طوَّر الاقتصاديون أدواتٍ فعالةً للاستقصاء أدَّتْ إلى العديد من الاكتشافات. ويضم صندوق أدواتهم النشاطَ التجريبيَّ، والتنقيبَ عن البيانات، وأساليبَ المحاكاة، والتجارب، والحوافزَ المؤسسية، واستخدامَ الوسائل الإحصائية لاختبار صلاحية النظريات وصحتها. ويُعَدُّ المذهب التجريبي ونشاط الاقتصاد القياسي من الظواهر الحديثة نسبيًّا التي غيَّرت المهنة تدريجيًّا، خاصةً مع توافر القدرة الحاسوبية الزهيدة التكلفة لإجراء عملياتٍ حسابيةٍ للنماذج الرياضية المعقَّدة.
وقد كان هناك دومًا جدال قوي ونَشِط حول أفضل الأدوات لتحقيق معرفةٍ جديدةٍ وبناء سياساتٍ أفضل؛ هل ينبغي أن ينخرط الاقتصاديون في الطرق النظرية التجريدية للمنطق الاستدلالي البحت والنظريات البعيدة كلَّ البُعد عن الجانب العملي، أم ينبغي أن يشاركوا في الاختبار العملي للفرضيات والتنقيب عن البيانات؟ إن هؤلاء الذين اختاروا الخيارَ الأخير قد صنعوا، في تقديري، أهمَّ الإنجازات.
أنتج مجال الاقتصاد السلوكي الجديد أيضًا أدواتٍ قَيِّمةً، مستمدَّةً بشكلٍ كبيرٍ من مبادئ علم النفس، لتحقيق أهداف الأفراد والمجتمع. ويُعدُّ هذا واحدًا من الأمثلة القليلة التي استفاد فيها علم الاقتصاد من علمٍ اجتماعيٍّ آخر، وليس العكس. وكما سنرى في الجزء الأول، كانت النتائج مبهرة.
ومن خلال التركيز على حلِّ العديد من مشكلات العالم، صار الاقتصاديون التطبيقيون مُعترَفًا بهم أكثر من أي وقتٍ مضى. لنستعرضْ بعض الأمثلة التاريخية لانتصار علم الاقتصاد.
هل يستطيع المستثمرون التغلُّب على السوق؟
تَحقَّق أحدُ أوائل الإنجازات المبهرة في الاقتصاد التطبيقي في نظرية التمويل. وقد كتب هاري ماركويتز، وكان من خريجي الاقتصاد بجامعة شيكاجو، مقالًا عن نظرية المحفظة الاستثمارية في عدد مارس ١٩٥٢ من صحيفة «ذي جورنال أوف فينانس». كانت تلك أولَ محاولةٍ لقياس المفهوم الاقتصادي للمُخاطرة في اختيار الأسهم والمَحافظ الاستثمارية. ومِن رَحِم هذا العمل خرجتْ نظرية المحفظة الاستثمارية الحديثة، التي تطرح ثلاثة مبادئ، هي:(١) ليس بمقدور المستثمرين توقُّع تحقيق أرباحٍ تفوق المتوسط دون الإقدام على مخاطرَ أعلى.
(٢) تنويع الأسهم سوف يزيد من العائدات ويُقلِّل من المخاطرة.
(٣) الأسواق لها كفاءة نسبية، بمعنى أنه لا يمكن فعليًّا التنبؤ بحدوث تغيراتٍ على المدى القصير في أسعار الأسهم، ومن الصعب للغاية إن لم يكن مستحيلًا التغلُّب على متوسطات السوق على المدى الطويل. كانت هذه الرؤية، المعروفة بنظرية كفاءة السوق، عقيدةً ثورية، ولكنها تحظى الآن بقَبولٍ بين الأكاديميين، على الرغم من أن علماء الاقتصاد السلوكي، كما سنرى في الجزء الأول من هذا الكتاب، بصدد إيجاد طرقٍ لإدخال تحسيناتٍ على هذه النتائج الأولية، وقد اكتشفوا بعض الطرق للتغلُّب على السوق؛ مؤقتًا على أي حال.
قُوبلت هذه الأفكار القادمة من الأبراج العاجية بازدراءٍ وسخريةٍ من قِبل مديري وول ستريت المتخصصين، ولكن ثَمَّةَ دراسات أجراها اقتصاديون ماليون منذ ظهور ورقة ماركويتز البحثية الأوَّلية أكَّدت نظريةَ المحفظة الاستثمارية الحديثة. والآن تُعَدُّ صناديق مؤشرات سوق الأوراق المالية - وهي الطريقة المفضلة لدى الاقتصاديين للاستفادة من نظرية كفاءة السوق - النوعَ الأكبر من الصناديق الاستثمارية المشترَكة التي تُباع في وول ستريت.
نظرية الاختيار العام: حكومة جديدة ومطوَّرة
نشر جيمس بيوكانان وجوردون تولوك، وكلاهما من جامعة فيرجينيا، كتابَ «حساب معدَّل الرضا» في عام ١٩٦٢، وأدَّى إلى تغييرٍ جذريٍّ في رؤية علماء السياسة للمال العام والديمقراطية. واليوم أُضيفتْ نظرية الاختيار العام لمنهج كل دورةٍ دراسيةٍ في الاقتصاد.زعم بيوكانان وآخرون من واضعي نظرية الاختيار العام أن الساسة، مثل رجال الأعمال، تدفعهم المصلحة الشخصية؛ فهم يسعَوْن إلى تعظيم نفوذهم ووضع السياسات من أجل إعادة انتخابهم. ولسوء الحظ، غالبًا ما تكون حوافز السوق ونظامه غائبَين في الحكومة. فالناخبون ليس لديهم حافز كبير للسيطرة على تجاوزات المشرِّعين، الذين بِدَورهم يستجيبون أكثر لجماعات المصالح ذات النفوذ؛ ونتيجةً لذلك تَدعم الحكومةُ المصالحَ التجاريةَ الثابتةَ، في حين تَفرض لوائحَ وضرائبَ مكلِّفةً على عامة الشعب.
حوَّلتْ مدرسة الاختيار العام محورَ النقاش من «إخفاق السوق» إلى «إخفاق الحكومة». وأوصى بيوكانان وآخرون بمجموعةٍ من القواعد لإلزام القطاع العام المضلِّل بالتصرُّف بشكلٍ أكثر مسئوليةً من خلال حماية حقوق الأقلية، وإعادة النفوذ إلى الحكومات المحلية، وفرض حدودٍ لمدة الوظيفة الحكومية، وإلزام الأغلبيات الساحقة برفع الضرائب.
محاكمة علم الاقتصاد
في عام ١٩٧٢، قام ريتشارد إيه بوسنر، وهو عالِم اقتصادٍ يقوم بالتدريس بكلية الحقوق بجامعة شيكاجو، ويعمل قاضيًا بالدائرة السابعة لدعاوى الاستئناف بالقضاء الأمريكي (حيث شغل منصبَ رئيسِ محكمةٍ ما بين عامَي ١٩٩٣–٢٠٠٠)؛ بتأليف كتاب «التحليل الاقتصادي للقانون»، الذي جمع فيه أفكار رونالد كوس، وجاري بيكر، وإف إيه هايك، وغيرهم من الاقتصاديين العظام بجامعة شيكاجو. ومراكز «القانون والاقتصاد» القائمة حاليًّا توجد في كثيرٍ من أحرام الجامعات. يقول القاضي بوسنر: «كل مجالٍ للقانون، وكل مؤسسة، وكل ممارسةٍ أو تقليدٍ للمحامين والقضاة والمُشرِّعين، في الماضي أو الحاضر - حتى في الزمن البعيد - له حاجة لدى المحلل الاقتصادي.»يُطبِّق الاقتصاديون مبادئَ تحليل التكلفة-الفائدة والرعاية الاجتماعية على شتى أنواع القضايا والمسائل القانونية؛ محاربة الاحتكار، والعمل، والتمييز، والبيئة، واللوائح التجارية، والعقوبات، والجوائز. وفي الفصل الخامس عشر، أُناقش أعمالَ الكثير من الاقتصاديين في العلاقة بين الجريمة والعقاب، ومدى فاعلية عقوبة الإعدام، وهل كانت قوانين تراخيص حمل السلاح وملكية السلاح تردع الجريمة. وكثيرًا ما يُستدعى الاقتصاديون للشهادة في الدعاوى القضائية؛ وهو ما يُعَدُّ مصدرًا جديدًا مُجزيًا للدخل.
كان جاري بيكر بجامعة شيكاجو في طليعة من قاموا بتطبيق نظرية الأسعار على المشكلات الاجتماعية المعاصرة، مثل: التعليم، والزواج والطلاق، والتمييز العنصري، والعمل الخيري، وإدمان المخدرات. ولا غرابة في أن يُسمِّيَ كتابه الموجَّه إلى عامة الناس باسم «اقتصاد الحياة». ولكنَّ بيكر حذَّر من أن «هذا العمل لم يَلقَ استقبالًا جيدًا من جانب معظم الاقتصاديين.» وأن الهجمات التي شنَّها عليه منتقدوه كانت «في بعض الأحيان غايةً في البذاءة.» والآن، وبعد عقود، صار عمل بيكر يُحاكَى في كل مكانٍ من قِبل الباحثين عن طرقٍ لحلِّ المشكلات الاجتماعية.
أدخل الاقتصاديون تحسيناتٍ مهمةً على مجالاتٍ معرفيةٍ أخرى؛ في المحاسبة، والتاريخ، والدين، والإدارة، والبنية التحتية العامة، وعلم الاجتماع، حتى تصميم المزادات. ويقدِّم هذا الكتاب عشرات الأمثلة لكيفية تطبيق هذه الأدوات لحلِّ المشكلات بالنسبة إلى الأفراد، والمجتمعات، والدولة.
يتعامل الجزء الأول مع الأمور المالية الخاصة، التي ربما تُعَدُّ أكثر المعلومات نفعًا على المستوى الشخصي. وأستهل هذا الجزء بإلقاء الضوء على الإنجازات الباهرة للاقتصاد السلوكي (ريتشارد تالر، وروبرت شيلر، وجيرمي سيجل، وديفيد سوينسن، وبريجيت مادريان) لتحسين الأمور المالية للأفراد؛ من زيادة المدخرات، وتقليل الديون، والحصول على عائدٍ أفضلَ على الاستثمارات.
كذلك أروي قصةَ خصخصة شيلي لمنظومة المعاشات الحكومية، وهل كان ينبغي على الولايات المتحدة ودولٍ أخرى تَبَنِّي عملية إصلاحٍ جذريٍّ لبرامج الضمان الاجتماعي. يضم هذا القسم أيضًا معالجةً لاقتصاد «السعادة»؛ وهو مجال جديد مُبهر للأبحاث الاقتصادية.
يتحدث الجزء الثاني عن تأثير الاقتصاديين على إدارة الأعمال ومهنة المحاسبة، خاصةً دخول «القيمة الاقتصادية المضافة»، التي تُعَدُّ الأداةَ الجديدةَ للاقتصاديين لقياس قيمة الاستثمار وأداء الشركات.
كذلك أسرد قصة شركة «كوك للصناعات»، كبرى الشركات الخاصة في العالم، وكيف تأثرت العبقرية الخلاقة لتشارلز كوك وغيره من المديرين التنفيذيين التحرُّريين تأثرًا عميقًا بالاقتصاديين «النمساويين» أمثال لودفيج فون ميزس، وفريدريك هايك، وجوزيف شومبيتر.
يُبيِّن الجزءُ الثالثُ اكتشافاتٍ مثيرةً قام بها اقتصاديون من أجل حل مشكلاتٍ محلية، مثل الاختناق المروري، والرعاية الصحية، والتعليم العام، والجريمة، وقضايا أخرى تتصدَّر قائمة القضايا العامة. كذلك أكشف عن الطرق الرائعة التي صمَّم بها اقتصاديون مزاداتٍ لجوجل، وإي باي، ووكالات حكومية أفادت كلًّا من المشترين والبائعين.
وفي جانبٍ أكثر إمتاعًا وتشويقًا، أناقش ثلاث رواياتٍ بوليسيةٍ ساعد فيها اقتصاديون على حلِّ لغز الجريمة.
يفتقد الجزءُ الثالثُ فصلًا عن حرب المخدرات. لقد كنت أعتزم الكتابة عن هذا الموضوع المثير للجدل، الذي جذب أنظار الاقتصاديين لعقودٍ عدة، على الأخص ميلتون فريدمان، وجاري بيكر، وستيف ليفيت، وآخرين من أعضاء مدرسة شيكاجو. إن معظم الاقتصاديين العاكفين على دراسة هذا الجدل يُركِّزون على الجانب الخاص بإنهاء التجريم.
والحق أنه كان هناك بعض التقدُّم في سياسة المخدرات، شمل إباحة الماريجوانا الطبية في بعض الولايات، وخفضًا في معدلات احتجاز المراهقين بسبب تعاطي المواد المخدرة المحظورة، ومزيدًا من المرونة في الأحكام الإلزامية في جرائم المخدرات. ولكن فيما يبدو أن الاقتصاديين لم تكن لهم علاقة كبيرة بهذه التغيرات؛ فقد سألتُ جيفري إيه ميرون، أستاذَ الاقتصاد بجامعة هارفارد، المتخصصَ في قضايا المخدرات وصاحبَ كتاب «جرائم حرب المخدرات» (إندبندنت إنستيتيوت، ٢٠٠٤)، إن كان للاقتصاديين أيُّ تأثيرٍ في حرب المخدرات، وكانت إجابته: «ليس إلى الآن.» ربما تضم طبعةٌ مستقبلية للكتاب فصلًا عن سياسة المخدرات.
يتناول الجزء الرابع كيف يعمل الاقتصاديون بنجاحٍ على حلِّ المشكلات الدولية؛ مثل الفقر المدقع، وعدم المساواة، والتلوث، والاحتباس الحراري، والزيادة السكانية، والعولمة، والصراع العسكري، والحروب الدينية. كذلك أُزوِّدك بأحدث المعلومات عن ثورة الضريبة الثابتة الجديدة الآخذة في الانتشار في أوروبا وأماكنَ أخرى. ولعلَّ من أكثر مجالات الدراسة الجديدة إثارةً للاهتمام مؤشراتِ الحرية الاقتصادية التي تُطوَّر وتُصقَل على يد العديد من المراكز البحثية، وكيفية ارتباطها بالنموِّ الاقتصادي، والمؤسسات القانونية، والتجارة والسياسة الضريبية، وجهود تحقيق السلام في المناطق غير المستقرة سياسيًّا. وأخيرًا، أُلقي نظرةً على مجال الدين والاقتصاد الحديث نسبيًّا، مع بيان بعض النتائج المفاجئة بشأن الدين والمنافسة.
يُلقي الجزء الخامس الضوءَ على طرقٍ جديدةٍ للتنبؤ بالمستقبل. من المعروف عن الاقتصاديين وضعُهم تكهناتٍ سيئةً، ولكن هذا في سبيله إلى التغير كما يتبيَّن من التكهنات الدقيقة الحديثة لعلماء الاقتصاد السلوكي جيرمي سيجل بكلية وارتون وروبرت شيلر بجامعة ييل عن سوق الأسهم والعقارات.
كذلك أُدرِج فصولًا عن الأهمية المتزايدة للذهب كمؤشرٍ وحيدٍ لعدم الاستقرار والتضخُّم على المستوى العالمي، وإن كان من الممكن تكرار الكساد العظيم مرةً أخرى، وإن كان معدل إنفاق المستهلك يُعَدُّ حقًّا مؤشرًا جوهريًّا جيدًا (وهذا إنجاز خاص بي). يتَّجه الفصل الأخير نحو المستقبل وأي نوعٍ من الفلسفة الاقتصادية الديناميكية الجديدة سوف يهيمن على الألفية الجديدة.
وإذا كانت فصول هذا الكتاب مؤشرًا على أيِّ شيء، فهي مؤشر على أن المستقبل بالنسبة إلى الاقتصاد والاقتصاديين يبدو مشرقًا.
سوف يلاحظ القرَّاء أنني لم أُنفق الكثيرَ من الوقت في هذا الكتاب على المجالات والنواحي التقليدية التي كان للاقتصاديين تأثير فيها على السياسة العامة، مثل اتفاقيات التجارة الدولية، ومؤشرات الأسعار، والسياسة النقدية والمالية، ومناهضة الاحتكار؛ بل حاولت، بدلًا من ذلك، أن أُركِّز على المجالات والميادين الجديدة والمدهشة التي أَحدث فيها الاقتصاديون فارقًا.
مصدر : راسخون 2017