
حكم آل بويه رقعة من العالم الاسلامي وأقاموا دولة كبيرة عرفت بالدولة البويهية ، ابتدأ تكوينها منذ عام إحدى وعشرين وثلاثمائة للهجرة وشملت بلاد إيران والعراق ، وبدأ حكم البويهيين للعراق سنة ٣٣٤ هـ وانتهى حكمهم بسيطرة السلاجقة على ممتلكاتهم ودخولهم بغداد سنة ٤٤٧ هـ.
كان الأب صيادا فقيرا على بحر قزوين ، وله ثلاثة أولاد وقد اشتغل أولئك في خدمة مرداويج بن زيار الذي أسس الدولة الزيارية ، وقد أظهر (علي بن بويه) كفاية ومقدرة وتبوأ مناصب رفيعة في تلك الدولة ، وتولى ولاية الكرج وصار أهل الولاية يظهرون له الحب على أنه أثار شكوك مرداويج ومخاوفه ، فبدأت المنافسة بينه وبين مرداويج ، وتنفس البويهيون الصعداء بمقتل مرداويج سنة ٣٢٣ هـ ، فاغتنم الإخوة الفرصة ، فاستولى الحسن على أصفهان والري وهمذان وشيراز ، وسيطر أحمد بن بويه على كرمان ، ونجح البويهيون في تأسيس دولتهم في إيران ، وبعد فترة قصيرة هاجموا العراق ونزل أحمد بن بويه في معسكره بباب بغداد ، وأخذت عليه البيعة للمستكفي العباسي واستحلف له بأغلظ الأيمان ، وخلع عليه الخليفة الخلع ولقبه (معز الدولة) ولقب أخاه عليا (بعماد الدولة) كما لقب أخاه الحسن (بركن الدولة) ، وأمر الخليفة بأن تضرب ألقابهم وكناهم على الدنانير والدراهم.
قال ابن الأثير في حوادث سنة ٣٢٢ هـ : حين استولى علي على شيراز نادى في الناس بالأمان وبث العدل (١).
ويقول ابن الأثير وهو يتحدث عن سنة ٣٥٦ هـ : في هذه السنة ابتدأ معز الدولة في بناء المارستان (المستشفى) وأرصد له أوقافا جزيلة وتصدق بأكثر أمواله وأعتق ممالكيه ورد شيئا كثيرا على أصحابه. وكان حليما كريما عاقلاً (٢).
وقال ابن الأثير : كان ركن الدولة حليما كثير البذل ، بعيد الهمة متحرجا من الظلم ، عفيفا من الدماء ، يرى حقنها واجبا إلاّ فيما لابد منه. وكان يجري الأرزاق على أهل البيوتات ويصونهم عن التبذل ويتصدق بالأموال الجليلة ويلين جانبه للخاص والعام ، رضياللهعنه وأرضاه ، وكان له حسن عهد ومودة وإقبال (٣). وفي جلال الدولة يقول صاحب النجوم الزاهرة : كان جلال الدولة ملكا محبا للرعية حسن السيرة ، وكان يحب الصالحين.
ولكي ندرك مدى ما جبلوا عليه من احترام حرية الرأي ننقل هذه الحادثة التي رواها عنه ابن الأثير في أحداث سنة ٤٢٩ هـ ، وخلاصتها أن الفقيه أبا الحسن الماوردي رأى أنه لا يجوز أن يلقب جلال الدولة بلقب ملك الملوك ، بينما أفتى بقية الفقهاء بجواز ذلك ، وكان الماوردي أخص الناس بجلال الدولة وأقربهم منزلة منه ، فلما أفتى بهذه الفتوى انقطع عن جلال الدولة ولزم بيته خائفا. وفي ذات يوم استدعاه جلال الدولة فلبس وهو موقن بالهلاك ولكن جلال الدولة أكرمه وعظمه وقال له فيما قال : إني أعلم بأنك ما قلت وما فعلت إلاّ مرضاة للّه والحق ، وأنك أعز لدي من الجميع (4).
لقد شجع البويهيون الروح الأدبية وعضدوا مدرسة بغداد التي كان قد اضمحل شأنها في أثناء تدهور الخلافة ، وحفروا الجداول وهيؤوها للملاحة حتى مدينة شيراز فأزالوا بذلك خطر الفيضانات الدورية التي كان تغمر المناطق ، كما شيد عز الدولة مستشفى فخما وفتح عدة كليات في بغداد.
وقال الغناوي في كتاب (الأدب في ظل بني بويه) :
امتاز عهد آل بويه بالخصب العلمي والأدبي بتأثيرهم الخاص أو بتأثير وزرائهم ، ذلك أنهم استوزروا أبرع الكتاب وأبرزهم ، واعتمدوا عليهم في تدبير شؤون الحرب وأمور السياسة والإدارة والمال جميعا ، فلمعت أسماؤهم وعظمت هيبتهم وطار صيتهم في الآفاق فقصدهم أهل العلم والأدب فأفادوا منهم كثيرا وأنتجوا كثيرا في ميدان الأدب والفلسفة والعلم ، فكان أثرهم في الحياة الفكرية قويا جدا.
ويقول الدكتور حسين أمين :
قد لا أكون مغاليا إن قلت إن العصر البويهي هو العصر الذي بلغت فيه الحياة الثقافية العربية الاسلامية ذروتها ، حيث سمت الآداب نثرا وشعرا وتطورت الدراسات اللغوية وازدهرت الحياة العقلية وتكاملت دراسات الفقه المختلفة ، وظهرت البحوث الموضوعية العلمية في التاريخ والجغرافيا ، كما برزت الحركة الصوفية والدراسات الدينية على اختلاف مواضيعها من تفسير القرآن الكريم ودراسات للحديث النبوي الشريف ، كما تميزت تلك الفترة بأن الدراسات أصبحت تعتمد على منهج علمي وأسلوب موضوعي.
وأشهر رجال الدولة البويهية هو عضد الدولة ، وقد جاء عنه في كتاب (الحضارة الاسلامية في القرن الرابع) لآدم متز ، تعريب محمد عبد الهادي أبي ريده ما يلي :
كان عضد الدولة يمثل الحاكم تمثيلاً حقيقيا ، وقد عني بمعرفة الأخبار وسرعة وصولها شأن كل من يريد أن يحكم دولة كبيرة حكما صحيحا ، وكانت الأخبار تنتقل بين شيراز وبغداد في سبعة أيام ، أي أنها كانت تقطع في كل يوم ما يزيد على مائة وخمسين كيلومترا.
وقد طهر السبل من اللصوص ومحا أثر قطاع الطرق ، وأعاد النظام إلى صحراء جزيرة العرب وصحراء كرمان وكانت مخيفة وكان سكانها يضعون الضرائب على قوافل الحج ، فارتفعت وتحقق الأمن ، وأقام للحجاج السواقي في الطرق واحتفر لهم الآبار وفجر الينابيع وأدار السور على مدينة الرسول. وأمر بعمارة منازل بغداد وأسواقها ، وابتدأ بالمساجد الجامعة وكانت في نهاية الخراب وهدم ما كان متهدما بنيانها وأعادها جديدة قوية ، وألزم أرباب العقارات بالعمارة فمن قصرت يده أقرضه من بيت المال. وفي عهده امتلأت الخرابات بالزهر والخضر والعمارة بعد أن كانت مأوى الكلاب ومطارح الجيف والأقذار ، وجلبت إليها الغروس من فارس وسائر البلاد.
وكانت الأنهار ببغداد قد دفنت مجاريها وعفيت رسومها ، فأمر بحفرها من جديد وأقام القناطر والجسور وعملت عملاً محكما وحضر كثير من أهل البادية فزرعوا وعمروا البرية. ومع هذا لم تكن العراق مركز الدولة ، بل كان مركزها في فارس ، وبنى سوقا للبزازين (تجار الأقمشة) وكان نقل إلى بلاده ما لايوجد فيها من الأصناف ، وشيد مارستانا (مستشفى) كبيرا في بغداد ، وأمر بإدرار الأرزاق على قوام المساجد والمؤذنين وأئمة الصلاة والقراء ، وإقامة الجرايات لمن يأوي إليها من الغرباء والضعفاء ، وتجاوزت صدقاته أهل الإسلام إلى غير المسلمين. وأذن للوزير في عمارة المعابد لليهود والأديرة للنصارى وإعطاء الأموال لكل محتاج وإن لم يكن مسلما.
وكان ينفق كل جمعة عشرة آلاف درهم على الضعفاء والأرامل ، ويصرف كل سنة ثلاثة آلاف دينار ثمن أحذية للحفاة من الحجاج وعشرين ألف درهم كل شهر لتكفين موتى الفقراء ، واستحدث ثلاثة آلاف مسجد وخان للغرباء ، ولم يمر بماء جار إلا بنى عنده قرية ، وكان ينفق على أهل مكة والمدينة وطرقهما ومصالحهما مائة ألف دينار كل سنة. وكان يبذل مالاً كثيرا على عمارة المصانع وتنقية الآبار ويعطي سكان المنازل التي في الطرقات ليقدموا العلف لدواب المسافرين.
وكان يحب العلم والعلماء ، ويجري الأرزاق على الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمفسرين والنحاة والشعراء والنسابين والأطباء والحساب والمهندسين. وأفرد لأهل الاختصاص من العلماء والحكماء موضعا يقرب من مجلسه ، وأنشأ مكتبة تحتوي على كل كتاب صنف إلى وقته من جميع أنواع العلوم.
وفي كتاب (الكنى والألقاب) ما يلي :
وقد ألف له ـ أي لعضد الدولة ـ العلماء العديد من الكتب وقصده فحول الشعراء ومدحوه بأحسن المدائح ، منهم أبو الطيب المتنبي الذي قال فيه :
وقد رأيتُ ملوك الأرضِ قاطبةً *** وسرتُ حتى رأيتُ مولاها
ومن آثاره تجديد عمارة مشهد علي أمير المؤمنين عليهالسلام ، وكان قد أوصى بدفنه فيه ، فدفن بجواره ، وكتب على لوح قبره : «هذا قبر عضد الدولة وتاج الملة أبي شجاع بن ركن الدولة أحب مجاورة هذا الإمام المعصوم لطمعه في الخلاص يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ، وصلاته على محمد وعترته الطاهرين».
هذه الأعمال العظيمة التي مر ذكرها فيما تقدم جرت كلها خلال فترة قصيرة إذ إنه مات ولم يبلغ الخمسين.
ويقول الأستاذ حسن أحمد محمود الشريف في كتابه (العالم الإسلامي في العصر العباسي) : إن البويهيين أظهروا احتراما للخليفة في المواقف والمحافل الرسمية ، وكانوا أكثر اتباعا للأصول والمجاملات من القادة العسكريين الذين سبقوهم. ويستند على قول ابن كثير في البداية والنهاية :
«أظهر عضد الدولة من تعظيم الخلافة ما كان دارسا ، وجدد دار الخلافة حتى صار كل محل منها آنسا» ويرى الأستاذ الشريف أن العصر البويهي عصر «حرية المذاهب» ويستند على أقوال الصاحب ابن عباد في رسائله حيث يقول : «وقد كتبت في ذلك كتابا أرجوه أن يجمع على الألفة ويحرس من الفرقة وينظم على تلك المنازعة والجنوح إلى الموادعة ، فإنّ المهادنة تجمل بين الملتين فكيف بين النحلتين ، واللّه نسأل توفيقنا لأنفسنا وأنفسهم».
ويعلق على ذلك الدكتور فاروق عمر وهو ينقل هذا الكلام في كتابه (الخلافة العباسية في عصر الفوضى العسكرية) قائلاً : «على أن لهذه السياسة جانبها الإيجابي حيث لجأت المذاهب المتنازعة إلى المنطق والفلسفة وعلم الكلام لتأييد آرائها ، فحدثت نهضة علمية وكثرت التصانيف في المناظرات وأسست دور العلم».
بغداد في عهد بني بويه
قال الأستاذ طه الراوي في رسالته عن بغداد : في عهد بني بويه وصل العلم والأدب في بغداد إلى القمة العليا فنشأ أكابر المفسرين والمحدثين والفقهاء والمتكلمين والمؤرخين والكتاب والشعراء وأساطين علوم العربية والحذاق في المعارف الكونية. وكان لبعض ملوكهم آثار في العمران وحسنات على أهل الفضل وأقمار الأدب ، ففي عهدهم تولى الوزارة في إيران أبوالفضل بن العميد وابنه أبو الفتح والصاحب ابن عباد ، وفي بغداد أبو محمد المهلبي الذي أفاض على رجالات العلم والأدب شيئا من حسناته وفيضا من نعمه.
المصادر :
1- الكامل في التاريخ ٧ : ٩٥.
2- الكامل في التاريخ ٧ : ٢٩٨ «نحوه».
3- الكامل في التاريخ ٧ : ٣٦٥.
4- الكامل في التاريخ ٨ : ٢٢٧ ـ ٢٢٨.