الدّولة الحمدانية

الدولة الحمدانية(٣٣٣ ـ ٤٠٦ هـ) / جد الحمدانيين الذي ينتسبون إليه هو حمدان بن حمدون التغلبي. وكان له ثمانية أبناء ، هم : أبو الهيجاء عبداللّه والد سيف الدولة ، وأبو إسحاق إبراهيم ، وأبو العلاء سعيد والد أبي فراس ، وأبو الوليد سليمان ، وأبو
Friday, November 3, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
الدّولة الحمدانية
 الدّولة الحمدانية



 

الدولة الحمدانية(٣٣٣ ـ ٤٠٦ هـ) / جد الحمدانيين الذي ينتسبون إليه هو حمدان بن حمدون التغلبي. وكان له ثمانية أبناء ، هم : أبو الهيجاء عبداللّه والد سيف الدولة ، وأبو إسحاق إبراهيم ، وأبو العلاء سعيد والد أبي فراس ، وأبو الوليد سليمان ، وأبو السرايا نصر ، وعلي ، وأبو علي الحسين ، وسليمان الحرون.
وفي قلعة منيعة ببلدة ماردين من أعمال الموصل ، وفي باكورة النصف الثاني من القرن الثالث الهجري ، كانت السيادة لحمدان بن حمدون ، وكان حمدان يخرج بين الحين والحين للجهاد ومحاربة الروم ، وكثيرا ما توغل في أرضهم لمسافات طويلة ، يحرر الثغور ويجدد بناء أسوار حصونها ويحميها ، حتى أنه بنى سورا على «ملطية» كلفه سبعين ألف دينار.
وبدأ نجم ولده الحسين يلمع كسيف من سيوف الخلافة ، يخوض المعارك فلا يكاد ينهزم في واحدة إلاّ لكي ينتصر في عشر بعدها.
وفي ذلك الوقت تفزع الخلافة بغارات القرامطة ، فيقذف الخليفة هؤلاء بالحسين بن حمدان ، فطاردهم في الشام وقتل زعيمهم صاحب الشامة الذي كان قد جبى الخراج من دمشق ولقب نفسه بأمير المؤمنين.
ويحتل القرامطة الأردن فيتجه الحسين إليهم ولا يكادون يشعرون به حتى يفروا إلى السماوة ، ويحاصر بنو تميم حلب فيردهم عنها.
ويخرج الطولونيون على الخلافة فيسيّر الخليفة إليهم الحسين وإخوته ، فيضرب الحسين قائد الطولونيين بعنف ويقتله ويطارد فلول جيشهم حتى الأراضي المصرية ، ويدخل مصر ويلي أمرها فلا يعجبه المقام فينصرف غانما.
ويتجه الحسين إلى فارس فاتحا فيعجب أهلوها بشجاعته ، ويبذلون له مئات الآلاف من الدنانير لكي يقيم بينهم ، ولكنه لأمر ما رفض الإقامة في مكان واحد حتى يكون قريب الصلة ببغداد ، ويلي أمر حلب فترة من الوقت ثم يتركها راضيا أو كارها ، ويحكم ديار ربيعة فترة من الزمن ، ويعيش في كل تلك الأماكن كما يعيش الملوك ، له فرسانه وسلاحه وقصوره ، يقصده الشعراء فيفيض عليهم.
ولم يكن الحسين بن حمدان الوحيد بين إخوته في الشجاعة والفتوة ، فقد كان لكل واحد منهم طابعه الخاص في الجرأة وخوض الغمار والاستئثار بالنصر ، فكانت وقائع داود كثيرة ، أهمها معركته مع بني عامر بن صعصعة وطئ¨ حينما أوقع بهم هو وأخوه أبو الهيجاء وهزماهم شر هزيمة في طريق الحج.
وأما سليمان بن حمدان بن حمدون ، فكان يعتبر ـ بعد أبيه ـ شيخ بني حمدان ، وكان جرئ القلب صبورا على الحرب عالي الشأن في المعامع ولذلك سمي «بالحرون».
ومن أبناء حمدان ، أبو العلاء سعيد ، والد الشاعر الأمير الفارس أبي فراس ، وكان ملازما مجلس الخليفة المقتدر مكينا عنده ، وكان شأنه في الشجاعة والحرب شأن إخوته ، فحينما هوجم المقتدر في قصره من الجنود الشاغبة ، كان أبو العلاء على غير أهبة للقتال ، إلاّ أن الخليفة استنجد به ودفعه إليهم وأمره بقتالهم ، فأخذ يضرب فيهم وقد أثخنوه بالجراح ، كما كانت له وقعة أخرى مع الجند والقواد في دار الوزير ابن مقلة.
وكما حارب سعيد في دار الخلافة وناضل في دار الوزير ابن مقلة ، فإنّه حارب أيضا في الصحراء والنجود ، وحارب بني سليم وقد تعرضت للحجاج ، وكان سعيد يحج في تلك السنة فأوقع بالمعتدين.
وأبو الهيجاء عبد اللّه بن حمدان : هو أحد السيوف البواتر التي أنجبها حمدان بن حمدون ، عاش حياته كلها محاربا ثائرا شأنه شأن أخيه الحسين ، وكان لجرأته على الحرب يسمى أبا الهيجاء ، ولي أمر الموصل أكثر من مرة وعزل أكثر من مرة ، وحدث أن أغارت الأكراد على حلب وكان حديث عهد بها فطاردهم حتى أرمينية ولم يزل بهم حتى استأمنوا له.
وحج بالناس ذات مرة فهاجمت الحجيج بنو كلاب فلاحقهم أبو الهيجاء وأوقع بهم وكان معه أخوه داود.
وكما ولي حلب وديار ربيعة فقد ولي خراسان والدينور ، وكانت إقامته غالبا في بغداد ومنها يحكم الإقليم التي يلي أمرها عن طريق أبنائه أو أنصاره ، ولقد ثار على الخليفة غير مرة ودخل السجن غير مرة ، واشترك في خلع المقتدر سنة ٣١٧ هـ غير أن الخطة فشلت فأرسل الخليفة إليه من قتله.
ولعل أبا الهيجاء يعتبر أسعد إخوته حظا لأنه أنجب أشهر حمدانيَّين عرفهما التاريخ وهما سيف الدولة «علي» وناصر الدولة «الحسن».

إمارة الموصل

والواقع أنهم اختاروا الموصل لأكثر من سبب؛ فهي جماع عصبتهم ، وهي غنية بخيراتها ، حتى أن ميرة بغداد كانت منها ، هذا فضلاً عن أن المنطقة كلها من العرب المتعصبين للحمدانيين من أمثال ديار ربيعة وديار بكر وديار مضر.
على أن أبا الهيجاء عبداللّه بن حمدان هو الأمير الوحيد من بين إخوته الذي استقامت له ولاية الموصل أطول مدة من الزمن رغم أنه عزل عنها ثلاث مرات لكن يعود إلى إمرتها من جديد ، وقتل فيها سنة ٣١٧ هـ ، لكي يكمل من بعده ابنه الآخر علي الذي لقب بسيف الدولة ملكا مجاورا في حلب.
وقد تمكن أبو الهيجاء أن يقنع الخليفة المكتفي بأن يوليه إمرة الموصل وأعمالها لأول مرة سنة ٢٩٣ هـ وهو التاريخ الذي يذهب كثير من المؤرخين إلى أنه البداية الحقيقية لدولة بني حمدان.
وإذا ما تتبعنا تاريخ إمرة أبي الهيجاء للموصل ، وجدناه قد وليها ثلاث مرات منذ سنة ٢٩٣ هـ حتى سنة ٣١٧ عزل خلالها مرتين ، إحداهما سنة ٣٠١ والأخرى حينما قبض عليه مع إخوته في بغداد سنة ٣٠٣ هـ ، ويلاحظ أن فترة بعده عن الموصل بعد عزله في المرة الثالثة قد طالت بعض الوقت.
دخل البريديون بغداد سنه ٣٣٠ هـ ، فاضطر الخليفة المتقي أن يلتمس لنفسه مكانا للنجاة فلم يجد خيرا من الموصل ، حيث الأمير الحمداني القوي القادر علي حمايته وإعادة عرشه إليه ، فيمم وجهه شطرها وبرفقته أمير الأمراء أبو بكر محمد بن رائق ، ولما كان الأمير الحمداني طموحا ، نزّاعا إلى توطيد ملكه ، نهّازا للفرص فقد أرسل إلى ابن رائق من قتله.
ولم يشأ الأمير الحمداني أن يضيع وقتا فاصطحب الخليفة وسار على رأس جيش كبير معقود لواؤه على أخيه الأصغر علي ، وما كاد الركب يصل بغداد حتى نجا البريديون بأنفسهم ، وفروا أمام الجيش الحمداني ، وعاد الخليفة إلى قصره آمنا مطمئنا ، فأنعم على الحسن بن حمدان بلقب (ناصرالدولة) ، وعلى أخيه علي بلقب (سيف الدولة).
وفي بغداد تولى ناصر الدولة إمرة الأمراء وسكن القصور وضرب دنانير جديدة وبدأ نجمه يصعد نتيجة لانتصاره مع أخيه سيف الدولة على البريديين في عدة مواقع ، ولعل من نتيجة ذلك أن زوّج الخليفة المتقى ابنه أبا منصور من إبنة ناصر الدولة ، وبذلك ارتفع مقام الأسرة الحمدانية إلى مقام سام سمح لهم بمصاهرة الخلفاء.

سيف الدولة قبل توليته حلب

ولد الأمير علي بن حمدان في ديار ربيعة سنة ٣٥١ هـ وكان أبوه عبداللّه ابن حمدان الذي لقب لفرط شجاعته بأبي الهيجاء يلي أمر الولايات حينا في فارس وأحيانا في الموصل على ما أسلفنا.
ثم يقتل أبوه ولم يزل الأمير لين العود فيرعاه أخوه الحسن الذي عرف فيما بعد باسم ناصر الدولة.
ويعيش الأمير الصغير بين الموصل ونصيبين وميافارقين مسقط رأسه ثم يوليه أخوه ناصر الدوله إمرة نصيبين.
وينشأ الأمير الصغير محبا للأدباء والشعراء ، فيلتف حوله منهم عدد صغير في مستهل حياته لايلبث أن يزداد مع الزمن حتى يصل إلى ما يقارب عدد شعراء الرشيد عندما تتحقق أمنياته في ملك كبير بعد ذلك.
وكما نشأ الأمير أدبيا ، فإنه نشأ فارسا أيضا.
ولا يكاد يبلغ سيف الدولة الخامسة والعشرين من عمره حتى ينطلق
على رأس جيش كبير مقتحما بلاد الروم (البيزنطيين).
فيخرج إليه ملك الروم في مائتي ألف مقاتل ، وهو عدد لا قبل للأمير المغامر الصغير بملاقاته ، فيعمل فكره ويلجأ إلى المراوغة والتقهقر المنتظم حتى يطمع فيه الجيش المدافع ، حتى إذا سحب جيش الأعداء إلى الأرض التي يريدها بين حصني زياد وسلام انقض الأمير الفارس عليهم فأعمل فيهم الضرب والقتل ، وأنزل بهم شر الهزائم وأسر منهم سبعين بطريقا ، كما أخذ سرير الدمستق وكرسيه ، وكان ذلك موافقا لعيد الأضحى لسنة ٣٢٦ هـ.
وينشغل الأمير الحمداني في محاربة أعداء مملكة أخيه ويقيم تارة في الموصل وتارة أخرى في نصيبيين ولا يكاد يمضي عامان على غزوته الظافرة لبلاد الروم حتى يقدم على غزوة جديدة فيتجه من نصيبين نحو بلاد الروم حتى يصل إلى قاليقلا ، وكان بالقرب منها مدينة جديدة يجد الروم في إنشائها وأطلقوا عليها اسم «هفجيج» ، ولا يكاد الروم يحسون بمسير الأمير العربي إلى مدينتهم التي لم ينتهوا من إنشائها بعد ، حتى يخربوها ويولوا الأدبار ، ويتوغل سيف الدولة في أرض البيزنطيين ، وتطأ أقدامه مواطئ لم يصل إليها أحد من المسلمين قبله ، وفي تلك الأثناء يصل إلى الأمير كتاب من ملك الروم يحوي بعض التهديد فيرسل سيف الدولة إليه بالجواب السريع العزيز العنيف ، ولا يكاد يقرأه ملك الروم حتى يستبد به الغيظ ، ويستنكر أن يخاطب بمثل ذلك الذي خاطبه به الأمير الشاب ويردف قائلاً : يكاتبني هذه المكاتبة كأنه قد نزل على قلونيه؟! إستفظاعا للأمر ، ويبلغ القول مسامع سيف الدولة القائد الجريء فلا يضيع من وقته يوما واحدا ، بل يمضي متوغلاً إلى قلونيه البعيدة الحصينة المتأبية ، ويستعظم بعض قواد سيف الدولة الأمر ، ويكادون يثنونه عن هذه المخاطرة ، ولكن الأمير الجريء العنيد يجيبهم قائلاً : لست أقلع عن قصد هذه المدينة ، فإما الظفر وأما الشهادة ، وينطلق الأمير إلى هناك يفتحها ويحرق رساتيقها ويكتب إلى ملك الروم من هناك مستهزءا به وبمنعة بلاده ، وبعد أن يشبع سيف الدولة في نفسه هواية الفتح والظفر والانتصار يعود بجيشه إلى بلاده فيحاول الدمستق أن يتحرش به على رأس جيش كثيف ، فيوقع به سيف الدولة ، ويقتل من الجنود البيزنطيين مقتلة عظيمة ، ويصل بجيشه سليما إلى أرض العرب بعد أن أوقع بالروم الفزع والرهبة ، وبعد أن توغل في بلادهم مسافات لم يدخلها أحد قبله ، وبعد أن أسقط من مدنهم أكثرها حصانة وأشدها منعة.
ومجمل القول أن سيف الدولة يقف موقف المتحفز ثم يفكر مليا ولا يلبث أن يقتطع لنفسه ملكا يخلد به على الزمان.
وفي سنة ٣٣٢ هـ تقرر بين توزون أحد قواد الخليفة وبين ناصر الدولة الحمداني أن يكون للأول أعمال البصرة وما إليها وللثاني الموصل وأعمال الشام.
وفي سنة ٣٣٣ هـ سار الأخشيد إلى مصر وولى حلب أبا الفتح عثمان بن سعيد الكلالي فحسده إخوته الكلاليون واستدعوا سيف الدولة عليا بن حمدان ليولوه على حلب فقدم إليها سيف الدولة بالاتفاق مع أخيه ناصر الدولة ، ثم سار منها إلى حمص فلقيه بها عسكر الأخشيد محمد بن طغج صاحب الشام ومصر مع مولاه كافور واقتتلوا فانهزم عسكر الأخشيد وكافور وملك سيف الدولة مدينة حمص وسار إلى دمشق فحصرها فلم يفتحها أهلها له فرجع وكان الأخشيد قد خرج من مصر إلى الشام وسار خلف سيف الدولة فالتقيا بقنسرين فلم يظفر أحد العسكرين بالآخر ورجع سيف الدولة إلى الجزيرة ، فلما عاد الأخشيد إلى دمشق رجع سيف الدولة إلى حلب. ولما ملك سيف الدولة حلب سارت الروم إليها فخرج إليهم فقاتلهم بالقرب منها فظفر بهم وهزمهم.
ويقول الدكتور فيصل السامر : لعل أهمية الدولة الحمدانية (في حلب) لا يكمن في كونها مجر دولة مستقلة من تلك الدويلات الكثيرة التي ظهرت أبان ضعف السلطة المركزية وضياع هيبة الخلفاء العباسيين فحسب ، ولا مجرد كونها مركزا هاما من مراكز الاشعاع الثقافي والجذب الفكري في تلك الحقبة الزاهرة حضاريا من تاريخ الدولة العربية الاسلامية ، بل لكونها إحدى الدويلات العربية القلائل التي قامت على حساب الخلافة العباسية. ولأنها وقفت سدا منيعا في وجه الغزو البيزنطي الذي كان يستهدف بيت المقدس.
ويقول الدكتور فاروق عمر : في الجزيرة الفراتية ظهر الحمدانيون ويمثل ظهورهم قوة نفوذ القبائل العربية في هذه المنطقة بحيث استطاعت أن تكون كيانات سياسية واضحة ، حيث استطاعت قبيلة تغلب أن تكون الدولة الحمدانية في الموصل وحلب.
كانت الشجاعة والفروسية وروح المغامرة بالإضافة إلى الكرم والفصاحة والشعر والسماحة هي الصفات التي اتصف بها أفراد الأسرة الحمدانية.
لقد كانوا محاربين ، يخوضون المعارك بقلوب من حديد ، وهم بعد ذلك فصحاء يقولون الشعر عذبا ، فمنهم أبو فراس الشاعر الأمير ، ومنهم أبو زهير المهلهل الذي يشهد له المتنبي ، على بخله في إطراء الشعر ، قائلاً : «قد تحوزت في قولي وأعفيت طبعي ، واغتنمت الراحة منذ فارقت آل حمدان ، وفيهم من يقول :
وقد علمت بما لاقته منا *** قبائل يعرب وبني نزار
لقيناهم بأرماح طوال *** تبشرهم بأعمار قصار
ولم يكن أبو الطيب يقصد بهذه الإشارة إلاّ أبا زهير مهلهلاً.
ومنهم أبو العشائر ، ابن عم سيف الدولة ، وهو صاحب شعر جميل ، ومنهم أبو وائل تغلب بن داوود بن حمدان الشاعر الرقيق ، وغير أولئك كثيرون.
ثم هم بعد ذلك أصحاب كرم وسماحة ونجدة وغيرة.
وبطل الحمدانيين هو علي بن عبداللّه بن حمدان الملقب بسيف الدولة المولود سنة ٣٠٣ هـ (٩١٥ م) والمتوفى سنة ٣٥٦ هـ في عاصمته (حلب). وكانت مملكة تشمل جند حمص وجند قنسرين والثغور الشامية والجزيرة وديار مضر وديار بكر ، وكان ابتداء وصوله إلى حلب سنة ٣٣٣ هـ وانقرضت دولة بني حمدان سنة ٤٠٦ هـ وآخرهم في حلب المنصور. وقد دامت دولتهم زهاء سبعين سنة ، كانت كما قال أحد المؤرخين : «عزيزة مستقلة في أولها ، ذليلة خاضعة في آخرها».
قال سامي الكيالي متحدثا عن سيف الدولة الحمداني : من البطولات الفذة التي كان لها شأنها الخطير في دفع الغزو البيزنطي عن الأرض العربية ، بطولة سيف الدولة الحمداني هذا القائد العربي المغوار الذي وقف وحده في الميدان يحارب جيوش الامبراطورية البيزنطية الكبرى في فترة كانت الدولة العباسية قد تمزقت شذر مذر ، وتهددتها الأطماع من كل طرف.
نعم كانت مهمة سيف الدولة في غاية الخطورة. ولكنه كان من أولئك الأفذاذ الذين تتضاءل الأحداث أمامهم مهما عصفت ومهما عظم شأنها.
خاض سيف الدولة مع البيزنطيين أكثر من أربعين معركة ووصلت طلائع جيشه إلى قلب الأناضول حتى كادت تصل إلى القسطنطينية نفسها. وكانت معاركه وغزواته أناشيد في فم الشعراء ، ومن يرجع إلى قصائدهم التي تغنوا فيها ببطولاته يرى العجب ، فما كان شعر أكثرهم مدحا بقدر ما كان وصفا للمعارك. وكان يروق لسيف الدولة أن يصطحب معه الشعراء ليروا بأعينهم المعارك ، فإذا وصفوا وصفوا معاركه وحقيقة غزواته وبطولاته ولم يهيموا في أودية الخيال.
يقول Schlumberger في كتابه عن (نقفور فوكاس) مشيرا إلى سيف الدولة : «والمتصفح لمقتطفات التاريخ البيزنطي في منتصف القرن العاشر ولأكثر من عشرين عاما من ٩٤٥ ـ ٩٦٧ م (٣٣٤ ـ ٣٥٦) يجد اسما وحيدا ـ وأكرر ذلك ـ يطفو على كل صفحة من صفحات ذلك التاريخ كإنسان شجاع لايمل ولا يكل ولا يتعب ، وكان عدوا لدودا للإمبراطورية البيزنطية ، ذلك هو أمير حلب سيف الدولة بن حمدان الذي كان قاسيا طموحا لايعبأ بأي الوسائل في سبيل الحصول على المال للإنفاق على جيوشه ، وكان يتمتع بشجاعة فائقة لايعرف الخور إليها سبيلاً».
لقد استطاع هذا البطل الشيعي بالرغم من الحروب الداخلية التي شنها عليه الأخشيديون ، وبالرغم من الفتن التي أثارها رجال القبائل ، استطاع هذا البطل المغوار أن يرد البيزنطيين على أعقابهم وأن يصون سوريا من غزوهم. وقد كان في صيانة سورية صيانة بلاد الاسلام كلها لاسيما مصر والعراق ، فلو استطاع البيزنطيون احتلال سورية لنفذوا منها إلى كل مكان.
هذا القائد المجاهد لم تصرفه المعارك عن أن يجعل من حلب بيئة خصبة للآداب والفنون والعلوم. فقد فتح قصره أيضا لكل فنان موهوب وأديب ، فوفدوا عليه من جميع الأطراف. وكان يستمع إلى الشعراء ويتحبب إلى الكتاب والمصورين ويمنح المؤرخين الشيء الكثير من عطاياه ، فيعود هؤلاء إلى بلادهم حاملين إلى شعوبهم صورة رائعة من خلق الرجل العالي وشخصيته العجيبة.
ويذكر الثعالبي أنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع بباب سيف الدولة من شيوخ الشعر ونجوم الدهر ، كما يذكر الغزولي أنه قد اجتمع له ما لم يجتمع لغيره من الملوك ، فكان خطيبه ابن نباتة الفارقي ، ومعلمه ابن خالويه ، ومطربه الفارابي ، وطباخه كشاجم ، وخزان كتبه الخالديان والصنوبري ، ومدّاحه المتنبي والسلامي والوأواء الدمشقي والببغاء والنامي وابن نباتة السعدي والصنوبري وغيرهم.
ولقد تخرج في ندوة سيف الدولة كثير من علماء العصر ، كما كانت هذه الندوة سببا في صقل كثير من المواهب الشعرية ، وفي مقدمة الذي تخرجوا في ندوة الأمير من الأدباء؛ الكاتب الشاعر أبوبكر الخوارزمي ، شيخ أدباء نيسابور ، الذي كان يقول : ما فتق قلبي وشحذ فهمي وصقل ذهني وأرهف لساني وبلغ هذا المبلغ بي إلاّ تلك الطرائف الشامية ، واللطائف الحلبية التي علقت بحفظي ، وامتزجت بأجزاء نفسي.
وممن ضمتهم هذه الندوة وتخرجوا فيها من غير الشعراء المشهورين؛ أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني ، الناقد ، صاحب كتاب (الوساطة بين المتنبي وخصومه) ، وأبو الفتح بن جني ، اللغوي النابه ، وأبو الطيب اللغوي ، وأبو علي الفارسي ، الذي كان مؤدبا لعضد الدولة البويهي.
ولم تكن ندوة الأمير مدرسة يتخرج فيها من يسعده الحظ بالتردد عليها وحسب ، بل لقد تتلمذ عليها على بعد الشقة كثير من الأدباء الذي كانوا يلتقطون ما يصدر عنها من بدائع وذخائر ، حتى أن أديبا كبيرا كالصاحب بن عباد وكان صاحب ندوة لا تقل كثيرا عن ندوة سيف الدولة ، هذا الأديب الكبير كان يحرص ـ فيما يقول الثعالبي ـ على تحصيل الجديد من الشعر الذي يصدر عن شعراء الندوة ويستملي الطارئين عليه من حلب ما يحفظونه من البدائع واللطائف ، حتى كتب دفترا ضخم الحجم كان لا يفارق مجلسه ، ولا يملأ أحد منه عينيه غيره ، وصار ما جمعه منه على طرف لسانه يحاضر منه ويستشهد به.
وكان من نجوم هذه الندوة اللامعين؛ أبو نصر الفارابي ، الذي لقب في الفلسفة بالمعلم الثاني.
وكان سيف الدولة أديبا بفطرته ، وقد نمى هذه الهواية بتلمذته على ابن خالويه الذي كان يعتبر مؤدب أمراء بني حمدان ، وكان قصره يضم مكتبة كبيرة زاخرة بأسباب المعرفة وأدوات الاطلاع ، وكان أمين مكتبته الشاعر البارع أبابكر الصنوبري ، ومن بعده تولاها الشاعران الأديبان أبوبكر وأبو عثمان الخالديان ، اللذان قدما للمكتبة العربية بفضل وظيفتهما في مكتبة سيف الدولة عدة كتب ، أهمها : الديارات ، وحماسة الخالديين ، والمختار من شعر بشار وغيرها. وكثيرا ما كان الأمير يستفسر من علماء اللغة المحيطين به عن مسائل بعينها فينتشر الجميع في أرجاء المكتبة باحثين منقبين حتى يمدوه بما طلب من معلومات.
كان مجتمع حلب أكثره على مذهب أبي حنيفة النعمان ، وبعضه الآخر كان شافعي المذهب.
ولكن ما يلبث الحمدانيون أن يمتلكوا حلب وكانوا شيعة ، فحافظ المجتمع في أول الأمر على عقيدته السنية ثم غلب التشيع على حلب وغيرها ، مع بقاء الكثير من السنيين ، ومما هو جدير بالذكر أننا لم نسمع عن مشاحنات جرت بين السنة والشيعة في حلب مثل التي جرت في أمصار أخرى ، مما يدل على أن هذا المجتمع من الناحية العقيدية كان مجتمعا خاليا من التعصب المذهبي حتى أن أحمد بن إسحاق الملقب بأبي الجود الذي ولي قضاء حلب بعد أبي الحصين كان حنفي المذهب.
لعل من الخير وقد تحدثنا عن السماحة التي كانت تسود العلاقات بين فرقتي الاسلام من سنة وشيعة في مملكة سيف الدولة أن نشير أيضا إلى وضع غير المسلمين من النصاري واليهود.
لقد عاشوا حياة آمنة مطمئنة في ظل سيف الدولة ، وبالرغم من الاتجاه العدواني الصليبي الذي تمثل في هجمات البيزنطيين على الإمارة العربية ، وما كان يحمل في ثناياه من روح التعصب الشديد على كل غير مسلم فقد شملت سماحة الحمدانيين كل غير مسلم أقام بين ظهرانيهم فعاشوا في مزارعهم ومنازلهم الريفية ، وتمسكوا بتقاليدهم الثقافية وحافظوا على لغاتهم الأصلية ، وهي الآرامية والسريانية.
ولم يكن نشاط غير المسلمين محصورا في المجتمع الشعبي وحده ، بل كانوا يلقون التسامح في قصر الأمير الذي لم يتردد في تقريب كثير منهم إليه ، حتى إن ابن دنحا أكثر خدامه صلة به وإخلاصا إليه كان نصرانيا ، وكان كبير أطبائه عيسى الرقي نصرانيا ، وكان الأمير يجزل له العطاء ويعطيه أربعة أرزاق أو أربعة مرتبات ، كما لمع منهم تحت رعاية سيف الدولة مهندسون ورياضيون فلكيون ، وأشهرهم ديونيسيوس بطريرك اليعاقبة ، والمجتبى الانطاكي ، وقيس الماروني.
المصدر :
التشيّع / المؤلف: الدكتور محمد زين الدين نقلا عن الكامل في التاريخ ٧ : ٢٨٥
 


نظرات کاربران
ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.