الدبلوماسية في عصر العولمة

لا يمكن لأحد أن ينكر أن كل آليات الدبلوماسية التقليدية ما تزال حية ومقبولة، وهي بلا شك في صميم الموضوع. وتشمل هذه الآليات الشبكات القنصلية الموسعة التي تغذيها بالأساس المشكلات المتصلة بحركة الشعوب الدائمة
Sunday, December 3, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
الدبلوماسية في عصر العولمة
 الدبلوماسية في عصر العولمة



 

لا يمكن لأحد أن ينكر أن كل آليات الدبلوماسية التقليدية ما تزال حية ومقبولة، وهي بلا شك في صميم الموضوع. وتشمل هذه الآليات الشبكات القنصلية الموسعة التي تغذيها بالأساس المشكلات المتصلة بحركة الشعوب الدائمة والكبيرة، التي تُعَدُّ بلا شك إحدى السمات البارزة لعصرنا، إضافةً إلى الكوارث الإنسانية التي تؤثر على إعلامنا اليومي. لكن على صعيد آخر، وجدت الدول نفسها مرغمة على تغيير ممارساتها الدبلوماسية على مستوى المؤسسات وعلى المستوى الخارجي. وكان من أبرز النتائج لذلك على كلا المستويين انخفاض عدد ممثلي الدول لدى الدول الأخرى - على سبيل المثال، يبلغ عدد دبلوماسيي أستراليا الآن خُمس ما كان عليه عام ١٩٩٦ - علاوة على الأزمات المالية المستمرة التي تواجهها البعثات الدبلوماسية، والجدال الساخن الدائم حول هدف البعثة الدبلوماسية الفعلي الآن، وما ترتب على ذلك من ظهور مبادئ «الدبلوماسية العامة»
لكن على أرض الواقع، يستحيل تجاهل السياسات الدبلوماسية الخاصة بالنظام الاقتصادي العالمي، والتي تتراوح ما بين أنشطة الشركات متعددة الجنسيات إلى تدخلات المنظمات الحكومية الدولية الاقتصادية على مستوى العالم، لا سيَّما منظمة التجارة العالمية؛ وهي منظمة حكومية دولية حديثة نسبيًّا انبثقت عن جولة أوروجواي للمفاوضات التجارية في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين تحت مظلة اتفاقية الجات (الاتفاقية العامة بشأن التعريفات الجمركية والتجارة).
تتمتع جميع هذه المنظمات بشبكات من العلاقات الدبلوماسية المهمة التي تعمل في إطار المنظومة الدبلوماسية التقليدية وخارجها. وينطبق الأمر نفسه على نطاق شاسع من الأنشطة الدبلوماسية، وهو مجال دبلوماسية منظمات المجتمع المدني، على الرغم من أن القليل من المحللين يرون أن هذه المنظمات قد صُنِّفت تصنيفًا خاطئًا. على أي حال أدت القصص الملحمية للدول الفاشلة وتلك التي دخلت في طور الفشل والصراعات المدنية والإرهاب الدولي إلى تكوين منظومة عالمية جديدة تمامًا من الاتصالات المُلِحَّة بين الدول والمنظمات غير الحكومية، وبين المنظمات غير الحكومية والمنظمات الحكومية الدولية، وبين المنظمات غير الحكومية بعضها وبعض. وسنسعى في الملاحظات التالية إلى إيضاح السياق الذي تعمل فيه هذه المنظمات.
من السمات المميِّزة للعولمة في القرن الحادي والعشرين تزايُد تعقد العلاقات العالمية وسرعة انتقال المعلومات حول العالم؛ مما يفتح سبلًا جديدة لممارسة الأنشطة الدبلوماسية، ويساعد في الوقت نفسه على انضمام مشاركين جدد إليها. وقد جعلت العولمة العالم أكثر حساسية تجاه الأزمات المالية أو الاستراتيجية المفاجئة مهما بدت متمركزة في مناطق محددة للوهلة الأولى. ولا يوجد مثال على ذلك أفضل من الأزمة المالية العالمية الكبرى التي ظهرت عام ٢٠٠٨، وترتبت عليها خسائر انتقلت إلى الجيل التالي من دافعي الضرائب على مستوى العالم.
على القدر نفسه من الأهمية، فإن تغيُّر نطاق العلاقات العالمية يضمن فعليًّا أن ظهور القضايا الأمنية بأشكالها كافة قد يحدث على نحو مفاجئ، ويمكن أن يتغير شكلها ومداها على نحو سريع. ومن هنا، يكون مفيدًا أن نعتبر المخاطر الأمنية التي تواجهها البشرية «متعددة الأشكال والأوجه»؛ بمعنى أنه في أي لحظة من الزمن قد يتعرض الأفراد ومجتمعاتهم للعنف السياسي أو لندرة الموارد البيئية، وهو ما قد يولِّد وحده مجموعة من المخاطر المستقبلية؛ كنقص الغذاء، والأزمات الاقتصادية، وانتشار الجرائم والأمراض، وانتهاكات حقوق الإنسان. ومن ثمَّ، فإن تصنيف أزمة أمنية إلى عسكرية أو بيئية أو اجتماعية أو مالية من شأنه أن يُقلِّل من أهمية «خيوط» الأحداث المترابطة والقرارات والأفكار والمعتقدات التي تشكِّل مسارات المخاطر.

أزمات معقدة

«تتجمع» أزمات الأمن البشري عند مجالات مخاطر ترتبط بعضها ببعض رغم ديمومة المشكلات. وعند تصنيف المخاطر تصنيفًا اعتباطيًّا، على سبيل المثال، يميل تحليل مخاطر الأمن البشري إلى التداعي في حال غياب تقدير آليات التفاعل بين عوامل هذه المخاطر. فعلى سبيل المثال، يخلق تهريب المخدرات ارتباطًا مؤقتًا بين مصائر المجتمعات في العالم المتقدم والعالم النامي، حتى وإن كان عدد الأفراد المتورطين في هذه المشكلة ضئيلًا؛ فقد قدَّر مكتب مكافحة المخدرات التابع للأمم المتحدة عدد من يستخدمون العقاقير المخدرة على نحو غير قانوني على مدى اثني عشر شهرًا من عام ٢٠٠٥ إلى عام ٢٠٠٦ ﺑ ٢٠٠ مليون شخص، من تعدادٍ سكانيٍّ عالميٍّ بلغ ٦ مليارات و٤٧٥ مليون شخص، تعاطى منهم ١١٠ ملايين شخص العقاقيرَ المخدرة بصفة شهرية، وتم تصنيف ٢٥ مليون شخص منهم، أو ما يساوي ٠٫٦٪ من التعداد العالمي لمن بلغوا السن القانونية للعمل (من ١٥ عامًا إلى ٦٤ عامًا) متعاطين لفترات طويلة. ومع ذلك، توقف إجمالي الميزانية السنوية لمكافحة المخدرات في الولايات المتحدة عند ١٢٫٥ مليار دولار عام ٢٠٠٤؛ وهو ما يزيد عن قيمة إجمالي تبرعات الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة بمقدار أربع مرات. ويُعتبَر هذا مقياسًا لحجم «مشكلة» تعاطي المخدرات في الولايات المتحدة، والتي يتجاوز تأثيرها بكثير عدد مدمني المخدرات إلى التأثير الهدَّام لمهربي المخدرات وشبكات الأنشطة الإجرامية التي تحيط بالمدمنين. كما أن الفساد في صفوف رُتَب الشرطة وبين مسئولي الحكومة يُخِلُّ تدريجيًّا بتطبيق القانون وبثقة عامة المواطنين في المؤسسات الحكومية.
وعلى الصعيد الإقليمي، يؤدي إنتاج المخدرات في أمريكا اللاتينية إلى الإخلال باستقرار الحكومات الشرعية، ويخلق - بمعنى الكلمة - «دول مخدرات» في مناطق خارج نطاق سيطرة الحكومة المركزية.
وفقًا لإحصاءات منظمة الصحة العالمية، تُوفِّي أكثر من ٥٧ مليون شخص عام ٢٠٠٦ من جراء أمراضٍ يمكن الوقاية منها، وهو عدد وفيات مرتبط بالأمراض تجاوز في عام واحد إجمالي عدد قتلى معارك الحربين العالميتين. ووفقًا لتقديرات برنامج الأمم المتحدة المعني بالإيدز، بلغ عدد المصابين بفيروس نقص المناعة المكتسبة (HIV) ٣٣ مليون شخص على مستوى العالم، تركزت الغالبية العظمى منهم جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا؛ حيث شكلوا ٢٢٫٥ مليون مصاب، أو ٦٨٪، من مجموع المصابين.
ومن بين مَنْ تمَّ تشخيصهم بالفيروس نسبةٌ ضئيلة تدهورت حالاتهم إلى متلازمة نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)، التي يتدهور فيها جهاز المناعة ويتدمر تدريجيًّا. وفي عام ٢٠٠٦، تُوفِّي مليونا مصاب بمرض نقص المناعة المكتسبة/الإيدز؛ ليشكلوا بذلك ما يزيد قليلًا على ١٪ من إجمالي الوفيات الناجمة عن الأمراض. وفيما يمكن علاج أمراض كالسل والكوليرا والملاريا، يمكن تحجيم الفيروس المسبِّب لمرض الإيدز بمضادات الفيروسات القهقرية، لكن يظل المرض إلى اليوم مرضًا عضالًا، ولا يقتصر البحث عن «علاج» لهذا المرض على البحث عن عقار عجيب يمكنه تدمير الفيروس، بل يشمل أيضًا إعادة تشكيل البيئة الاقتصادية الاجتماعية التي يُعرَف عنها قدرة الفيروس على الانتشار بها.
يمكن ربط الصراعات - علاوة على جذورها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل وحتى الثقافية - بالتغييرات الجذرية في البيئة الطبيعية؛ إذ وفقًا للعالِم والكاتب الأمريكي جارِد دياموند تعود الأسباب الرئيسية التي قادت إلى الإبادة الجماعية في رواندا، والتي راح ضحيتها ما يُقدَّر ﺑ ٨٠٠٠٠٠ شخص عام ١٩٩٤ إلى تدهور حال الأراضي والضغوط السكانية التي صاحبت ذلك، والتي أخلَّتْ باستقرار المجتمع الرواندي، كما أنه من المرجح أن تزداد ندرة الموارد، ويرتفع معها احتمال تدفق جماعات اللاجئين بوجه عام عبر الحدود الدولية بسبب الظروف البيئية.
يضع لنا البروفيسور نيكولاس ستيرن، رجل الاقتصاد الأسبق في البنك الدولي، سيناريو عالميًّا مخيفًا حول الآثار الاقتصادية والاجتماعية المحتملة لتغير المناخ؛ إذ استطاع ستيرن من خلال جمع البيانات العلمية حول التغيرات أن يضع مقياسًا متدرجًا للكوارث الطبيعية والبشرية الناجمة عن احترار الغلاف الجوي للأرض. وكانت أسوأ السيناريوهات المتوقعة هو عند ارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي للأرض بخمس درجات مئوية؛ مما سيؤدي إلى ارتفاع مستويات سطح البحر، وإغراق مساحات شاسعة من الأراضي الساحلية المنخفضة، ونقص المياه على نطاق واسع؛ مما يهدد الأمن الغذائي في الهند والصين، اللتين تشكِّلان معًا ثلث تعداد سكان العالم، الأمر الذي تترتب عليه تبعات واضحة على الأمن الاقتصادي والسياسي على الصعيدين الإقليمي والعالمي. وبينما يزداد قبول هذا السيناريو كسيناريو منطقي حتى في الأوساط الأكثر تشكيكًا به، ثبتت صعوبة تنسيق خطوات علاج هذه المشكلة على المستوى العالمي.

السعي لتحقيق الأمن البشري

رأت لجنة الأمم المتحدة للأمن البشري في تقريرها لعام ٢٠٠٣ أن الحيلولة دون اندلاع الصراعات، والقضاء على الأمراض، وتخفيف حدة الفقر، والوصول إلى التنمية الاقتصادية المستدامة، وتحقيق الأمن الغذائي، وتعزيز حقوق الإنسان؛ هي قضايا أمنية مترابطة فيما بينها. ويتفق نطاق الأمن البشري - وفقًا لهذا التعريف - مع الأهداف الإنمائية للألفية التي وضعتها الأمم المتحدة.
حدَّد مؤتمر قمة الألفية التابع للأمم المتحدة عام ٢٠٠٠ هذه الأهداف الإنمائية التي شملت، على سبيل المثال لا الحصر:
• القضاء على الفقر والجوع.
• توفير التعليم الأساسي على النطاق العالمي.
• تعزيز المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة.
• خفض معدل وفيات الأطفال.
• تحسين مستوى صحة الأمهات.
• الحد من انتشار مرض نقص المناعة المكتسبة/الإيدز والملاريا وغيرهما من الأمراض.
• تشجيع الاستدامة البيئية.
• تطوير شراكة عالمية لتحقيق التنمية.
ومما يدل على الاهتمام بصياغة رسالة الأمم المتحدة لتحقيق تأثيرها الإقناعي، ما قام به الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان (١٩٩٦–٢٠٠٦) من جمع لهذه الأهداف؛ ليعكس بذلك مبادئ وودرو ويلسون وفرانكلين دي روزفلت.
على الرغم من طرح هذه الأهداف بلغة الدبلوماسية العامة المحايدة، فإن كلًّا منها يتطلب لتحقيقه التغلب على تحديات ثقافية وسياسية جسيمة على المستوى المحلي. إن الأهداف الإنمائية للألفية تنبني على دراسة عملية مذهلة أجراها رجل الاقتصاد أمارتيا سين حول الدور المهم والحاسم الذي يلعبه توفير التعليم والصحة، والمساواة بين الجنسين، وتكافؤ الفرص الاقتصادية، واحترام حقوق الإنسان في تحقيق رخاء البشرية.
 الدبلوماسية في عصر العولمة
يُعَدُّ تحقيق المساواة بين الجنسين اليوم هدفًا محوريًّا للوصول إلى التنمية البشرية المستدامة؛ إذ يؤدي «تمثيل المرأة» - حيثما يُسمَح به في عملية التنمية - إلى استغلال الموارد البشرية والطبيعية على نحو أكثر فعالية؛ لأن المرأة تميل إلى ضمان المساواة في تقسيم الموارد المقدَّمة إلى المجتمع، والتأكد من الاستفادة من دروس التنمية ونقلها إلى الأجيال القادمة، إلا أن مؤيدي المساواة بين الجنسين يواجهون معارضة قوية في المجتمعات التي تُحرَم فيها المرأة من الالتحاق بمستويات التعليم العليا ومن العمل؛ إذ تُستغَل «القيم التقليدية» في العديد من أنحاء العالم لتبرير إقصاء المرأة. وليس الأمر مسألة صراع بين المحافظة الدينية والحداثة العلمانية؛ ففي العديد من الدول الإسلامية الحديثة، ومن بينها ماليزيا على سبيل المثال، تُشكِّل الفتياتُ غالبيةَ الطلاب في مرحلة التعليم بعد الثانوي. فالأمر يتعلق بالأحرى بالتقاليد الراسخة والهيمنة الذكورية والتخلف الاقتصادي؛ وهي عوامل تتعلق بالأنظمة ككل، وقد يستغرق هدمها عدة عقود.
يرى البروفيسور رولاند باريس أن مفهوم الأمم المتحدة الواسع للأمن البشري بنطاقه الشامل من القضايا التي تضمَّنها يحمل مخاطرة؛ وهي أنه ربما يشكل عبئًا ثقيلًا يمنعه من أن يكون تعريفًا قابلًا للتطبيق. في التقرير الذي أصدره المركز الكندي للأمن البشري بجامعة كولومبيا البريطانية عام ٢٠٠٦، عمل الباحثون على تضييق بؤرة الاهتمام وحصر نطاق الأمن البشري في دراسات «حالات العنف العالمي ودرجته وأسبابه ونتائجه». ومن خلال وضع الأمن البشري على نحو منصف في مدار الدراسات المعنية بالصراعات، أَوْلَى هذا المنهجُ أهميةً قصوى للمساعدات الإنسانية لضحايا الحرب، وللظروف التي تُعزِّز السلام في الدول، وبين الدول بعضها وبعض. لكن المفارقة أن هذا التوجُّه يضمن على نحو غير مقصود أن تظل الحرب على رأس برنامج الأمن الدولي. وبالإضافة إلى ذلك، فإن حصر اهتمامنا في الأسباب المباشرة للصراعات والنتائج المترتبة عليها يفقدنا تَلَمُّس مسارات المخاطر التي قد تنشأ على المدى الطويل وتتراكم لتؤدي إلى انهيار مجتمعي.
كما أن قصر مفهوم الحرب والصراع على معايير إحصائية يشوِّه قراءتنا لسلامة النظام العالمي المعاصر. فوفقًا لبيانات قدَّمها باحثون سويديون، يختلف مدى الصراعات وشدتها عن مدى الحرب وشدتها من حيث عدد «الوفيات الناجمة عن المعارك» سنويًّا، فإذا وصل عدد الوفيات الناجمة عن المعارك إلى ٢٥ حالة وفاة سنويًّا - من بينها وفيات المدنيين - فإنه حينئذٍ يُصنَّف تحت بند الصراع المسلح في وقائع العنف السياسية، بينما يُصنَّف العنف السياسي كحرب إذا بلغت الوفيات الناجمة عن المعارك ١٠٠٠ حالة وفاة سنويًّا ما بين وفيات في القتال أو في غير القتال. وزعم الباحثون بتطبيق هذه المعايير أن عدد الحروب يتضاءل، وأن العالم يتحوَّل بالتالي إلى مكان أكثر أمانًا. ومع ذلك، فليس بالضرورة أن يكون إطلاق الرصاص متبادلًا لتتحقق شروط الحرب أو النزاع المسلح. وحتى نستطيع تقييم احتمال اندلاع العنف السياسي وتصاعده إلى حالة حرب؛ علينا أن نُقدِّر الأسباب المختلفة التي تدفع الأشخاص للجوء إلى العنف، والأسباب التي تدفع الدول لشن حروب بعضها تجاه بعض. وبدلًا من التركيز على العنف المباشر وتبعاته، علينا أن نبحث «علامات الإنذار المبكر» التي تنبئ عن الصراع أو الحرب؛ سعيًا لتقليص اللجوء إلى العنف السياسي.
في حالات «الصراع المستتر» قد توجد اتفاقيات لوقف إطلاق النار، أو حتى معاهدة رسمية بين الأطراف المتنازعة، لكن تظل الحاجة قائمة إلى تبدد المظالم والشكوك التي أشعلت العنف السياسي بين الطرفين. على سبيل المثال، تقف القوات الهندية والباكستانية بعضها في مواجهة بعض على خط تقسيم كشمير المتنازع عليه حيث تتبادلان أحيانًا إطلاق القذائف والنيران، بينما تنخرط الجماعات المحاربة التي ترعاها كلتا الجهتين في أعمال عنف إرهابية على كلا جانبي الحدود. وفي سريلانكا انهار عام ٢٠٠٥ وقف إطلاق النار الذي عُقِد عام ٢٠٠١ بين الحكومة السريلانكية وحركة «نمور التاميل» الانفصالية التي تحارب لتأسيس وطن مستقل شمال وشرق سريلانكا، عندما واصل الطرفان صراعهما الذي يمتد لعشرين عامًا. والمثير للسخرية أنه بينما لا يزال وقف إطلاق النار قائمًا - من الناحية النظرية فقط - وصلت أعداد الوفيات إلى نحو ٧٠٠٠ شخص منذ تجدُّد الصراعات بين الطرفين، ويمكننا إيجاد أمثلة لحالات العنف القاتل التي تتكرر على نحو دوري إلا أنها تحدث باستمرار في كافة أنحاء أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

نطاق الأمن

كي يكتسب أيُّ تعريف للأمن البشري قوةً إيضاحية ويلقى قبولًا واستحسانًا لدى صناع القرارات والباحثين على حد سواء، يجب أن يرتبط من الناحية المفاهيمية بأفكار النظام العالمي. وبعبارة أخرى، يحتاج صناع القرارات إلى الأدوات الفكرية والاستعداد لفهم «النطاق الكامل» لمفهوم الأمن من أجل تحديد المخاطر الأمنية التي تهدده، واتخاذ الإجراءات الوقائية التي تَحُول دون التصعيد الذي يؤدي إلى استعمال القوة. وحتى يصبح تعريف الأمن قابلًا للتطبيق على مستوى السياسات؛ يجب أن يرتكز على إدراك القيود التي يفرضها نظام العلاقات «الفوضوي» بين الدول، والذي لا يخلو من النقائص. وهذا يقود حتمًا إلى تنازلات في تحديد أولويات قضايا الأمن البشري، وإلى توترات بين من يميلون إلى الاحتكام إلى الأخلاقيات والمبادئ الأخلاقية في العلاقات الدولية، وبين من ينظرون إلى العالم بمفاهيم سياسة القوى.
في الواقع تنبأت سياسات دول القوى الصغرى إلى المتوسطة بمفهوم الأمن البشري، على سبيل المثال، وضعت الحكومة الأسترالية إطارًا شكَّل نموذجًا أوليًّا لمفهوم الأمن البشري - من دون استخدام هذا المصطلح - ضمن السياسات الخارجية وسياسات الدفاع التي تبنتها في أواخر ثمانينيات القرن العشرين. كما نبَّه البيان المعني بأمن أستراليا الإقليمي الذي صدر عام ١٩٨٩ إلى العلاقة بين الأخطار التقليدية وغير التقليدية التي تواجه أستراليا ومنطقة آسيا بدءًا من التخلف ووصولًا إلى تهريب المخدرات والإيدز.
ومن الجدير بالاهتمام أن تشريعات السياسة الأسترالية وضعت استجابة إيجابيَّة «متعددة الأبعاد» لتلك المشكلات تشتمل على التعاون العسكري والدبلوماسي والاقتصادي والتقني؛ مما يربط بالتالي أمن أستراليا بأمن الدول المجاورة لها مباشرةً. وقد تبنت كندا مؤخرًا برنامج أمنٍ بشريٍّ شامل واضح المعالم، وكذلك فعلت اليابان والعديد من الدول الأعضاء بشبكة الأمن البشري. وتضع كندا تعريفًا واسعًا للأمن البشري تدخل فيه اعتبارات على مستوى المؤسسات والأفراد والأنظمة الشاملة، يمكن قراءة الخطوط العريضة منه كالتالي: … هو في جوهره مجهودات تُبذَل لبناء مجتمع عالمي تكون فيه سلامة الفرد هي أهم الأولويات الدولية، وقوة محفزة للعمل الدولي، وتُعلَى فيه المعايير الإنسانية الدولية وسيادة القانون؛ لينسجا معًا شبكة مترابطة تحمي الفرد، يخضع بها من ينتهك هذه المعايير للمساءلة التامة، وتُبنى بها المؤسسات العالمية والإقليمية والثنائية التي قامت في الماضي أو تقوم في المستقبل، ويتم تجهيزها من أجل تعزيز هذه المعايير وتطبيقها.

الحوكمة على مستوى الأنظمة

مع انتقال بؤرة اهتمام الأمن من التركيز على تحقيق الأمن للدول، ومن السعي إلى القوة العسكرية إلى تحقيق أمن الشعوب أو الأفراد، يفتح الجدلُ بشأن الأمن البشري فرصًا لتعريف أكثر شمولًا ومرونة للأمن يتم فيه التمييز بين مستويات التحليل المحلية والعالمية؛ فحتى إذا كانت أهمية الأماكن تتضاءل وفقًا لما تؤكد عليه نظرية العولمة مع تجاوز العلاقات الاقتصادية العالمية حدود «الزمان والمكان»، يظل الارتباط بالمكان والهوية والأمة حقيقة بارزة وقوية على الأرض. فعلى سبيل المثال، قامت خمس دول - هي: بريطانيا، والولايات المتحدة، والصين، والاتحاد السوفييتي، وفرنسا - عام ١٩٤٥ بوضع برنامج منظمة الأمم المتحدة، وبحلول عام ٢٠٠٨ أصبح عدد الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة ١٩٢ دولة من مجموع ٢٠٧ دول على مستوى العالم. وما زالت الدول الأعضاء الخمس الدائمة تتمتع بنفوذ كبير، لكنها تضطر لممارسة هذا النفوذ في سياق بيئة أكثر تعقيدًا لم يتراجع فيها الارتباط بالحيز السياسي القومي، سواء كان هذا الارتباط حقيقيًّا أو متوهمًا.
يرى جيم ويتمان أن «أكبر دليل على ذلك أن قدرتنا على توليد ظروف غير مرغوبة وخطرة في بعض الأحيان على نطاق عالمي تَفُوق بدرجة كبيرة آليات تشاورنا وسيطرتنا.» إذ «تصنع» المجتمعات البشرية مخاطر أمنية عالمية جديدة بمعدل أعلى بكثير مما تستطيع المؤسسات القائمة مواكبته. ومع تبني كوفي أنان أسلوب الإدارة النيوليبرالية، يرى أنان أن الألفية الجديدة تحتاج بالتالي إلى طريقة جديدة لحل المشكلات العالمية، طريقة ينصبُّ تركيزها على «التكامل» و«الترابط» و«المرونة» و«القدرة المعلوماتية» بين القطاعات الحكومية وغير الحكومية والحكومية الدولية. ومن ثمَّ، كان الإصلاح المؤسسي وإصلاح القوانين الدولية أساسيين لتحقيق الأمن البشري.
حددت الأهداف الإنمائية للألفية التي وضعتها الأمم المتحدة أولويات للسياسات كي يتبناها المجتمع الدولي، غير أن تحقيق هذه الأولويات يعتمد على حشد المؤسسات والأفراد واستنفارهما؛ فلا يمكن أن يتحقق الأمن البشري من دون أسس اقتصادية وسياسية راسخة لدعم تلبية الاحتياجات الأساسية، والتي تُقدِّم أكثر من مجرد وعود بأن يصبح تحقيق الطموحات لحياة أفضل في متناول الأفراد «العاديين». تقف الدول بين الفرد والمجتمع الدولي وقد تضع رخاء مواطنيها في صدر اهتماماتها الوطنية العليا أو لا تفعل، وقد تضطهدهم أو تشن الحروب عليهم. ومن ثمَّ، يتطلب تطوير برامج الأمن البشري - في ظل غياب سيادة عالمية - تدخلات دولية، بداية من تقديم المساعدات الهادفة إلى تحقيق التنمية وحتى نشر قوات حفظ السلام، ومن ثمَّ يصبح مفهوم الحوكمة هنا بمنزلة تحدٍّ لصياغة «حلول» لمجموعة مذهلة من التحديات الأمنية.
في ظل غياب نظام الحكومة العالمية الذي يعتمد على المشاركة الحقيقية من جميع الأطراف، تصبح الدولة فقط هي ما يُقدِّم احتمالًا حقيقيًّا ملموسًا لقيام الديمقراطيات الليبرالية التي يمتدحها من ينتقدون تدخل الحكومات في الشئون الاقتصادية. وتُعتبَر الحوكمة الفاعلة على المستوى الوطني مكملًا لا غنى عنه لتطوير الأمن البشري، ولكن - وفقًا لما توصلت إليه لجنة أفريقيا - فإن التخلف الذي تعانيه أفريقيا هو نتيجة مباشرة لفشل الحكومات الأفريقية على مدى أربعين عامًا؛ إذ انتهت اللجنة إلى أن «ضعف الحكومة وغياب الدولة الفاعلة» تجلَّى في «عجز الحكومات والخدمات العامة في وضع إطار العمل الاقتصادي والاجتماعي والقانوني الصحيح الذي سيشجع على النمو الاقتصادي ويسمح للفقراء بالمشاركة فيه».
وبالمثل، لا يمكن تحقيق المفهوم العالمي المثالي لمجتمع بلا حدود سياسية إلا بآلية سياسية أخرى يمكن بها اتخاذ القرارات وتسوية الخلافات على الصعيدين المحلي والعالمي؛ فما تزال الدول هي الركيزة الأساسية للنظام العالمي، وثمة تساؤلات مهمة تتصل بمدى تطور آليات العلاقات بين الدول وما إذا كانت قد وصلت إلى الحد الذي يسمح بسحب القوات العسكرية بينها. فمع انتشار استخدام القوة في النظام الدولي، وتعقُّد شبكات الحوكمة واتساعها، يواصل الأفراد والحكومات السعي وراء القوة أو ممارستها لتحقيق أكثر الأغراض أنانية وعدوانية. وقد أدَّى انتشار الكيانات الفاعلة غير الحكومية في أواخر القرن العشرين إلى اتساع نطاق العمل المعياري على المستوى العالمي؛ بدءًا من الأنشطة البيئية إلى الدفاع عن حقوق الإنسان، ولكن في الوقت نفسه وعلى النحو ذاته، قادَتْ هذه العملياتُ التي اسْتَشْرَتْ عَبْرَ الحدود الوطنية إلى اتساع نطاق الأنشطة المناهِضة للعالمية، وإلى انتشار الأنشطة الإجرامية.

نشأة منظمات المجتمع المدني

تلعب المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الحكومية الدولية دورًا مهمًّا في سد الفجوات الخدمية المتمثلة في توفير خدمات التعليم والصحة والرعاية والإغاثة في حالات الكوارث وتطوير البنى التحتية على نطاق ضيق؛ وهي الفجوات الناشئة عن عجز الحكومات التي تعاني من نقص الموارد أو الإرادة السياسية القاصِرة. غير أن دور هذه المنظمات - ويُطلَق عليها أيضًا منظمات المجتمع المدني - أكثر تنوعًا بكثير من حكوماتها؛ فهي تسعى إلى تحقيق مهام إنسانية، وتختلف هذه المنظمات من الناحية النظرية عن الجمعيات أو المنظمات السياسية أو الاقتصادية المحضة. ونظرًا لاختلافها عن الحركات الاحتجاجية والنوادي الاجتماعية والعصابات الإجرامية بفضل أهدافها غير الاقتصادية والاجتماعية الإنسانية، اجتذبت هذه الكيانات الفاعلة غير الحكومية اهتمامًا كبيرًا بفضل قدرتها على التأثير على الشبكات الاجتماعية وحشدها. ويُفرِّق مانويل كوستويا، في دراسة له حول التصنيف النموذجي لمنظمات المجتمع المدني، بين الكيانات الفاعلة عالية التنظيم التي تستحق مسمى «منظمة» وبين «الحركات» التي لم تتبلور بعدُ؛ إذ تتسم منظمات المجتمع المدني المنظمة بهياكل تتيح صناعة القرارات وبتفويض المسئوليات ووضع الميزانيات والبرامج. وفي المقابل، تتسم الحركات الاجتماعية - كالمنتدى الاجتماعي العالمي الذي يجتمع فيه الأفراد للتحاور وتبادل الأفكار حول القضايا ذات الاهتمام المشترك - بعدم وجود معالم تميزها وببدائيتها وتقلبها؛ من حيث إن وجودها يتسع وينحسر مع اتساع وانحسار القضايا العالمية، ومع تبدل أولويات منظميها.

فئات المنظمات غير الحكومية الدولية

وفقًا للجنة الأمم المتحدة للحوكمة العالمية، تُصنَّف المنظمات غير الحكومية كمنظمات دولية عندما تدير أنشطتها في ثلاث دول أو أكثر. وبناءً على هذا التعريف، بلغ عدد المنظمات غير الحكومية الدولية المتعارف عليها ٢٨٩٠٠ منظمة عام ١٩٩٣، مقارنةً بعدد ١٧٦ منظمة فقط عام ١٩٠٩. وتشير الدراسات الأحدث إلى أن عدد تلك المنظمات كان أقل بكثير قُرابة عام ٢٠٠١ حيث لم يتجاوز ٦٠٠٠ منظمة غير حكومية دولية، رغم أن هذا العدد يدل على معايير أكثر حصرية. وقد قُدِّر عدد المنظمات غير الحكومية الدولية شمال خط الاستواء عام ١٩٩٠ ﺑ ٢٥٠٠ منظمة؛ مما يدل على أن أغلب المنظمات غير الحكومية الدولية التي تقع مقراتها الرئيسية في دول العالم المتقدم تنتشر في دول العالم الثالث فيما يُعرَف ﺑ «بلدان الجنوب». ويشمل هذا الفروع التابعة لمنظمات الشمال الكبرى؛ كمنظمة «الرؤية العالمية»، ومنظمة «كير» الدولية، وشبكة «أصدقاء الأرض العالمية»، ومنظمات أخرى. وبغض النظر عن العدد الدقيق لهذه الكيانات الفاعلة متعددة الجنسيات، فقد حازت في مجال توفير الخدمات على مصداقية متزايدة لدى منظمة الأمم المتحدة والبنوك متعددة الأطراف (مثل البنك الدولي وبنوك التنمية المحلية)، التي تعتمد على مساعدة المنظمات غير الحكومية أو منظمات المجتمع المدني لتنفيذ مشروعات التنمية وجمع المعلومات المحلية.
ولَّدت نهايةُ الحرب الباردة أزماتٍ إنسانيةً في أنحاء من العالم لم تكن الحكومات الغربية والمؤسسات متعددة الأطراف قادرة على الوصول إليها مِنْ قَبْل، بينما تمكَّنت المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الحكومية الدولية من الاستفادة من الشبكات الاجتماعية الراسخة، وامتازت بالقدرة على التنقل، واستطاعت العمل في مناطق الحرب مع الهيئات ذات السياسات المحايدة المعلنة، مثل لجنة الصليب الأحمر الدولية ومنظمة أطباء بلا حدود. وفوق ذلك، نما حجم الموارد المالية الموجهة للتنمية والمخصصة للمنظمات غير الحكومية، وخاصة تلك التي تأتي من البنك الدولي والتبرعات العامة. ببساطةٍ، شكَّلت المنظمات الخدمية والحقوقية عبر الوطنية مكملًا لأهداف التنمية الدولية في وقت كانت تطول فيه برامج التنمية.

الشركات متعددة الجنسيات

يُنظَر إلى الشركات متعددة الجنسيات، والشركات بوجه عام، بعين الشك في دوائر التنمية. تُعرَّف الشركات متعددة الجنسيات بأنها شركات تشتغل بالإنتاج عبر حدود دولتين أو أكثر. وقد نمت هذه الشركات سريعًا من حيث العدد والحجم مستفيدةً من بيئة العمل الدولي المستقرة والمنفتحة نسبيًّا في الغرب وفي آسيا بعد عام ١٩٤٥. وبحلول عام ٢٠٠٦، قُدِّر عدد تلك الشركات بنحو ٧٨٠٠٠ شركة تتمركز مقارُّها بصفة رئيسية في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وآسيا. تنقل الشركاتُ متعددةُ الجنسيات الخاماتِ والمكونات والمنتجات مكتملة الصنع بصفة دورية عبر الحدود الوطنية، وتشكِّل عمليات النقل «الداخلية» تلك نسبةً كبيرةً من التجارة العالمية. بينما تعمل الكيانات الأكبر حجمًا بين القارات، مثل شركة «شِل» التي تدير عمليات الطاقة بدايةً من الاستكشاف والإنتاج ووصولًا إلى مرحلة التكرير والمعالجة عبر أكثر من ١٣٠ دولة، وقد واجهت أيضًا معارضة شديدة من المنظمات غير الحكومية كمنظمة أصدقاء الأرض في هولندا.
من دراسات الحالة الكلاسيكية، بل والمستمرة، للشركات متعددة الجنسيات والتي تُعَدُّ مثالًا على قدرة منظمات المجتمع المدني على إجبار هذه الشركات على الخضوع، ما حدث في أواخر عام ٢٠٠٩؛ حيث أصدرت محكمة مقاطعة لاهاي حكمًا باختصاص محكمة هولندية بعمليات شركة «شِل نيجيريا». بدأت القصة عندما رفعت منظمة أصدقاء الأرض بهولندا مع أربعة مزارعين من نيجيريا دعوى قضائية على شركة «شِل نيجيريا» وشركة «شِل» الأم في هولندا في وقت سابق من ذاك العام؛ بهدف فضح التلوث النفطي في دلتا النيجر التي استهدفتها عمليات استخراج النفط الخام منذ خمسينيات القرن العشرين.
لفت الكاتب النيجيري والناشط البيئي كين سارو ويوا أنظار العالم إلى الأضرار البيئية التي تعاني منها تلك المنطقة جراء عقود من التخلص من النفايات النفطية على نحو عشوائي. قاد سارو ويوا - بصفته في بداية الأمر المتحدث الرسمي باسم حركة «الدفاع عن بقاء الشعب الأوغوني» ثم بصفته رئيسًا لهذه الحركة - حملة سلمية مناهِضة للتدهور البيئي الذي تعانيه أراضي أوغونيلاند ومياهها جراء عمل الشركات النفطية متعددة الجنسيات، ولا سيَّما شركة «شِل». غير أنه اعتُقِل في ذروة حملته السلمية، وحُوكِم أمام محكمة عسكرية خاصة، وأعدمته حكومة الجنرال ساني أباتشا العسكرية عام ١٩٩٥ بتُهم يعدها الكثيرون تُهمًا سياسية. وأثار إعدامُه سخطًا دوليًّا، وقاد إلى تعليق عضوية نيجيريا في دول الكومنولث لأكثر من ثلاث سنوات.
وفي نفس الوقت، تنتج شركات صناعة السيارات، كشركات «هوندا» و«تويوتا» و«فورد» و«جنرال موتورز»، السيارات وتقوم بتجميعها بالقرب من كبرى الأسواق الإقليمية في أوروبا وآسيا. وتكشف المقارنات التي تُعقَد بين الإنتاجية القومية وإيرادات مبيعات هذه الشركات أن العديد من الشركات الكبرى متعددة الجنسيات على مستوى العالم هي كيانات اقتصادية فاعلة تماثل في أهميتها العديد من الدول متوسطة المساحة. ونظرًا لما تمثله الاستثمارات الأجنبية المباشرة بالنسبة للحكومات الوطنية من فرص عمل جديدة وزيادة في الإيرادات الضريبية، تسعى تلك الحكومات بشدة إلى جذب استثمارات هذه الشركات. وتسعى الشركات إلى «المراجحة التنظيمية»؛ أي استغلال ثغرات الأنظمة للالتفاف على الرقابة والنظم المالية للدولة، مستغلةً في ذلك ضعف قدرة الدول على المساومة لدى تنافسها مع الدول الأخرى لجذب الاستثمارات المربحة.
شكَّلت الاستثمارات الأجنبية المباشرة من الغرب ومن اليابان وكوريا عاملًا مهمًّا في نمو آسيا الاقتصادي السريع في أواخر القرن العشرين، لا سيَّما في تايلاند وفيتنام، غير أنها تواجه اتهامًا من قِبل منظمات التنمية وحماية البيئة والدفاع عن حقوق الإنسان بانتهاج ممارسات تضر بصحة ورخاء الأفراد والمجتمعات في دول العالم النامي. جاءت اتفاقية مكافحة رشوة الموظفين العموميين الأجانب، التي تبنتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لتجذب الانتباه - على نحو محدود - داخل القطاع الخاص العالمي إلى الآثار المدمرة للفساد وإلى التكاليف المحتملة للرشاوى التي تقوم بها الشركات ذات المقار الموجودة في الدول المبرمة لاتفاقية مكافحة الرشوة. كما تواجه الجهود الدولية لمساءلة الشركات التي تمارس أو تشارك في تدمير البيئة أو تشغيل الأطفال أو العنف السياسي معارضةً عنيفة من داخل مجتمع الأعمال. لكن من دون تعاون قطاع الشركات الخاصة متعددة الجنسيات يصعب تصور تحقيق الأهداف الإنمائية التي وضعتها الأمم المتحدة.
أثناء الفترة التي شغَل فيها كوفي أنان منصبه أمينًا عامًّا للأمم المتحدة، عكفت الأمم المتحدة على تنفيذ برنامج لاستشارات الأعمال تحت مظلة «اتفاق عالمي»، تُستغَل فيه الموارد البشرية والمالية الضخمة، التي تتمتع بها الشركات متعددة الجنسيات، وما لديها من تأثير أكيد؛ لتحقيق أهداف إنسانية. ولكن تكمن المفارقة في أن قدرة هذه الشركات أو المشروعات الخاصة - أيًّا كان نوعها - على المشاركة بمثل هذه الجهود محدودة بحكم طبيعة التنافس بين الأعمال. يزعم أنصار السوق الحرَّة - كرجل الاقتصاد ميلتون فريدمان - أن المسئولية الاجتماعية التي تتحملها الشركات هي أن تحقق أرباحًا؛ لأنه من الأرباح تتولَّد فرص العمل والإيرادات الحكومية ويزيد الاستهلاك. غير أنه عندما تقوِّض ممارسات الفساد التي تزاولها الشركات برامج الأمم المتحدة كما حدث في برنامج «النفط مقابل الغذاء» الشهير في العراق، أو تدعم تلك الممارسات الأنظمة الوحشية مقابل حصولها على الموارد الطبيعية، فإن ذلك من شأنه أن ينتهك القوانين الدولية، بل ويقوِّض الأمن البشري والعالمي.

المنظمات الإقليمية

عندما تأسست الأمم المتحدة، لم تكن هناك مؤسسات إقليمية بارزة يمكن أن تُشكِّل جسرًا للربط بين المؤسسات العالمية والمحلية، وقد بدأت المؤسسات الإقليمية في لعب دور محوري في الحوكمة العالمية بتوسيط البرامج العالمية لتحقيق الأمن الإقليمي. وتُعَدُّ أوروبا المنطقة الأكثر تقدمًا من حيث تطوير المؤسسات فوق الوطنية. بدايةً من تأسيس الجماعة الأوروبية للفحم الحجري والصلب، كان تحقيق المكاسب المتبادلة من خلال التعاون الاقتصادي هو الآلية الأساسية في تشكيل الجماعة الاقتصادية الأوروبية ثم الجماعة الأوروبية التي أصبح اسمها اليوم الاتحاد الأوروبي. وقد اتسع عدد أعضاء الاتحاد الأوروبي منذ تشكيله عام ١٩٩٣ من ١٢ دولة إلى ٢٥ دولة مع تزايد عدد الدول المتقدمة للعضوية. وعلى الرغم من أن هذا التوسع قد تعرض لاستهزاء المتشككين، فإنه يوضح بالأرقام مدى جاذبية الأمن الاقتصادي، لا سيَّما بالنسبة إلى الدول الأوروبية الصغيرة.
دبلوماسية المجتمع المدني: إيرين خان، الأمين العام لمنظمة العفو الدولية (إلى اليسار)، وخافيير سولانا الممثل الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي (إلى اليمين)، خلال اجتماع لهما في الخامس عشر من أبريل عام ٢٠٠٨.2
حاز مجلس الوزراء الأوروبي والمفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي بعض الصلاحيات السيادية للدول الأعضاء؛ إذ بإمكان الاتحاد الأوروبي سن قوانين ملزمة فيما يتصل بتوفير الرفاهية وحماية حقوق الإنسان ووضع الحد الأدنى من الأجور وتحديد المعايير البيئية ومعايير سلامة الغذاء وأكثر من ذلك. ورغم أن الاتحاد الأوروبي وَاجَه فشلًا مع بداية تشكيله عام ١٩٩٣ بإخفاقه في التعامل بفاعلية مع أزمة انقسام يوغوسلافيا سابقًا إلا أنه وصل بعد ذلك إلى مرحلة من النضج ككيان فاعل يُحقِّق الأمن البشري على المستوى الإقليمي. ويتجه الاتحاد الأوروبي اليوم إلى كونه «جماعة أمنية» في أوروبا يسعى من خلالها الاتحاد - وليس الدول الأعضاء بوصفها كيانات مستقلة ذات سيادة - إلى انتهاج سياسة خارجية أوروبية، والاضطلاع بدور متزايد في تحقيق الأمن في أوروبا وأفريقيا. فأرسل الاتحاد الأوروبي عام ٢٠٠٣ قوات حفظ سلام إلى جمهورية مقدونيا (جمهورية مقدونيا اليوغوسلافية السابقة)؛ لإرساء الاستقرار في هذه الدولة بعد حرب أهلية قصيرة اندلعت بها عام ٢٠٠١.
ومما يدل على عزم الاتحاد الأوروبي على لعب دور أكثر فاعلية في تحقيق الأمن على المستوى الإقليمي، يحتفظ الاتحاد الأوروبي اليوم بقوات «الاستجابة السريعة» متعددة الجنسيات، والتي يبلغ قوامها ١٥٠٠ جندي؛ لمواجهة الأزمات الاستراتيجية والإنسانية، ليس في أوروبا وحسب، بل أيضًا في شمال أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى.
أصبحت المنظمات الإقليمية اليوم أكثر نشاطًا؛ ربما لأنها بدأت تدرك أن ضعف موارد منظمة الأمم المتحدة يتطلب تقديم المساعدة لها للاضطلاع بمهمتها الأمنية على المستويين الإقليمي والوطني. وتوجد إلى جانب الاتحاد الأوروبي منظمة الأمن والتعاون في أوروبا - التي لا تماثل شهرتُها شهرةَ الاتحاد الأوروبي لكنها تتمتع بنفوذ مؤثر - وهي أكبر منظمات الأمن الأوروبي، من حيث إنها تتضمن روسيا بوصفها خليفة للاتحاد السوفييتي. وبالاشتراك مع منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، التي تتضمن الولايات المتحدة الأمريكية، تطورت مهمة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا لتتحول من وسيط للحوار في مجال تحقيق الأمن البشري ومنظمة داعمة للديمقراطية إلى العمل في مجال حفظ السلام. وترى الباحثة السياسية نينا جرايجر والخبيرة في مجال الأمن والسلام أليكساندرا نوفوسلوف أنها «المنظمة الأهم في إرساء المعايير في أوروبا.» رغم أن فاعليتها هذه يقوِّضها التنافس الاستراتيجي المتجدد بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.
باختصار، تُعزِّز العولمة من كفاءة الروابط بين الدول المتعددة، غير أنها تجعل المجتمعات القومية عُرضة لمجموعة أكبر من الصدمات الدولية والمخاطر الأمنية. وعلى الصعيد الداخلي، يواجه العديد من الدول الناشئة موقفًا ثنائيًّا يتمثل في الحاجة إلى تأسيس كيانات سياسية قابلة للنمو والبقاء، بينما يصارع من أجل البقاء في ظل اقتصاد عالمي «مفرط في اتجاهه نحو العولمة». ولا يشكِّل هذا التحدي الدبلوماسي تحدِّيًا لبلدان الجنوب فحسب، بل للعالم المتقدم أيضًا. وكان من نتائجه أيضًا أن أصبحت الدبلوماسية الحديثة أكثر تحديًا وتعقيدًا؛ فعالم اليوم هو عالم جديد مليء بالمجازفات.
المصدر : راسخون2017
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.