
كانت الدّولة الفاطمية (٢٩٦ ـ ٥٧٦ هـ)، كما وصفها الدكتور حسن إبراهيم حسن ، بضرورة من ضرورات العالم الإسلامي في ذلك الحين الذي تمزقت فيه قوى المسلمين وتفرقت كلمتهم وتلاشت دولتهم وأصبحوا يتطلعون إلى الحمى الذي يمكن أن يلجؤوا إليه من الخطر الداهم المهدد لوجودهم بتزايد قوى الروم وإصرارهم على غزو الإسلام في دياره واسترداد ما أخذه منهم والثأر للماضي البعيد حتى أن نقفور فوقاس لم يكن يخفي مطامعه الهوجاء في الزحف إلى الحجاز نفسه والوصول إلى مكة والمدينة.
في هذا المعترك الرهيب كان المنقذ هو نشوء دولة فتية وزعامة قوية تجمع حولها ما تشتت من القوى وتوحد ما تفرق من البلاد ، فكانت الدولة الفاطمية هي المنقذ فجمعت الشمال الإفريقي في كيان واحد وقيادة واحدة متماسكة جعلته دولة بعدما كان عدة دول متطاحنة متقاتلة.
يقول الدكتور محمد جمال الدين سرور أستاذ التاريخ الاسلامي في جامعة القاهرة : «اتجهت سياسة الفاطميين بعد أن امتد نفوذهم إلى مصر في عهد المعز لدين اللّه الفاطمي سنة ٣٥٨ هـ (٩٦٩ م) إلى استعادة المدن التي استولى عليها البيزنطيون في شمال الشام».
وهكذا أصبحت الدولة الجديدة ذات كيان خطير قضى على الدويلات وجمع الشمل في إطار يشدها لتواجه الأحداث الرهيبة ، وكان في أولها حفظ بلاد الشام واسترداد ما تساقط منها في أيدي الروم الذين وصلوا في إحدى نوباتهم في عهد الإمبراطور حنا زيمسكيس ، سنة ٩٧٥ م ، ٣٦٥ هـ ، إلى حمص وبعلبك واضطرت دمشق نفسها إلى التسليم ودفع الجزية لهم ثم ساروا فاستولوا على بعض مدن الساحل مثل صيدا وبيروت.
وظل الروم يتقدمون وظلت الاستعدادات الفاطمية تتوالى لإنقاذ الشام حتى اصطدمت بالروم في طرابلس الشام برا وبحرا فأوقعت الهزيمة بهم فارتدت قواهم إلى أنطاكية.
وقد كان للأسطول الفاطمي الشأن العظيم في دفع عادية الروم ثم الصليبيين.
وكانت أوروبا تحاول ضرب الدولة الجديدة قبل أن يشتد ساعدها ويعلو أمرها فهاجمتها في مواقعها الأوروبية لتقضي عليها فيها ولكن الفاطميين صمدوا لأوروبا في بلادها كما صمدوا لها في بلاد الشام وغير بلاد الشام. ويحدثنا ابن الأثير عن واحدة من المعارك الرهيبة التي خاضها الفاطميون في سبيل صون الوطن الإسلامي سنة ٣٥٤ هـ ، وذلك قبل امتداد دولتهم إلى مصر. ولما كانت هذه المعركة من أروع الصفحات في تاريخنا العسكري فإننا ننقل وصفها بنصه من ابن الأثير :
« ... ذلك أن أحمد بن الحسن والي المعز على صقلية أرسل يستمده فبعث إليه المعز المدد بالعساكر والأموال مع أبيه الحسن وجاء مدد الروم فنزلوا عبر سهل (مسيني) وزحفوا إلى رمطة ومقدم الجيش الفاطمي الحسن بن عمار وابن أخيه الحسن بن علي.
فأحاط الروم بهم وعظم الأمر على المسلمين فاستماتوا وحملوا على الروم وعقروا فرس قائدهم منويل فسقط عن فرسه فقتل هو وجماعة من البطارقة معه وانهزم الروم وتتبعهم المسلمون بالقتل وامتلأت أيديهم بالغنائم والأسرى. ثم فتحوا مدينة رمطة عنوة وغنموا ما فيها وركب فل الروم من صقلية وجزيرة (ريو) في الأساطيل ناجين بأنفسهم فأتبعهم الأمير أحمد وأصحابه في الماء وأحرقوا كثيرا من مراكبهم فغرقت وكثر القتل في الروم فانهزموا لا يلوي أحد على أحد» (١).
هذه المعركة خلدها الشاعر محمد بن هاني الأندلسي بقصيدة فريدة يخاطب بها الخليفة الفاطمي المعز لدين اللّه تعد من أسمى ما في تراثنا الشعري من روائع الكفاح البطولي ، يقول ابن هاني :
يومٌ عريضٌ في الفَخار طويلُ *** لا تنقضي غُررٌ له وحُجولُ
مَسحتْ ثُغورُ الشام أدمعَها به *** ولقد تبلّ التُرْبُ وهي هَمولُ
وجلا ظلامُ الدينِ والدنيا بهِ *** مَلِكٌ لما قال الكرام فَعولُ
متكشّفٌ عن عَزمةِ عَلَويةٍ *** للكُفرِ منها رَنَّةٌ وعويلُ
للّه عينا من رأى إخباته *** لمّا أتاه بريدها الأجفيلُ
وسجودُهُ حتى التقى عَفْرُ الثرى *** وجَبينُهُ والنَظمُ والإكليلُ
لو أبصرتْكَ الرومُ يومئذٍ دَرَتْ *** أنَّ الإلـهَ بما تشاءُ كفيلُ
إن التي رام (الدمستقُ) حربها *** للّه فيها صارمٌ مسلولُ
نامت ملوكٌ في الحشايا وانثنتْ *** كَسْلَى وطرفُكَ بالسُهاد كحيلُ
تُلهيكَ صَلْصَلَةُ العوالي كلّما *** ألهتْ أولئكَ قِينةٌ وشَمولُ
وفيما قاله الدكتور محمد كامل حسين يتضح لنا الجانب الآخر من الصورة الفاطمية؛ فإذا كان الفاطميون قد أقاموا الوحدة بعد التجزئة ، وأنشؤوا الجيش الضخم والأسطول الفخم ، فحموا بذلك العالم الإسلامي من أكبر كارثة كانت ستحل به ، فإنهم إلى جانب ذلك قد وضعوا منذ الساعة الأولى لحكمهم خطة هي أن يقوم هذا الحكم على قواعد ثابتة من العلم والمعرفة ، وخططوا كما نقول اليوم لسياسة تعليمية شاملة ترتكز على إنشاء جامعة كبرى ، ثم على تفريغ العلماء للعلم وحده ، فلا يشغلهم شاغل العيش عن الانصراف إلى العلم ولا يلهيهم الفقر عن التوسع في البحث والدرس ، فجعلوا لهم موارد من الرزق تضمن لهم العيش الكريم ثم أرسلوا يستدعون العلماء من الخارج. وقد اشتد هذا المنهج واتسع وقوي بعد إقامة الوحدة بضم البلاد الأخرى إلى مصر وإنشاء القاهرة وإقامة الأزهر ، وقد تم ذلك على الشكل الآتي :
١ ـ خصصوا لكل مذهب من المذاهب الإسلامية في جامعتهم الكبرى (الأزهر) كرسيا لتدريس ذلك المذهب.
يقول على مصطفى مشرفة في مجلة المقتطف (ص ١٠٦ ج ٤) إنه يخالف ابن خلدون والسيوطي في أن الفاطميين ضغطوا على المذاهب الأخرى بما ذكره السيوطي بنفسه من أن أبابكر النعماني إمام المالكية كانت تدور حلقته على ١٧ عمودا وكان للمالكية ١٥ حلقة وللشافعية مثلها ، ولأصحاب أبي حنيفة ثلاث حلقات فقط. ثم يورد شواهد كثيرة.
وكذلك كان للمذهب الجعفري حلقاته ولكننا لم نستطع معرفة عددهما في أقوال المؤرخين.
٢ ـ كان العلماء في البلاد الخارجة عن النفوذ الفاطمي يعانون محنة الفقر وكانت حياتهم مأساة مفجعة ، فأرسل الفاطميون يستدعونهم إليهم ويضمنون لهم العيش الكريم. وكأمثلة لما كان يجري نورد أسماء محدودة من كل عصر إذ ليس من المستطاع الإلمام بأسماء الجميع ، والذي يدعو إلى الإعجاب بالفاطميين أن جميع العلماء الذين استدعوهم أو وفدوا إليهم ووفروا لهم التفرغ للعلم كانوا على غير مذهب الفاطميين.
فمن تلك الأسماء :
ـ عبد السلام القزويني : شيخ المعتزلة ، الذي وفد إلى مصر فأقام فيها أربعين سنة يلقي تعاليم مذهبه.
ـ القاضي أبو الفضل محمد البغدادي : إمام الشافعية ، الذي وفد هو الآخر إلى مصر وأخذ يملي من مذهبه ما شاءاللّه أن يملي حتى مات سنة ٤٤١.
ـ أبو الفتح سلطان بن إبراهيم الفلسطيني (٥١٨).
ـ أبو الحجاج يوسف الميروقي (٥٢٣).
ـ مجلى بن جميع المخزومي (٥٥٠).
ـ القاضي على الموصلي الخلعي (٤٤٨).
ـ أبو محمد عبداللّه السعدي (٥٦١).
هؤلاء كانوا ممن ولي القضاء للفاطميين ، وهم جميعا من فقهاء الشافعية.
ومن فقهاء المالكية.
نعم .. عرفت مصر الفاطمية لكثرة الوافدين إليها من فقهاء المذاهب أمثال :
ـ محمد بن سليمان : المعروف بأبي بكر النعّال الذي كانت إليه الرحلة في مصر ، وكانت حلقته في الأزهر تدور على سبعة عشر عمودا لكثرة الطلاب الذين كانوا يقصدونه.
ـ الفقيه المالكي عبد الوهاب بن علي : أحد الأئمة المجتهدين في المذهب ، والذي وصفه الخطيب في تاريخ بغداد بأنه لم ير في المالكية أفقه منه ، لقد ضاقت به دنيا العرب والإسلام فكاد يموت من الجوع في بغداد فلم يجد إلاّ مصر الفاطمية يحتمي بها ، فلما جاءها تدفق عليه المال وأمروه بالانصراف إلى علمه وبحثه ، ولكن الأمر لم يطل فأصيب بالفالج فقال :
«لا إله إلاّ اللّه ، عندما عشنا متنا» فتوفي هناك سنة ٤٢٢ هـ.
ـ عبد الجليل مخلوف الصقلي (٥٤٩).
ـ أبوبكر الطرطوشي (٥٢٥). وغيرهم العديد والوافر.
وكان الحاكم يأمر بإحضار جماعة من المتخصصين في كل علم بعضهم من أهل الحساب والمنطق ، والفقهاء والأطباء للمذاكرة بين يديه ، فكانت تحضر كل طائفة على انفراد ثم يخلع الحاكم على الجميع ويصلهم.
ومن أبلغ ما ورد في هذا الشأن ما قاله ابن أبي أصيبعة : «أنه لما وصل المهذب ـ وكان فاضلاً في صناعة الطب ـ إلى الشام من بغداد أقام بدمشق مدة ولم يحصل له بها ما يقوم بكفايته ، وسمع بالديار المصرية وإنعام الخلفاء فيها وكرمهم وإحسانهم إلى من يقصدهم ولا سيما أرباب العلم والفضل ، فتوجه إلى مصر فوهبت له الأموال وأقام فيها مكرما».
إضافة إلى هذا فقد تفرد الفاطميون بإنشاء دور الكتب الكبرى في الإسلام ، وبلغت تلك الدور حدا عجيبا واجتمع فيها ما يثير اليوم دهشتنا. ويكفي أن مكتبة القصر وحدها مثلاً كانت تضم ستمئة ألف وألف كتاب (٦٠١٠٠٠) ولتسهيل المطالعة على المراجعين كانوا يقتنون من أمهات الكتب الكبرى التي تكثر حاجة الناس إليها كانوا يقتنون منها عشرات النسخ ، فقد كان يوجد من (تاريخ الطبري) وحده ألف ومائتا نسخة ، منها نسخة بخط ابن جرير نفسه ، ومن كتاب (العين) نيفا وثلاثين نسخة منها بخط الخليل ، إلى غير ذلك من هذا وأشباهه.
وأدرك الدولة الفاطمية ما يدرك غيرها من الدول في أيامها الأخيرة ، فشاخت وضعفت واستنفدت معظم قواها في مقارعة الصليبيين برا وبحرا وفي إخماد الفتن.
وفي العام ٥٦٤ هـ بدا أن تهديدا صليبيا ربما وصل إلى مصر نفسها وذلك في عهد الخليفة العاضد آخر الخلفاء. وقد أيقن العاضد أن لا قبل له بمقاومة الصليبيين وأن جيوشه في وضع لاتستطيع معه الصمود في وجه الزحف الفرنجي ، فلم يتردد لحظة واحدة في أن يضع خلافته وملكه وكل بلاده في أيدي غير فاطمية ، يعرف مطامعها به ويدرك ما تضمره لما يعتقد ، ولم يتوان في أن يسلمها كل شيء ما دامت تستطيع المعاونة على دفع الصليبيين عن مصر ، وأقدم على تضحية ليس لها شبيه ولا نظير.
لقد أرسل يستدعي نور الدين محمود ، وهو يعلم ما فعل نور الدين بالشيعة في حلب وغير حلب ، أرسل يستدعيه ليحتل بلاده بمن شاء من قواده ، وقصَّ شعور نسائه وأرسلها مع كتب الاستنجاد ، قائلاً لنور الدين : «هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لتنقذهن من الفرنج».
فكانت خاتمة الدولة الفاطمية ، وهي أشرف خاتمة تصنعها دولة من الدول لنفسها بيديها.
المصادر :
1- الكامل في التاريخ ٧ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ «نحوه» ، أحداث سنة ٣٥٤ هـ.