مساحات الالتقاء

لتفترض أنّ الخلاف العلمي بين عالم وآخر كان في درجته العليا٢٠% فهذا يعني أنّ مساحة الاتّفاق والتّطابق هي نسبة ٨٠% لكن المؤسف والمحزن في الأمر ، هو تجاهل مساحة الاتفاق الواسعة وتجاوزها ، للانشغال بمنطقة
Tuesday, November 7, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
مساحات الالتقاء
مساحات الالتقاء



 

لتفترض أنّ الخلاف العلمي بين عالم وآخر كان في درجته العليا٢٠% فهذا يعني أنّ مساحة الاتّفاق والتّطابق هي نسبة ٨٠% لكن المؤسف والمحزن في الأمر ، هو تجاهل مساحة الاتفاق الواسعة وتجاوزها ، للانشغال بمنطقة الخلاف المحدودة والوقوف عندها.
ففي الثقافة السائدة في أوساط الأُمّة ، هناك تركيز بارز على القضايا والمسائل الخلافية ، مع محدوديتها وثانويتها ، وهناك إهمال واضح للمتفق عليه مع سعته وأولويته.
ـ إنّ كلّ علماء الإسلام يتّفقون على أصول العقيدة ، وهي الإيمان بالله تعالى ، ونبوّة النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وأنّه خاتم الرسل والأنبياء ، وبالمصير إلى الله ، والمعاد إليه في يوم القيامة ، وإن اختلفوا في بعض تفاصيل هذه العقائد.
كما يتفقون على معالم الشريعة ، وأركان الدين ، من صلاة وصوم وحجّ وزكاة وخمس وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، فهذه المعالم والأركان ، يجمع علماء الإسلام على وجوبها ، ويتّفقون على مقوماتها الأساسية ، وخطوطها العريضة ، وإذا ما كان هناك اختلاف ، ففي بعض الجزئيات والتفاصيل من فروع مسائلها.
وينهل العلماء من منهل واحد ، هو الكتاب والسنّة ، حيث يجمع المسلمون على حجّيتهما ، ولزوم الأخذ لما ورد فيهما ، وتحريم أيّ مخالفة أو معارضة لهما.
وإنّ فهم نصوص الكتاب الكريم ، والسنّة الثابتة ، لا يكون إلا بالتدبّر والتأمّل والاجتهاد والنظر ، مع معذورية كلّ مجتهد في الأخذ بما وصل إليه نظره واجتهاده.
وضمن كلّ مذهب من المذاهب الإسلامية ، هناك اتّفاق على قواعد الاستنباط وضوابط الاجتهاد ، والكثير من التفاصيل العقيدية والفكرية.
هذا بالنسبة لأصول الدين ومعالم الشريعة.
ـ إنّ حفظ الإسلام ، وإعلاء كلمته ، وتطبيق أحكامه وتعاليمه ، هو الهدف المشترك لجميع علماء الدين.
ومما يهمّ العلماء جميعاً ، حماية مصالح الأُمّة الإسلامية ، وتحسين أوضاعها ، والدفاع عن مقدساتها وحقوقها ، وإعزاز مكانتها بين الأمم ، لتكون كما أرادها الله تعالى (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (١).
ـ وهناك تحدّيات قائمة ، يشعر بها كلّ واحد من علماء الدين ، وأبرزها طغيان مدّ الأهواء والشهوات والانجراف المادي ، الذي يصدّ الناس عن التوجّه الروحي ، والالتزام الديني. والتيارات الفكرية المادّية التي تمتلك وسائل الإعلام ، ومراكز القوّة والقرار ، وتعمل بإمكانياتها الضخمة ضد الحالة الدينية.
وهناك قوى العدوان والاستكبار العالمي ، والتي تعلن مواجهتها للصحوة الإسلامية ، وتراها الآن الخطر الأكبر على الحضارة المادّية الرأسمالية ، وخاصّة بعد سقوط المعسكر الشرقي ، كما هو مفاد مقولة صموئيل هانتنغتون في صدام الحضارت.
وهناك القوى المصلحية والمتسلّطة في داخل الأُمّة الإسلامية ، والتي تمارس الاستبداد والقمع ، وتنفّذ خطط الأعداء ، بوعي أو بغير وعي ، وتقلّص دور العلماء في التبليغ والدعوة إلى الله.
وهناك أمراض التخلّف التي تعاني منها الأُمّة ، وأخطرها الجهل بالدين والحياة.
هذه التحدّيات الخطيرة القائمة ، والتي يفترض أن يستشعرها كلّ رجل دين ، يجب أن تكون دافعاً لتقارب علماء الدين ، وتعاونهم على مواجهتها.
والأهداف الكثيرة المشتركة التي يؤمنون بها جميعاً ينبغي أن توحد صفوفهم ، وتنظّم حركتهم باتّجاه تحقيقها.
وما دامت أصول العقيدة ، ومعالم الشريعة ، ومنابع الأحكام ، واحدة ، فإنّها تشكل أرضية خصبة للتوافق والتلاقي ، وتجاوز موارد الاختلاف في الفروع والجزئيات ، والمسائل الثانوية والتفصيلية.
والسؤال الذي يشغل بال المخلصين في الأُمّة هو : لماذا يغفل العلماء ويتجاهلون مساحات التلاقي الواسعة بينهم ، ومواقع الاتّفاق العريضة ، وينشغلون بنقاط الخلاف المحدودة والجانبية؟
إنّ ذلك يقعد بهم عن مواجهة التحدّيات القائمة ، ويضعفهم اتّجاهها ، كما يمنعهم من تحقيق أهدافهم الكبيرة ، ويعرقل سيرهم نحوها ، وقد يؤدّي النزاع والخلاف بينهم على الفروع والجزئيات إلى ضياع أصول الدين ، وأسسه ومعالمه.
والمطلوب ، كخطوة أولى ، إعادة النظر في طرح القضايا والمسائل الدينية من قبل العلماء ، ليكون التركيز والاهتمام بمواقع الاتّفاق أوّلاً ، واعتبارها هي الأصل والقاعدة والمنطلق.
وذلك يتيح الفرصة أكثر لتقريب الآراء في موارد الخلاف ، والتي يجب أن تبقى ضمن حجمها وحدودها الطبيعية ، دون تضخيم أو تهويل.
إنّ البدء من موارد الخلاف والتركيز عليها ، قد يحول دون استثمار مساحات اللقاء الواسعة ، بما يخلق من حساسيات وانفعالات.
بينما الانطلاق من مواقع الاتفاق ، يهيّئ النفوس لمعالجة موارد الخلاف بمرونة وموضوعية ، مما يتيح فرص التقارب ، وتضييق حالات الاختلاف.
وقد ظهرت في هذا العصر ، والحمد لله ، مبادرات طيبة ، من قبل المخلصين من علماء الأُمّة ، لإعادة صيغة اهتمامات العلماء ، باتّجاه التركيز على مساحات اللقاء ، وتحجيم موارد الاختلاف ، كمبادرة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية التي انطلقت في القاهرة في الستينات من هذا القرن ، والمبادرة الجديدة المشابهة لها في جمهورية إيران.
وبرزت دعوات وحدوية لمفكّرين غيورين على مصلحة الدين ، ومستقبل الأُمّة ، تبشّر بـ فقه الوفاق الذي يركّز على تأصيل وحدة الأُمّة ، ومن أوائل الداعين إلى هذه الفكرة الرائدة ، والطرح الوحدوي ، سماحة المغفور له الشيخ محمّد مهدي شمس الدين ، الرئيس السابق للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان ، حيث أوضح معالم هذا التوجّه في محاضرة له ضمن مؤتمر تكريم المفكّر الإسلامي الكبير ، السيّد عبد الحسين شرف الدين ، والذي انعقد في بيروت ( ١٨ ـ ١٩ شباط١٩٩٣ م ).
ودعا إلى نفس الفكرة والطرح الدكتور وهبة الزحيلي رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه في جامعة دمشق وكلية الشريعة.
يقول الدكتور الزحيلي : ولم يتخلّص العلماء بالذات ، فضلاً عن العوام ، من العناية بالخلافات ، وضخّموا مسائل الاختلاف ، وهوّلوا وقائع النزاع ، وتركوا نقاط الاتّفاق والتلاقي ، وصنّفوا العديد من المصنّفات في بيان أسباب الاختلاف بين الفقهاء ، إما بحسن نيّة ليعذر الناس العلماء في ما اختلفوا فيه ، أو بسبب الولع بتّتبع الخلافات ، الأمر الذي أنسى الأُمّة في خزانة الفكر الإسلامي أو الإنساني ، ظاهرة الوفاق والتوحيد ، ورصدوا الكثير من مسوغات الخلاف ، ما جعل المسلم يعني بالاختلاف ، وينسى الاتّحاد أو الوحدة.
لذا لم أجد مصنّفاً واحداً في القديم والحديث ، عُني بالأمر البدهي أو الأصيل الإسلامي ، وهو وحدة الفكر والمصدر والاستنباط ، لحمل الناس عليه ، علماً بأنّ نقاط الاتفاق والاتّحاد أكثر بكثير من نقاط الخلاف والخصام والتعصّب المذهبي ...
إنّنا ، نحن العلماء ، آثمون أشدّ الإثم ، من حيث ندري أو لا ندري ، إذا لم نُعِد حساباتنا ، ونفكّر في مصائرنا ، ونعمل من جديد على إعادة وحدة الأُمّة في السياسة والاقتصاد ، والاجتماع والاعتقاد ، والاجتهاد والاستنباط ، والتربية والتعليم ، والتوجيه والتثقيف ، وبناء حياة مزدانة بكلّ عناصر القوة والمجد ، والجدية والنهوض من الكبوات ، ونسيان الخلافات الماضية التي ليس لإثارتها أو إحيائها أو التحدّث فيها أيّ معنى ، بل إنّها سُمٌّ زعافٌ ، وضرر محض ، يؤدّي لإحياء الحديث في تلك الخلافات التي تفرّق ولا تجمع ، وتهدم ولا تبني ، وتمزّق ولا ترقأ ، وتضعف ولا تقوّي أو تعالج ، وتثير النزاع ولا تؤاخي أو تضمد الجراح.
إنّني أشكّ في أمانة العالم أو المؤرّخ ، الذي يكثر من الحديث أو التحقيق أو الإعلان أو المقال الآن عن جراح الماضي ، وما أدّت إليه من الفرقة المذهبية ، والتشتّت الوجداني ، والضياع القائم ، وما على العالم أو الفقيه إلّا أن ينبه إلى العمل بأوجه اللقاء والتفاهم ، والترفّع عن الأحقاد والخصومات ، وتناسي الثارات ، والعمل على صعيد مشترك يحقّق الوحدة الإسلامية.
إنّني أعيد الحساب بنفسي ، لعلّ غيري يقلّدني ، ويبدأ الجميع في نسج فكر واحد ، وبناء مجد واحد ، والتصدّي لعدو شرس خطير واحد ، فهل من متذكّر أو مستجيب؟!
إنّ الصلح في الفكر والتراث وكلّ النزاعات ، ولاسيما أمام المخاطر ، هو جوهر صفاء الدعوة إلى الله والى الإسلام الحقّ ، وإلى الوجود الدولي الإسلامي الواحد (2).
المصادر :
1- آل عمران (٣) : ١١٠.
2- مجلة المنهاج العدد٣ ، السنة ١ ، ١٩٩٦ م تحت مقال بعنوان (نقاط الالتقاء بين المذاهب الإسلامية بقلم الدكتور وهبة الزحيلي).
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.