، أو ألمت به محنة من محن الايام .. إنه يدعو ربه ضارعاً منكسراً ، لا يجد أحداً يلجأ إليه ، ولا يكشف عنه الضر والشقاء سوى الله تعالى اللطيف بعباده ، وقد تحدث القرآن الكريم ، عن هذه الظاهرة ، في كثير من آياته ، قال تعالى : « وَإذَا مَسَّ الانْسَانَ الضُرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً ، فَلَمّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلى ضُرٍّ مَسَّهُ » (5)
وقال تعالى : « وَإذَا مَسَّ النَاسَ ضُرِّ دَعُوا رَبَّهُم مُنِيبينَ إليْه ، ثُمَّ إذا إذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً ، إذَا فَريقٌ مِنْهُمْ بِرَّبهمْ يُشْرِكوُنَ » (6)
إن الالتجاء إلى الله تعالى ، والفزع إليه ، في وقت المحنة والازمات ، أمر ذاتي للانسان ، مهما كانت اتجاهاته وميوله ، وقد قرأت في بعض الكتب ، أو الصحف ، أن شخصاً كان في طائرة ، وفيها جماعة من الماركسيين وغيرهم ، ممن لا دين لهم ، فاصاب الطائرة عطب ، وهي في الجو ، ففزعوا جميعا إلى الله تعالى ، ببكاء لينقذهم من هذه الكارثة ، فاستجاب الله دعاءهم ، ونجاهم مما هم فيه ، وعقب الشخص قائلا : إني لا أصدق بعد ذلك ، أن هناك من يجحد الله تعالى ولا يؤمن به ، فإنه إن جحده بلسانه ، فان قلبه مطمئن به.
إن من ثمرات الدعاء ، ومعطياته ، إزالة ما ران على القلوب ، من غشاوات وجفاء ، ورفع المرء إلى البشرية المثالية ، والانسانية الكريمة ، إنه ـ من دون شك ـ يهذب النفوس ، ويحسن الطباع ، وينمي النزعات الخيرة ، ويبعث على الاقتداء بآداب المتيقن والصالحين ، الذين هم سادات المجتمع وقادته ، ويحذر من شرار الخلق ، الذين يؤثرون الباطل على الحق ، ويفضلون الشر على الخير ، وهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وأي ثمرة يظفر بها الانسان أهم وأغلى من هذه الثمرة؟.
أما الدعاء إلى الله ، والابتهال إليه ، فانه من أبرز القيم ، الرفيعة الماثلة عند الانبياء عليهمالسلام ، فقد كان ابتهالهم إلى الله ، ومناجاتهم له من أهم المتع عندهم ، ولنستمع إلى خليل الله إبراهيم وإبنه إسماعيل وهما يرفعان أسس البيت الحرام ، فكانا مع كل لبنة يضعانها في بناء البيت المعظم ، يشفعانها بالدعاء إلى رب البيت قائلين :
« ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم .. » (7).
ويدعوان أيضا قائلين :
« ربنا واجعلنا مسلمين لك ، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ، وأرنا مناسكنا ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم .. » (8).
إن دعاء إبراهيم ، ودعاء ولده إسماعيل ، إنما هو دعوة إلى التكامل الانساني ، ودعوة إلى التحرر ، من النزعات الشريرة ، ودعوة للظفر بالخير ، بجميع صورة ومفاهيمه.
واهتم أئمة أهل البيت عليهمالسلام ، بالادعية إهتماما باغلا ، لانها بلسم للنفوس الحائرة في متاهات هذا الكون ، كما أنها في نفس الوقت ، خير ضمان لردع النفوس ، عن غيها وطيشها.
وبلغ من اهتمام أئمة الهدى عليهمالسلام ، بهذا التراث الروحي ، أنهم خلفوا ثروة هائلة ، من الادعية النفيسة ، فقد ذكر السيد الجليل ، نادرة زمانه ، السيد ابن طاووس ، ان خزانة مكتبته تحتوي على ثماني مائة كتاب من الادعية ، أثرت عن الائمة الطاهرين (9).
ومن الطبيعي ، أن هذا الزخم من الادعية ، ينم عن معرفتهم الكاملة بالله تعالى ، فقد أبصروه بقلوبهم المشرفة ، وعقولهم النيرة .. تدبروا في آيات الله ، وأمعنوا النظر في عجائب هذا الكون ، وتأملوا في خلق هذا الانسان ، فآمنوا بالله إيمانا لا يخامره أدنى شك ، وكان من مظاهر إيمانهم الوثيق ، أنهم إذا قاموا للصلاة بين يدي الله تعالى ، ترتعد فرائصهم ، وتتغير الوانهم ، وقد قيل للامام الحسن سبط رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وريحانته في ذلك ، فأجاب سلام الله عليه :
« حق على من وقف بين يدي رب العرش ، ان ترتعد فرائصه ، ويصفر لونه (10).
لقد اتجهوا بقلوبهم ، وعواطفهم نحو الله ، الذي يعلم دقائق النفوس ، وخواطر القلوب ، فعبدوه ، واخلصوا في عبادته وطاعته ، كأعظم ما يكون الاخلاص.
وكان أول من فتح باب الادعية ، من الائمة الطاهرين ، سيد العترة الطاهرة ، الامام أمير المؤمنين عليهالسلام ، فقد حفلت كتب الادعية ، بالشئ الكثير من أدعيته ، كدعاء كميل ، ودعاء الصباح وغيرهما من الادعية ، التي تمثل جوهر الايمان ، وحقيقة العبودية المطلقة لله تعالى ، وهكذا كانت أدعية ولده الامام ، السبط الشهيد الحسين عليهالسلام ، فإن أدعيته في عرفات ، وفي كربلاء ، تعتبر صرحا من صروح الايمان بالله تعالى ، يتزود بها الداعي ، ويتسلح بها الذاكر ، ويتبصر بها المؤمن ، وأما أدعية ولده الامام زين العابدين عليهالسلام ، التي سميت بالصحيفة السجادية ، فهي انجيل آل محمد صلىاللهعليهوآله ، وهي من أجل الثروات الروحية في الاسلام ، وقد اهتم بها علماء المسلمين وغيرهم ، لانها من مناجم الفكر ومن ذخائر التراث الانساني.
لقد حفلت سيرة أئمة أهل البيت عليهمالسلام ، بالابتهال والتضرع إليه ، فلا تقرأ سيرة أحد منهم ، إلا وتجد صفحات مشرقة من أدعيتهم ، ومناجاتهم لله تعالى ، الامر الذي يدل ـ بوضوح ـ على عميق أتصالهم بالله ، وأنقطاعهم إليه.
إن أدعية أئمة أهل البيت عليهمالسلام نفحة من رحمات الله ، تهدي الحائر ، وتضئ الطريق ، وتوضح القصد إلى الله ، وقد امتازت عن بقية أدعية الصالحين والمتقين بما يلي :
أولا : ـ إنما تمثل انقطاعهم الكامل ، واتصالهم الوثيق بالله تعالى ، استمعوا إلى ما يقوله الحسين عليهالسلام ، في بعض أدعيته مخاطبا الله : « ماذا وجد من فقدك ، وماذا فقد من وجدك؟؟. »
أرأيتم هذا الايمان الذي تجاوز حدود الزمان والمكان؟ لقد تفاعل مع عواطف أبي الاحرار ومشاعره ، حتى صار من عناصره ومقوماته.
ثانياً : ـ إنها لم تقتصر على التضرع إلى الله تعالى ، فقد احتوت على أمور بالغة الاهمية كان منها :
أ ـ التوحيد ، والنبوة ، والامامة.
ب ـ الاخلاق.
ج ـ السياسة.
د ـ الاجتماع.
ه ـ الاقتصاد.
وأدعيتهم ، مليئة بهذه الامور ، كما دعت إلى النشاط الفكري ، والعمل الجاد ، في مختلف جوانب الحياة.
ثالثا : ـ إن أدعيتهم ، تمتاز بأساليبها الرائعة ، فقد بلغت الذروة ، في بلاغتها ، وفصاحتها ، فليس في أي بند من بنودها ، أو فقرة من فقراتها ، جملة أو كلمة ، يمجها الطبع ، وينفر منها الذوق ، فقد نظمت في أرقي أسلاك البلاغة والفصاحة ، وتعد من مناجم الادب العربي.
رابعا : ـ إنها تدعو إلى صفاء النفوس ، من أدران الحياة ، المليئة باللهو والمغريات ، وتحليتها بالآداب والفضائل .. هذا مجمل ما أمتازت به أدعية الائمة الطاهرين عليهمالسلام من الخصائص.
والشئ المحقق الذي لا يخالجه شك ، أنه لا يمكن بأي حال من الاحوال ، أن تتحقق الاهداف النبيلة ، التي يصبوا إليها الانسان ، من الحرية ، والكرامة والامن ، والاخاء ، إلا إذا ساد الايمان بالله تعالى ، بين أمم العالم ، وشعوب الارض ، وارتبط الانسان بخالقه ، وآمن بأنه مسؤول أمام الله عما يعمله ، وعما يقترفه من إثم أو ذنب ، في حق نفسه ، أو في حق مجتمعه ، كما أنه من المؤكد أنه لا يجدي شيئا ، ما تعمله هيئة الامم المتحدة ، بمنظماتها المختلفة ، وما يجاهد في سبيله فلاسفة العصر ، وقادة الفكر والسياسة ، في العالم ، من العمل على تقدم الانسان ، وتطوير حياته ، وإنقاذه من ويلات الحروب ، ودمارها ، وإزالة الحواجز ، التي أحدثها اختلاف الجنسيات والقوميات ، واختلاف الالوان والمذاهب الاقتصادية ، من الرأسمالية والشيوعية ، فإنه بالرغم مما بذلته من جهود مكثفة ، في سبيل الاصلاح الاجتماعي ، فانها لم تستطع تحقيق ذلك ، وبقيت مقرراتها حبرا على ورق .. إن الذي يغير مجرى تأريخ البشرية إلى الافضل ، ويفتح لها آفاقا مشرقة ، من العزة والكرامة ، إنما هو الايمان بالله تعالى لا غيره ، من الوسائل المادية ، ومما لا شك فيه ، أنه سيظل الانسان يطارده الخوف والفزع ، كلما بعد عن الله تعالى ...
والحديث عن أدعية الامام أبي عبدالله الصادق عليهالسلام ، فانها قبس من نور الاسلام ، ومشاعل مضيئة ، من هدي القرآن ، وهي ـ من دون شك ـ من انجع الوسائل التربوية ، في إقامة الاخلاق ، وتهذيب الطباع ، وهي من ذخائر الارصدة الروحية في الاسلام. ومن الجدير بالذكر ، أن أدعية الامام عليهالسلام ، قد شملت جميع أعماله ، فلم يقم بأي عمل إلا وشفعه بالدعاء ، والتضرع إلى الله ، وهذا مما يؤكد ما قاله مالك بن أنس من أن الامام عليهالسلام ، كان في جميع أوقاته مشغولا بذكر الله تعالى ، والانابة إليه.
المصادر :
1- سورة البقرة آية ١٨٦.
2- سورة يونس ـ آية ١٢.
3- سورة الزمر : آية ٨.
4- سورة الروم ـ آية ٣٣.
5- سورة يونس آية ١٢.
6- سورة الروم ـ آية ٣٣.
7- سورة البقرة آية ١٢٧.
8- سورة البقرة آية ١٢٨.
9- كشف المحجة لثمرة المهجة.
10- حياة الامام الحسن ١ / ٣٢٧.