
تعد مدرسة حلب هي الأخرى امتدادا لمدرسة بغداد ، وقد كانت مواكبة زمانا لمدرستي النجف والحلّة. إذ كانت بدايتها على يد تلامذة الشريف المرتضى ، الذي كان قد بعث تلميذه المقرب إليه والمقدم لديه الشيخ حمزة بن عبد العزيز الديلمي المعروف بسلاّر ، إلى حلب ، خليفة عنه يقوم بوظيفة القضاء والإفتاء والتدريس.
وكذلك أعاد إليها ابنها وتلميذه الفقيه الشيخ أبا الصلاح الحلبي ، ليكون فيها خليفته القاضي والمفتي والمدرس.
وقد التف حولهما من كان فيها من العلماء والطلاب ، ومارس كل منهما دوره بإخلاص وجدية في بعث الحركة العلمية.
واشتهر من تلامذة الشيخ أبي الصلاح التالية أسماؤهم :
ـ الشيخ عبد الرحمن بن أحمد النيسابوري.
ـ الشيخ بواب بن الحسن.
ـ الشيخ ثابت بن أحمد بن عبد الوهاب الحلبي.
ـ الشيخ علي بن منصور الحلبي.
واشتهر من تلامذة الشيخ الطوسي في حلب : الشيخ كردي بن علي الفارسي ، الذي «كان يقول بوجوب الاجتهاد عينا ، وعدم جواز التقليد ، قرأ على الشيخ الطوسي ، وبينهما مكاتبات وسؤالات وجوابات» (١).
ومن أشهر علماء حلب : السيد أبو المكارم حمزة بن علي بن زهرة الحسيني المتوفى سنة ٥٨٥ هـ ، وكتابه (الغنية) من أشهر المتون الفقهية المراجع.
ومنهم تاج الدين بن محمد بن حمزة بن زهرة الحسيني نقيب حلب الذي كان حيا سنة ٧٥٣ هـ ، صاحب كتاب (غاية الاختصار في البيوتاب العلوية المحفوظة من الغبار).
نكتفي هنا بهذا القدر ، عند هذه الحقبة ، تجنبا للاطالة ، علما أن ثقل المدرسة الشيعية قد عاد ثانية إلى النجف ، ثم كربلاء والشام في عهد الشهيدين الأوّل والثاني ، ثم النجف ثالثة تشاركها أصفهان ، وتستمر النجف في ازدهارها ، لتشاركها في الحقبة الاخيرة قم أيضا.
«جدول المراكز الرئيسة للفقه الإمامي»
«وفق تسلسلها الزمني»
دُور الكتب الكبرى
عمل علماء الشيعة في عهود الاستقرار على فتح المراكز العلمية لتهيئة المراجع وتوفير أدوات البحث وإعداد الأجواء العلمية المناسبة للدراسة والتأليف .. وكان من هذا أن أنشئت المراكز التالية :
١ ـ مكتبة سابور «دار العلم» :
كانت هذه الخزانة مفخرة أدبية رائعة ، ومأثرة أسداها إلى عشاق البحث ، رجل جمع بين الأدب والسياسة ، فخلد التاريخ ذكره بها.
ذلك الرجل ، هو «أبو نصر سابور بن أردشير» ، المتوفى سنة ٤١٦ هـ (١٠٢٥ م) ، وهو الذي وزر لبهاء الدوله البويهي ثلاث مرات ، ووزر أيضا لشرف الدولة. وكان سابور كاتبا سديدا ، عفيفا عن الأموال ، كثير الخير. غير أن أشهر ما اشتهر به كان خزانة الكتب التي أنشأها ببغداد في محلة الكرخ سنة ٣٨١ هـ (٩٩١ م) ، ووقف عليها الوقوف. فإنّه في هذه السنة ابتاع دارا في الكرخ ، بين السورين ، وعمّرها وبيّضها وسماها «دار العلم» ، ووقفها على أهله ونقل إليها كتبا كثيرة ابتاعها وجمعها ، وعمل لها فهرستا. وردّ النظر في أمورها ومراعاتها والاحتياط عليها ، إلى الشريفين أبي الحسين محمد بن أبي شيبة ، وأبي عبداللّه محمد بن أحمد الحسني ، والقاضي أبي عبداللّه الحسين بن هارون الضبي ، وكلف الشيخ أبا بكر محمد بن موسى الخوارزمي فضل عناية بها.
وأشار بعض المؤرخين ، إلى أن عدد ما اشتملت عليه هذه الخزانة ، كان أكثر من عشرة آلاف مجلد ، بل كان عددها بوجه التدقيق ـ كما قال أبو الفرج ابن الجوزي ـ عشرة آلاف مجلد وأربعمائة مجلد من أصناف العلوم ، ومنها مائة مصحف بخطوط بني مقلة.
وكانت هذه الدار موئلاً للعلماء والباحثين ، يترددون إليها للدرس والمناظرة والمباحثة. ومن أشهر روادها ، الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري ، المتوفى سنه ٤٤٩ هـ (١٠٥٧ م) ، فقد طالما ذكرها وذكر بعض القائمين على أمرها ، وآثر الإقامة بها يوم كان ببغداد.
وكان جماعة من العلماء يهبون مؤلفاتهم لهذه الخزانة (2).
وقد ضمت هذه الخزانة نوادر الكتب وأعلاقها. وفي أيام الشريف المرتضى (ت ٤٣٦ هـ) كان هو المتعهد بهذه الدار.
لم تعش هذه الخزانة طويلاً. بل لم يتجاوز عمرها سبعين سنة ، لأن الأحداث الجسام التي حلت ببغداد كان لها أسوأ الأثر في هذه الخزانة. قال أبو الفرج بن الجوزي : احترقت بغداد ، الكرخ وغيره وبين السورين ، واحترقت فيه خزانة الكتب التي وقفها أردشير الوزير ، ونهبت بعض كتبها. جاء عميد الملك الكندري فاختار من الكتب خيرها ، وكان بها عشرة آلاف مجلد وأربعمائة مجلد من أصناف العلوم ، منها مائة مصحف بخطوط بني مقلة وكان العامة قد نهبوا بعضها لما وقع الحريق ، فأزالهم عميد الملك وقعد يختارها ، فنُسب ذلك إلى سوء سيره وفساد اختياره. وشتان بين فعله وفعل نظام الملك. الذي عمّر المدارس ودُور العلم في بلاد الإسلام ، ووقف الكتب وغيرها (3).
وكان السلاجقة الجهلاء وراء حرقها وتدميرها.
٢ ـ خزانة الشريف المرتضى :
نقل عن القاضي أبي القاسم التنوخي صاحب الشريف المرتضى
وتلميذه ، إنه قال عن عدد محتويات ومقتنيات مكتبة أستاذه الشريف المرتضى : حصرنا كتبه ، فوجدناها ثمانين ألف مجلد من مصنفاته ومحفوظاته ومقروءاته.
وقال الثعالبي في كتابه (يتيمة الدهر) منوها بقيمة خزانة الشريف : إنها قوّمت بثلاثين ألف دينار ، بعد أن أهدى إلى الرؤساء والوزراء منها شطرا عظيما.
كانت هذه الخزانة من أهم الدور العلمية التي يرتادها ويرجع إليها العلماء والأدباء من زملاء وتلامذة الشريف المرتضى وحضار مجلسه العلمي الذي كان يعقده على مدار السنة في منزله ببغداد.
كما أنه ـ رضوان اللّه عليه ـ اتخذ من داره الواسعة مدرسة عظيمة ، تضم بين جدرانها ثلّة من طلاب الفقه والكلام والتفسير واللغة والشعر والعلوم الأخرى كعلم الفلك والحساب وغيره ، وحتى سميت أو سماها (دار العلم) ، وأعد له مجلسا للمناظرات فيها.
وقد استفاض عنه إنفاقه على مدرسته العلمية التي تعهد بكفاية طلابها مؤونة ومعاشا ، حتى أنه وقف قرية من قراه تصرف مواردها على قراطيس الفقهاء والتلاميذ (4).
٣ ـ دار العلم للشريف الرضي :
يقول كوركيس عواد : أنشأ الشريف الرضي مؤسسة ثقافية أسماها (دار العلم).
وكان ينفق على تلامذتها من ماله الخاص ، ويلقي فيها المحاضرات العلمية.
ولم تكن دار العلم مدرسة حسب ، بل كان يتبعها (مخزن) فيه جميع ما يحتاجه الطالب من الأمور المادية.
وإلى جانب ذلك (خزانة كتب) حافلة عرفت بـ (خزانة دار العلم) ، وقد كانت هذه الخزانة في مصاف الخزائن الكبرى ببغداد ، ومنظمة تنظيما حسنا (5).
٤ ـ دار العياشي بسمرقند :
وهو أبوالنضر محمد بن مسعود العياشي السلمي السمرقندي المتوفى نحو سنة٣٢٠ هـ. يقول فيه الزركلي : فقيه ، من كبار الإمامية ، من أهل سمرقند ، اشتهرت كتبه في نواحي خراسان اشتهارا عظيما ، وهي تزيد على مائتي كتاب ، أشهرها تفسيره المعروف بـ (تفسير العياشي) (6).
ويقول النجاشي في هذه الدار : أنفق أبو النضر على العلم والحديث تركة أبيه سائرها ، وكانت ثلاثمائة ألف دينار ، وكانت داره كالمسجد ، بين ناسخ ، أو مقابل ، أو قارئ ، أو معلّق ، مملوءة من الناس (7).
وغير هذا كثير من الدور الشهيرة ، ومن أشهرها وأكبرها :
٥ ـ مدرسة أبي الوفاء الرازي بالري
٦ ـ مكتبة الصاحب بن عباد
٧ ـ دار العلم بالأزهر (الفاطميون) التي أحرقها صلاح الدين الأيّوبي
٨ ـ دار العلم بطرابلس
المصادر :
1- إبراهيم نصر اللّه / حلب والتشيع : ٩٤ ، ط ١ ، ١٤٠٣ هـ.
2- كوركيس عواد / خزائن الكتب القديمة في العراق. (دار العلم ببغداد = خزانة سابور).
3- المنتظم : حوادث سنة ٤٥١ هـ.
4- يراجع : كوركيس عواد ، خزائن الكتب القديمة في العراق.
5- يراجع : كوركيس عواد ، خزائن الكتب القديمة في العراق.
6- الأعلام ٧ : ٩٥.
7- الرجال ٢ : ٢٤٧ ـ ٢٤٨.