من بين الكثير من الأحداث المثيرة للاهتمام التي أبرزت دبلوماسية الحرب العالمية الثانية عدد محدود من الأحداث أثار اهتمام الدارسين أكثر من الاتفاقية السرية لنطاق العمل في منطقة البلقان بين كلٍّ من رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل والمارشال جوزيف ستالين، في المؤتمر الإنجليزي السوفييتي (الذي أطلق عليه البريطانيون الاسم الحركي: تولستوي)، الذي عُقِد في موسكو في خريف عام ١٩٤٤.
كان اليوم هو التاسع من أكتوبر في وقت متأخر من المساء، وكان ذلك هو اللقاء الأول الذي يجمع تشرشل بجوزيف ستالين منذ اجتماع قادة الدول الثلاث الكبرى في طهران عام ١٩٤٣، حيث رأى تشرشل أن «اللحظة … مواتية للعمل» وطلب من الدكتاتور السوفييتي ستالين بلغة سياسة القوى قائلًا: «دعنا نُسوِّ مشكلاتنا في منطقة البلقان.» وتابع كلامه قائلًا على وجه التحديد: لدينا مصالح ومهام وعملاء هناك؛ فدَعْنا نسعَ إلى تسوية الأمر بيننا حتى لا تتضارب مصالحنا هناك.
فيما يتعلق بكلٍّ من بريطانيا وروسيا، ما رأيك في أن تهيمن روسيا على ٩٠٪ من رومانيا، ونسيطر نحن على ٩٠٪ من اليونان، وأن نتقاسم يوغوسلافيا مناصفة؟
وقد كتب تشرشل في مذكراته يقول إنه في الوقت الذي كانت فيه كلماته تلك تُترجَم:
كتبتُ على نصف ورقة:
• رومانيا:
– روسيا ٩٠٪.
– الآخرون ١٠٪.
• اليونان:
– بريطانيا العظمى (بالاتفاق مع الولايات المتحدة) ٩٠٪.
– روسيا ١٠٪.
• يوغوسلافيا ٥٠-٥٠٪.
• المجر ٥٠-٥٠٪.
• بلغاريا:
– روسيا ٧٥٪.
– الآخرون ٢٥٪.
وسط عدد الحضور القليل الذي اجتمع ذاك المساء في الكرملين، نظر ستالين إلى الورقة وهو يستمع إلى الترجمة، وبعدما فهم تمامًا ما يُقال، توقف قليلًا ثم «أخذ قلمه الرصاص الأزرق ووضع علامة صح كبيرة على الورقة وأعادها إلينا.» وهكذا، اختتم تشرشل قائلًا: «حُسِمت المسألة برمتها في وقت لا يزيد عن الوقت الذي استُغِرق في كتابتها.» وهكذا، ظلت الاتفاقية الأصلية دون مساس - أو هكذا كان يُعتقَد - مع بعض التغييرات الطفيفة بأن تكون نسبة السيطرة على المجر وبلغاريا هي ٨٠-٢٠٪ لصالح السوفييت، وهو الاتفاق الذي توصل إليه كلٌّ من وزير الخارجية أنتوني إيدن، ووزير الشئون الخارجية الروسي فياتشيسلاف مولوتوف، في اجتماعين إضافيين إبان تسوية النزاع حول الهدنة البلغارية.
لدى عودته إلى لندن، أبلغ رئيس الوزراء مجلس العموم البريطاني بثقة أنه فيما يتعلق بمنطقة البلقان، فقد تمكن من التوصل مع ستالين إلى اتفاقية مكتملة الأركان، وأضاف: لا أرى أن اختلاف سياساتنا أو مبادئنا فيما يخص اليونان ورومانيا وبلغاريا ويوغوسلافيا، فضلًا عن المجر - بعيدًا عن منطقة البلقان - يشكل خطرًا مباشرًا يهدِّد بتقويض جهودنا الحربية المشتركة. لقد توصلنا إلى خطة عمل جيدة جدًّا فيما يتعلق بكل هذه البلدان، كلٌّ على حدة، ومجتمعة معًا؛ وذلك بهدف تركيز كل جهودها وتنسيقها لتتوافق مع جهودنا في مواجهة العدو المشترك والتأسيس - قدر الإمكان - لتسوية سلمية.
ورغم أنه من المتفق عليه بوجه عام أن مسألة تقسيم منطقة البلقان وفقًا لتلك النسب لم تُطرَح مجددًا على المستوى الرسمي في مؤتمر يالطا في فبراير من عام ١٩٤٥ - أو في أي وقت آخر فيما بقي من فترة الحرب العالمية الثانية - فما زال المؤرخون يختلفون حول أهمية الدبلوماسية الخاصة التي اتُّبعت في مؤتمر تولستوي؛ أهم المؤتمرات التي عُقِدَتْ في فترة الحرب.
تشرشل والمقابلة الشخصية الثانية مع ستالين
ما الذي دفع تشرشل للسفر إلى موسكو في أكتوبر عام ١٩٤٤ سعيًا وراء معاهدة حول منطقة البلقان؟ لم يرَ الكثير من الباحثين سببًا للتشكيك فيما ذكره تشرشل بنفسه حول سبب قراره بالقيام بتلك الرحلة. فعَقِبَ العدوان السوفييتي في صيف عام ١٩٤٤ والذي شَهِد احتلال روسيا لبوخارست وإعلانها الحرب على بلغاريا؛ ليعقب ذلك بوقت قصير عقد هدنة معها، شعر تشرشل - وفقًا لما قاله - «بحاجة لمقابلة شخصية أخرى مع ستالين الذي لم ألقه منذ مؤتمر طهران (عام ١٩٤٣)، والذي شعرت - رغم مأساة وارسو - ببداية صفحة جديدة من العلاقات معه منذ بدء عملية أوفرلورد بنجاح.»نوَّه تشرشل، إضافة إلى ذلك، إلى أن الوقت قد حان لإعادة النظر في المعاهدة «رغم أن التدابير التي اتخذتُها مع الرئيس في الصيف لتوزيع مسئولياتنا (البريطانية-السوفييتية) في تولي رعاية دول بعينها (اليونان ورومانيا على التوالي)، والتي تأثرت بحركة الجيوش، كانت كافية على مدار الأشهر الثلاثة التي كانت سارية فيها.» نشأت معاهدة البلقان الأولى - كما أُسْمِيَتْ - بسبب قلق تشرشل في وقت مبكر من شهر مايو إزاء ضرورة اتخاذ إجراء يضع روسيا عند حدها؛ فكتب رئيس الوزراء في مذكرة إلى إيدن في ٤ مايو: «الأمر غير واضح تمامًا بالنسبة لي، لكن من الواضح أننا على وشك مواجهة حاسمة مع الروسيين بشأن مؤامرتهم الشيوعية في إيطاليا ويوغوسلافيا واليونان … عليَّ أن أُقرَّ بأن موقفهم يزداد صعوبة كل يوم.» في البداية، طلب تشرشل من وزير الخارجية البريطاني صياغة وثيقة «لمجلس الوزراء، وربما لاجتماع رؤساء حكومات دول الإمبراطورية البريطانية، تحدد بإيجاز … القضايا الشائكة التي تجمع بيننا وبين الحكومة السوفييتية والتي تتطور في إيطاليا ورومانيا وبلغاريا ويوغوسلافيا، والأهم من ذلك في اليونان.»
كان الموقف بالنسبة لتشرشل لا يحتمل التباسًا أو غموضًا: «هل سنذعن لسيطرة الشيوعية على البلقان، وربما على إيطاليا أيضًا؟!» وعليه اقترحت الوثيقة - التي عُرِضت على مجلس وزراء الحرب في ٧ يونيو - ضرورة بذل جهود «بهدف تكثيف نفوذنا في منطقة البلقان، بتوطيد موقفنا في اليونان وتركيا … مع تلافي أي تحدٍّ مباشر للنفوذ الروسي في يوغوسلافيا وألبانيا ورومانيا وبلغاريا؛ وبهدف اغتنام كل فرصة ممكنة لمد النفوذ البريطاني في هذه الدول.» وحتى أثناء وضع تلك الوثيقة، سعى إيدن إلى لقاء السفير السوفييتي في لندن لإرساء القواعد الأساسية فيما يخص البلقان.
في الخامس من مايو، أي بعد يوم واحد من المذكرة التي أعرب فيها تشرشل عن مخاوفه، زار إيدن السفير السوفييتي جوزيف وأثار: إمكانية عقد اتفاق عملي بيننا؛ بأن تتولى الحكومة السوفييتية الشئون الرومانية في المقام الأول، فيما نكون نحن المعني الأول بالشئون اليونانية، وتُقدِّم كل حكومة يد المساعدة للأخرى في هذه الدول.
فجاء الرد السوفييتي بعد أقل من أسبوعين بالموافقة على هذا المقترح، لكن اقترنت الموافقة بشرط، كما جاء في برقية إيدن للسفير البريطاني في موسكو: يود الروسيون - قبل التأكيد بصورة نهائية على موافقتهم في هذا الشأن - أن يتبيَّنوا إن كنا قد شاورنا حكومة الولايات المتحدة في هذا الشأن، وإن كانت حكومة الولايات المتحدة قد أيدت بدورها هذا الاقتراح. وفي هذه الحالة، ستكون الحكومة السوفييتية على استعداد لتأكيد موافقتها النهائية.
وجاءت ملاحظات وزير الخارجية الأخيرة في البرقية في صورة تعليمات: قلتُ (أي إيدن): إنني لا أعتقد أننا قد شاورنا حكومة الولايات المتحدة في هذا الصدد، لكننا بالطبع على استعداد لذلك، «ولا أتصور أنها سترفض»، فالمسألة في نهاية الأمر تتعلق بالعمليات العسكرية الخاصة بقواتنا، ورومانيا تقع في نطاق سيطرة الجيوش الروسية فيما تقع اليونان في نطاق سيطرة قوات الحلفاء تحت قيادة الجنرال ويلسون في منطقة البحر المتوسط؛ لذا بدا من الطبيعي أن تتولى روسيا السوفييتية زمام الأمور في رومانيا، وأن نتولاها نحن في اليونان، وأن يدعم كلانا الآخر.
من الصعب تخيُّل كيف توقَّع إيدن إقناع الأمريكيين، بالنظر إلى أنه كان من المعروف عن وزير الخارجية الأمريكي كورديل هل - المُناصِر العجوز لمبادئ وودرو ويلسون - رفضه القاطع لأي تقسيم لأوروبا، أو تجزئتها إلى مناطق نفوذ، أو - بتعبير كورديل هل في تعقيبه أمام الكونجرس الأمريكي عقب عودته من مؤتمر وزراء الخارجية في موسكو في أواخر عام ١٩٤٣ - «أي من الإجراءات الخاصة الأخرى التي بسببها كافحت الأمم في الماضي التعيس لحماية أمنها أو لتعزيز مصالحها.» ولا يمكن هنا مقاومة التفكير في أن الكرملين قد زجَّ بوزير الخارجية في مأزق على نحو متعمد.
على أي حال، زار السفير البريطاني اللورد هاليفاكس وزير الخارجية الأمريكي كورديل هل في الثلاثين من مايو؛ لمناقشة هذه المسألة، وتساءل هاليفاكس - الذي أخفى مباحثات إيدن التي تمَّت بالفعل مع الروسيين وقدَّم اقتراحاته على أنها نتاج «تصورات مستقلة» للخارجية البريطانية: ماذا سيكون «رد فعل الولايات المتحدة إزاء إبرام اتفاق بين بريطانيا وروسيا يكون بمقتضاه لروسيا السيطرة على رومانيا، ولبريطانيا السيطرة على اليونان.» وبالرغم من أن كورديل هل وعد بالتفكير في الأمر، إلا أنه أبدى تحفظه الشديد تجاه التخلي عن «القواعد والسياسات الثابتة التي تتفق مع ما أعلناه من الخطوط الأساسية العريضة لسياساتنا ومبادئنا وممارساتنا.» طلب إيدن من تشرشل - قبل تسلُّمه تقرير هاليفاكس عن مقابلته مع كورديل هَل، وهو لا يزال غير متوقع لصعوبات مع وزارة الخارجية الأمريكية - أن يبعث برسالة خاصة إلى الرئيس الأمريكي روزفلت من أجل «تعزيز» التمثيل الدبلوماسي لوزارة الخارجية أمام كورديل هل. وعند هذه النقطة، ارتكب تشرشل وإيدن خطأ فادحًا، وأثارا شكوكًا جادة - لدى بعض الأمريكيين على الأقل - حول الأهداف الحقيقية للسياسة البريطانية في منطقة البلقان.
انكشاف السر
بعد أن لاحظ تشرشل أنه ثمة «مؤشرات مثيرة للقلق ظهرت مؤخرًا في علاقتنا بالروسيين فيما يتعلق بمنطقة البلقان، واليونان على وجه التحديد.» كشف عن السر عندما صرح للرئيس الأمريكي، فرانكلين دي روزفلت: اقترحنا على السفير السوفييتي لدى بلدنا أن نتفق فيما بيننا بصورة عملية على تولِّي الحكومة السوفييتية السيطرة على شئون رومانيا، بينما نتولى نحن السيطرة على شئون اليونان، وأن تُقدِّم كل حكومة المساعدة للأخرى في الدولة الخاصة بها.في سعي تشرشل لدفع روزفلت - الذي تكبله الانتخابات - إلى «مباركة» هذه الخطة، بذل جهودًا مضنية ليوضح له: إننا لا نأمل بالطبع في تقسيم منطقة البلقان إلى مناطق نفوذ، وعند الموافقة على هذا الاتفاق علينا أن نوضح أنه ينطبق فقط في حالات الحرب، ولا يؤثر على الحقوق والمسئوليات التي سيتعين على القوى الكبرى الثلاثة ممارستها في التسوية السلمية، وبعد ذلك فيما يتعلق بأوروبا بأسرها.
وتكرر توضيح هذا الدافع لهاليفاكس بعد أسبوع. في الوقت نفسه، نقل هاليفاكس لإيدن دافعه الوحيد لإخفاء مبادرة الحكومة البريطانية بالتباحث أولًا مع السوفييت، قائلًا في برقية كتبها لإيدن في الخامس من يونيو: «تعمدت إخفاء حقيقة أنك تداولت الأمر مع الروسيين لأنني رأيت أننا بهذه الطريقة أقرب لنيل تأييد الأمريكيين.» وتابع كلامه محتجًّا: مع مراعاة موقف سيادتكم وموقف رئيس الوزراء حيال المسألة ومراعاة الضرورات الواضحة ذات الطبيعة المُلِحَّة التي قد تستجد، ربما كان من الحكمة - عندما تلقيت أوامري بالتباحث في الأمر مع وزير خارجية الولايات المتحدة السيد كورديل هَل - أن يتم تأجيل اتخاذ خطوات على المستوى الأعلى، وأعني التباحث مع الرئيس الأمريكي إلى أن يتسنى لي إخطاركما بإحراز تقدم في مباحثاتي مع السيد هل. ومن ثم يمكن اتخاذ الإجراءات الأخرى التي قد تتطلعان إلى اتخاذها مع العلم بمجريات الأمور على المستوى الأدنى، وإلا فنحن نجازف بخلق ارتباك وإحراج أنفسنا.
لكن هاليفاكس واجه الارتباك والإحراج معًا.
عقب بعض المباحثات في وزارة الخارجية الأمريكية بين إدارة الشئون الأوروبية وشئون الشرق الأدنى، سلم القائم بأعمال وزير الخارجية، إدوارد ستيتنيوس، ملف القضية إلى مساعد وزير الخارجية الأمريكي، بريكينريدج لونج؛ لتقديم توصياته، فأعد لونج في غضون أيام جوابًا برفض المقترح، اعتمده الرئيس الأمريكي - بلا تغيير - بحلول العاشر من يونيو، وأخبر روزفلت تشرشل في لهجة قاطعة بأن الحكومة الأمريكية «ليس لديها استعداد للموافقة على الاتفاق المقترح.» وكان موقف واشنطن كما يلي: باختصار، نعلم أن الحكومة المسئولة عسكريًّا في أي منطقة ستتخذ حتمًا القرارات وفقًا لما يستجد من التطورات العسكرية هناك، لكننا مقتنعون بأن اتفاقية من النوع المقترح ستعزز من الاتجاه الطبيعي لأن تمتد هذه القرارات لمجالات أخرى بخلاف الشئون العسكرية. ومن وجهة نظرنا، فإن ذلك سيقود بلا شك إلى استمرار الخلافات بينكم وبين السوفييت، وإلى انقسام منطقة البلقان إلى مناطق نفوذ رغم النوايا المعلنة بقصر الاتفاق على الشئون العسكرية.
ما المقترح البديل إذن؟ وجَّه الرئيس الأمريكي إلى رئيس الوزراء البريطاني نصيحة برفق قائلًا: «إننا نرى أنه من الأفضل أن توجه الجهود إلى تأسيس آلية تشاور لتبديد سوء التفاهم، والحد من الاتجاه إلى تأسيس مناطق نفوذ حصرية.» وقد أرسل تشرشل رده بحزمه المعهود، ولكن بالطبع بدون المجازفة بإفساد علاقته الخاصة بروزفلت.
وكتب في برقية وجَّهَها لروزفلت في اليوم نفسه: «إذا كان من المفترض أن يستشير كل طرف الطرف الآخر في كل شأن قبل اتخاذ أي إجراء، فلن تُتخَذ أي إجراءات قط؛ والأحداث ستسبق دومًا الموقف المتغير في مناطق البلقان تلك. فيجب أن يملك طرفٌ ما القدرةَ على التخطيط والتصرف.» وآلية التشاور «لن تكون إلا عقبة يتم تجاوزها دائمًا في حالات الطوارئ عن طريق تبادل الآراء بيني وبينك، أو بينك وبين ستالين.» ومضى تشرشل يخاطب كبرياء الرئيس - بعد أن شرح له حقائق احتمال دخول القوات السوفييتية إلى رومانيا قائلًا: «سيُقْدِم السوفييت على الأرجح على ما يحلو لهم بأي وسيلة.» ووضح الاستثمارات البريطانية من دماء وثروات في اليونان - موجهًا له العديد من الأسئلة: «ما الداعي لأن يتحول هذا الاتجاه الفعال إلى لجنة من المسئولين دون المستوى مثل تلك اللجان التي ننشرها حول العالم؟! لِمَ لا نبقي الأمر تحت سيطرة كِلَيْنا بما أننا نتفق على الكثير في هذا الأمر؟!» واقترح تشرشل بنهاية رسالته الاتفاق مع الرئيس روزفلت على فترة تجريبية لثلاثة شهور، بيد أنه بدا أنه كان سيرضى بشهرين كبديل أفضل من لا شيء. ويبدو أن روزفلت قد اقتنع بمنطق رئيس الوزراء الإنجليزي؛ إذ إنه رضخ لمقترح تشرشل - دون أن يخبر وزارة الخارجية على مدار أسبوعين أنه غيَّر موقفَه - شريطة أنه «يجب أن نحرص على توضيح أننا لا نؤسس لمناطق نفوذ بعد الحرب.» وبالطبع كان تشرشل - الذي هنَّأ نفسه بلا شك على قدرته على الإقناع وقدرته على تخطي وزارة الخارجية الأمريكية - ممتنًّا لذلك، ومن ثم كان كل ما تبقَّى هو إبلاغ السوفييت بما تمَّ التوصل إليه.
كاتب إيدن السفيرَ السوفييتي في لندن في ١٩ يونيو قائلًا: «استشرنا حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في الأمر، وهي تؤيد الاتفاق المقترح.» والأهم أنه نوَّه: «يشعر الأمريكيون رغم ذلك ببعض القلق خوفًا من أن يتجاوز تطبيق هذا الاتفاق الظرف الراهن الذي دعا إلى إبرام هذا الاتفاق، وخوفًا من أن يفضي إلى تقسيم دول البلقان إلى مناطق نفوذ.» وهو ما يتعارض مع نوايا لندن «بتطبيق هذا الاتفاق في حالات الحرب فقط، ومع عزمها على ألا يؤثر على الحقوق والمسئوليات التي سيتعيَّن على الحكومات الثلاث ممارستها في التسوية السلمية، وتجاه أوروبا بأَسْرِها فيما بَعْدُ.» على كلٍّ، أنهى إيدن برقيته وألمح على نحو طفيف بوجود خلاف قائلًا: لتحاشي خطر امتداد هذا الاتفاق إلى أغراض تتجاوز الأغراض التي وُضِع من أجلها، اقترحنا على حكومة الولايات المتحدة فترة تجريبية لمدة ثلاثة شهور - الأمر الذي وافقت عليه الحكومة الأمريكية - وبعد هذه الفترة يخضع الاتفاق للمراجعة مِنْ قِبَل الحكومات الثلاثة؛ لذا آمل أن توافق الحكومة السوفييتية على دخول الاتفاق حيِّز التنفيذ بناء على هذا الأساس.
غير أن الحكومة السوفييتية كانت لديها خطط أخرى، فجاء رد السفير جوزيف على برقية إيدن في الثامن من يوليو، بأنه على ضوء تغير الظروف - وبخاصة إعراب الولايات المتحدة عن بعض التخوفات - يرى الكرملين ضرورة إيلاء المسألة المزيد من البحث، وأضاف: «إن الحكومة السوفييتية ترى أنه أصبح من المحبذ الآن التحدث إلى حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مباشر؛ للحصول على معلومات أكثر تفصيلًا حول موقفها تجاه هذه القضية.» وهو ما حدث بالفعل في ١ يوليو، ووضعت موسكو إيدن في موقف من يبرهن صحة كلامه.
جاء جواب وزارة الخارجية الأمريكية - مع عودة كورديل هل مجددًا إلى الصورة وكون الرئيس في منتصف حملة الانتخابات الرئاسية - على السوفييت بعد أسبوعين، وتحديدًا في ١٥ يوليو، بالتنويه إلى «صحة موافقة حكومة الولايات المتحدة الأمريكية على اتفاق البلقان لفترة تجريبية مدتها ثلاثة شهور، وقد جاءت هذه الموافقة في ضوء استراتيجية الحرب الحالية.» كما أضافت الخارجية الأمريكية أنه باستثناء هذا «الاعتبار شديد الأهمية» فإن الولايات المتحدة: ترغب في الإعراب عن مخاوفها من أن يقود الاتفاق المقترح - بحكم طبيعة مثل هذه الاتفاقات - إلى تقسيم منطقة البلقان إلى مناطق نفوذ، وهو ما سيُعَدُّ تطورًا مؤسفًا بالنظر إلى القرارات التي تمَّ التوصل إليها في مؤتمر موسكو …
وبناءً على هذه القرارات، كانت وزارة الخارجية الأمريكية تأمل ألا يسمح أي إجراء مُقترَح:بالإضرار بالمجهودات التي تهدف إلى توجيه سياسات حكومات قوات الحلفاء في إطار من التعاون بدلًا من اتخاذ إجراءات منفردة؛ إذ إن أي اتفاق من شأنه أن يوحي بتكوين مناطق نفوذ سيَحُول دون تأسيس نظام أوسع نطاقًا من الأمن العام تضطلع فيه جميع الدول بدور وتطبيقه تطبيقًا فعالًا.
لكن وزير الخارجية الأمريكي أوضح - مع كل الاحترام بالطبع لعزم الرئيس المُسبَق على مخالفته في موقفه - أنه لن يبدي اعتراضًا على خوض فترة تجريبية لمدة ثلاثة شهور، ما دامت تحركات الاتحاد السوفييتي وبريطانيا لا تؤثر بأي شكل من الأشكال على «الحقوق والمسئوليات التي سيتعيَّن على كلٍّ من الحلفاء الثلاثة الرئيسيين ممارستها إبان فترة إعادة إحلال السلام، وتجاه أوروبا بأكملها لاحقًا.» وأخيرًا - خشية أن يكون أحد الأطراف لم يفهم الأمر بوضوح - أكملت وزارة الخارجية الأمريكية مذكرتها مفترضة أن «الاتفاق لن يؤثر، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، على مصالح هذه الحكومة أو الحكومات الأخرى المرتبطة بالحلفاء الثلاثة الرئيسيين.» وبالإضافة إلى التنويه إلى رفض فكرة مناطق النفوذ، تضمَّنَتْ مذكرة الخارجية الأمريكية اعتبارات أخرى - قد تكون أقل أهمية - يجب وضعها في الاعتبار.
في مايو عام ١٩٤٤، وجَّه الأدميرال ويليام دي ليهي - رئيس أركان الرئيس الأمريكي روزفلت - إلى كورديل هل خطابًا سريًّا للغاية عرَض فيه بعض الحجج العسكرية التي تناهض فكرة مناطق النفوذ في منطقة البلقان على غرار الاتفاقية البريطانية السوفييتية المقترحة. رأى ليهي - الذي تسجل مذكراته أنه «يرفض التضحية بالجنود والبحارة الأمريكيين لفرض أي حكومة على أي شعب، أو لتسوية اختلافات سياسية في أوروبا أو آسيا، إلا لمواجهة معتدٍ من أجل الحيلولة دون اندلاع حرب دولية.» - أن مصلحة الأمة في فترة ما بعد الحرب ستتحقق بالحفاظ على «اتحاد القوى العظمى الثلاثة» إلى أن يحين الوقت «الذي يتم فيه إحكام التخطيط لهذه الاتفاقات للحيلولة دون اندلاع صراعات عالمية.» وبما أنه من المرجح بقوة في أي صراع عالمي يقع في المستقبل القريب أن تكون بريطانيا والاتحاد السوفييتي في معسكرين متحاربين، مع تمتع موسكو بهيمنة عسكرية طاغية في أوروبا لا يَسَع الولايات المتحدة في الوقت الراهن التصرف حيالها، فمن الحكمة أن «تبذل الولايات المتحدة قصارى جهدها وتستغل كل نفوذها للحيلولة دون حدوث موقف كهذا، ولتعزيز روح التعاون المتبادل بين بريطانيا وروسيا والولايات المتحدة.»
بعبارة أخرى، كان ليهي يقصد أنه في حال اندلاع حرب بين لندن وموسكو، يشعلها على الأرجح نزاع إقليمي في القارة الأوروبية: قد ننجح في الدفاع عن بريطانيا دفاعًا تامًّا … لكننا في ظل الظروف الراهنة لن نتمكن من هزيمة روسيا … ومن ثم قد نجد أنفسنا متورطين في حرب لا يمكننا الانتصار بها، رغم أن الولايات المتحدة لن تكون عرضةً للهزيمة أو الاحتلال.
إن محاولة تلافي مثل هذا الموقف كانت ببساطة بمنزلة الإقرار بحقائق الواقع الدولي الجديد الذي يتمثَّل في: التطور الهائل الذي طرأ مؤخرًا على القوة الروسية العسكرية والاقتصادية التي ما زالت غير معلومة حتى وقتنا الراهن. وهو تطور ستثبت أهميته الشديدة - ولا شك - في تأثيره على العلاقات الدولية العسكرية السياسية مستقبلًا، وسيبلغ مستقبلًا مداه الكامل في ظل الموارد الروسية.
رغم أنه ثمة شك في أن ملاحظات ليهي تلك مثَّلَتْ تحولًا مهمًّا في موقف الولايات المتحدة الرسمي تجاه سياسة توازن القوى؛ فإنها مهمة من حيث دلالتها على موقف الولايات المتحدة الرسمي الواعي بحدود قدرتها على التأثير في مجرى الأحداث بأوروبا في فترة ما بعد الحرب، بما في ذلك منطقة البلقان.
رفض روزفلت
في تلك الأثناء، أعرب الرئيس الأمريكي فرانكلين دي روزفلت عن استيائه الشديد من الأسلوب الذي تعاملت به بريطانيا مع الاتفاق المقترح الخاص بمنطقة البلقان، فأبرق إلى تشرشل في ٢٢ يونيو يقول: «أعتقد أنه عليَّ أن أخبرك صراحةً باستيائنا من أن فريق العمل لديك أثار المسألة معنا فقط بعد أن عرضها على الروس، الذين تساءلوا (في تلك المرحلة المتأخرة) حول موافقتنا من عدمها.» وبعد أن تقبَّل روزفلت إلى حدٍّ ما تفسير وزارة الخارجية البريطانية للموقف بأن «الاقتراح أُثِير بالمصادفة» وحوَّلته حكومة الاتحاد السوفييتي إلى مقترح رسمي، فقد أمل «ألا تتطور قضايا على هذا القدر من الأهمية على هذا النحو مستقبلًا.» فلم يلبث جواب تشرشل أن أتى سريعًا موضحًا - إلى جانب الأمر الذي نال قدرًا وفيرًا من النقاش والتأكيد بأن الاتحاد السوفييتي هو القوة الوحيدة القادرة على فعل أي شيء في رومانيا، وأن عبء الشأن اليوناني يقع كله تقريبًا على عاتق بريطانيا - أنه لم يشكُ على الإطلاق من مكاتبات روزفلت الخاصة مؤخرًا إلى ستالين بشأن بولندا. أكد تشرشل للرئيس الأمريكي «أنا لا أشكو إطلاقًا من ذلك الأمر؛ لأنني أعلم أننا نعمل من أجل خدمة الأهداف والغايات العامة، وآمل أن ترى أن هذا هو موقفي فيما يخص الشأن اليوناني.»وأقرَّ تشرشل مخاطبًا فطنة روزفلت السياسية أنه «من السهل عليَّ - احتكامًا للمبدأ العام الداعي للميل إلى سياسة اليسار وهو أمر شائع في السياسات الخارجية - أن أترك الأمور تتخذ منحًى عنيفًا عندما يُجبَر ملك اليونان على الأرجح على التنازل عن عرشه.» لتخلق العناصر التي يقودها الشيوعيون «عهدًا من حكم الإرهاب.» ومن ثم كانت الوسيلة الوحيدة للحيلولة دون حدوث مثل ذلك الوضع هي إقناع موسكو بالتوقف عن دعم الشيوعيين والتوقف عن «دفعهم إلى الأمام بكل قوتها.» واختتم كلامه قائلًا: «طرحت في ظل هذه الظروف على الروسيين اتفاقًا مؤقتًا لتسيير الحرب على نحو أفضل، ولم يكن ذلك سوى اقتراح وجب الرجوع فيه إليكم للوصول إلى الاتفاق.» ويبدو أن روزفلت قد فهم مغزى الرسالة عندما أرسل ردَّه إلى تشرشل بعد عدة أيام قائلًا: «يبدو أنَّ كِلَيْنا عن غير قصد قد شرع في تصرفات فردية في اتجاه يتفق كلانا الآن على مواءمته للظرف الراهن.» غير أنه أوضح «أنه من الضروري أن نتفق دائمًا على المسائل المتعلقة بالحرب التي نخوضها كحلفاء.» وبدا أن المسألة أُغلِقَتْ عند هذا الحد.
لكن بعد عدة أسابيع، أوشك تشرشل على الانفجار غضبًا عندما تلقى أنباء من إيدن تفيد بأن الكرملين يرى ضرورة إيلاء مسألة تقسيم البلقان «المزيد من البحث»، وبأن الكرملين - في واقع الأمر - يطرح المسألة مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ فكاتب وزير خارجيته في ٩ يوليو قائلًا: هل يعني هذا أن كل ما توصلنا إليه مع الروس ينهار الآن بتدخل الولايات المتحدة المتحذلق، وأن مصير رومانيا واليونان يتحكم فيه الآن نظام قائم على تبادل البرقيات بين ثالوث القوى، نتدخل به نحن والولايات المتحدة في إدارة روسيا للوضع في رومانيا، ويدعم فيه الروسيون جبهة التحرير الوطني في اليونان، فيما يتبع الرئيس الأمريكي سياسة تؤازر الملك هناك، وعلينا نحن أن نترك الأمور تمر بسلام؟ إن حدث هذا، فستكون كارثة كبرى.
وعليه، أبلغ إيدن مجلس وزراء الحرب في اليوم التالي - أي في ١٠ يوليو - بأن اتفاقية نطاق العمل السوفييتية البريطانية المتعلقة باليونان ورومانيا قد «انهارت»، على حد تعبيره.
مع شعور تشرشل بالحيرة إزاء المعنى الحقيقي لردِّ وزارة الخارجية الأمريكية على تساؤل الاتحاد السوفييتي في الأول من يوليو - «فهل يعني هذا أن الأمريكيين قد وافقوا على فترة الشهور الثلاثة التجريبية، أم أن الاتفاق برمته قد راح سدًى مُجددًا؟» - ومع تزايد مخاوفه من احتمال تدخل الاتحاد السوفييتي في الشئون اليونانية - لا سيما مع إرسال بعثة مفاجئة من الضباط الروسيين إلى اليونان في أواخر يوليو - فقد اضطر إلى انتظار تغير دفة الحرب قبل أن يطرح أمام الاتحاد السوفييتي تسوية أخرى بشأن منطقة البلقان. ولا عجب مطلقًا - على ضوء تجاربه السابقة مع الأمريكيين - في أنه في المرة التالية التي سعى فيها للتصرف فيما يخص منطقة البلقان، خاطب بنفسه ستالين الذي ارتأى تشرشل أنه «شخص يمكن محادثته رجلًا لرجل.» وحتى ذلك الوقت، ومن الناحية العملية، ظلت اتفاقية مايو مشروعًا فاشلًا.
بحلول أكتوبر عام ١٩٤٤، أصبحت الفرصة سانحة أمام تشرشل؛ إذ كانت دفة الحرب قد تغيرت منذ ربيع ذاك العام على نحو جوهري في اتجاهين، أحدهما سيئ والآخر جيد. أما عن المنحى السيئ الذي سارت فيه الأمور، فقد رسَّخ الجيش السوفييتي أقدامه في رومانيا وبلغاريا واخترق يوغوسلافيا والمجر حديثًا. وعلى المنوال نفسه، اقتصر نفوذ بريطانيا في المنطقة على اليونان ويوغوسلافيا، وتمثل بصورة أساسية في بعثات الاتصال العسكري مع تنظيمات حرب العصابات في الدولتين، وكذلك - بدرجة أقل - في استضافتها في المنفى للحكومتين اللتين تشكلتا لكلٍّ منهما. كان الأمر الأكثر خطورة من منظور تشرشل هو التهديد الذي تتعرض له اليونان والمتمثل في احتمال احتفاظ بلغاريا بمقدونيا وثريس - أو بأجزاء منهما - اللتين جرى احتلالهما إبان الحرب. وقد تبيَّن أن مؤازرة بلغاريا لقوات الحلفاء لا تنفع ولا تشفع بما أن السوفييت باتوا هم المسيطرين على الوضع.
غير أن هذا كله لا يعني أن تشرشل سيسافر إلى موسكو دون أن تكون لديه ورقة مساومة؛ فإذا كان الروس قد أحرزوا تقدمًا كبيرًا في زحفهم على جنوب شرق أوروبا، فقد حققت القوى الغربية انتصارات ذات أهمية. كانت الجبهة الثانية (ما يُعرَف بالجبهة الغربية) قد تأسست منذ مايو، وحُرِّرت كلٌّ من باريس وبروكسل، واختُرِقت حدود الإمبراطورية الألمانية، وبدا في الواقع أن ثَمَّةَ احتمالًا كبيرًا أن يبلغ العنصر الغربي من «التحالف الكبير» برلين قبل قوات الجيش الأحمر الروسي المتقدمة في زحفها. علاوة على ذلك، كان بإمكان تشرشل أن يتباهى بأن الإمبراطورية البريطانية ظلت تتمتع - حتى يوليو عام ١٩٤٤ على الأقل - بعدد من العملاء على اتصال بالعدو على مستوى العالم يفوق عملاء الولايات المتحدة. أضف إلى ذلك ميل تشرشل بطبيعته - كما أبرق لستالين في رسالة في ٤ أكتوبر - للعودة إلى موسكو في ظل الظروف التي تحسنت كثيرًا منذ أغسطس عام ١٩٤٢، عندما تمثلت مهمة تشرشل الجادة آنذاك في إخبار القائد السوفييتي العظيم بأنه لن يكون هناك جبهة ثانية في عام ١٩٤٢. لكن ظلت الإشكالية الكبرى التي واجهت تشرشل هي - على حد تعبير هاليفاكس في يونيو السابق من ذلك العام - «كيفية نيل تأييد الأمريكيين». ومن ثم توجَّه تشرشل مباشرة - وهو ما كان متوقعًا تمامًا - إلى الرئيس الأمريكي الذي كانت قد جمعته به لتوِّه علاقات ودية في مؤتمر كيبك الثاني (من ١١ إلى ١٩ سبتمبر)، كما كانا قد التقيا في هايد بارك، رغم معارضة الولايات المتحدة لشن عمليات عسكرية في اللحظة الأخيرة في منطقة البلقان.
فأبلغ تشرشل الرئيسَ الأمريكي فرانكلين دي روزفلت في ٢٩ من سبتمبر بأنه يبحث مع إيدن السفر إلى موسكو لهدفين مهمين؛ أولهما: «حسم انضمام ستالين إلى التحالف ضد اليابان، وثانيًا: محاولة إبرام تسوية ودية مع بولندا. وثمة نقاط أخرى بشأن اليونان ويوغوسلافيا قد نتباحث بشأنها.» وتجنبًا لأي سوء تفاهم، طمأن تشرشل الرئيسَ الأمريكي بأنه سيبقيه «على اطِّلاع بكافة النقاط التي ستُطرَح.» وبعد عدة أيام، أرسل تشرشل إلى الرئيس الأمريكي طالبًا منه أن يقوم بإرسال رسالة إلى ستالين يخبره فيها بموافقته على هذه المهمة الدبلوماسية، وأن السفير الأمريكي بموسكو سيكون مستعدًّا للمشاركة في وقائع الاجتماع. بعبارة أخرى، كان تشرشل يسعى وراء مباركة الرئيس الأمريكي، وحصل عليها تقريبًا.
وفي مسودة الرد التي أعدَّها الأميرال ليهي، واعتمدها البيت الأبيض بلا تغيير، تمنى روزفلت لتشرشل «حظًّا موفقًا»، ذاكرًا أنه «يتفهم تمامًا دواعي الرحلة.» لكن الأمور تغيَّرت عند هذه النقطة؛ إذ وفقًا لروبرت شيروود، بعدما علم مستشار الرئيس هاري هوبكنز بأن «روزفلت يعتزم إرسال برقية لتشرشل … ينفض فيها يديه فعليًّا من المسألة برمتها (مسألة منطقة البلقان)؛ مما يعني أن روزفلت كان مقتنعًا بالسماح لتشرشل بالتباحث نيابة عن الولايات المتحدة، بالإضافة إلى بريطانيا العظمى.» اعترض هوبكنز على الرسالة وأمر بعدم إرسالها، على الرغم من أن هذا القرار جاء بعد مهاتفة هوبكنز للرئيس الأمريكي روزفلت. انطلاقًا من وعي هوبكنز لتحذيرات السفير أفيريل هاريمان في سبتمبر من موسكو بأن الوقت قد حان لنوضح للسوفييت «ما ننتظره منهم نظير نوايانا الطيبة»، وإدراكًا منه لميل تشرشل المعروف إلى عقد صفقة حول منطقة البلقان، أقنع هوبكنز روزفلت بأن البعث برسائل غامضة إلى تشرشل وستالين سيكون خطأً يقود على الأرجح إلى تأثير معاكس يُقصِي الإدارة الأمريكية عن الإحاطة بنتائج الاجتماع؛ سواء على صعيد ما يخص بولندا أو منطقة البلقان أو أي قضية أخرى موضع نقاش. ولما كانت الانتخابات الأمريكية قد بقي لها نحو شهر، وكان روزفلت قد ذاق عواقب وخيمة من جراء ما يُعرَف باسم خطة مورجنتاو لمعاقبة ألمانيا بقسوة، وافق الرئيس الأمريكي على أن يبعث برسالة مختلفة إلى تشرشل وستالين.
كتب روزفلت في ردِّه على تشرشل في ٤ أكتوبر: «أتفهم جيدًا الأسباب التي تجعلك تشعر بالحاجة إلى عقد اجتماع فوري بينك وبين العم جو (ستالين) قبل أن نجتمع ثلاثتنا معًا.» وتابع قائلًا: «القضايا التي ستناقشانها هناك تهم بلا شك الولايات المتحدة الأمريكية، وأنت والعم جو تؤيدانني الرأي في ذلك، حسبما أعتقد؛ لهذا أصدرت توجيهي إلى هاريمان بالحضور والمشاركة كمراقب لي، إن كان ذلك مقبولًا بالنسبة لك وللعم جو، وقد أبلغت ستالين بذلك.» وفي النهاية، اختتم روزفلت رسالته إلى تشرشل قائلًا بما لا يدع مجالًا للالتباس: «بينما لن يكون أفيريل هاريمان، بطبيعة الحال، في موقف يُلزِم الولايات المتحدة بأي شيء - إذ لا يمكنني أن أسمح لأي أحد بإلزامي مقدمًا بأي شيء - فإن حضور هاريمان سيسمح بإبقائي على اطِّلاع تام بمجريات الأمور. وقد طلبت منه العودة فور انتهاء المؤتمر.» وبأخذ كل شيء في الاعتبار، يجب أن يكون الاجتماع في موسكو «تمهيدًا مفيدًا» لاجتماع آخر بين القوى الثلاث العظمى بعد الانتخابات. وأجابه تشرشل في اليوم التالي، وشكره على أفكاره حول المسألة وعلى أمنياته الطيبة.
بقدر ما أصبح واضحًا الآن أن تشرشل لن يحظى بمباركة روزفلت مقدمًا قبل الاجتماع، حاول رئيس الوزراء البريطاني أن يُؤمِّن حريته في المناورة، فكتب إلى روزفلت: «يسرني حضور هاريمان لكل المؤتمرات الرئيسية، إلا أنني على ثقة بأنك لا تود إعاقة المحادثات الثنائية الخاصة بيني وبين العم جو (ستالين)، أو بين أنطوني (إيدن) ومولوتوف، فكثيرًا ما يُحرَز أفضل تَقدُّم في مثل هذه الظروف.» بيد أن تشرشل تابع كلامه مطمئِنًا روزفلت من جديد بقوله: «بإمكانك الاعتماد عليَّ لإطلاعك دائمًا بكل شيء يؤثر على مصالحنا المشتركة، بصرف النظر عن التقارير التي سيرسلها إليك هاريمان.»
أعربَتْ رسالةُ روزفلت إلى ستالين الذي بدا متحيِّرًا من كل ما فيها - إذ إنه افترض قدوم تشرشل إلى الاجتماع بموجب ما تمَّ التوصل إليه في كيبك من اتفاقيات - عن شعور مماثل حيال رغبة تشرشل في عقد مؤتمر مبكر، وأدلت بالتعليمات نفسها التي وجَّهَها روزفلت فيما يخص السماح للسفير هاريمان بحضور الاجتماعات كمراقب له. ربما كان انشغال الرئيس الأمريكي أكثر مما يجب بحماية خياراته مستقبلًا هو ما أدى إلى تشديده على اهتمامه الشخصي بالمباحثات القادمة، فأشار إلى ذلك قائلًا: لا شك أنك تتفهم أنه في ظل هذه الحرب العالمية لا توجد بالمعنى الحرفي للكلمة قضية سياسية أو عسكرية لا تُمثِّل أهمية للولايات المتحدة. وإنني على يقين تام أن ثلاثتنا، وثلاثتنا فقط، قادرون على إيجاد حلول للقضايا المعلقة التي لم تُحسَم إلى الآن، ومن هذا المنطلق، ومع تقديري لرغبة رئيس الوزراء في عقد هذا الاجتماع، أَمِيل إلى اعتبار أن مباحثاتك القادمة مع تشرشل ستكون مباحثات تمهيدية لاجتماع ثلاثتنا الذي سينعقد، في رأيي، في أي وقت بعد الانتخابات التي ستُجرى هنا في الولايات المتحدة.
مرة أخرى، فشل البريطانيون في الحصول على دعم الأمريكيين مقدمًا، لكن هذه المرة لم يكن هناك أدنى مجال للشك لدى موسكو ولندن حيال موقف الولايات المتحدة.
ومن المثير للاهتمام أن الدبلوماسي نفسه الذي ساعد في صياغة مسودة هذه الرسائل لستالين وتشرشل، وهو تشارلز إي بولن - رئيس إدارة شئون شرق أوروبا - كان في الوقت نفسه يُصِرُّ على أن تُصْدِر الإدارة الأمريكية بيانًا لا يَدَع مجالًا للالتباس حيال موقفها في منطقة البلقان؛ بيانًا من دونه لا يكون أمام الولايات المتحدة إلا لوم نفسها على أي سوء تفاهم قد ينشأ لاحقًا. فقال في جداله داخل وزارة الخارجية: «جانَبَ الصوابُ هذه الحكومةَ نوعًا ما؛ لأن أيًّا من حلفائنا الرئيسيين لم تكن لديه بَعْدُ صورة واضحة حيال الإجراءات التي ستتخذها الولايات المتحدة، والمسئوليات التي ستضطلع بها في شرق أوروبا.» وأشار بولن كذلك إلى أنه بالنظر إلى حقيقة أن السوفييت يميلون إلى «قبول خطط شاملة تُطرَح عليهم من قِبل الآخرين» بدلًا من وضع خطط بأنفسهم؛ لذلك فإن الوقت ربما قد حان لطرح مسألة «ما إذا كنا سنحجم عن تقديم خطة للروسيين بخصوص التعامل مع تلك المنطقة.» غير أنه بحلول هذا الوقت كان تشرشل قد وصل بالفعل إلى موسكو ليطرح خطته.
ستالين «على استعداد لمناقشة أي شيء»
أمل تشرشل في بداية اجتماعه مع ستالين في مساء التاسع من أكتوبر في «أن يُوضِّحَا العديد من القضايا التي تَراسَلا بشأنها لوقت طويل.» وهو الأمر الذي ردَّ عليه ستالين بأنه على استعداد «لمناقشة أي شيء» ومن ثم، صرح تشرشل بعد الانتقال من مناقشة الشأن البولندي الذي سيطرَتْ تبعاتُه في نهاية المطاف على وقائع المؤتمر حتى مغادرة الوفد البريطاني في ١٨ أكتوبر بأن «بريطانيا يجب أن تكون القوة الرائدة في البحر المتوسط … وآمل أن يسمح له المارشال ستالين بأن يكون صاحب الكلمة الأولى في اليونان، كما سيسمح هو للمارشال ستالين أن يكون صاحب الكلمة الأولى في رومانيا.» الأمر الذي وافق عليه ستالين من دون الإشارة نهائيًّا إلى اتفاقية مايو، موضحًا أنه «إذا كانت بريطانيا مهتمة بمنطقة البحر المتوسط، فإن روسيا مهتمة بالقدر نفسه بمنطقة البحر الأسود.» وإضافة إلى ذلك، اتفق الطرفان على أن تتشارك القوتان في مصالح متساوية في كلٍّ من المجر ويوغوسلافيا.غير أن بلغاريا كانت النقطة التي مثَّلَتْ مسألة الخلاف الرئيسية لبريطانيا بما شكَّلَتْه من تهديد لوضع بريطانيا في اليونان؛ إذ كما ورد في سجلات وقائع الاجتماع: «أوضح رئيس الوزراء أن المصالح البريطانية فيما يخص بلغاريا أكبر منها في رومانيا» التي تمتعت فيها بريطانيا بنفوذ صوري بإقرار الجميع على مفوضية الحلفاء الخاضعة لهيمنة الاتحاد السوفييتي. فكان رد ستالين - الذي أشار إلى أن تشرشل يطالب بحقوق أكثر مما يجب لبريطانيا في المنطقة - أن بلغاريا في نهاية المطاف بلد يقع في نطاق منطقة البحر الأسود؛ ومن ثَمَّ يدخل في نطاق اهتمام روسيا، وسأل ستالين: «هل تتهيب بريطانيا شيئًا؟» فأجاب إيدن - الذي كان قد لزم الصمت حتى الآن - في حسم: «بريطانيا لا تخشى شيئًا.» وذكَّر القائد السوفييتي كذلك بأن «بريطانيا تخوض حربًا مع بلغاريا منذ ثلاث سنوات (بعكس حالة الحرب الحديثة بين الاتحاد السوفييتي وبلغاريا)، وبأنها تنشد حصة صغيرة تسيطر عليها في تلك الدولة.» وفي نهاية المطاف، توصَّل إيدن ومولوتوف في محادثاتهما على مدار اليومين التاليين إلى تسوية بشأن الهدنة البلغارية، وتغيير حصة سيطرة الاتحاد السوفييتي في المجر (٨٠٪ للاتحاد السوفييتي نظير ٢٠٪ لبريطانيا)؛ وبذلك أُبرِمَتْ على نحوٍ ما صفقة حول توزيع المسئوليات البريطانية والسوفييتية في منطقة البلقان. أما ما عَنَتْه بالضبط هذه الصفقة؛ فكان بالطبع شيئًا آخر.
إلا أنه على صعيد آخر من التحليل، من المثير للاهتمام أن ننوِّه إلى تأثير الرئيس الأمريكي الغائب على مناورات المشاركين بها. فرأى تشرشل - الذي كانت تجربته الأخيرة مع الأمريكيين حيَّة في ذهنه - أنه فيما يتعلق بصياغة توزيع المسئوليات، أنه «من الأفضل التعبير عنها بصيغة دبلوماسية واستخدام مفردات أقل حدة»، وعدم استخدام عبارة «تقسيم إلى مناطق نفوذ؛ لأنها قد تصدم الأمريكيين.» لكن «ما دام هو والمارشال ستالين يفهم كلاهما الآخر، فيمكنه شرح الأمور للرئيس الأمريكي» في الوقت والمكان الذي يختاره رئيس الوزراء بلا شك.
قاطع ستالين ضيفه تشرشل عند هذه النقطة «ليوضِّح أنه تسلَّم هو أيضًا رسالة من الرئيس روزفلت» تُوضِّح رغبة روزفلت في حضور السفير الأمريكي للمباحثات كمراقب لها، وطالبًا منهما النظر إلى المباحثات نفسها على أنها مباحثات ذات طبيعة تمهيدية. فأخبر تشرشل ستالين - خشية أن يتولد لدى الأخير انطباع خاطئ - بأنه يوافق بالطبع على رغبات الرئيس الأمريكي روزفلت، مُنوِّهًا إلى أنه والرئيس الأمريكي لا يُخفِيان أسرارًا، غير أنه رأى أن وجود هاريمان الذي سيكون مُرحَّبًا به «في الكثير من محادثاتهما» يجب ألا يعوق محادثاته الثنائية الخاصة مع ستالين، كتلك المحادثات الجارية في هذه اللحظة على الأرجح. وعلى الجانب الآخر، أقرَّ ستالين بأن رسالة روزفلت لم ترُقه؛ إذ «بدا أنها تطالب بالكثير من الحقوق للولايات المتحدة، ولا تترك إلا القليل للاتحاد السوفييتي وبريطانيا العظمى اللذين تربط بينهما رغم كل شيء اتفاقيةُ تعاون مشترك.» في واقع الأمر - وكما كان ستالين يعي بكل تأكيد - لم تطالب رسالة الرئيس الأمريكي بشيء مما قاله، هذا إن طالبت بأي شيء على الإطلاق، بل إنه بمجرد أخذ حساسية الوضع الانتخابي للرئيس الأمريكي في الاعتبار يتبيَّن أن رسالته أقرب إلى رؤية جون لوكاتش عن «عدم اكتراث أمريكا تمامًا» بالمنطقة.
مع اقتراب نهاية المحادثات، طرح تشرشل نقطتين أخيرتين ليدرسهما قطعًا المارشال ستالين؛ أولًا: رأى، فيما يخص احتلال قوات الحلفاء المقترح لألمانيا، أنه من المستبعد استمرار بقاء القوات الأمريكية في ألمانيا، ومن ثَمَّ في أوروبا «لوقت طويل»؛ مما يعني أنه سيتحتم حسم المشكلات الأوروبية بتسوية بين بريطانيا والاتحاد السوفييتي. ثانيًا: ودون أدنى نوع من الكياسة هذه المرة، أراد تشرشل نفسه أن يُعرِّف ستالين «أن بريطانيا لديها كتائب محاربة ضد ألمانيا في كلٍّ من فرنسا وإيطاليا تضاهي الكتائب العسكرية الأمريكية حجمًا، كما أن الفرق البريطانية المشاركة في قتال اليابان تضاهي في عددها تلك الخاصة بالولايات المتحدة.» على حد ما ورد في التعقيبات الختامية لسجل الاجتماع. ويبدو أن تشرشل كان حريصًا على التوكيد لمضيفه ستالين أن بريطانيا تتمتع بما يؤهلها للحديث عن حل للمشكلات الأوروبية بقدر ما لدى الولايات المتحدة الأمريكية التي لا يُتوقَّع بقاء قواتها بأوروبا بأي حال من الأحوال.
الإنجازات
ما الذي أمل تشرشل في تحقيقه بالضبط من اتفاقية المحاصصة بين بريطانيا والاتحاد السوفييتي في منطقة البلقان على ما بها من نواقص؟ من المؤسف أنه لا يوجد جواب قاطع لهذا السؤال، رغم أن السجل الوثائقي للاتفاقية يُلمح بالكثير من الأسباب. ففي بيان رسمي مشترك وجَّهه تشرشل وستالين إلى روزفلت عن اجتماعهما الأول، أبلغا الرئيس الأمريكي، وفقًا لما قاله هاريمان بأن «علينا أن ندرس أفضل الطرق للتوصل إلى سياسة نتفق عليها حيال دول منطقة البلقان بما فيها المجر وتركيا.» وحذفا على ما يبدو العبارة الختامية التي قالا فيها: «مع أخذ مسئولياتنا المتفاوتة حيال هذه الدول في الاعتبار.» لكن هل كانت توجد حقًّا سياسة متفق عليها؟ اقترب تشرشل من تبيان الحقيقة في خطاب لم يُرسَل إلى ستالين بتاريخ ١١ أكتوبر، وذلك عندما نوَّه إلى أن «حصص السيطرة التي حددتها ليست إلا وسيلة نرى بها في أذهاننا مدى تقارب وجهات نظرنا، ومن ثم نُحدِّد الخطوات الضرورية للتوصل إلى اتفاق تام.» ورغم أن هذه الحصص «لا يمكن أن تكون الأساس لأي وثيقة معلنة - ليس في الوقت الراهن بالطبع - فقد تكون بمنزلة دليل إرشادي جيد نعمل من خلاله على تسيير شئوننا.»بعد هذا الخطاب بيوم؛ أي في ١٢ أكتوبر، كتب تشرشل إلى زملائه في لندن شارحًا منظوره عن المحاصصة تلك: لا يُقصَد من نظام الحصص هذا تحديد عدد أعضاء مفوضيات سيطرة الحلفاء لدول البلقان المختلفة، وإنما التعبير عن الاهتمامات والتوجهات التي تتناول من منطلقها الحكومتان البريطانية والسوفييتية مشكلات هذه البلدان؛ لتتكشف رؤية كلٍّ منهما للأخرى على نحو يمكن فهمه.
والأهم من ذلك، أضاف تشرشل: لا تهدف اتفاقية المحاصصة إلا إلى أن تكون دليلًا إرشاديًّا، وهي بالطبع غير ملزمة للولايات المتحدة الأمريكية بأي نحو، ولا تؤسس لنظام ثابت لمناطق نفوذ، غير أنها قد تساعد الولايات المتحدة على تحديد موقف حليفيها الرئيسيين من هذه المناطق عند استعراض صورة الموقف ككل.
وقد أعاد إيدن على وكيل وزارة الخارجية البريطانية السير أورم سارجنت نفس الصورة:يجب ألا ينصبَّ الكثير من الاهتمام على هذه الحصص التي لا تحمل إلا طبيعة رمزية، ولا توجد صلة محددة بينها وبين عدد البريطانيين والسوفييت الذين سيُعيَّنون في «مفوضيات سيطرة الحلفاء».
غير أن تشرشل طرح على الأمريكيين صورة مختلفة تمامًا - إلا أنها تتسم بالجرأة والثقة - عن مباحثات البلقان، وهي الصورة التي لم يكن الأمريكيون على دراية بها حتى هذه المرحلة.
في برقية أرسلها تشرشل إلى هاري هوبكنز في ١١ أكتوبر قال: إن «أجواء الود تعم كل شيء هنا، غير أن مسألة البلقان متشابكة بصورة مؤسفة.» وفي الواقع، استطرد مبررًا إقصاء السفير الأمريكي المستمر عن وقائع مباحثات البلقان: «لدينا في الوقت الحالي الكثير من الاختلافات وأوجه عدم الاتفاق حول منطقة البلقان، ومن ثم نفضل أن نواصل المباحثات بصورة ثنائية؛ حتى يتسنى لنا التباحث بصراحة أكبر عما ستتيحه لنا الاجتماعات الأوسع نطاقًا.» وأوضح تشرشل في اليوم نفسه للرئيس الأمريكي روزفلت أنه: من الضروري حتمًا أن نحاول الوصول إلى اتفاق حول منطقة البلقان لمنع اندلاع حرب أهلية في العديد من الدول؛ حيث يُرجَّح أن كلينا سيدعم طرفًا، بينما يدعم العم جو (ستالين) الطرف الآخر. وسأبقيك على اطِّلاع بكل شيء، ولن يتم اتخاذ أي خطوات سوى اتفاقات تمهيدية بين بريطانيا وروسيا ستخضع للمزيد من النقاش والمباحثات معك، وأنا واثق من أنك لن تمانع على هذا الأساس أن نسعى للتوصل إلى اتفاق تام مع الروسيين.
ثم أبلغ تشرشل الرئيس روزفلت بعد أسبوع من ذلك، عشية مغادرته لموسكو، وهو ما يزال مصرًّا على عدم البوح إلا بما هو ذو ضرورة قصوى، بأنه «واثق من أن الاتفاقيات التي اتُّخِذَتْ بشأن منطقة البلقان هي أفضل الخيارات الممكنة.» وتابع كلامه قائلًا على وجه التحديد: صار بإمكاننا الآن - إلى جانب تحركاتنا العسكرية الناجحة مؤخرًا - إنقاذ اليونان، ولا شك لديَّ بأن الاتفاق على انتهاج سياسة سيطرة بالمناصفة في يوغوسلافيا سيكون أمثل الحلول للصعوبات التي نواجهها جرَّاء تصرفات جوزيف بروز تيتو والتغيرات التي يشهدها الموقف المحلي الناجمة عن وصول القوات الروسية والبلغارية تحت إمرة القيادة الروسية لتقديم المساعدة للجناح الشرقي لتيتو. ويصر الروسيون على سيطرتهم في رومانيا وبلغاريا ودول البحر الأسود.
أما السوفييت، فكان ما لديهم ليقولوه أقل بطبيعة الحال.
كتب ستالين في برقية إلى الرئيس روزفلت في ١٩ أكتوبر: «تبادلنا الآراء أثناء إقامة السيد تشرشل والسيد إيدن في موسكو حول عدد من الموضوعات ذات الاهتمام المشترك.» وحيث إن القائد السوفييتي كان على دراية أكيدة بأن السفير هاريمان وتشرشل قد أبلغا الرئيس الأمريكي بتقديراتهما لأهم نقاط المباحثات في موسكو، فقد سعى ستالين بدوره إلى إبلاغ الرئيس الأمريكي بتقديراته الشخصية، فأشار باختصار: «أرى من جانبي أنه يمكن القول بأن مباحثاتنا كانت شديدة الفائدة في تأكيد وجهات النظر المتبادلة حول موضوعات مثل موقف الطرفين تجاه … السياسة اللازم اتباعها حيال دول البلقان، وذلك ضمن أمور أخرى.» وأضاف ستالين: أوضحنا أثناء المباحثات أننا قادرون على تعديل سياساتنا في جميع القضايا التي تواجهنا من دون أن نجد صعوبات كبيرة في ذلك، وإذا كنا لسنا في موقف يسمح إلى الآن باتخاذ القرارات الفورية اللازمة لهذه المهمة أو تلك … فقد تفتحت المزيد من الآفاق المشرقة. آمل أن تفيد مباحثات موسكو على نحو ما في تمكيننا من اتخاذ قرارات حاسمة في جميع القضايا المُلِحَّة ذات الاهتمام المشترك خلال اجتماع ثلاثتنا مستقبلًا.
وعلى عكس ما بدا من سهولة فهم العلامة التي وضعها ستالين بقلمه الرصاص الأزرق على نصف الورقة التي كتبها تشرشل، بدا أنه من الصعب التوصل على نحو أكيد إلى ما أمَّلَت الحكومة الروسية في تحقيقه من اتفاقية المحاصصة في منطقة البلقان.
لعل ستالين عُنِيَ أكثر من أي شيء آخر - على غرار ما كان من روزفلت - بالحفاظ على خياراته في منطقة البلقان مفتوحةً إلى أن يهدأ على الأقل غبار الحرب الذي أثاره الجيش الأحمر. وبشيء يزيد قليلًا عن السخرية قدمت إحدى روايات التاريخ السوفييتي للحرب العالمية الثانية تقديرًا يقول بأنه باستثناء اليونان «فإن هجوم الجيش الروسي الأحمر الناجح بالجبهة الجنوبية الغربية لمنطقة البلقان قضى في نهاية المطاف على مخططات دوائر المحافظين المتشددين البريطانيين لاستباق وجود الاتحاد السوفييتي العسكري في منطقة البلقان.» ومن ثم، قد يبدو تمسك ستالين باتفاقية المحاصصة في منطقة البلقان مجرد جانب من محاولة مدروسة لشراء الوقت من أجل القضاء - في نهاية المطاف - على «مخططات دوائر المحافظين المتشددين البريطانيين لاستباق وجود الاتحاد السوفييتي العسكري في منطقة البلقان.» ومَنْ بإمكانه أن ينكر أن المارشال ستالين كان خبيرًا في شراء الوقت؟
بعد أن علم الرئيس الأمريكي تدريجيًّا بمقصد اتفاقية المحاصصة، وهو الذي لم يكن واثقًا بأي حال من معناها الحقيقي تمامًا كطرفَيْها الرئيسيين، آثر روزفلت الرد على الرسالة المشتركة الهامة التي وجهها له شريكاه في التحالف الكبير في ١٠ أكتوبر بلهجة اتَّسمت باللين، فجاء رده في ١٢ أكتوبر كالتالي: «سررت سرورًا بالغًا بما حققتماه من اتفاق في الآراء حول السياسات الدولية التي ما تزال تثير اهتمامنا، انطلاقًا من جهودنا المشتركة حاليًّا ومستقبلًا لمنع اندلاع حروب عالمية.» وبما أن روزفلت كان سياسيًّا حتى النخاع، فقد وعى تمامًا أنه من المستحيل تقريبًا إيجاد حلول سهلة للعديد من المشكلات الأوروبية. لذا، لا عجب مطلقًا في أنه أراد أن ينأى بنفسه قدر الإمكان عن هذه المشكلات، فيما عدا تلك المتصلة بألمانيا. وبطرح الاعتبارات السياسية الداخلية جانبًا، يبدو أن روزفلت أفصح عن أفكاره في أوضح صورها عندما كتب إلى هاريمان في برقية بتاريخ ١١ أكتوبر: «إن شغلي الشاغل في الوقت الراهن فيما يتعلق بمنطقة البلقان هو ضرورة اتخاذ الإجراءات العملية وفق مقتضى الحال؛ لنضمن ألا تستدرجنا منطقة البلقان إلى حرب عالمية مستقبلًا.» غير أن الضرورة دَعَتْ إلى إرجاء هذه الإجراءات العملية التي انتوى روزفلت اتخاذها إلى ما بعد انتخابات نوفمبر. وفي الوقت نفسه، جاء رد وزارة الخارجية الأمريكية على إحياء موسكو لسياسة مناطق النفوذ متمثلًا في برنامج خاص بها.
فأعلنت وزارة الخارجية الأمريكية، في مذكرة قدَّمها وكيل الوزارة إدوارد ستيتينوس إلى فرانكلين دي روزفلت، في ٨ نوفمبر، أنه: مع وعي الحكومة الأمريكية التام بالمشكلات القائمة بين بريطانيا العظمى والاتحاد السوفييتي؛ فإن هذه الحكومة لن تتخذ موقفًا يدعم أيًّا من الدولتين في مواجهة الأخرى، بل ينبغي على هذه الحكومة التوكيد على أن مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية المستقلة (والتي يُعتقَد أنها تصبُّ أيضًا في الصالح العام) تكمن في إبرام اتفاقيات عادلة لتحقيق الأمن والسلام العام، اللذين يقومان على أساس حسن الجوار بين الدولتين، ويجب ألا تتبنى هذه الحكومة موقفًا يقتضي منها ربط مصالحها في الوقت الحالي بمصالح الاتحاد السوفييتي أو بريطانيا العظمى على حدة.
وفقًا لهذا المنظور، وجب أن تحتكم السياسة الأمريكية في منطقة البلقان وفي مناطق أخرى إلى المبادئ العامة التالية: مبدأ تقرير المصير، وتكافؤ الفرص التجارية، وحرية تحرك الصحافة وحرية الأفكار، وحرية المنظمات الأمريكية الخيرية والتثقيفية في ممارسة أنشطتها على أساس الدولة الأولى بالرعاية، وحماية مواطني الولايات المتحدة بوجه عام، وحماية حقوقهم الاقتصادية المشروعة، وترك عقد التسويات الإقليمية لما بعد الحرب. غير أننا نجهل أثر مذكرة الخارجية الأمريكية تلك على تفكير الرئيس الأمريكي.
واقعية كينان
على الجهة الأخرى من أوساط وزارة الخارجية الأمريكية، برزت آراء جورج فروست كينان مستشار وزير الخارجية، الذي استطاع بالفعل في عام ١٩٤٥ بينما كان عمره ٤١ عامًا أن يكون أحد كبار أعضاء السلك الدبلوماسي الأمريكي الذين خدموا طويلًا في روسيا. كتب كينان لصديقه تشارلز بولن عشية مؤتمر يالطا: «أعي حقائق هذه الحرب، وأُدْرِك أننا لا نملك من القوة الكافية ما يُؤهِّلنا للفوز بالحرب وحدنا من دون مساعدة روسيا.» ثم تابع كلامه قائلًا: أدرك أن جهود روسيا في الحرب اتَّسمت بالبراعة والتأثير، ويجب - إلى حد ما - أن تجني ثمارها على حساب الشعوب الأخرى في وسط وشرق أوروبا. لكنني لا أرى، مع هذا كله، سببًا يدعونا إلى أن نربط أنفسنا بهذا البرنامج السياسي المناوئ بقوة لمصالح مجتمع دول الأطلنطي ككل، والذي يشكل خطرًا شديدًا على كل ما نحتاج إلى حمايته في أوروبا. فما الذي يمنعنا من عقد تسوية لائقة وحاسمة مع روسيا، وهو أن تُقسَّم أوروبا صراحة إلى مناطق نفوذ؛ فنبتعد نحن عن مناطق النفوذ الروسية، ونُبعِد روسيا عن مناطقنا؟!رأى كينان أن هذه السياسة هي «أنسب إجراء يمكننا اتخاذه خدمة لمصالحنا ولمصالح أصدقائنا في أوروبا، وهي أصدق أسلوب يمكننا أن نتعامل به مع الروس.» وتساءل كينان صاحب الدعوة إلى احتواء الاتحاد السوفييتي منفجرًا: «لكن ماذا فعلنا بدلًا من ذلك؟!» ثم استطرد قائلًا:رغم أنه كان من الواضح أن واقع ما بعد الحرب يتشكل أثناء الحرب، رفضنا باستمرار أن نوضح صراحةً مصالحنا وآمالنا في منطقة وسط وشرق أوروبا، ورفضنا وضع أي حدود للتوسع الروسي وتحديد المسئوليات الروسية؛ مما أربك الروس ودفعهم إلى التساؤل على الدوام عما إذا كانوا يطلبون القليل أم أننا ننصب لهم فخًّا ما. كما رفضنا مواجهة قضايا سياسية وأجبرنا آخرين على مواجهتها من دوننا، ولم نطرح برنامجًا إيجابيًّا بنَّاءً لمستقبل القارة الأوروبية، أو أيًّا ما من شأنه تحفيز أصدقائنا أو جذب الموالين للعدو إلى صفنا.
كان بولن يؤيد بعض آراء كينان، إلا أنه فَطِن سريعًا إلى أن السياسة الخارجية التي تحدَّث عنها الأخير غير قابلة للتطبيق في الديمقراطيات. وخلص بولن - مترجم روزفلت ومندوب وزارة الخارجية المعيَّن حديثًا لدى السلطة التنفيذية الأمريكية - إلى أن «الدول ذات الحكم الشمولي الديكتاتوري هي وحدها القادرة على وضع مثل هذه السياسات وتنفيذها، بالإضافة إلى أنني لا أصدق لوهلة أننا كنا في أي وقت خلال هذه الحرب قادرين حقًّا على القيام بخلاف ما قمنا به.» ومرة أخرى لا ندري على وجه التحديد أثر هذه الأفكار على تفكير الرئيس روزفلت.
لكن مما لا شك فيه أن قضية المحاصصة في منطقة البلقان لم تُثَر مجددًا في الاجتماع التالي للدول الثلاث الكبرى في مؤتمر يالطا في فبراير عام ١٩٤٥ أو في أي وقت آخر. وعلى الصعيد العسكري، كان الاتحاد السوفييتي قد عزز سيطرته على وسط وشرق أوروبا. وانصبَّ اهتمام قوات الحلفاء، وفي مقدمتها روزفلت، على صياغة إعلان تحرير أوروبا كأفضل الطرق لإدارة مستقبل الدول التي حررها الجيش الروسي الأحمر، وهو الأمر الذي حل محل اتفاقية أكتوبر بشأن المحاصصة، التي كان الأمريكيون على علم بخطوطها العريضة. وبوجه عام، أعلنت القوى العظمى الثلاث مجتمعةً: اتفاقها المتبادل على تنسيق سياسات حكوماتها الثلاث إبان فترة عدم الاستقرار المؤقتة؛ لمساعدة الشعوب المتحررة من هيمنة ألمانيا النازية وشعوب الدول التابعة لقوى المحور سابقًا، من أجل حل مشكلات هذه الشعوب السياسية والاقتصادية المُلِحَّة عبر سبل ديمقراطية.
غير أن قرار ستالين في مارس من ذاك العام بأن يرعى من جانب واحد حكومة أقلية في رومانيا، ناهيك عن الخلافات المستمرة التي نشأت حول تشكيل الحكومة البولندية، أوحيا لروزفلت ووزارة خارجيته بأن ما خطط له الكرملين هو ما أسماه ستالين ذات مرة «إعلانًا نظريًّا» لا «إعلانًا عمليًّا»، وقد كان ستالين يُفضِّل دومًا الإعلانات العملية. ولا شك أن هذا بدا لتشرشل النتاج الأول ﻟ «تدخل الولايات المتحدة المتحذلق» في الخطط التي كان يفضلها لتقسيم أوروبا، غير أن اتفاقيات تشرشل وستالين قد ساعدت على ما يبدو في استقرار مستقبل شرق أوروبا.
خاتمة
دعم تقدم الاتحاد السوفييتي إلى وسط أوروبا إبان صيف وخريف عام ١٩٤٤ الثورةَ التي دبَّتْ في ميزان القوى، والتي وقفت خلف المواجهة السوفييتية الألمانية الكبرى على الجبهة الشرقية من أوروبا، فكتب كينان في سبتمبر من موسكو أن مائتي مليون روسي «اتحدوا تحت قيادة موسكو القوية ثابتة العزم … لِيُشكِّلوا معًا قوةً واحدة أكبر من أي قوة أخرى ستبقى على ظهر القارة الأوروبية مع انتهاء هذه الحرب.» غير أن مواجهة أوروبا لأقوى ثورة في ميزان القوى بها منذ عهد نابليون بونابرت لم يُثِر قلق واشنطن على الإطلاق. وقد كان لها سبب وجيه في ذلك؛ إذ كانت القرارات العسكرية الأساسية التي قضت على توازن القوى التقليدي في أوروبا تُتخَذ في برلين لا في موسكو، فكان إشعال هتلر لحرب على جبهتين هو ما أطلق العنان للقوى التي باتت تحاصر الرايخ الثالث، وكان الهجوم النازي الوحشي على الاتحاد السوفييتي هو ما أذكى عزم الكرملين على منع تكرار هذه الكارثة. وهي غاية لم يعبأ الكثير من الأمريكيين بالجدال حولها.توسعت طموحات موسكو في أوروبا الشرقية ومنطقة البلقان تجاوبًا مع الفرص التي تدفقت مع توغل جيوش الاتحاد السوفييتي في أوروبا؛ فسعى الكرملين بالأساس، بعد عام ١٩٤١، إلى الحصول على اعتراف الغرب بالأراضي التي استولت عليها روسيا بموجب معاهدة عدم الاعتداء النازية السوفييتية، وهي أراضٍ استندت روسيا في المطالبة بها إلى بعض المزاعم العرقية أو التاريخية. وبحلول عام ١٩٤٤، وفي ظل غياب الاتفاقيات المقيدة أو القوى المناظرة تمتع الاتحاد السوفييتي بِحُريَّة التصرف وفق مصالحه المتنامية وميوله الأيديولوجية. فكانت آليات تغيير وجه أوروبا - لا المخططات التوسعية - هي ما حددت مجريات الأحداث، وكان اعتماد الغرب الضروري على الاتحاد السوفييتي لإنقاذه من ألمانيا يحمل في طياته ضريبة باهظة. ولا شك أن فرانكلين دي روزفلت وتشرشل قد وعيا أن انتصارات السوفييت اللازمة ستقترن بثمن، ومن ثم لم يحتجَّا على سياسة ضم الأراضي التي اتبعها الاتحاد السوفييتي في ظل اتفاقية عدم الاعتداء النازية السوفييتية، ولم يعارض روزفلت جديًّا الدبلوماسية الخاصة التي اتبعها تشرشل وستالين لتقسيم أوروبا إلى مناطق نفوذ.
المصدر :
راسخون 2017