
كان أهل المدينة يحجون إلى البيت كغيرهم من العرب ، فقدم منهم جماعة إلى مكة والتقوا برسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، فسألهم (صلی الله عليه وآله وسلم)إلى أي القبائل ينتمون ؟ فقالوا له من الخزرج. فقال لهم : أمن موالي يهود أنتم ؟ قالوا : نعم : فجلس إليهم صلىاللهعليهوآله وعرض عليهم الإسلام ودعاهم إلى الله عز وجل ، وتلا عليهم شيئاً من القرآن ، فقال بعضهم لبعض : إنه والله النبي الذي كان اليهود يتوعدونكم به ، فلا يسبقونكم إليه ، فأجابوه فيما دعاهم إليه ، وكان عددهم ستة
وهم : عبّادة بن الصامت ، وأسعد بن زرارة ، وعوف ومعاذ ابنا الحارث بن رفاعة ، ورافع بن مالك بن العجلان ، وذكوان بن عبد قيس. (١)
ثم أخبروه أن العداء بين قومهم ـ الأوس والخزرج ـ مستشرٍ ، والقتل بينهم مستمر ، وانهم سيقدمون عليهم ويدعونهم للإسلام عسى الله أن يجمعهم على يده ويجيبون دعوته.
فانصرفوا راجعين إلى بلادهم ، فلما قدموا على قومهم ذكروا لهم ما جرى بينهم وبين النبي صلىاللهعليهوآله ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا بينهم ، ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيه ذِكرٌ لرسول الله صلىاللهعليهوآله .
فلما كان العام الثاني ، وفد من أهل يثرب إلى مكة إثنا عشر رجلاً ، فإلتقوا بالنبي (صلی الله عليه وآله وسلم)في مكان يقال له : العقبة ، فبايعوه ، وكان من بينهم عبادة بن الصامت ، قال : بايعنا رسول الله على أن لا نُشركَ بالله شيئاً ، ولا نَسرق ، ولا نزني. ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببُهتانٍ نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه بمعروف.
وبعث رسول الله معهم مصعب بن عمير ، وأمره أن يُقرئهم القرآن ، ويعلِّمهم الإِسلام ، ويفقِّههم في الدين ، فأقبل معهم ونزل ضيفاً على أسعد بن زرارة.
وقد أسلم بعد ذلك سعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير ، وأسلم معهما قومهما. في حديث يطول.
وفي السنة التالية أقبل مصعب بن عمير ومعه جماعة من المشركين والمسلمين من أهل المدينة قاصدين مكة لأداء المناسك والإِجتماع برسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، فالتقوا به سراً ، وتواعدوا أن يجتمعوا مه بالعقبة ليلاً بعد أن ينام الناس ليتذاكروا أمر الدعوة وليعرضوا إسلامهم عليه.
قال كعب بن مالك في حديث له : وجاءت الليلة التي واعدنا رسول الله فيها ومعنا عبدالله بن عمر بن حزام ـ وهو من ساداتنا ـ أخذناه معنا ونحن نتكتم عمن معنا من المشركين فتكلمنا معه في الإسلام ، ودعوناه إليه ، وأخبرناه بإجتماعنا بالرسول ، فأسلم وحضر معنا بيعة العقبة ، ونمنا تلك الليلة حتى إذا مضى من الليل الثلث .
خرجنا من رحالنا نتسلل تسلل القطا حتى لا يحس بنا أحد ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً ، ومعنا امرأتان لا غيرهما ، نسيبة بنت كعب ، واسماء بنت عمرو بن عدي ، فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب ـ وهو على دين قريش ـ وقد أحب أن يرى موقفنا من النبي ويتوثق منه ، فلما جلس النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)وجلسنا حوله كان العباس أول المتكلمين.
فقال : يا معشر الخزرج ؛ إن محمداً منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا وانه أبى إلا الإنحياز إليكم ، واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممن خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وان كنتم ترون انكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم ، فمن الآن فدعوه ، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده.
ثم تكلم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، فتلا شيئاً من القرآن ، ودعا إلى الله ، ورغب في الإسلام ثم قال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.
فأخذ البراء بن معرور بيده ، ثم قال : والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعك مما نمنع أزرنا (2).
فبايعنا يا رسول الله ، فنحن أبناء الحروب ، وأهل الحلقة ، ورثناها كابراً عن كابر.
وتكلم بعده أبو الهيثم بن التيهان فقال : يا رسول الله ، إن بيننا وبين الرجال حبالاً ، وانا قاطعوها ـ يعني اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ، ثم أظهرك الله أن ترجع الى قومك وتدعنا. ؟
فتبسم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)ثم قال : بل الدَمُ الدم ، والهدمُ الهدم (3)
أنا منكم وأنتم مني ، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم (4).
ثم أمرهم رسول الله أن يختاروا منهم أثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم يتحملون المسؤولية تجاه رسول الله فاخرجوا منهم اثني عشر نقيباً تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس.
ولما اجتمعوا للبيعة ـ بعد اختيار النقباء ـ قال لهم العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري :
يا معشر الخزرج ، هل تدرون على مَ تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا : نعم. قال : إنكم تبايعون على حرب الأحمر والأسود من الناس ، فإن كنتم ترون أنكم إذا انهكت أموالكم مصيبة ، وأشرافكم قتلاً ، أسلمتموه ، فمن الآن ، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال (نقصها) وقتل الأشراف ، فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة.
قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال ، وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك ـ يا رسول الله ـ إن نحن وفينا ؟ قال : الجنة.
قالوا : ابسط يدك ؛ فبسط يده ، فبايعوه على ذلك.
وكان أول من ضرب يده على يد رسول الله سعد بن زرارة ، وقيل : الهيثم بن التيهان ، وتتابع القوم يتسابقون على بيعته.
وتطاير الخبر الى مشركي مكة بما جرى للنبي مع الأوس والخزرج ،
مالك ، والبراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حزام ، وعبادة بن الصامت ، وسعد بن عبادة ، وكلهم من الخزرج. ومن الأوس : أسيد بن حضير وسعد بن خيثمة ، ورفاعة بن عبد المنذر. سيرة بن هشام / ٦٥.
راجع سيرة المصطفى / ٢٣٤ وفي سيرة ابن هشام : عن كعب بن مالك قال : فلما بايعنا رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط : يا أهل الجباجب ـ المنازل ـ هل لكم في مذَمّم والصبأة معه ، قد اجتمعوا على حربكم ! قال ، فقال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم): هذا أزَبُّ العقبة ! أتسمع ـ أي عدو الله ـ أما والله لأفرغن لك. السيرة ٢ ـ ٦٧. وأزب العقبة : إسم شيطان ، والمنازل : منازل منى.
فاجتمع وجوه القرشيين ، واقبلوا إلى الأنصار حيث ينزلون ، فقالوا : يا معشر الخزرج ، لقد بلغنا أنكم جئتم الى صاحبنا محمد لتخرجوه من بين أظهرنا ، وتبايعوه على حربنا ، وانه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينكم !
فاسرع جماعة من مشركي الأوس والخزرج ممن لم يكونوا قد علموا بشيء مما جرى وحلفوا لهم بالله إنه لم يكن مما يقولون شيء ، فصدقوا وانصرفوا.
ولما انتهى موسم الحج ، ورجع الأنصار ، ايقنت قريش بالأمر ، فخرج جماعة في طلبهم فادركوا سعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ـ وهما من النقباء الإثني عشر ـ واستطاع المنذر أن يفلت من أيديهم ، وأمسكوا بسعد وربطوا يديه إلى عنقه وادخلوه مكة مكتوفاً وهم ينهالون عليه بالضرب ، ويقذعون له بالشتم حتى خلصه جبير بن مطعم ، والحارث بن حرب بن أمية.
الإِعداد للهجرة
ولم تكن قريش تتوقع هذا التطور المفاجئ في حركة محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)فقد كانت حركته بادئ الأمر منحصرةً داخل مكة فكان هو وأصحابه تحت قبضة قريش وسلطانها ! أما بعد مبايعة أهل يثرب له على حرب الأحمر والأسود ، فإن هذا يعني فتح جبهةٍ عسكرية واسعة ضد قريش يمكن أن تلهب معها الحرب في أي لحظة ! كما يعني إنتشار الإِسلام في ارجاء الجزيرة ، وسقوط هيبة قريشٍ من أعين العرب ! وعندها تخسر كل شيء.لذلك ، بدأ القرشيون يفكرون في فرض مخطط جديد يحول دون ذلك ، ولكن بعد فوات الآوان.
أما رسول الله ، فهو بدوره أيضاً فكر أن يهاجر ، ولكن ما كان ليقطع أمراً دون أمر الله ووحيه ، حتى إذا نزلت الآيات المباركات التي تأذن له بالقتال :
( أُذِنَ للذين يُقَاتَلون بأنهم ظُلِموا وأنَّ الله على نصْرِهم لقَديرٌ * الذين أُخرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَغير حقٍّ إلاّ أنْ يَقُولُوا رَبُّنَا الله ولولا دَفَعُ الله الناسَ بَعضَهُم بِبَعض لَهُدِّمَت صَوامِعُ وبيَعٌ وصَلَوَاتٌ ومَسَاجِدُ يُذكر فيها إسمُ الله كثيراً وليَنصُرَنَّ الله من يَنصُرُهُ إنّ الله لقويٌ عزيزُ * الذينَ إن مَكنَّاهُم في الأرض أقاموا الصلاةَ وآتَوُا الزَكَاةَ وأمرُوا بالمعْرُوفِ ونَهَوا عن المنكَرِ ولله عاقبةُ الأمور ) (5)
عند ذلك أمر رسول الله أصحابه أن يلحقوا بالأنصار في يثرب على أن يتركوا مكة متفرقين يتسللون ليلاً ونهارا حتى لا يثيروا قريشاً فتقف في طريقهم ، وهكذا انطلقوا من مكة يتسللون في جوف الليل ـ كما أمرهم الرسول ـ أفراداً وجماعات ، وأحست قريش بذلك ، فردت من استطاعت ارجاعه ، وفرقت بين الزوج وزوجته وأخذت تنكل بكل من وقع تحت قبضتها دون القتل لأن المهاجرين اكثرهم من القبائل المكية ، والقتل قد يثير حرباً اهلية تكون لصالح محمد في النهاية.
وأخذ المسلمون يتوافدون إلى المدينة أفواجاً في ظل ضيافة الأنصار وترحابهم ، ولم يبق في مكة إلا نفر يسير من المستضعفين ومعهم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)وعلي ابن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة.
عند ذلك أحست قريش بالخطر الداهم فكان عليها أن تتخذ قراراً حاسماً في حق محمد (صلی الله عليه وآله وسلم). فاجتمعوا في دار الندوة ، وتشاوروا فيما بينهم في خطةٍ تقضي على حياة محمد !
قال بعضهم قيدوه بالحديد ، وضعوه في بيت وأغلقوه حتى يأتيه الموت !
ورأى آخر أن يطرد من مكة ، وتنفض قريش يدها منه. فلم يتفق الحاضرون على هذين الرأيين.
وارتأى أبو جهل بن هشام أن تختار كل قبيلة فتىً من فتيانها الأشداء ، ويأخذ كل واحد سيفاً قاطعاً ، ويعمدون إليه بأجمعهم ، فيضربونه ضربةً واحدة ، فإذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها فلا يستطيع بنو هاشم الطلب بدمه ، فيختارون ديته على القتال.
فاستحسن الجميع هذا الرأي ، واستعدوا لتنفيذه ، فاختاروا الفتية ، وعينوا الليلة ، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة : ( وإذ يمكرُ بكَ الذين كفروا ليُثبِتُوكَ أو يَقتُلوكَ أو يُخرِجُوكَ ، ويمكُرونَ ويمكرُ الله والله خَيرُ الماكِرِين ).
المصادر :
1- راجع السيرة ٢ / ٥٦.
2- الإزار : كناية عن المرأة ، وكناية عن النفس أيضاً.
3- قال ابن قتيبة : كانت العرب تقول عند عقد الحلف والجوار : دمي دمُك ، وهدمي هدمك ، أي ما هدمت من الدماء هدمته انا ، وما يجري عليك يجري علينا ؛ وقد يقصد بالهدم ، الجلاء والإرتحال.
4- راجع السيرة لإبن هشام ٢ / ٦٤ وما قبلها.
5- الحج ـ آية ٣٩ ـ ٤٠ ـ ٤١.