مدارس الفقه الشيعي

مدارس الفقه عند الشيعة لها تاريخ طويل ، كما يكون ذلك لأيةِ ظاهرة اجتماعية أخرى ، وكما يكون ذلك لأيّ كائن حيّ.
Thursday, November 16, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
مدارس الفقه الشيعي
 مدارس الفقه الشيعي



 

مدارس الفقه عند الشيعة لها تاريخ طويل ، كما يكون ذلك لأيةِ ظاهرة اجتماعية أخرى ، وكما يكون ذلك لأيّ كائن حيّ.
ولدراسة تاريخ (تطور الدراسة الفقهية لدى الشيعة) يجب أن نضم حلقات هذا التطور بعضها إلى بعض ، ونربط الظاهرة الفقهية بالظواهر المحيطية الأخرى التي تتصل بها ، والتي تتفاعل معها على امتداد التاريخ.
وعلى هذا الأساس نستطيع أن نصنّف (عصور الفقه الشيعي) على امتداد العصور المتعاقبة ، ضمن المدارس الآتية :
١ ـ مدرسة المدينة المنورة : واستمرت إلى أواسط القرن الثاني (حياة الإمام الصادق عليه‌السلام).
٢ ـ مدرسة الكوفة : ظهرت من أواسط القرن الثاني (حياة الإمام الصادق عليه‌السلام) واستمرت إلى الربع الأول من القرن الرابع (الغيبة الكبرى).
٣ ـ مدرسة قم والري : ظهرت في الربع الأول من القرن الرابع واستمرت إلى النصف الأول من القرن الخامس (أيام المرتضى والطوسي).
٤ ـ مدرسة بغداد : ظهرت من النصف الأول للقرن الخامس إلى احتلال بغداد (أي احتلال بغداد وسقوطها على يد السفاك الوحشي هولاكو).
٥ ـ مدرسة النجف الأشرف : أُسست هذه المدرسة عند ما انتقل الشيخ الطوسي إلى النجف (سنة / ٤٤٨ هـ) بعد وقوع الفتن التي أثارها الحنابلة ببغداد.
والنجف الأشرف أعظم جامعة دينية علمية لمذهب الإمامية قديما وحديثا ، يقصدها رواد العلم وأبناؤه قبل أقاصي البلاد الإسلامية.
٦ ـ مدرسة حلب : كانت امتدادا لمدرسة بغداد.
٧ ـ مدرسة الحلة : ظهرت قبل احتلال بغداد ، واستمرت إلى حياة (الشهيد الثاني).
٨ ـ مدرسة النجف ثانيا : أُسست هذه المدرسة عندما حلَّ فيها مجدد المذهب في القرن الثالث عشر الاستاذ الوحيد البهبهاني.

١ ـ مدرسة المدينة المنورة :

كانت المدينة المنورة الوطن الأول (لفقهاء الشيعة) من الصحابة والتابعين لهم باحسان ، فكان من فقهاء الصحابة بعد الإمام أمير المؤمنين ، والزهراء ، والحسنين عليهم الصلاة والسلام ، وهم الذين تولى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله تربيتهم وتعليمهم : ابن عباس ، حَبر الأمة وفقيهها ، وسلمان الفارسي ، وأبوذر الغفاري وأبو رافع إبراهيم مولى رسول اللّه.
قال النجاشي : «أسلم أبو رافع قديما بمكة وهاجر إلى المدينة وشهد مع النبي مشاهده ، ولزم أمير المؤمنين عليه‌السلام من بعده ، وكان من خيار الشيعة ، ولأبي رافع (كتاب السنن والأحكام والقضايا» (١).
وكان من التابعين جمعٌ كثير من شيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام حفظوا السنّة النبوية ، وتداولوها فيما بينهم ، ونقلوها إلى الأجيال التي تليهم بأمانة ، حتى قال الذهبي في ميزان الاعتدال : «فهذا ـ أي التشيع ـ كثر في التابعين وتابعيهم ، مع الدين والورع والصدق ، فلو رُدّ حديث هؤلاء ـ أي الشيعة ـ لذهبت جملة الآثار النبوية» (2).
ولما كان عمر بن الخطاب قد منع من تدوين السنّة النبوية واستمر المنع بعده حتى خلافة عمر بن عبد العزيز ، لذا لم يتفق لمحدثي غير الشيعة من الصحابة والتابعين تدوين السنة النبوية قبل هذا الوقت. ولكن فقهاء الشيعة ـ فيما يحدثنا التاريخ ـ دوّنوا عدة مدونات حديثية مهمة ، حتى في تلك الحقبة ، إذ كان أمير المؤمنين عليه‌السلام أول من صنف في الفقه ، ودوّن الحديث النبوي ، ولم يوافق عمر بن الخطاب على رأيه.
قال السيوطي : كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم ، فكرهها كثير منهم ، وأباحتها طائفة وفعلوها :
منهم : علي وابنه الحسن (3).
فكتب (الجامعة) وهي من إملاء رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وخط علي عليه‌السلام ، وكانت من جلد يبلغ سبعين ذراعا ، وقد تواتر نقله في أحاديث الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام (4).
(كتاب علي) :
وهو مما أملاه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على الإمام عليه‌السلام وكتبه الإمام بخطه الشريف.
وقد ذكر باسم (كتاب علي) في عدة من كتب الحديث وكتب الفقه ، وعنونه الشيخ الطهراني بـ (أمالي سيدنا ونبينا أبي القاسم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ) (5).
وهو ـ كما جاء في وصفه ـ من نوع الكتب المدرجة التي تطوى وتلف ، وإذا أريد قراءتها تفتح ثم تقرأ.
وقد ذكر رجوع الأئمة من أبناء علي عليه‌السلام إليه والنقل عنه أكثر من كتاب ، ومن هذا :
ـ ما رواه أبو العباس النجاشي المتوفى سنة ٤٥٠ هـ : أخبرنا محمد بن جعفر ، قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد ، عن محمد بن أحمد بن الحسن ، عن عباد بن ثابت ، عن أبي مريم عبد الغفار بن القاسم ، عن عذافر الصيرفي ، قال : كنت مع الحكم بن عتيبة ، عند أبي جعفر عليه‌السلام ، فجعل يسأله ، وكان أبو جعفر عليه‌السلام له مكرما ، فاختلفا في شيء ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : يا بني قم فأخرج كتاب علي عليه‌السلام ، فأخرج كتابا مدروجا عظيما ، ففتحه وجعل ينظر ، حتى اخرج المسألة ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : هذا خط علي عليه‌السلام وإملاء رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأقبل على الحكم ، وقال : يا أبا محمد اذهب أنت وسلمة وأبو المقدام حيث شئتم يمينا وشمالاً ، فواللّه لاتجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرائيل عليه‌السلام » (6).
القطعة التي أوردها الشيخ أبوجعفر بن بابويه الصدوق في المجلس السادس والستين من كتاب أماليه ، وهي مشتملة على كثير من الآداب والسنن وأحكام الحلال والحرام ، يقرب من ثلاثمائة بيت ، رواها بإسناده إلى الإمام الصادق عليه‌السلام بروايته عن آبائه الكرام.
وقال الصادق عليه‌السلام في آخره : إنه جمعه من الكتاب الذي هو إملاء رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وخط علي بن أبي طالب عليه‌السلام (7).وغيرها كثير (8).
والرواية التالية التي ينقلها السيد الأمين في (أعيان الشيعة) عن كتاب (بصائر الدرجات) تبين لنا محتوى (كتاب علي) :
عن جعفر الصادق ، عن أبيه عليهما‌السلام قال : «في كتاب علي كل شيء يحتاج إليه حتى أرش الخدش» (9).
(صحيفة علي) أو (الجامعة) :
هي أيضا من الكتب المدرجة ـ كما جاء في وصفها ـ ومدونة على جلد طوله سبعون ذراعا ، وحجمه ملفوفا حجم فخذ الجمل العظيم.
وصفها الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام بأنّها : «صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإملائه من فَلْقِ فيه (10) ، وخط علي عليه‌السلام بيمينه ، فيها كل حلال وحرام ، وكل شيء يحتاج إليه الناس حتى الإرش في الخدش» (11).
وهي أول كتاب جمع فيه العلم على عهد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله .
وتكرر ذكرها في أخبار الأئمة عموما ، وأخبار المواريث خصوصا.
وكانت عند الإمام أبي جعفر محمد الباقر وابنه الإمام أبي عبداللّه جعفر الصادق عليهما‌السلام ، ورآها عندهما ثقات أصحابهما ، وتوارثها الأئمة من بعدهما.
فممن رأى الجامعة عند الإمام الباقر عليه‌السلام : أبو بصير (12) وعبدالملك بن أعين ومحمد بن مسلم وعذافر الصيرفي (13) ، وآخرون.
ونقل عنها غير واحد من علماء أهل السنّة أمثال :
ـ ابن سعد في آخر كتابه (الجامع).
ـ البخاري ، ذكرها في ثمانية مواضع من (الصحيح) (14) ، وذكرها أحمد في المسند في عشرة مواضع (15).
الدكتور رفعت فوزي عبد المطلب ، جمع ما نقل عنها في كتب الحديث السنية ، ودرسه دراسة توثيقية فقهية ضمن كتاب مستقل عنونه بـ (صحيفة علي ابن أبي طالب عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : دراسة توثيقية فقهية). وطبع أول مرة سنة ١٤٠٦ه ـ ١٩٨٦ م.
وكان لسلمان مدونا في الحديث ، وهو المعروف بـ «حديث الجاثليق» الذي أورد أسئلة الجاثليق وردود الإمام علي عليها في مجلس أبي بكر (16).
وعلي بن أبي رافع مولى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان من (فقهاء الشيعة) وخواص أمير المؤمنين ، وكان كاتبا له ، وحفط كثيرا ، وجمع كتابا في فنون الفقه كالوضوء والصلاة ، وسائر الأبواب وكانوا يعظمون هذا الكتاب (17).
وفي كتاب الكافي عن يحيى بن جرير قال : (أبو عبداللّه الصادق عليه‌السلام) :
كان سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد بن أبيبكر ، وأبو خالد الكابلي من ثِقات (علي بن الحسين عليهما‌السلام) (18) وكانوا من أئمة الحديث والفقه في المدينة.
والإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام ، له من الآثار الخاصة ما بقي محفوظا بعده ، فعد من أهم وأغنى آثار القرن الأوّل الهجري على الاطلاق ، وهو ما دونه عنه تلاميذه في ما هو معروف بـ «الصحيفة السجادية» و «رسالة الحقوق» ، وهما عملان خالدان ينبغي اعطاء صورة موجزة عنهما :
١ ـ الصحيفة السجادية :
وتعرف بـ (الصحيفة السجادية) و (الصحيفة الأولى). وتحتوي أربعة وخمسين دعاء في موضوعات شتى.
يقول الطهراني : وللأصحاب اهتمام بروايتها ويخصونها بالذكر في إجازاتهم.
وهي من المتواترات عند الأصحاب لاختصاصها بالإجازة والرواية في كل طبقة وعصر.
ينتهي سند روايتها إلى الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام وزيد الشهيد رضي‌الله‌عنه ابني علي بن الحسين عليه‌السلام عن أبيهما علي بن الحسين عليهما‌السلام (19).
واستنسخ منها نسخ لاتعد ولا تحصى بالخطوط الجميلة النادرة المثيل ، والمزينة بجداول الذهب على ورق الترمة وما ضاهاه (20).
طبعت كثيرا على الحجر وعلى الحروف ، وترجمت إلى غير اللغة العربية كالإنجليزية ، وشرحت بأكثر من شرح ، ذكر منها الشيخ الطهراني في كتابه أكثر من ستين شرحا (21).
٢ ـ رسالة الحقوق :
رواها عنه عليه‌السلام تلميذه أبو حمزة الثمالي ثابت بن أبي صفية دينار الكوفي المتوفى سنة ١٥٠ هـ.
قال أبو العباس النجاشي في ترجمة الثمالي : «وله : رسالة الحقوق عن علي بن الحسين عليه‌السلام ».
ثم ذكر سنده إليه بقوله : «أخبرنا أحمد بن علي ، قال : حدّثنا الحسن بن حمزة ، قال : حدّثنا علي بن إبرهيم عن أبيه عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة عن علي بن الحسين عليه‌السلام » (22).
وقال السيد الأمين : «أوردها الصدوق في (الخصال) بسند معتبر ، وأوردها الحسن بن علي بن شعبة الحلبي في (تحف العقول) ، وبينهما تفاوت في الزيادة والنقصان وغيرهما ، ورواية تحف العقول أطول ، وقد تزيد عنها رواية الخصال» (23).
ثم أورد الرسالة كاملة في المصدر المذكور برواية تحف العقول.
وتشتمل الرسالة على خمسين حقا ، أولها حق اللّه وآخرها حق أهل الذمة.
وطبعت مستقلة ببغداد سنة ١٩٥٠ م بتحقيق عبد الهادي المختار.
وللخطيب السيد حسن القبانجي شرح لها بعنوان (شرح رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين زين العابدين).
ومن كل ما تقدم نستطيع أن نلخص أهم أحداث هذا العهد بالتالي :
١ ـ تشديد الخناق على مدرسة أهل البيت من قبل معاوية ويزيد وآلهما لئلا تنشر شيئا من فكرها.
٢ ـ سلوك الإمام الحسين عليه‌السلام وسيلة التضحية لإيقاف الانحراف الواسع الذي أحدثه الأمويون في ميادين الدين والادارة ، بتعددها.
٣ ـ توالي الثورات بعد ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام حتى الإطاحة بعرش أمية.
٤ ـ حفاظ الإمام زين العابدين عليه‌السلام على مسيرة تلك المدرسة رغم ما لحق بها على أيدي السلطة الأموية الغاشمة ، ممّا مهّد بجهاده الفكري الطريق للانفتاح في عطاء ولده الإمام الباقر عليه‌السلام من بعده.
ومهما يكن من أمر فقد كان (فقهاء الشيعة) وعلى رأسهم أئمة المسلمين من (أهل البيت) صلوات اللّه عليهم يقودون الحركة الفكرية في العالم الإسلامي ، وتنطلق هذه الحركة من المدينة المنورة بشكل خاص.
وبلغ هذا الإزدهار الفكري غايته في عهد (الإمام الصادق عليه‌السلام) ، حيث ازدهرت المدينة المنورة في عصره ، وزخرت بطلاب العلوم ووفود الأقطار الإسلامية ، وانتظمت فيها حلقات الدرس وكان بيته جامعة إسلامية يزدحم فيه رجال العلم ، وحملة الحديث من مختلف الطبقات ، ينتهلون موارد علمه.
قال ابن حجر : نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته في جميع البلدان ، وروى عنه الأئمة الأكابر كيحيى بن سعيد وابن جريح ، ومالك والسفيانيين ، وأبي حنيفة وشعبة وايوب السختياني (24).
إذن كانت (المدينة المنورة) في عهد (الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام)
(مدرسة للفقه الشيعي) ، ومركزا كبيرا من مراكز الاشعاع العقلي في العالم الإسلامي.
ويطول بنا الحديث لو أردنا أن نحصي عدد الفقهاء الشيعة في هذه الفترة ، وما تركوا من آثار ، ويكفي الباحث أن يرجع إلى كتب (أعيان الشيعة) ، و (رجال النجاشي) ، و (الكشي) ، و (تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام) ليعرف مدى الأثر الذي تركه فقهاء الشعية في هذه الفترة التي تكاد تبلغ قرنا ونصف القرن من تاريخ الإسلام في الدراسه الفقهية ، والمحافظة على السنّة النبوية.
٢ ـ مدرسة الكوفة
في أخريات حياة الإمام الصادق عليه‌السلام انتقلت مدرسه الفقه الشيعي من (المدينة) إلى (الكوفة) ، وبذلك بدأت حياة فقهية جديدة في الكوفة.
وكانت الكوفة حين ذلك مركزا صناعيا وفكريا كبيرا ، تقصده البعثات العلمية والتجارية.
وقد أثر وفود العناصر المختلفة إلى الكوفة ، طلبا للعلم أو التجارة ، في التلاقح العقلي والذهني في هذه المدرسة ، كما كان لها الأثر البالغ في تطوير الدراسات العقلية فيها.
وقد هاجر إليها فوق ذلك وفود من الصحابة والتابعين والفقهاء وأعيان المسلمين ، من مختلف الأمصار ، وبذلك كانت (الكوفة) حين انتقل إليها الإمام الصادق عليه‌السلام وانتقلت إليها (مدرسة الفقه الشيعي) من أكبر العواصم الإسلامية.
وقد عدَّ البراقي في تاريخ الكوفة ١٤٨ صحابيا من الذين هاجروا إلى الكوفة واستقروا فيها ، ما عدا التابعين والفقهاء الذين انتقلوا إلى هذه المدينة ، والذين كان يبلغ عددهم الآلاف ، وما عدا الأسر العلمية التي كانت تسكن هذا القطر. وقد أورد ابن سعد في الطبقات ترجمة لـ (٨٥٠) تابعيا ممن سكن الكوفة (25).
في مثل هذا الوقت انتقل الإمام الصادق عليه‌السلام إلى الكوفة أيام (أبي العباس السفاح) واستمر بقاءه فيها مدة سنتين.
وقد اشتغل الإمام الصادق عليه‌السلام هذه الفترة بالخصوص في نشر علوم الشريعة.
قال الحسن بن علي بن زياد الوشاء لابن عيسى القمي : إني أدركت في هذا المسجد ، يعني مسجد الكوفة ، تسعمائة شيخٍ ، كل يقول : حدثني جعفر بن محمد عليهما‌السلام (26).
وكان من بين أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام من فقهاء الكوفة : أبان بن تغلب ابن رباح الكوفي ، نزيل كندة ، روى عنه عليه‌السلام (٣٠٠٠٠) حديثا.
ومنهم : محمد بن مسلم الكوفي ، روى عنه وعن أبيه الإمام الباقر عليهما‌السلام (٤٠٠٠٠) حديثا.
وقد صنف الحافظ أبو العباس بن عقدة الهمداني الكوفي ، المتوفى سنة ٣٣٣ هـ ، كتابا في أسماء الرجال الذين رووا الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام فذكر ترجمة (٤٠٠٠) رجل (27).
كل ذلك بالاضافة إلى البيوتات العلمية الكوفية التي عرفت بانتسابها إلى الإمام الصادق عليه‌السلام ، واشتهرت بالفقه والحديث ، كبيت (آل أعْيَن) ، وبيت (آل حَيَّان التغلبي) ، وبيت (بني عطِّية) وبيت (بني دراج) ، وبيت (آل نهيك) وغيرهما من البيوتات العلمية الكوفية التي عُرفت بالتشيع ، واشتهرت بالفقه والحديث (28).
وقد أدى كلُّ هذا إلى أن يأخذ (الجهاز العباسي) الحاكم حذره منه! فخشي (المنصور الدوانيقي) أن يفتتن به الناس (على حد تعبيره) لما رأى من إقبال الفقهاء والناس عامة عليه ، واحتفائهم به ، وإكرامهم له ، فطلبه إلى (بغداد) في قصة طويلة لايهمنا نقلها.
ومهما يكن من أمر فقد ازدهرت (مدرسة الكوفة) على يد الإمام الصادق عليه‌السلام وتلاميذه ، وبتأثير من الحركة العلمية القوية التي أوجدها الإمام الصادق عليه‌السلام في هذا الوسط الفكري.
ولم تبق الكوفة إلى حين (الغيبة الكبرى) مقاما للأئمة عليهم‌السلام ولم يتمركز فقهاء الشيعة كلهم بعد ذلك في الكوفة ، ولم تستمر طول هذه المدة المدرسة التي أنشأها الإمام الصادق في الكوفة ، إلاّ أن الكوفة كانت هي منطلق (الحركة العقلية) في (العصر الثاني) من عصور تاريخ (الفقه الشيعي) ومبعث هذه الحركة ، ومركز الاشعاع ، وظلت مع ذلك بعدُ من أهم مراكز (الفقه الشيعي).
ورغم العقبات الكبرى التي اصطدم بها (أئمة الشيعة) من أهل البيت عليهم‌السلام ، وفقهاء الشيعة ورواة الحديث من ضغط الجهاز الحاكم ، حتى كان بعضهم يُعرِض إذا رأى الإمام في الطريق ، لئلا يُتَّهم بالتشيع! وبعضهم يلتقي بالامام ليلاً ، خوفا من الرقابة المسلَّطة على بيوت (أئمة أهل البيت عليهم‌السلام).
رغم ذلك كله ، تقدمت الدراسة الفقهية الشيعية ، وتقدم تدوين الحديث شوطا كبيرا في هذه الفترة ، وتركت لنا هذا التراث التشريعي الضخم الذي تمتلئ به المكتبات ، وتحتفل به الدورات الضخمة ، كدورات (الجواهر) ، و (الحدائق) ، و (وسائل الشيعة) الكبيرة.
وصنف قدماء (الشيعة الاثني عشرية) المعاصرون للائمة في الاحاديث المروية من طرق أهل البيت ما يزيد على (ستة آلاف وستمائة كتاب) مذكورة في كتب الرجال ، على ما ضبطه (الشيخ محمد بن الحسن بن الحر العاملي) في آخر الفائدة الرابعة من الوسائل (29).
ومن بين هذا العدد من الكتب الذي يُعتبر وحده مكتبة ضخمة في الحديث والفقه والتفسير من آفاق الفكر الإسلامي امتازت أربعمائة كتاب اشتهرت بعد ذلك بـ : (الأصول الأربعمائة).
وقد بقي شيء كثير من هذه الأصول الأربعمائة ، فكان شيء كثير منها محفوظا عند الشيخ الحر العاملي ، وبعضها عند العلامة المجلسي ، وبعضها عند العلامة النوري ، وفقد مع ذلك أكثرها (30).
ومهما يكن من أمر فقد توسعت في هذه الفترة رواية الحديث وتدوينه وازدهرت بما لا مثيل له في أيّ عصر آخر ، وفي أيّ مذهب من المذاهب الاسلامية عامة :
فلهشام الكلبي : أكثر من مائتي كتاب.
ولابن شاذان : مائة وثمانون كتابا.
ولابن دؤل : مائة كتاب.
ولابن أبي عمير : أربعة وتسعون كتابا (31).
ولم تزدهر (المدرسة الحديثة) في مذهب من المذاهب الإسلامية كما ازدهرت عند (الشيعة) ، حتى رأينا الذهبي يقول : لو رُدّ حديث هؤلاء لذهبت جملة الآثار النبوية (32).
المصادر :
1- رجال النجاشي : ٤.
2- ميزان الاعتدال ١ : ٥.
3- أعيان الشيعة ١ : ٢٧٤.
4- راجع تفصيل ذلك في أعيان الشيعة ١ : ٢٩٠.
5- الذريعة ٢ : ٣٠٦
6- رجال النجاشي ٢ : ٢٦٠.
7- أمالى الصدوق : ٥٠٩ / ٧٠٧.
8- يراجع مثلاً : تهذيب الأحكام٩ : ٣٢٤ / ١١٦٢ ، و : ٣٢٥ / ١١٧٠ باب٣٠.
9- بصائر الدرجات : باب ١٢.
10- فلق فيه : شق فمه.
11- بصائر الدرجات : ١٦٣ / ٤ (باب ١٢).
12- بصائر الدرجات : الحسن بن الصفار : ١٦٤ / ٩ و ١٦٥ / ١٧ (باب ١٢).
13- وسائل الشيعة ٢٦ : ٧٣ ، ٧٤ ، ٨١ ، ١٢٥ ، ١٣٠ ، ١٧٠ ، ٢١٢ (الباب السادس ـ كتاب الفرائض والمواريث).
14- انظر : صحيح البخاري٢ : ٢٢١ ، دارالفكر ، بيروت ، ١٤٠١ هـ.
15- مسند أحمد١ : ٧٩ ، ٨١ ، ١٠٠ ، ١٠٢ ، ١١٠ ، ١١٨ ، ١١٩ ، ١٢٩ ، ١٥١ ، ١٥٢.
16- الذريعة / الطهراني٦ : ٣٧٦ ، وانظر الفهرست للطوسي : ٨ / ٣٢٨.
17- رجال النجاشي : ٥.
18- تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام : ٢٩٩.
19- الذريعة١٥ : ١٨.
20- أعيان الشيعة١ : ٦٣٨.
21- الذريعة ١٣ : ٣٤٥ ـ ٣٥٩ و ٦ : ١٥٤ ـ ١٤٦.
22- الرجال / النجاشي١ : ٢٩١
23- أعيان الشيعة ١ : ٦٣٨.
24- الصواعق المحرقة : ١٩٩ والصحيح السجستاني.
25- طبقات ابن سعد ، المجلد السادس.
26- رجال النجاشي ترجمة (الوشا) : ٣١.
27- تاريخ الكوفة للبراقي : ٤٠٨.
28- تاريخ الكوفة للبراقي : ٣٩٦ ـ ٤٠٧.
29- وسائل الشيعة٣٠ : ٥٣٣.
30- أعيان الشيعة ١ ـ القسم ٢ : ٣٧.
31- الذريعة إلى تصانيف الشيعة ١ : ١٧.
32- ميزان الاعتدال ١ : ٥ وقد تقدم.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.