
وقعت غزوة خيبر في السنة السادسة للهجرة وذلك إن النبي صلىاللهعليهوآله كان قد قصد مكة في أوائل شهر ذي القعدة من نفس هذه السنة لأداء مناسك الحج ، فصدته قريش عن دخولها ، فكان أن أبرمت وثيقة الصلح المسمى بصلح « الحديبية » بعد مشاورات طويلة بين وفود الطرفين.
قال في معجم البلدان : وتشتمل خيبر ـ هذه الولاية ـ على سبعة حصون ، ومزارع ، ونخل كثير. واسماء حصونها : حصن ناعم. وعنده قتل محمود بن مسلمة ، والقموص ، وحصن الشق ، وحصن النطاة. وحصن السلالم وحصن الوطيح ، وحصن الكتيبة ، وأما لفظ خيبر ، فهو بلسان اليهود : يعني الحصن. ولكون هذه البقعة تشتمل على هذه الحصون سميت خيابر .
ورجع النبي إلى المدينة ، وفي طريقه أنزل الله عليه سورة الفتح ، فتلاها على المسلمين مستبشراً بالنصر.
وكان صلىاللهعليهوآله قد إطمأن بعد صلح الحديبية إلى حدّ ما من ناحية قريش والعرب الذين كانوا لا يزالون على الشرك ، إلا إنه ظل يراقب اليهود الذين كانوا خارج المدينة ، ويخشى غدرهم لأنه لمس منهم انهم لا يلتزمون بعهدٍ ولا بحلف ، لذلك صمم على غزوهم ومحاربتهم ، فلم يلبث في المدينة اكثر من شهر حتى أعلن رأيه هذا لأصحابه ، وأمرهم ان يتجهزوا لغزو خيبر.
فخرج من المدينة في ألف وستمائة مقاتل ، ومضى في طريقه الى خيبر ، وقطع المسافة التي بينها وبين المدينة في ثلاثة أيام ، ودخل إلى مشارفها ليلاً ، وكانت خيبر تترائ للمسلمين واحةً تمتد بين تلال الحرّة وصخورها السوداء ، وكأنها بحيرة من الزمرد الأخضر .. وأقام المسلمون تلك الليلة على مشارفها مخيمين هناك يستريحون من عناء الرحلة ، حتى إذا تمطى الليل عن الصبح ، وانتشرت أشعة الشمس المشرقة تكسو آعالي النخيل بلون ذهبي جميل ، انتشر عمال خيبر ـ كعادتهم ـ خارجين من قلاعهم الى بساتينهم يحملون محافرهم وفؤوسهم ، وقد علقوا السلال باكتافهم ، فبصروا بجند المسلمين الآتين من الحرّة ، ومعهم الرماح والسيوف المتوهجة في أشعة الشمس ، فصاحوا : « محمد ، والخميس (الخميس : الجيش) معه ! » وأدبروا هاربين مخلفين المحافر ، والفؤوس والسلال.
فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم): « الله اكبر ؛ خربت خيبر ؛ إنا إذا نزلنا بساحةِ قوم فساءَ صباح المنذرين. ».
ووقف العرب عامة ، وبخاصة قريش ، يتطلعون بشوق ولهفة إلى نتائج هذه الغزوة ، وفي حسابهم أن الدائرة ستدور على محمد وأصحابه.
أما اليهود ، فقد تشاوروا فيما بينهم ، واتفقوا أخيراً على القتال ، فأدخلوا نساءهم وذراريهم وأموالهم حصن « الوطيح والسلالم » وأدخلوا ذخائرهم حصن « ناعم » ودخلت المقاتلة في حصن « نطاة » والتقى الجمعان حول هذا الحصن ، واقتتلوا قتالاً شديداً حتى جرح عدد كبير من المسلمين ، واستبسل الفريقان ، وظلوا على ذلك شطراً من النهار.
وقتل في ذلك اليوم محمود بن مسلمة ، كان حين أنهكه التعب قد استظل بجدار الحصن فالقى عليه يهودي رحى من أعلى الحصن فقتله.
وأظهرت قلاع « النطاة » وناعم صموداً أمام معسكر المسلمين ما لبث أن إنهار بعد أيام أمام ضرباتهم واصرارهم العنيد ، ولكن خيبر لم تفتح ، فقد بقي من قلاعها قلعة « القموص » وهي أهم قلاعها ، كانت قائمة على قمة تل صخري أملس رأسي الحواف ، محاطة بجدار ضخم مرتفع ، وقد اشتهرت بالقوة والمناعة ، وكان يدافع عنها « مرحب » البطل الشهير.
وطال الحصار ، ودبت المجاعة بالجيش ، ففترت همة الجند ، وكان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)كلما أعطى الراية لبعض أصحابه يرجع منهزماً كاسفاً. فرأى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)أن يحشد كل قواه الضاربة لفتح هذا الحصن ، فاجتماع اليهود فيه يجعلهم أقدر على الفتك بالمسلمين.
وجمع محمد جيشه ، وأمرهم أن يقتحموا الحصن ، وسلم أبا بكر راية الجيش ، ولكن أبا بكر لم يستطع أن يصنع شيئاً ولا أن يقتحم الحصن ، فبعث في اليوم الثاني عمر ابن الخطاب ، فكان نصيبه كنصيب صاحبه. « فقد انكشف عمر وأصحابه ورجعوا إلى رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)كما في رواية الطبري : يجبنه أصحابه ويجبنهم » وظل القتال مستمراً وكلما أعطى الراية إلى أحد ، رجع خائباً ، أو فاراً. (2)
ولما بلغ الجهد بالمسلمين مبلغاً تخشى عواقبه وساء رسول الله ذلك. فقال : لأعطين الراية غداً رجلاً ، كرّاراً غير فرّاراً ، يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ولا يرجع حتى يفتح الله على يده » (3)
فتطاولت لها قريش ، ورجا كل واحد منهم أن يكون صاحب الراية وكان علي في تلك الحال أرمد لا يكاد يبصر أمامه ، ولما سمع مقالة النبي صلىاللهعليهوآله قال : اللهم لا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت ».
فأصبح رسول الله واجتمع إليه الناس كل يرجوها له ، حتى روي عن عمر أنه قال : إني ما أحببت الإمارة إلا ذلك اليوم ، وتمنيت أن أعطى الراية بعد أن سمعت ذلك من رسول الله.
قال سعد بن أبي وقاص : جلست نصب عينيه ، ثم جثوت على ركبتي ثم قمت على رجلي قائماً رجاء أن يدعوني ! فقال (صلی الله عليه وآله وسلم): إدعوا لي عليّاً.
فصاح الناس من كل جانب : إنه أرمد رمداً لا يبصر موضع قدمه.
فقال : إرسلوا إليه وادعوه ! فأتي به يُقاد.
فوضع رأسه على فخذه ، ثم تفل في عينيه ، فقام وكأن عينيه جزعتان.
وبرء من ساعته ، وقال له : خذ الراية ، ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك.
فقال له عليّ : على ماذا أقاتلهم يا رسول الله.
قال : قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله ، وأني رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم. ثم دعا له.
قال سلمة بن الأكوع ، فانطلق عليّ عليهالسلام يهرول هرولةً ونحن خلفه نتتبع أثره ، حتى ركز الراية بين حجارة مجتمعة تحت الحصن ، فاطلع إليه يهودي من أعلى الحصن وقال : من أنت ؟
قال : أنا علي بن أبي طالب.
قال اليهودي : « عَلوتم ! وما أنزل على موسى !! »
(وفي الكامل: فاشرف عليه رجل من يهود فقال : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب. فقال اليهودي غُلبتم يا معشر اليهود. وفي بقية المصادر والمراجع بمضمون واحد. وقوله : وما انزل على موسى : أي قسماً بما أنزل على موسى.)(4)
وخرج إليه اليهود يتقدمهم أبطالهم ، وفيهم الحارث أخو مرحب وكان من شجعانهم المعروفين ، فحمل بمن معه على المسلمين ، فوثب علي عليهالسلام وضربه بسيفه ، فخر صريعاً ، ثم كر بأصحابه على اليهود ، فتفرقوا بين يديه وانخذلوا بعد مقتل الحارث وجماعة منهم ، وولوا منهزمين الى داخل الحصن.
فاستعظم ذلك قائدهم « مرحب » بعد أن شهد مصرع أخيه وهزيمة من معه. فخرج يطلب الثأر « وكان هو حقاً سيد فرسان خيبر ، ولكنه خرج إلى علي بطيئاً ، في كبرياءٍ وثقةٍ مطمئنة ، مهيباً ضخماً ، بيده حربة ذات ثلاث رؤوس ، وكل جسده الفارع الشاهق ، في الزرد ، والحديد يغطي رأسه وساقيه ، وليس في كل بدنه ثغرة ينفذ منها سيف ». فجعل يرتجز ويقول :
قد علمت خيبر أني مرحب
شاكي السلاح بطل مجرب
إذا السيوف أقبلت تلتهب
أطعن أحياناً وحيناً أضرب
فانطلق الیه ابو حسين عليهما السلام وهو يقول :
أنا الذي سمتني أمي حيدرة
كليث غابات شديد قسورة
أكيلكم بالسيف كيل السندرة
وتقدم إليه علي بقامته المعتدلة ، وهو بلا درع ، وفي يده السيف وحده ، وتوقع المسلمون واليهود جميعاً أنها نهاية علي عليهالسلام ، ولكن علياً إستطاع أن يحسن الإستفادة من تخففه من الدرع والزرد ، وترك مرحباً يتقدم بدرعه وزرده وحربته ، حتى إذا أوشك سِن الحربة أن يمس صدر علي عليهالسلام تراجع على فجأةً ثم قفز في الهواء متفادياً حربة مرحب ، ثم إقتحم وأهوى بكل قوته على رأس مرحب بالسيف ، فانفلق الحديد من على رأس مرحب ، وسقط سيف علي على الجمجمة فشقها نصفين وهوى مرحب وسط ذعر اليهود وعجبهم ، وصيحات النصر ترتفع من معسكر المسلمين.
ثم إقتلع علي عليهالسلام باب الحصن ـ وكان حجراً طوله أربعة أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع ـ فرمى به الى خلفه ، ودخل الحصن هو والمسلمون. (5)
وبعد فتح حصن « القموص ». أيقن سكان خيبر بالهلكة ، وكانت قلاع « الوطيح والسلالم » لم تسقط بعد ، فأرسلوا الى رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)يطلبون الصلح ـ بعد أن حاز النبي أموالهم كلها بالشق ونطاة ، والكتيبة. ـ على أن يحقن دماءهم.
فقبل النبي بذلك ، وأبقاهم على أرضهم التي آلت له بحكم الفتح على أن يكون لهم نصف ثمرها مقابل عملهم.
المصادر :
1- معجم البلدان : ٢ / ٤٠٩.
2- راجع سيرة المصطفى / ٥٤٩.
3- إعلام الورى / ١٠٧ وغيره.
4- في الكامل ٢ / ٢٢٠
5- اليعقوبي ٢ / ٥٦ وغيره.