الأصول الدبلوماسية للحرب

يصعب تصديق الأصول الدبلوماسية للحرب العالمية الأولى ومعاهدة فرساي في بعض الأحيان، لكن الخمسة عشر عامًا السابقة على اندلاع الحرب العالمية الأولى شهدت ذروة حركة السلام الدولية؛ فقد كثرت منظمات السلام
Wednesday, November 8, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
الأصول الدبلوماسية للحرب
الأصول الدبلوماسية للحرب



 

يصعب تصديق الأصول الدبلوماسية للحرب العالمية الأولى ومعاهدة فرساي في بعض الأحيان، لكن الخمسة عشر عامًا السابقة على اندلاع الحرب العالمية الأولى شهدت ذروة حركة السلام الدولية؛ فقد كثرت منظمات السلام الدولية وحظيت بالاحترام، وتأسست المحكمة الدائمة للتحكيم في لاهاي، وأُبرِمت العشرات من معاهدات التصالح. لقد آمن بقوة بعضٌ مِمَّن شهدوا هذه السنوات الهادئة التي عمَّها السلام بأن عهد الحروب - على الأقل الحروب الكبرى - قد ولَّى. وقد بدا جليًّا أنه في ضوء الإمكانات المكلفة والمدمرة للتكنولوجيا الحديثة؛ فإنه حتى المنتصر في هذا الصراع سيخسر أكثر بكثير ممَّا قد يجني. افترض العالم أن البشرية تتمتع بالعقلانية، وبإمكانها أن ترى حماقة إهدار الموارد الثمينة في لعبة تدمير الذات. في عام ١٨٩٣، كتب إدوارد بيرنشتاين - العضو بالحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني - منتقدًا سباق التسلح الأوروبي باهظ التكلفة الذي ساد في ذلك الوقت: «إن جهود التسلح المتواصلة التي أجبرت الدول الأخرى على مواكبة خُطى ألمانيا في التسلح هي نوع من الصراع. لا أدري إن كان هذا التعبير قد استُخدِم مِنْ قَبْل، لكن يمكن وصف هذا الصراع بأنه حرب باردة … ليس هناك إطلاق رصاص، لكن ثمة حالة من الاستنزاف.» من حيث تقويض مستوى رخاء الشعوب وإهدار الموارد التي تحتاجها المجتمعات في عملية الإصلاح الاجتماعي. لقد توصل الكثير من المفكرين بلا شك إلى الاستنتاج نفسه الذي خلص إليه الكاتب البريطاني نورمان إنجل في كتابه المؤثر «الوهم الكبير» الذي نُشِر عام ١٩١٠، حيث أكد الكتاب بصورة مقنعة أن لا أحد يخرج منتصرًا حقًّا من الحرب في العصر الحديث.
تغيَّر الأمر برمته في ٢٨ يونيو عام ١٩١٤ في العاصمة البوسنية سراييفو، عندما أشعلت عملية اغتيال الشرارة الأولى لأزمة دبلوماسية انتهت بحرب عالمية كبرى. أصاب غافريلو برينسيب - وهو شابٌّ صربي قومي مُتعصب وعضو بجماعة إرهابية تُدعى «اليد السوداء» - الأرشيدوقَ فرانسيس فرديناند - وريث عرش الإمبراطورية النمساوية المجرية - وزوجته الحبيبة صوفي في مَقتلٍ. وبما أنه كانت هناك أسباب قوية للشك في ضلوع صربيا في هذا الاغتيال، قررت الحكومة النمساوية اللجوء إلى العنف لحل مشكلة البلقان، ومن ثم القضاء تمامًا على التهديد الدائم الذي يهدد استقرار إمبراطورية هابسبورج متعددة القوميات. كانت تلك المنطقة شديدة الأهمية لمصالح إمبراطورية هابسبورج لتخوفها من اندلاع القلاقل بين سكانها من السلافيين، وكذلك من التوسع الروسي. أرسلت حكومة فيينا خبيرًا قانونيًّا إلى مسرح الجريمة لجمع الأدلة والاستعداد لبناء قضية قوية، وفي شهر يوليو امتثل برينسيب المراهق وزملاؤه المتآمرون للمحاكمة، وصدر الحكم بإدانتهم، ولكن عندما لم تذعن بلجراد لمطالب فيينا التالية، أعلنت الإمبراطورية النمساوية المجرية الحرب على صربيا في ٢٨ يوليو، وتعرضت بلجراد للقصف في اليوم التالي.

الأصول الدبلوماسية للحرب العالمية الأولى

سرعان ما وجدت الدول الكبرى نفسها تخوض حربًا بسبب التحالفات الأوروبية التنافسية وطموحاتها وأطماعها القديمة قدم الزمان؛ فانخرطت في هذا المد الهائل الذي أفرزته الحركات القومية والإمبريالية والعسكرية. في غضون أيام من إعلان الإمبراطورية النمساوية المجرية الحرب، أعلنت الإمبراطورية الألمانية (التي تشكِّل النصف الثاني من قوى دول المركز أو المحور) الحرب على روسيا القيصرية بعدما بدأت روسيا في التعبئة العامة تأهبًا للدفاع عن صربيا، كما أعلنت ألمانيا الحرب على فرنسا بعد أن توقَّعت دعم الأخيرة لروسيا. من جهة أخرى، أعلنت بريطانيا العظمى الحرب على ألمانيا بعد الغزو الألماني لبلجيكا، التي ضمنت بريطانيا وقوفها على الحياد منذ وقت طويل، ثم انضمت اليابان إلى بريطانيا في الحرب بوصفها حليفها في الشرق الأقصى، وانضمت إيطاليا إلى فرنسا وحلفائها (قوات الحلفاء). وفي نهاية الأمر، انخرطت أربع وعشرون دولة من بينها تركيا وبلغاريا ورومانيا واليونان، ثم - بنهاية المطاف - الولايات المتحدة عام ١٩١٧ في هذا الصراع الكبير؛ لتثبت صحة توقُّع المستشار الألماني أوتو فون بسمارك، بأن «تصرفًا أحمقَ لعينًا» في منطقة البلقان من شأنه أن يشعل يومًا فتيل حرب أوروبية شاملة. كما أثبت السياسي البريطاني السير إدوارد جراي بدوره أنه كان مصيبًا عندما قال: «إن الظلام يحل على أنحاء أوروبا كافةً، ولن يعود النور ليغمرها مرة ثانية في زماننا.» وربما كان الأحرى أن يضيف إلى مقولته أيضًا زمان الجيل التالي؛ إذ إن أحداث عام ١٩١٤ مهدت للحرب التالية، لقد كانت بمنزلة حرب متواصلة، حرب ثلاثين عامًا مريعة أخرى.
إلا أنه من الخطأ أن نتصور أن الحرب العالمية الأولى - التي أسفرت عن أوسع دمار ثقافي، وأوسع موجة من القتل الجماعي في أوروبا منذ حرب الثلاثين عامًا - تسببت فيها عملية اغتيال واحدة، بل يعود سببها الأساسي - ولكنه ليس السبب الوحيد - إلى دبلوماسية التحالف التي نشأت على مر سنوات طويلة بين ألمانيا والنمسا وإيطاليا من جهة، وبين فرنسا وروسيا من جهة أخرى. وقد كانت هذه التحالفات المُورِّطة هي ما صنعت النظام العالمي الهش الذي انهار عندما اندلعت الحرب - أو بالأخص عندما أعلنت الإمبراطورية الروسية تعبئة جيوشها - وخاضت القوى العظمى الحرب، باستثناء إيطاليا التي انتظرت للمراهنة على الحصان الرابح الذي تتحقق معه مصالحها. وحتى نفهم هذه السلسلة، ونفهم العقلية الألمانية على مشارف الحرب العالمية الأولى، لا بد أن نبدأ من صعود بروسيا-ألمانيا إلى مراتب القوى العظمى في القرن التاسع عشر.

الدور الفريد للجيش الألماني

بالرجوع إلى تاريخ صعود بروسيا-ألمانيا إلى مراتب الدول العظمى في القرن التاسع عشر، نجد أن الإنجاز المتمثل في توحيد ألمانيا تحت حكم ولاية بروسيا نتج عن ثلاثة حروب قصيرة خاطفة، خُطِّط لها بدقة، وصُمِّمت ونُفِّذت لأهداف محدودة ومحددة بدقة. لا شك أن هذه الحروب لم تكن حروب فتوحات، بل قامت لأسباب سياسية مستقلة خططت لها قيادات سياسية، ونفذها قادة الجيش من أصحاب الخبرة. يقف خلف إنجازات القرن التاسع عشر تلك قصة صعود بروسيا المذهلة إلى مصاف الدول العظمى الأوروبية تحت حكم الأمراء الناخبين والملوك من أسرة هوهنتسولرن في القرنين السابع عشر والثامن عشر. كان ملوك وأمراء هذه الأسرة الحاكمة - لا سيما ملك بروسيا فريدريك الأعظم الذي امتدَّ حكمه من عام ١٧٤٠ إلى عام ١٧٨٦ - هم من أسَّسَ لسياسة الحكم البروسية الألمانية التي قامت على العلاقة الصحيحة بين القيادات السياسية ولواءات الجيش؛ مما كان يعني بالأساس أن يتولى الملك مسئولية وضع السياسات كافة، وأنه إذا رأى أن خوض حرب ما يشكل ضرورة لأسباب تتعلق بالدولة، فإنه يفوض الجيش للتخطيط للحرب وخوض غمارها. وبهذه الطريقة، كان من المفهوم إمكانية تأمين الحماية القصوى للبلاد. وقد لعبت أسرة هوهنتسولرن على جميع المستويات المهمة دورًا مؤثرًا في تشكيل الثقافة السياسية البروسية الألمانية التي امتدت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
يجب الأخذ في الاعتبار أيضًا أنه في بلد حبيس مثل بروسيا-ألمانيا يحيط به أعداء محتملون من كل جانب تعيَّن على رجال الدولة الألمانيين التأهب لاحتمال نشوب حرب في أي وقت، وتهديد دائم بالتعرض للهجوم قد لا يقع في الغد القريب، لكنه محتم الوقوع مستقبلًا. من ثم، كانت الكفاءة الفنية لضباط الجيش الألماني على رأس قائمة أولويات الدولة، ويمكننا أن نلحظ بالفعل في بروسيا الألمانية - بعد توحيد ألمانيا عام ١٨٧١ - منظومة تحكَّم فيها الجيش في أولويات السياسات الخارجية، ثم سيطر في نهايات المطاف على السياسات الدبلوماسية.

الاستمرار المحتوم للعداء الفرنسي-الألماني

عندما أسس المستشار الألماني أوتو فون بسمارك الرايخ الألماني عام ١٨٧١، أتى هذا بالدرجة الأولى على حساب فرنسا في حرب التوحيد الثالثة. تعرضت فرنسا لإذلال وحشي؛ فقد وقع الإمبراطور الفرنسي في الأسر ثم نُفي إلى الخارج، ووقعت البلاد تحت احتلال جزئي، وتعيَّن عليها دفع تعويضات حرب جسيمة، وخسرت إحدى مقاطعاتها الهامة؛ وهي منطقة الألزاس واللورين التي أصبحت تُدعى «المقاطعة الإمبراطورية» إلى أن استعادتها فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى.
وكان من شأن هذا الخزي الذي تعرضت له فرنسا أن يجعلها عدوًّا دائمًا للإمبراطورية الألمانية الجديدة، ومن ثم كان متوقعًا أن ترغب في الثأر. كان بسمارك يعي هذا بقوة، ومن ثم وضع السياسات الدبلوماسية لألمانيا منذ تلك اللحظة على افتراض أن فرنسا سترغب دومًا في التحالف مع قوة أوروبية عظمى أخرى؛ كي تمنع ألمانيا من الاقتراب منها ثم تهاجمها في الوقت المناسب.
يدور جزء كبير من التاريخ الدبلوماسي لتلك الفترة حول العداء التاريخي بين فرنسا وألمانيا، وبوجه خاص حول العداء بسبب منطقة الألزاس واللورين، ويمكننا أن نجادل - كما جادل المؤرخون - حول مدى انتشار الرغبة في الثأر بين طبقات المجتمع الفرنسي. ولو أمكن سؤال المواطنين - لو كانت استطلاعات الرأي موجودة آنذاك - عن الدولة التي قد تخوض فرنسا حربًا ضدها لرجَّحت الآراء في الأغلب إنجلترا لا ألمانيا، لكن شبح هذا العداء ظل يطارد المستشار الألماني بسمارك على الدوام. ومن ثم، على الصعيد السياسي، كان يتعين عليه أن يقف في وجه تشكيل التحالف الكابوسي المناوئ لألمانيا؛ التحالف بين فرنسا وروسيا.
ونظرًا لمخاوف بسمارك من أن تتعرض بلاده للهجوم من الشرق والغرب من فرنسا وروسيا، انصبت سياساته الدبلوماسية بكل قوتها على الحفاظ على التحالفات لأطول فترة ممكنة لإرجاء المحتوم؛ أي الحرب التالية التي ستشتعل عاجلًا أو آجلًا. كانت خطة بسمارك دائمًا هي تشكيل تحالفات ثلاثية - تشكيل مجموعة من ثلاث قُوًى دائمًا تتحالف ضد فرنسا - أو بعبارة أخرى، إن كانت القوى العظمى خمس دول، فيجب تشكيل تحالف من ثلاث دول. وكان هناك بالأساس حليفان محتملان متاحان: إيطاليا التي ستنضم إلى المزايد الأقوى عام ١٩١٥، وبريطانيا العظمى. ولم يكن من المحتمل أن تتحالف بريطانيا العظمى مع فرنسا عدوها اللدود لقرون، أو أن تتحالف مع روسيا؛ نظرًا لأنهما كانتا تتنازعان لوقت طويل في صراع «اللعبة الكبرى» للسيطرة على بعض البقاع؛ مثل: شمال الهند، وباكستان، وجميع المناطق حتى جنوب آسيا.
في عام ١٨٧٣، أبرم بسمارك على عجلٍ معاهدة بين إمبراطوريات شرق ووسط أوروبا الثلاثة: إمبراطورية بروسيا-ألمانيا، والإمبراطورية النمساوية المجرية، وروسيا القيصرية. قضت المعاهدة - التي أُبْرِمَتْ في زيارة للمستشار الألماني إلى سانت بطرسبرج - أنه إذا ما تعرض أي طرف من أطراف المعاهدة للهجوم مِنْ قِبَل قوة أوروبية أخرى يتعين على الطرف الآخر أن يهبَّ لنجدته بقوة قوامها ٢٠٠ ألف جندي. باختصار، كان بسمارك يحاول إيجاد طريقة كي يضمن لبلده دولتين صديقتين يمكن الاعتماد عليهما، لكن سيتضح أن هذا الأمر شديد الصعوبة على المدى البعيد. روسيا بوجه خاص لم تكن تشعر بالارتياح تجاه هذا الاتفاق، ومن ثم دخل بسمارك عام ١٨٧٩ في تحالف من نوع آخر بين ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية.
قام هذا التحالف الثنائي المناوئ صراحةً لروسيا على أساس دعم ألمانيا للإمبراطورية النمساوية المجرية والمقاومة المجرية لأنشطة روسيا في البلقان. ظلت هذه المعاهدةُ - التي كانت مدتها خمس سنوات، ولكنها كانت تُجدَّد بصفة مستمرة - ساريةً حتى عام ١٩١٨، وكانت حجر الأساس لسياسة بسمارك في عقد التحالفات. لم يكن بأحكام المعاهدة مجال للالتباس، بل كانت واضحة وصريحة، ونصَّت على التالي: إذا تعرض أي طرف من طرفيها للهجوم مِنْ قِبَل روسيا، يقدم له الطرف الآخر المساعدة بجميع قواته، وفي حال تعرض أيٍّ من الطرفين لهجوم مِنْ قِبَل قوة أخرى يلزم الطرف الآخر الحياد على الأقل، وفي حال دعم روسيا لقوة أخرى يلتزم كلا الطرفين بتقديم المساعدات للآخر. ظل هذا التحالف الثنائي أحد ثوابت تلك الفترة بأكملها، وهو يفسر قيام الألمان في يوليو عام ١٩١٤ بإعطاء الضوء الأخضر الشهير للنمساويين بعد اغتيال فرانسيس فرديناند؛ مما سمح لحكومة فيينا بالتصرف كما تشاء تجاه صربيا، مع العلم تمامًا بأن هذا التصرف سيقود في نهاية المطاف إلى الدخول في حرب مع روسيا.

معاهدة إعادة الضمان

مع تطور السياسات الأوروبية في تسعينيات القرن التاسع عشر، بدأ يتضح بصورة متزايدة أن هدف بسمارك المتمثل في الإبقاء على تحالف يُعوَّل عليه يتكون من ثلاث قوًى؛ هدفٌ يصعب تحقيقه بسبب تعارض المصالح الحيوية لكلٍّ من روسيا وإمبراطورية النمسا والمجر لفترة طويلة، لا سيما في منطقة البلقان التي ظلت لأعوام عديدة مثار احتكاك وصراع بين الدولتين. من ثم، حاول بسمارك عقد صفقة أخيرة مع روسيا لتسير جنبًا إلى جنب مع معاهدة سرية منفصلة تُدعَى «معاهدة إعادة الضمان»، التي أُبرِمت عام ١٨٨٧ لتحل محل عصبة الأباطرة الثلاث المنقضية والتي أُبرِمت عام ١٨٨١ ورفضت روسيا تجديدها.
وتعهدت القوتان بموجب معاهدة إعادة الضمان بالتزام الحياد حال خوض إحداهما حربًا مع قوة ثالثة، غير أن هذا لا ينطبق حال خوض حرب «شرسة» مع فرنسا، أو خوض روسيا حربًا مع النمسا. واتفق الطرفان كذلك على العمل على الإبقاء على «الوضع الراهن» في منطقة البلقان، على أن تقر ألمانيا بنفوذ روسيا المهيمن على بلغاريا. وتمثل هذه المعاهدة الشهيرة آخر جهود بسمارك لإبعاد روسيا عن فرنسا، وشراء صداقتها بالتوقيع على معاهدة تتخلى فيها ألمانيا عن مكاسب كان يُعرَف أن روسيا لا تستطيع أن تدركها بسبب المعارضة النمساوية، لكن تبيَّن أن هذا أمر يصعب تنفيذه، وانقضت المعاهدة رسميًّا بعد تقاعد المستشار الألماني عام ١٨٩١.
لكن كانت المعاهدة قد أضحت إلى حد كبير مجرد حبر على ورق قبل ذلك. حاول المؤرخون الألمان كثيرًا تصوير معاهدة إعادة الضمان على أنها أروع خطة وضعها بسمارك؛ لأنه إن أمكن الإبقاء عليها كانت ستقطع الطريق على قيام التحالف العسكري بين روسيا وفرنسا الذي حدث عام ١٨٩٣. في تلك الفترة كان ثمة تبادل للمذكرات الدبلوماسية بين الحكومتين الفرنسية والروسية، تُقِرُّ رسميًّا بقبول اتفاقية عسكرية تم التوصل إليها قبلها بثمانية عشر شهرًا. كانت المعاهدة في واقع الأمر سياسية بقدر ما كانت عسكرية، لكنها صُنِّفَت معاهدة عسكرية للتحايل على الدستور الفرنسي الذي قضى بطرح كل المعاهدات على مجلس النواب الفرنسي، وكان من المقرر أن تظل سارية المفعول ما دام التحالف الثلاثي (١٨٩٢) قائمًا.
وقد نصت الاتفاقية على أنه في حال تعرض فرنسا للهجوم مِنْ قِبَل ألمانيا، أو مِنْ قِبَل إيطاليا بدعم من ألمانيا، تُقدِّم روسيا المساعدة بكل قواتها في مواجهة ألمانيا؛ وفي المقابل تُقدِّم فرنسا المساعدة بكل قواتها في حال تعرض روسيا لهجوم مِنْ قِبَل ألمانيا، أو لهجوم مِنْ قِبَل إيطاليا تدعمه ألمانيا. بالإضافة إلى ذلك، وهو ما أنذر بخطر أكبر، أن الاتفاقية قضت بأنه في حال قيام قوى التحالف الثلاثي، أو أيٍّ من أعضائه (ألمانيا والنمسا وإيطاليا) بإعلان التعبئة العامة؛ فإن فرنسا وروسيا تعلنان تعبئة قواتهما فورًا ودون توانٍ. ورغم أن التحالفات الرسمية لم تكن تُنشَر في صحيفة «لو فيجارو» أو صحيفة «لو تون» أو أي صحيفة أخرى، كانت الخطوط العريضة للمعاهدة معروفة للجميع. وقد أدركت وزارات الخارجية بلندن وفيينا وبرلين ما تعنيه هذه المعاهدة؛ ألا وهو نهاية عزلة فرنسا الدبلوماسية، وتحقُّق الكابوس الذي طالما قض مضجع بسمارك.

عسكرة الدبلوماسية الألمانية

في الحقبة الدبلوماسية التي أعقبت عهد بسمارك، شعر جهاز الأركان العامة لبروسيا الألمانية بضرورة أن يكون الحل العسكري هو الحل الأول لأزمة الدولة الدبلوماسية. وكان جهاز الأركان العامة قد توقع بالفعل حتمية اضطراره لخوض حرب في جبهتين في مواجهة فرنسا غربًا وروسيا شرقًا، وشدد على أهمية تأسيس دفاعات قوية في تلك المنطقة؛ أي في جهة الشرق. لكن في عهد رئيس الأركان العامة الجديد - الكونت فون شليفن - الذي استمر في منصبه من عام ١٨٩١ حتى عام ١٩٠٥، سيطر مفهوم ثوري جديد على الدولة، وعلينا أن نتوقف لوهلة لعرض هذا المفهوم؛ نظرًا لما يكشفه عن طبيعة العلاقة بين الجيش والحكومة المدنية في الإمبراطورية الألمانية. أول ما علينا أن نضعه في الاعتبار هو أن القيادة الألمانية كانت تعتقد أن الحرب مع فرنسا وحلفائها - أيًّا كانوا - حتمية؛ فكان هذا هو السيناريو الوحيد في تصورهم، ثم أتى فون شليفن وأدرك أن الحرب سيتحتم خوضها على جبهتين في مواجهة فرنسا وروسيا في الوقت نفسه؛ وهو ما أثار مشكلة جوهرية تمثلت في الإمدادات العسكرية، إلا أنه كان لدى فون شليفن حل لها، ارتكز هذا الحل على مفهوم جديد - جديد بالنسبة إلى العصر الحديث - يُدعَى حرب الإبادة. كيف كان من المفترض أن تنجح الخطة؟
بما أن مساحة روسيا كبيرة ويصعب السيطرة عليها، وسيستغرق الحشد للحرب شرقًا وقتًا طويلًا؛ فثمة فرصة وجيزة لتدمير فرنسا تكون أولًا في صورة حرب خاطفة، تنتهي في غضون أسابيع قليلة كما حدث عام ١٨٧٠، وبعد الانتهاء من إبادة الجيش الفرنسي يتجه الجيش الألماني شرقًا ليؤازر القوة الأصغر المرابطة في مواجهة روسيا بتعزيز شامل في هذا القطاع. وكان التسليح الألماني الفائق إلى جانب التخطيط سيكفلان التعامل مع القوات الروسية المتثاقلة بحيث تعود القوات الألمانية للاحتفال بأعياد الميلاد في ديارها. وهذا التصور الذي أورثه فون شليفن أدى إلى عسكرة السياسة الدبلوماسية الألمانية على نحو أكبر.
ما يبدو غير معقول - من منظورنا اليوم - هو أن القيادة المدنية الممثلة في المستشار الألماني ومجلس الوزراء لم تُبلَّغ بالتفاصيل الأساسية للخطة، وأهمها أن الخطة في الجبهة الغربية تطلبت زحف الجيش الألماني عبر بلجيكا المحايدة حتى يتمكن الجيش بأسرع ما يمكن من اتخاذ مواقعه شمال باريس بما يسمح بفرض حصار على المدينة، وفي الوقت نفسه يتقدم جيش ألماني آخر عبر نهر الراين جنوبًا ليطوق باريس من ذلك الاتجاه. وشددت الخطة على أن ينتهي هذا في غضون أسبوعين، وكما أطلق عليها فون شليفن معركة «كاناي فائقة»، في إشارة إلى إبادة هانيبال للقوات الرومانية عام ٢١٦ قبل الميلاد.
وكادت الخطة أن تفلح، فما الذي أدى إلى فشلها؟ تمثل السبب الأول في رفض بلجيكا الانصياع، ورفضها لمطالب ألمانيا بالسماح لجيشها بالزحف عبر أراضيها، واستبسل الجيش البلجيكي بالفعل في الحرب، بل تصدى على نحو بطولي لقوات الجيش الألماني الذي فاق الجيش البلجيكي في القوة العسكرية والوحشية، بما في ذلك الإعدام الفوري لآلاف من المدنيين والسلب والنهب المدبر لمكتبة جامعة لوفان الشهيرة وغيرها من المواقع التاريخية. أما السبب الآخر والأهم الذي أدى بالخطة إلى الفشل، فهو أن خطة شليفن لم تضع في الاعتبار احتمال تدخل القوات البريطانية في الحرب بالنيابة عن بلجيكا التي كانت بينها وبين بريطانيا معاهدة منذ عام ١٨٣٩ (بروتوكول لندن). وعلى وجه الدقة ربما وضع فون شليفن في اعتباره إمكانية تدخل القوات البريطانية، لكنه ظن أن هذا التدخل لن يزيد عن مجرد أعمال استفزازية ليس أكثر، كما لو أن لندن قد تسمح باحتلال بلجيكا مِنْ قِبَل قوة قد تكون شديدة العداء لها. ظنَّ فون شليفن أن القوات البريطانية لا تستطيع خوض حرب برية، وهي فكرة تكونت لديه من أداء بريطانيا المزري إلى درجة واضحة في مواجهة البوير في حرب جنوب أفريقيا (١٨٩٩–١٩٠٢).
وبالنظر إلى ما حدث، يجد المرء أن تقديرات فون شليفن كانت - على أقل تقدير - قائمة على تحيزاته وآرائه المسبقة؛ لأن ما أحبط خطته الزمنية المُحكمة في الواقع هو تدخل قوات المشاة البريطانية. فكانت قدرة القوات البريطانية على الإطلاق السريع للنيران - وهو الدرس القاسي الذي تعلمته بريطانيا من أدائها المزري في البداية في مواجهة البوير - هي ما عرقل الجيش الألماني الذي كان يستعد لتطويق باريس في سبتمبر عام ١٩١٤. ومن ثم، نخرج باستنتاج بسيط، وهو أن قرار الزحف عبر بلجيكا ورَّط بريطانيا تلقائيًّا في الحرب لتنحاز إلى جانب فرنسا؛ وهو ما أدى إلى انهيار خطة شليفن العبقرية التي كانت لتفلح لولا هذا التدخل. غير أن ما علينا أن نتذكره هنا هو أنها كانت خطة تعاني مواطن قصور من الناحية السياسية والعسكرية في المقام الأول. وقد أقر المستشار الألماني بتمان هولفيج بهذا في مذكراته بعد الحرب، بل إنه في الواقع عندما علم أن الخطة ستؤدي إلى تحرك القوات البريطانية انهارت رباطة جأشه، وانتقل حكم ألمانيا الفعلي إلى الجيش الألماني.

الاستمرار الجنوني في حرب الإبادة

بعد فشل الخطة، كان القائد الجديد للجيش إريش فون فالكنهاين - الذي خلف القائد فون مولتكه الأصغر - يعتقد - أو تظاهر بأنه يعتقد - أنه ما زال قادرًا على تحقيق هدف ألمانيا الأساسي في الشرق والغرب، غير أن الموارد من الجند والعتاد لم تكن كافية لهذه المهمة الهائلة. لم يكن فون فالكنهاين نفسه في الواقع واثقًا تمامًا أنه قادر على تنفيذ المهمة بنجاح؛ فقد كتب في أوائل أغسطس مع بدء أعمال العنف: «حتى إن مُنينا بالهزيمة في هذه المهمة؛ فإنها لا تزال مهمة رائعة.» وأردف قائلًا بعبارة أخرى: «نشعر بأننا مضطرون للاستمرار في هذه الخطة رغم أنها ستفضي على الأرجح في نهاية المطاف إلى كارثة.»
لكن الأمور ازدادت سوءًا، فقد أخبر فون فالكنهاين المستشارَ الألماني في ١٨ نوفمبر عام ١٩١٤: «ما دام تحالف روسيا وفرنسا وإنجلترا قائمًا؛ فإن تحقيق النصر أمر مستحيل.» كان فون فالكنهاين بالفعل يفضل عقد معاهدة سلام منفصلة مع كلٍّ من هذه الدول، لكن كان هذا الأمر في تقديره مستبعدًا بسبب معاهدة لندن التي أُبرِمَتْ في سبتمبر عام ١٩١٤، والتي أجبرت الحلفاء الثلاثة على الإبقاء على تماسك جبهتهم الموحدة في مواجهة ألمانيا. من الصعب بمكان فهم عقلية القيادة الألمانية؛ فهي من ناحية أدركت أن المضي في مخططها سيفضي على الأرجح إلى كارثة لا تجدي شيئًا، لكنها من جهة أخرى لم ترغب في الإقرار بهذا علانية؛ إذ لم تكنْ كراهية ألمانيا لإنجلترا - ببساطة - لتسمح بذلك.
وليس من المغالاة هنا أن نؤكد على دور عداء ألمانيا لبريطانيا في تحريك السياسات الألمانية؛ إذ كان تدمير إنجلترا وإمبراطوريتها في الواقع أهم الأهداف الحربية لألمانيا في الفترة ما بين عام ١٩١٤ إلى عام ١٩١٨، ومن هنا جاء سعي ألمانيا المحموم وإنفاقها لأموال طائلة لبناء أسطول يخوض حربها في أعالي البحار. وقد رأى كبار الساسة والمفكرين أن ألمانيا كانت على مشارف نقطة تحوُّل هائلة في التاريخ ستقود لترسيخ طموحات ألمانيا في أن تصبح قوة عالمية، لا قوة أوروبية فحسب؛ فيتحرر العالم أخيرًا من القبضة المحكمة للتجارة البريطانية والضعف الفكري، ليحل محلهما التراث الثقافي الألماني الثري والتنويري. من ثم، فقد كانت المنافسة مع بريطانيا - قدر ما كان العداء مع فرنسا - هي ما تحرك مخطط ألمانيا للحرب.
منبع مقاله : راسخون 2017
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.