
قامت في القرن الخامس الهجري (٤٠٨ ـ ٥٤٥ هـ) (الحادي عشر) دولة بني مزيد في الحلة بالعراق على يد مؤسسها سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي.
وعن صدقة هذا يقول ابن الأثير : «كان جوادا حليما صدوقا كثير البر والإحسان ، ما برح ملجأً لكل ملهوف ، يلقى من قصده في أمن ودعة ، وكان عفيفا عادلاً لم يتزوج على امرأته ولا تسرى عليها ، ولم يصادر أحدا من نوابه ولم يأخذهم بإساءة قديمة ، وكان أصحابه يودعون أموالهم في خزانته ويدلون عليه إدلال الولد على أبيه. ولم ير رعية أحبت أميرها كحبها له. وكان متواضعا يبادر إلى النادر. وكان حافظا للأشعار ، وكانت له مكتبة تحوي ألوف المجلدات وكانت منسوبة الخط» (١).
والواقع أن الإمارة المزيدية قامت قبل صدقة ، وكان أول أمرائها أبوالحسن علي بن مزيد المتوفى سنة ٤٠٨ وجاء بعده ولده دبيس الذي كان عند وفاة أبيه علي في الرابعة عشرة من عمره. فأقره بهاء الدولة البويهي على ملك أبيه ، واستمر في الحكم سبعا وستين سنة وتوفي سنة ٤٧٤. فقام بعده ولده منصور أبو كامل وكانت الدولة البويهية قد زالت وحل محلها السلاجقة. ودام حكم منصور خمس سنين وتوفي سنة ٤٧٩ فتولى بعده ولده سيف الدولة صدقة. وكانت مدة ولايته اثنتين وعشرين سنة.
وقد خضعت له القبائل الفراتية وامتدت إمارته إلى البصرة وواسط والبطيحة والكوفة وهيت وعانة والحديثة ، وسيطر على أقوى القبائل العراقية لذلك العهد مثل خفاجة وعقيل وعبادة وقبيلة جاوان الكردية.
وقد اهتم بالشؤون الإدارية والعمرانية والثقافية. ورأى أفضل ما يعينه على ذلك هو العدل في الحكم. هذا عدا عما كان يلقاه العلماء والأدباء في كنفه من الرعاية فأقبلوا عليه من كل ناحية.
وانتهت حياة صدقة سنة ٥٠١ قتلاً في حربه مع السلاجقة. وبعد وفاة السلطان محمد السلجوقي أطلق ولده محمود ، دبيسا بن صدقة الذي كان في أسر أبيه وأعاده إلى الحلة سنة ٥١٢ فأنشأ الدولة من جديد.
قال فيه ابن خلكان في وفيات الأعيان : « ملك العرب صاحب الحلة المزيدية ، كان جوادا كريما ، عنده معرفة بالأدب والشعر وتمكن في خلافة المسترشد واستولى على كثير من بلاد العراق ، وهو من بيت كبير. ودبيس هو الذي ذكره الحريري صاحب المقامات في المقامة التاسعة والثلاثين بقوله : والأسدي دبيس ، لأنه كان معاصرا له فرام التقرب إليه في مقاماته ولجلالة قدره ، وله نظم حسن ... » (2).
وقال فيه ابن الطقطقا في الآداب السلطانية « كان صاحب الدار والجار والحمى والذمار ، وكانت أيامه أعيادا ، وكانت الحلة في زمانه محط الرحال وملجأ بني الآمال ومأوى الطريد ومعتصم الخائف الشريد ... » (3).
وقد تمكنت سلطته في البلاد واجتمعت عليه القبائل العربية والكردية. وأغضبه الخليفة المسترشد فجمع جيوشه ودخل بغداد وضرب سرادقه بإزاء دار الخلافة وهدد المسترشد ، فاسترضاه المسترشد فرجع إلى الحلة.
وقام صراع بينه وبين السلاجقة فانتصر عليهم عند نهر بشير شرقي الفرات سنة ٥١٦.
وامتد الصراع إلى أن اضطر دبيس للجلاء عن الحلة ، ثم عاد إليها وتكرر الجلاء والعودة. إلى أن دعاه إليه السلطان مسعود السلجوقي وبعد أن أكرمه عاد فغدر به وقتله سنة ٥٢٩. وقد استمرت الإمارة المزيدية بعده حتى سنة ٥٤٥ إذ انتهت بموت علي بن دبيس.
وفي رجال هذه الدولة يقول العماد الأصفهاني «ملوك العرب وأمراؤها بنو مزيد الأسديون النازلون بالحلة السيفية على الفرات : كانوا ملجأ اللاجئين ، وثمال الراجين ، وكنف المستضعفين تشد إليهم رحال الآمال وتنفق عندهم فضائل الرجال ، وأثرهم في الخيرات أثير ، والحديث عن كرمهم كثير. وكان صدقة يهتز للشعر اهتزاز الاعتزاز ، ويخص الشاعر من جوده بالاختصاص والامتياز ، ويؤمنه مدة عمره من طارق الأعواز ، يقبل على الشعراء ويمدهم ، جميل الإصغاء ، وجزيل العطاء».
وعن المزيديين والشعر يتحدث الدكتور علي جواد الطاهر : كانت مكانة بني مزيد في الشعر بارزة بروزها في التاريخ ، ولقد مدح الشعراء نور الدولة دبيس بن علي بن مزيد ، فلما توفي في سنة ٤٧٤ رثوه فأكثروا ، ولقد رثوه بعد وفاته بأكثر مما مدحوه في حياته ، وظل ذكره يتردد عند مدح أعقابه ولما أفضت الإمارة بعد وفاته إلى ولده بهاء الدولة منصور ، هنأه البندنيجي ودعا للسلطان ملكشاه.
الإمارة المزيدية في الحلة
إن الأمير سيف الدولة صدقة مصّر الحلة ، واتخذها عاصمة إمارته ، وكان سبب تمصيرها أمرا سياسيا ، وهو أن الأمير سيف الدولة كان يرقب الفرص للانفصال عن جسم الدولة السلجوقية تحقيقا لأمنية جده دبيس ، فلما قوي أمره واشتد إزره وكثرت أمواله وانشغل السلاجقة بالانشقاقات التي وقعت بينهم ، رأى الظروف ملائمة لتحقيق أمنيته ، فمصّر الحلة واتخذها عاصمته سنة ٤٩٥ هـ. قال ياقوت الحموي :
« كان أول من عمرها ونزلها سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي ، وكانت منازل آبائه الدور من النيل ، فلما قوي أمره واشتد إزره وكثرت أمواله لانشغال الملوك السلجوقية : بركيارق ومحمد وسنجر أولاد ملك شاه بن ألب أرسلان بما تواتر بينهم من الحروب ، انتقل إلى الجامعين موضع في غرب الفرات ليبعد عن الطالب ، وذلك في المحرم سنة
٤٩٥ هـ وكانت أجمة قصب تأوى إليها السباع ، فنزل بها بأهله وعساكره وبنى بها المساكن الجليلة والدور الفاخرة ، وتأنق أصحابه بمثل ذلك وصارت ملجأ ، وقد قصدها التجار وصارت أفخر بلاد العراق وأحسنها مدة حياة سيف الدولة ، فلما قتل بقيت على عمارتها ، فهي اليوم قصبة تلك الكورة ، وللشعراء فيها أشعار كثيرة ... » (4).
رأى الأمير سيف الدولة صدقة أن السلاجقة قد قسموا العراق إلى إقطاعات بين قوادهم ومحسوبيهم من الأتراك ، وقد أخذ هؤلاء يعيثون فسادا؛ فالأمن مفقود ، والعدل معدوم ، والناس في بلاء ، لذا أخذ سيف الدولة ينتهز الفرص لتطهير البلاد العراقية من هؤلاء الظلمة الجائرين ، وإحقاق الحق ونشر راية العدل. عزم على توسيع إمارته.
كان الأمير دبيس يرى أن الخلافة العباسية ـ في عصره ـ صارت اسما بلا مسمى ، لذهاب المنعة والشوكة والعصبية التي هي الأساس في قيام الدولة وبقائها ، وقد خرج الأمر من يدها إلى السلاجقة. فكان يرى أنه أحق بالكل من العباسيين لوجود المنعة والشوكة العصبية ، فكان لذا محط آمال العراقيين؛ فالتفت حوله القبائل العراقية من عربية وكردية لأنه الوحيد الذي يمكن أن يناضل السلاجقة ويقارعهم.
النهضة العلمية والأدبية في الحلة في عهد المزيديين
بدأت النهضة العلمية والأدبية في الحلة منذ مصّرها الأمير سيف الدولة صدقه المزيدي وبلغت هذه النهضة أوج عظمتها طيلة القرن السادس الهجري فصارت دار هجرة لطلاب العلوم والمعارف والآداب فقصدها عشاق الفضيلة ليدرسوا العلوم على علمائها الأعلام فنبغ فيها العلماء والحكماء والأدباء ، وذاع صيتهم مدى الآفاق. ولا تزال مصنفاتهم متداولة بين أيدي أرباب العلم والأدب عدا ما تلف ، وهو الكثير الذي لعبت به أيدي العبث والفساد ونوائب الزمن الشداد.
كانت الحلة في ذلك العهد من أرقى المدن الإسلامية بالنسبة لرقيها العلمي والأدبي ، وكانت تعتبر مدرستها أكبر جامعة إسلامية في ذلك العهد.
فقد صارت الحلة في عهد سيف الدولة مقصد الأدباء والشعراء والعلماء لما يلقونه من رعاية وتشجيع من قبله. فقد كان يجزل لهم العطاء والبذل حتى أن بعض من وفد إليها اتخذها موطنا له بدل موطنه الأصلي ، مثل أبى المعالي الهيتي المعروف بالفارسي ، ومثل أبي عبد اللّه محمد بن خليفة السنبسي وغيرهما الكثير.
المصادر :
1- الكامل في التاريخ ٩ : ١٨٨ سنة ٥٠١ هـ.
2- وفيات الأعيان ٢ : ٤٩٠.
3- الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية : ٢٨٢ ، مكتبة الثقافة الدينية ، القاهرة ، تحقيق ممدوح حسن محمد.
4- معجم البلدان ٣ و ٤ : ١٧٦.