
کان ظهور هذه الدولة عام (٤٥٩ ـ ٥٠٢ هـ ، ١٠٧٠ ـ ١١٠٩ م) حيث ينحدر بنو عمار في الأصل من قبيلة «كتامة» المغربية الافريقية. وقد اعتنقت هذه القبيلة المذهب الشيعي الذي انتشر في شمال أفريقية. وعندما قامت الدولة الفاطمية ، تولّى شيوخ هذه القبيلة مراكز قيادية في مصر والشام ، فكان منهم «أبو محمد الحسن بن عمار». وقد ظهر على مسرح الأحداث في عهد الخليفة الفاطمي «العزيز باللّه » سنة ٣٨١ هـ. ويبدو أنه فتح الطريق لأبناء قبيلته لينتقلوا إلى الشام ، فنجده يرسل القائد «أبا تميم سليمان بن جعفر بن فلاح الكتامي» إلى دمشق. ثم يقوم أبو تميم هذا بوضع أخيه «علي بن جعفر ابن فلاح الكتامي» واليا على طرابلس سنة ٣٨٦ هـ.
ثم نطالع اسم القاضي «أبي طالب الحسن بن عمار» الملقب بأمين الدولة ، في سنة ٤٥٧ هـ ، ١٠٦٥ م. عندما دخل طرابلس «الأمير حصن الدولة حيدرة بن منذر بن النعمان» حيث ساعده أبو طالب في الاستيلاء عليها وانتزاعها من بني أبي الفتح. وهذا ينفي ما ذهب إليه الدكتور السيد عبد العزيز سالم من أن «مختار الدولة بن نزال» كان واليا على طرابلس من سنة ٤٠٧ هـ حتى ٤٦٢ هـ.
واستمر أمين الدولة ابن عمّار على ولائه للدولة الفاطمية من سنة ٤٥٧ حتى سنة ٤٦٢ هـ ـ ١٠٧٠ م. حيث أعلن استقلال طرابلس عن الفاطميين.
ولم يطل حكم أمين الدولة بعد استقلاله بطرابلس ، إذ توفي سنة ٤٦٤ هـ ، ١٠٧٢ م. وبعد صراع على الحكم تم لجلال الملك ابن أخ أمين الدولة الانفراد بحكم طرابلس. وطالت مدته فيها حتى توفى ٤٩٢ هـ. وقد شهدت طرابلس في عهده ازدهارا ورخاءً عظيمين. ففي عهده اتسعت رقعة إمارة طرابلس المستقلة. ودخلت جبلة وعرقة وانطرطوس وجبيل في حوزته. وكانت طرابلس تبعث الحكام والقضاة والخطباء إلى تلك البلاد. ومن الذين بعثتهم طرابلس القاضي «ابن النقار» حيث تولى الخطابة في جبلة حتى حاصرها الصليبيون. وجلال الملك هو الذي قام بتجديد دار العلم بطرابلس ، وبنى جامعا باسمه. وقد «ضبط البلد أحسن ضبط ، ولم يظهر لفقد عمه أثر لكفايته».
ثم خلفه في الحكم أخوه فخر الملك الذي سطرت طرابلس في عهده سجلاً من الصمود تفخر به طرابلس على مر التاريخ ، حيث وقفت بقيادته تتحدى الهجمة الصليبية عشر سنوات حتى سقطت بأيديهم سنة ٥٠٢ هـ ـ ١١٠٩ م. ثم وزر لأمير الموصل حتى عام ٥١٣ هـ. وانقطعت أخباره بعد سنة ٥١٤ هـ.
وقد بلغ المستوى الحضاري والثقافي أوجه في طرابلس على عهد هذه الأسرة ، التي فاقت شهرتها في العلم كل ما كان لها من صفات حربية. واهتم رجالها ببناء المساجد في طرابلس وحلب وغيرها من مدن الشام ، ويذكر «ابن الشحنة» أن القضاة بني عمّار أصحاب طرابلس الشام هم الذين بنو الجهة الشرقية في الجامع الكبير بحلب. وهو المعروف الآن بالجامع الأموي.
ومن مفاخر بني عمّار ـ غير ما تقدم ـ أن مجالس العلم كانت تقام في (دار العلم) التي أقيمت خصيصا لتدريس العلوم المختلفة ، ومن حلقات التعليم في هذه الفترة الحلقة التي يقيمها أبو عبداللّه الطليطلي ، الناظر على دار العلم وقد حضر حلقته الكثير من الأدباء والشعراء والمهتمين بدراسة اللغة والنحو ، وقد تخرج على يديه الشاعر الفارس المؤرخ (أسامة بن منقذ) صاحب كتاب (الاعتبار) حيث درس عليه النحو قرابة عشر سنين. كذلك فقد غشي حلقته الدراسية بطرابلس الشاعر المشهور (ابن الخياط) صاحب الديوان.
وإلى جانب حلقات التعليم كانت هناك لقاءات أدبية تتم بين عدد من الأدباء أو الشعراء في أماكن غير المسجد والمدرسة ، مثل اللقاءات التي كانت تتم في دكان أحد العطارين بطرابلس ، ويدعى أبو الفضل النصراني ، أو عند متتزهات طرابلس وفي أسواقها ، فابن الخياط كان يتردد مع أبي الحسين هبة اللّه بن الحسن الحافظ على دكان العطار ويتجاذبان الأشعار كما كانوا يخرجون إلى عين ماء خارج طرابلس ويتطارحون الأشعار ، كذلك كانت حلقات المناظرة تقام بين الفقهاء والشعراء في قصور بني عمّار ، ومنها المناظرة التي جرت بين القاضي ابن أبي روح وبين بعض فقهاء المالكية ، والمناظرة بين الحسين بن بشر الإطرابلسي المتولي على دار العلم وبين الخطيب البغدادي.
كما كان بنو عمّار يقيمون مسابقات الشعراء يتبارون فيها على تأليف القصائد. فقد ذكر العماد الأصفهاني نقلاً عن ابن النقار الطرابلسي أن فخر الملك اقترح على الشعراء أن يعملوا قصيدة على وزن قصيدة ابن هاني الأندلسي وجعل للفائز جائزة ، ففاز بها الشاعر أبو الحسن علي بن إبراهيم المصري.
وكان الطرابلسيون إذا استشكل عليهم أمر فقهي يكتبون إلى أشهر العلماء والفقهاء في البلاد يسألونهم ويستفتونهم ، والمسائل الطرابلسية التي أجاب عنها السيد المرتضى تدل على ذلك. ومن بين المسائل التي أجاب عنها ، مسائل تعرف بالمسائل (التبانية) نسبة إلى التبانة وهي حي من أحياء طرابلس القديمة على ما يبدو ، ولعل موقعه في (باب التبانة) الحالية.
أمين الدولة مؤسس دار العلم
كان أمين الدولة ـ أول حكام طرابلس من أسرة بني عمّار ـ رجلاً عاقلاً فقيها ، سديد الرأي ومن علماء الشيعة ، كما كان كاتبا مجيدا ، ألف كثيرا من الكتب النفسية.كذلك فإنّ أمين الدولة اتخذ له دار علم جمع فيها ما يزيد على مائة ألف كتاب وقفا. وكان يرسل المراسلات إلى أقطار البلاد ويبذل الأثمان الباهظة ، ويجلب الكتب النادرة لهذه الدار ويهتم بالعلم ويحنو على العلماء ، ويستميل طلاب العلم إلى عاصمة إمارته. وجاء عمله هذا شبيها بما قام به سيف الدولة الحمداني في حلب.
وكانت بطرابلس مدرسة عرفت باسم «دار الحكمة» وقد استقبلت عددا كبيرا من طلاب العلم ، حتى وقفت جنبا إلى جنب مع «دار الحكمة» بمصر الفاطمية. فنشرت العلوم والآداب والثقافة. وأصبحت طرابلس بذلك ميدان علم ودرس ومباراة في التعليم. ومركزا من أعظم المراكز الشيعية في العصر الوسيط وكعبة يحج إليها طلاب العلم للأخذ من علمائها مختلف العلوم والفنون من فقه وحديث ولغة وأدب وفلسفة وهندسة وطب وغيره ، وللإطلاع على المصنفات والمخطوطات العلمية والأدبية والدينية والفلسفية التي كانت تحتويها مكتبتها. وكانت بطرابلس عدة حلقات علمية يعقدها كبار العلماء نذكر منهم المحدث المشهور خيثمة بن سليمان القرشي الاطرابلسي ، وابن أبي الخناجر الطرابلسي ، وأحمد بن محمد الطليطلي التي كانت له حلقة عامرة بالطلبة يلقي عليهم فيها دروسا في العربية والأدب ، وقد حضرها الشاعر ابن الخياط صاحب الديوان المعروف باسمه. وكان يتردد على دار العلم أيضا.
عدد المصنفات في المكتبة
أورد الأب أغناطيوس الخوري رواية عن النويري يقول فيها : أنه كان في مكتبة طرابلس (ألف ألف كتاب) ويورد رواية أخرى عن المؤرخ ابن أبي طيء يقول فيها : إن عدد الكتب بلغ (٣٠٠٠٠٠٠) ثلاثة ملايين. ويورد الأستاذ محمد كرد علي رواية شبيهة ، ولكنه يعزوها لابن الفرات. فيقول نقلاً عنه : إن كتب دار العلم بطرابلس «ثلاثة آلاف ألف». ولا أعرف ما هي النسخة التي اعتمد عليها في ذلك إذ النسخة التي بين يدي لا تذكر هذا الرقم.وذهب كثيرون من المؤرخين العرب والمستشرقين إلى أن عدد الكتب في مكتبة طرابلس قد وصل إلى ثلاثة ملايين كتاب. ومن هؤلاء المستشرقين : «أرنولد» و «غروهمان» و «غيبون» و «شوشتري» الذي يذكر في كتابه «مختصر الثقافة الإسلامية» أن مكتبة طرابلس كانت تحتوي أكبر عدد من الكتب عرف أن مكتبة ماحوتة حتى ذلك الزمن ، ألا وهو ثلاثة ملايين وهذا الرقم يعني انه كان بها ثلاثة أرباع ما تحويه مكتبة بودليان الآن : أو أكثر من نصف ما تحويه جميع مكتبات الهند وباكستان في العصر الحاضر. ونقل الكونت فيليب دي طرازي عن الأستاذ أحمد زكي قوله عن المستشرق الفرنسي «كاترمير» أن هذا الأخير لم يخالجه أدنى شك في تقدير العدد بثلاثة ملايين.
ولكن الأستاذ محمد كرد علي لا يوافق على هذا العدد ، بل يعتقد أن من الجائز أن يكون مجموع كل الكتب في مدينة طرابلس ثلاثة ملايين كتاب ، وليس في دار العلم فقط. وهذا نراه أصوب الآراء.
أما ابن القلانسي ، وابن الأثير فقد تجنبا تحديد رقم معين ، بل ذكرا أن كتب دور العلم الموقوفة بطرابلس وما كان منها في خزائن أربابها «ما لا يحد عدده ولا يحصى» (١).
مكتبة طرابلس ومقارنتها بالمكتبات الأخرى
وهذه إحصائية لأعداد الكتب التي كانت موجودة في مكتبات العالم الإسلامي خلال العصر الوسيط :١ ـ مكتبة سابور في بغداد ، عدد مجلداتها 10400
٢ ـ مكتبة الحكمة في قرطبة ، عدد مجلداتها 60000
٣ ـ خزائن القصور بالقاهرة ، عدد مجلداتها1600000
٤ ـ دار الحكمة بالقاهرة ، عدد مجلداتها 10000
٥ ـ مكتبة مراغة ، عدد مجلداتها 400000
ومن مطالعتنا لهذه الإحصائية يتضح لنا أن عدد مجلدات الكتب في مكتبة طرابلس ، كان يفوق عدد جميع الكتب في المكتبات المذكورة مجتمعة.
ويلاحظ أن الإحصائية اقتصرت على المكتبات الإسلامية فقط ، إذ لم تكن هناك مكتبات أخرى غيرها ، لها حجمها وخاصة في أوروبة ، فقد كانت الأديرة الأوروبية في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) ، تقيد العدد القليل من الكتب ، والذي قد لا يتجاوز العشرة ، بالسلاسل ، نظرا لندرتها وخوفا عليها من الضياع. وكانت أغنى مكتبة في أوروبا سنة ١٣٠٠ م. هي مكتبة كنيسة كنتربري. وتضم خمسة آلاف كتاب. وفي هذا القرن أيضا لم يستطع ملك فرنسا شارل الخامس الملقب بالحكيم ، أن يجمع أكثر من ألف مؤلف يكاد ثلثها يكون خاصا بعلم اللاهوت واحتوت مكتبة كلوني في القرن الثاني عشر خمسمائة وسبعين كتابا.
أن مدينة كان عدد سكانها لايتجاوز 50000 خمسين ألف نسمة على أبعد تقدير أثناء حكم بني عمار تحتوي على ثلاثة ملايين كتاب لهي مفخرة حقا لطرابلس العربية الاسلامية على مر تاريخها إذا قورنت الآن بدولتي الهند والباكستان ، وليس فيهما سوى ضعف واحد مما كان بها من الكتب وذلك بشهادة مؤرخ من شبه القارة الهندية.
إن مكتبة مثل هذه تضم هذا العدد الضخم من المجلدات ، كانت ولا ريب ، تتطلب بناء ضخما ، متسع الأرجاء ، وتحتاج إلى موظفين وعمال ومشرفين كثيرين ، وبالطبع كانت ترصد لها ميزانية ضخمة للانفاق على العاملين بها من موظفين وخطاطين ، ومترجمين ومجلدين ووراقين ، والنساخة ، الذين بلغ عددهم لوحدهم ١٨٠ ناسخا ، هذا إلى جانب التجار الذين كانوا يطوفون البلاد ليأتوا بنوادر الكتب مهما غلا ثمنها.
وكانت مكتبة طرابلس ومدرستها «دار الحكمة» والمكتبات الأهلية كلها موجودة في منطقة الميناء الحالية ، حيث كانت تقوم هناك المدينة القديمة.
مصير مكتبة طرابلس
في سنة ٥٠٢ هـ ، ١١٠٩ م دخل الصليبيون مدينة طرابلس بعد أن قاوم بنو عمار حصارهم عشر سنوات متتالية ، وقد اندفع الصليبيون في شوارع المدينة يقتلون وينهبون ويحرقون وعندما وصلوا إلى دار العلم ، دخلها الكاهن المنقطع لخدمة الكونت «برترام بن ريموند الصنجيلي». وأخذ يطوف في أرجائها ، فوجدها ملأى بالكتب ، ويبدو أنه دخل القاعة المخصصة للمصاحف الشريفة ، فأراد أن يتصفح أحدها فوجده قرآنا كريما ، فألقى به أرضا ، وتناول نسخة ثانية فإذا بها قرآن كريم أيضا ، فألقى بها وهكذا كلما التقط نسخة وجدها قرآنا كريما ، وظل يفعل الشيء نفسه حوالي ٢٠ مرة ، فلما وجد أن جميع النسخ التي تصفحها كانت قرآنا كريما ، اعتقد بجهله أن المكتبة كلها لا تضم سوى المصاحف الشريفة أو التفاسير ، ولذلك غضب وتأججت في نفسه روح الصليبية وحقدها ، وقال غاضبا : «هذه مكتبة مملوءة بالمصاحف ، أحرقوها» ، فنزل الكونت برترام عند رغبته ، وهكذا نفذ أمر ذلك الكاهن المتعصب الجاهل وأميره الصليبي ، وأشعلت النيران في دار العلم التي أتت على جميع ما احتوته هذه المكتبة الثمينة ، حتى أصبحت أثرا بعد عين ولم يكن إتلاف المكتبة الرائعة سوى مقدمة لما حل بالمكتبات الإسلامية الأخرى ، من جراء الأعمال التدميرية التي أتاها المغول عندما اجتاحوا دول الإسلام. كما كان مصير مكتبات الأندلس الإسلامية الإحراق والتدمير على أيدي رهبان وأمراء أوروبة المتعصبين. لم يقتصر الإحراق في طرابلس على المكتبة بل تعداه إلى مدرسة الحكمة ، ومصنع الورق أيضا.
جدير بالذكر أنّ زعماء الدولة المزيدية في الحلّة الشيعية قد عمّروا وبنوا الكثير من القصبات والقرى في دولتهم لاسيّما في محيط عاصمتهم الحلّة ، ولازالت إلى اليوم قرية شاخصة جنوب الحلّة بمسافة ٢٥ كم تحمل اسم قرية المزيدية ، وقد يكون هناك ثمة ارتباط بين اسم هذه القرية ودولة المزيديين ، وإن لم أقف على تحقيق في تاريخ نشوء تلك القرية وسبب تسميتها على الرغم من قدم تاريخ هذه القرية وما خرّجته من الفقهاء والعلماء والأدباء والكتّاب.
نذكر منهم الشيخ محمد بن الحسن بن يوسف بن أبي علي المزيدي (ت بعد سنة / ٧٠٥ هـ).
والشيخ حسن بن علي المزيدي (ت / بعد سنة ٧٠٧ هـ).
والفقيه رضيالدين أبو الحسن علي بن جمال الدين أحمد بن يحيى المزيدي تلميذ العلاّمة الحلي وأستاذ الشهيد الأوّل ، كان من أجلاّء الفقهاء والأدباء والعلماء في عصره مات سنة ٧٥٧ هـ.
والمولى الفاضل محمدسعيد المزيدي صاحب كتاب تحفة الأخوان الذي ينقل عنه المجلسي في البحار.
والسيد سليمان بن داود بن حيدر الحسيني أبو داود المزيدي ، قال الزركلي في الأعلام : ولد في النجف الأشرف وسكن الحلّة سنة ١١٧٥ هـ ومات بها وعرف بالمزيدي لسكن بعض أجداده قرية تسمى المزيدية.
وعلي بن الحسين بن علي بن عوض المزيدي (ت في جمادى الآخرة / ١٣٢٥ هـ) ، وهو مؤرّخ ، عالم ، أديب وشاعر. وغيرهم.
المصادر :
1- الكامل في التاريخ ٩ : ١٣٦.