فكرة الشورى وابعادها

حتى إذا مضى لسبيله ، جعلها في ستةٍ زعم أني أحدهم ، فيالله وللشورى ! متى إعترض الريبُ فيّ مع الأول منهم حتى صرتُ أُقرنَ إلى هذه النظائر ! لكني أسفَفتُ إذ أسفوّا وطرتُ إذْ طاروا ، فَصَغا رجلٌ منهم لضِغْنِهِ ، ومالَ
Tuesday, December 12, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
فكرة الشورى وابعادها
 فكرة الشورى وابعادها



 


قال الإِمام علي عليه‌السلام يصف عملية الشورى ، وموقفه منها :
« حتى إذا مضى لسبيله ، جعلها في ستةٍ زعم أني أحدهم ، فيالله وللشورى ! متى إعترض الريبُ فيّ مع الأول منهم حتى صرتُ أُقرنَ إلى هذه النظائر ! لكني أسفَفتُ إذ أسفوّا وطرتُ إذْ طاروا ، فَصَغا رجلٌ منهم لضِغْنِهِ ، ومالَ الآخَرُ لصِهرِهِ مع هَنٍ وهن .. ».(1)
فكرة الشورى وابعادها
أرسل المغيرة بن شعبة * إلى عمر يقول : « إن عندي غلاماً نقاشاً نجاراً حداداً فيه منافع لأهل المدينة ، فإن رأيت أن تأذن لي في الإِرسال به ، فعلتُ. » فإذن له. المغيرة بن شعبة ، قال عنه الشعبي : كان من دهاة العرب. وقال قبيصة بن جابر : صحبت المغيرة ، فلو أن مدينةً لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بالمكر ، لخرج المغيرة من أبوابها كلها (2) فبعث بغلامه أبي لؤلؤة فيروز الفارسي.
وكان عمر لا يأذن لسبيىٍّ قد احتلم في دخوله المدينة حتى كتب إليه المغيرة بن شعبة. (3)
مكث أبو لؤلؤة في المدينة فترة غير طويلة لا تتعدى الأشهر كان سيده المغيرة قد فرض عليه في خلالها ضريبةً قدرها مائة درهم لكل شهر.
في هذه الفترة كانت أقبية المدينة تشهد لوناً من ألوان الصراع الحزبي كشفت عنه الأيام فيما بعد وكان للأمويين والمؤلفة قلوبهم والمنافقين دور كبير فيه ، وفي هذه الفترة أيضاً ومن خلال ذلك الصراع العنيف يبدو للمتتبع أن مؤامرة ما كانت تحاك في الظلام ، وربما استهدف فيها الخليفة نفسه ! سيما إذا أخذنا بعين الإِعتبار السياسة الخشنة التي انتهجها عمر والتي لا ترضي أقطاب قريش ..
ومرت الأيام تتوالى سراعاً حتى إذا كان الظرف مؤاتياً والأمر مستوسقاً بدأ التنفيذ لهذه المؤامرة على أدق ما يتصور ، فقبل مقتل عمر بثلاثة أيام أقبل إليه كعب الأحبار * ليزُفّ إليه بشارةً ما أظن أن أبعادها خفيت على الخليفة ، فقال : أجدك في التوارة تقتل شهيداً !
فقال عمر : وأنى لي بالشهادة ، وأنا في جزيرة العرب ؟! وكأنه بجوابه هذا يقرأ سراً إنطوى عليه قلب كعب !!
وكأن كعباً بقولته تلك يحاول تضليل الخليفة عن تلك المؤامرة والتي يظهر أن لكعب ضلعاً فيها ، فليست قولته هذه إلا « شاهد من شواهد ذلك الصراع الحزبي العنيف الأخرس ، وفلتة ربما دانت كعباً بالإنتماء الى الحزب الأموي والتجسس على عمر في ثوب المخلص له المقرب إليه ، فقد كان كعب بعد ذلك ركناً في بلاط معاوية يدير فيه الدعاية ويعلم فيه الدس عن طريق القصص والوضع ... (4)
وفي ذات يوم أقبل أبو لؤلؤة إلى عمر يشكو إليه ثقل خراجه الذي فرضه عليه المغيرة. فقال له عمر : وما تحسن من الأعمال ؟
قال : نقاش ، نجار ، حداد.
* كعب بن مانع ، قدم من اليمن في خلافة عمر بن الخطاب فأخذ عنه الصحابة وغيرهم ! ومات بحمص بعدما ملأ الشام وغيرها بخرافاته اليهودية .. ومن خرافاته : أن الأرضون السبع على صخرة ، والصخرة في كف ملك ، والملك على جناح الحوت ، والحوت في الماء ، والريح على الهواء ريح عقيم لا تلقح ، وان قرونها معلقة في العرش .. الخ ـ كما جاء في تذكرة الحفاظ للذهبي.
وجاء في الطبقات الكبرى : أنه ظل بعد اسلامه يحرص على قراءة أسفار التوراة. وهو الذي أخبر عمر بن الخطاب بأنه سيقتل وذلك قبل مقتله بثلاثة أيام مدعياً أنه وجد ذلك في التوراة ... وكعب هذا يهودي من اليمن وهو من اكثر من تسربت منهم أخبار اليهود الى المسلمين ـ راجع الموضوعات في الآثار والأخبار ـ ١٠٥ وما بعدها.
فقال له عمر : ما خراجك بكثير في كنه ما تحسن من الأعمال. فمضى عنه وهو يتذمر.
ومر بعمر يوماً وهو قاعد ، فقال له عمر : الم أحدَّث عنك أنك تقول : لو شئتُ أن أصنع رحاً تطحن بالريح ، لفعلتُ ؟!
فقال ابو لؤلؤة : لأصنعن لك رحاً يتحدث الناس بها ! ثم ولى عنه.
فقال عمر : أما العلج فقد توعدني آنفاً ! (5)
وأخذ أبو لؤلؤة خنجراً ذا رأسين ، وشحذه وسمّه « فاشتمل عليه ، ثم قعد لعمر في زاوية من زوايا المسجد في الغلس ، فلم يزل هناك حتى خرج عمر ، فلما مرّ به طعنه ثلاث طعنات ، إحداهن تحت سرته ، وهي التي قتلته. وطعن إثني عشر رجلاً من أهل المسجد ، فمات منهم ستة وبقي ستة ، ثم نحر نفسه بخنجره فمات.
ونقل الخليفة إلى داره مضرجاً بدمائه ، وأحب في تلك اللحظات الصعبة أن يكتشف ما إذا كانت عملية الإغتيال هذه قد أتت عن أمر دُبّر بليل ، أو أنها كانت مجرد حقد شخصي من أبي لؤلؤة. فأمر مناديه ، فنادى بالناس.
« أعن ملأٍ ورضىً منكم كان هذا ؟
فقالوا : معاذ الله ، ما علمنا ولا إطلعنا ! » (6)
وأقبل الطبيب ينظر جراح الخليفة التي أخذت تنزف ، علّه يجد بلاًّ لها أو شفاء ، فأراد أن يعرف ما إذا كانت الطعنات قد نفذت في أمعائه وأحشائه ، أو أنها كانت دون الصفاق (الصفاق : الجلد الأسفل الذي تحت الجلد الذي عليه الشعر) ، فنظر الى عمر وقال :
أيَّ الشراب أحب اليك ؟
فقال : النبيذ ! فسقوه نبيذاً ، فخرج من بعض طعناته !
وذهل الطبيب لما رأى ، لكن الناس اشتبه عليهم الأمر ، فقالوا : صديد ! صديد ! اسقوه لبناً ، وكأنهم أرادوا أن يثبتوا للطبيب خطأ تقديره.
فسقوه لبناً ، فخرج اللبن أبيض صريحاً !
وذُهل الناس ! أما الطبيب ، فالتفت إلى الخليفة قائلاً : لا أرى أن تمسي ؛ فما كنت فاعلاً فافعل.
بعد هنيهة جاء كعب الأحبار ، فدخل عليه وقال له معزياً ومسلياً : قد أنبأتك أنك شهيد !
لكن الخليفة نظر إليه نظرة استرخاء ، فيها شيء من السخرية والاستهزاء ، مفهماً إياه أن الامر أدق مما يحاول تصويره ، وأنه ليس هناك حيث يظن ، معيداً إلى ذاكرته ما كان اجابه به قبل ثلاثة أيام ، فقال له : وانى لي بالشهادة ، وأنا في جزيرة العرب ؟! وما ضرّ كعباً أن لا يعلق على جوابه هذا ، فلم يبق من عمره إلا ساعات من نهار ، وفي ذلك أمانٌ له من الدِرّة ، لكنه فهم أن عمر ليس بالإنسان الساذج البسيط الذي تنطوي عليه هذه العبارات الفارغة ، دون أن يفهم أبعادها.
وخرج كعب من عنده : ليترك المجال للناس يثنون على الخليفة وهو في آخر ساعات من حياته. « فجعل الناس يثنون عليه ويذكرون فضله ». فوجدوا منه غير ما كانوا يتوقعون ، حيث إلتفت إليهم قائلاً : « إن من غررتموه لمغرور ، إني والله وددت أن أخرج منها كفافاً كما دخلت فيها ، والله لو كان لي اليوم ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطَلَع. ! » (7)
ثم أقبل إليه المتزلفون يستثيرون منه مكمن العاطفة ، يتقربون إليه بذلك ، ويظهرون له وّدهم وإخلاصهم ، فأشاروا عليه بأن يولي ولده عبدالله !
فقال لهم : « لا هالله ، إذن لا يليها رجلان من ولد الخطاب ، حسبُ عمر ما حمل ، حسب عمر ما احتقب ، لا هالله ، لا أتحملها حياً وميتاً ! ».
ومرة ثانية يأتيه الناس ، فيقولون له : يا أمير المؤمنين لو عهدتَ ؟
فيقول لهم : قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم ، أن أولي رجلاً أمركم ، أرجو أن يحملكم على الحق ـ وأشار الى علي ـ ثم رأيت أن لا أتحملها حيّاً وميتاً.
ومرةً أخرى يتأوه ويتذمر فيقول : لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته ... ! لو كان معاذ بن جبل حياً لإستخلفته .. لو كان خالد بن الوليد حياً لإستخلفته !! ثم يعلل ذلك بأن : أبو عبيدة أمين هذه الأمة ، ومعاذ بن جبل يأتي بين يدي العلماء يوم القيامة ! وخالد بن الوليد سيف من سيوف الله .. ! كما سمع هو من النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)في حقهم .. (8)
ثم أرتأى أن يجعلها في ستةٍ من المسلمين ، وهم : علي ، وطلحة ، وعثمان ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، موهماً أنه بذلك يخرج عن تحمل تبعاتها ومسؤولياتها ، وفي غمرة المسؤولية وقع حين حصرها في هؤلاء الستة حصراً لا يمكن فكه حسبما خطط. !
المهم ، أنه استدعى هؤلاء الستة ، فدخلوا عليه وهو ملقىً على فراشه يجود بنفسه ، فنظر إليهم فقال : أَكُلَكُمْ يَطمَعُ في الخلافة بعدي ؟! فوجموا. فقال لهم ثانيةً.
فأجابه الزبير ، وكأن استشعر السخرية في سؤاله ، فقال :
« وما الذي يبعدنا منها !؟ وُليتها أنتَ فقمتَ بها ، ولسنا دونك في قريش ولا في السابقة ، ولا في القرابة ! ».
فقال عمر : أفلا أخبركم عن أنفسكم ؟
قال : قل ، فأنا لو استعفيناك لم تعفنا.
فقال : أما أنت يا زبير ، فوعِق لقِسْ (الوعق : الضجر المتبرم. واللقس : من لا يستقيم على وجه.) مؤمن الرضا ، كافر الغضب ، يوماً إنسان ، ويوماً شيطان ، ولعلها لو افضت إليك ظلتَ يومك تلاطم بالبطحاء على مدٍّ من شعير ! أفرأيت إن افضت إليك ؛ فليت شعري من يكون للناس يوم تكون شيطاناً ، ومن يكون يوم تغضب ! وما كان الله ليجمع لك أمر هذه الأمة وأنت على هذه الصفة.
ثم أقبل على طلحة ، وكان له مبغضاً ـ منذ قال لأبي بكر يوم وفاته ما قال في عمر ـ (الكلمة التي قالها طلحة لأبي بكر هي : ما أنت قائل لربك غداً ، وقد وليت علينا فظاً غليظاً ، تفرق منه النفوس ، وتنفض عنه القلوب)(9)
فقال له : أقول ، أم أسكت ؟
قال : قل ، فإنك لا تقول من الخير شيئاً.
قال : أما اني أعرفك منذ أصيبت أصبعك يوم أُحد ، والبأو (البأو : الكبر والفخر.) الذي حدث لك ، ولقد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ساخطاً عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب (قال الجاحظ : الكلمة المذكورة ، ان طلحة لما أنزلت آية الحجاب ، قال بمحضرٍ ممن نقل عنه الى رسول الله ، : ما الذي يغنيه حجابهن اليوم ، وسيموت غداً فننكحهن).
وقال الجاحظ أيضاً : لو قال لعمر قائل : أنت قلت أن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)مات وهو راض عن الستة ، فكيف تقول الآن لطلحة أنه مات عليه‌السلام ساخطاً عليك بالكلمة التي قلتها ، لكان قد رماه بمشاقصه ! والمشقص : فصل السهم إذا كان طويلاً.
ثم أقبل على سعد بن أبي وقاص ، فقال : إنما أنت صاحب مِقنَب (المِقنَب : جماعة الخيل.) من هذه المقانب تقاتل به ، وصاحب قنصٍ ، وقوس ، وأسهم ، وما زُهرة (زهرة : قبيلة سعد بن أبي وقاص.) والخلافة وأمور الناس ؟!
ثم أقبل على عبد الرحمن بن عوف ، فقال : وأما أنت يا عبد الرحمن فلو وُزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك ، لرجح إيمانك به ، ولكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعفٌ كضعفِك ، وما زُهرة وهذا الأمر. !
ثم أقبل على عليّ عليه‌السلام فقال : لله أنت لولا دعابة فيك .. ! أما والله لئن وُلّيتهم لتحملنهم على الحق الواضح ، والحجة البيضاء.
ثم أقبل على عثمان ـ وكأنه يناوله الخلافة ـ فقال له :

هيهاً إليك ؛ كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبّها إياك ، فحملت بني أمية ، وبني أبي مُعيط على رقاب الناس ، وآثرتهم الفيئ ، فسارت إليك عصابةً من ذؤبان العرب ، فذبحوك على فراشك ذبحاً ، والله لئن فعلوا لتفعلنّ ، ولئن فعلتَ ليفعَلُنّ ، ثم أخذ بناصيته فقال : فإذا كان ذلك فاذكر قولي ، فإنه كائن !! (10).
بعد هذا ، أراد أن يبرم الأمر إبراماً تصدق معه فراسته في تسليم الأمر لعثمان ، فاستدعى أبا طلحة الأنصاري ، فقال له :
« انظر يا أبا طلحة ، إذا عدتم من حفرتي ، فكن في خمسين رجلاً من الأنصار حاملي سيوفكم فخذ هؤلاء النفر بامضاء الأمر وتعجيله ، واجمعهم في بيت ، وقف بأصحابك على باب البيت ليتشاوروا ويختاروا واحداً منهم.
فإن اتفق خمسة ، وأبى واحد فاضرب عنقه.
وان اتفق اربعة وأبى إثنان فاضرب اعناقهما.
وان اتفق ثلاثة ، وخالف ثلاثة ، فانظر الثلاثة التي فيها عبد الرحمن ، فارجع الى ما قد اتفقت عليه ! فإن أصرت الثلاثة الأخرى على خلافها ، فاضرب أعناقها وان مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا على أمر ، فاضرب أعناق الستة ، ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم (11).
وقال للمقداد الكندي : إذا وضعتموني في حفرتي ، فاجمع هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلاً منهم (12).
ولعله إنما أشار على المقداد بذلك ليكون ممثلاً للمهاجرين في مراقبة هذه الشورى.
تخطيط دقيق محكم لولا أنه لم يكن ساتراً لبعض المتناقضات التي وقع فيها الخليفة ، كما لم يكن ساتراً لرغبته في عثمان حين جعل صوت عبد الرحمن ـ صهر عُثمان ـ بصوتين ، وما ذلك إلا إضعافاً لجانب علي.
ثمّة أمر آخر هو أهم ما انطوت عليه عملية الشورى هذه حيث استقام له فيها « وضع نظام يجمع بين التعيين والإنتخاب ، وحسبه من الإنتخاب صورته ، وان كانت هذه الصورة قلقة لا تكاد تستقر على قاعدة دينيةٍ صريحة ، ولا على مبدأ شعبي معترف به ، فالحقيقة أنه إنما صنع الإنتخاب ليتجنب التعيين ، لا أكثر. وبذلك يسلم من سخط أحد الفريقين المتخاصمين ، اتباع علي ، وأتبع عثمان.
عمر ، يعرف جيداً أن عليّاً هو صاحب الحق ، ولم تكن لتخفى عليه مؤهلاته للخلافة وسابقته وجهاده ، وقد أفصح للناس عن مسلك علي بقوله لهم : « يحملكم على الحق .. » لكن هناك قوة ثانية ترفض علياً وتأباه ، وهي قريش وحلفاؤها. إنها ترى فيه الشبح المرعب الذي يبدد كل آمالها وأحلامها ، فبالأمس القريب « في بدر وأحد » كانت هامات صناديدها من بني أمية وبني عبد الدار طعاماً هشاً لسيف علي ، ومع ضرباته كانت ألويتهم تتهاوى لواءً بعد لواء ، ويتهاوى معها الشرف الجاهلي ، وليست قريش وحدها كانت تحذر علياً وتخشاه ، بل المنافقون واليهود أيضاً يشاركونهم هذا الشعور ، فهم لا ينسون أبداً ضربته يوم ( الخندق ) وثبات سيفه في جمجمة عمرو بن ود دون أن يلتوي في يده أو يُفل ، ويوم ( خيبر ) لا زالوا يذكرون كيف كان سيفه يقعقع في أضراس ( مرحب ) وأخيه ( الحارث ) ولم يكتف بذلك حتى امسك بباب الحصن وجعلها ترساً له حتى فتح الله على يديه ، حين يذكرون ذلك تنخلع قلوبهم خوفاً وفرقاً ، لذلك هم يرفضونه .. ويرفضونه .. يرون فيه المارد الذي يلاحقهم يلوّح لهم بالموت الأحمر إن لم يفيئوا إلى الحق. وهم يهربون من الحق.
وعثمان ، يعرفه عمر جيداً ، ويعرف مدى ضعفه عن أمر الخلافة ، وكيف أنه إن وَلِيَها سيؤثر أهله وذوي قرابته على سائر المسلمين ، وأنه « سيحمل بني أمية وبني أبي مُعَيط على رقاب الناس. » كما أنبأه بذلك ؛ ولكن ! قريش تريد عثمان.
الناس تريد عدل علي واستقامته ، وقريش تحذر عدل علي واستقامته ، وأبو حفص كان يعلم هذا وذاك. مأزق حرج لا يمكنه معه الاختيار صراحة.
أيعلن للناس استخلاف علي دون غيره صراحة ؟ فيخسر بذلك قريشاً ، فلا يسلم من سخطها وإنتقامها بعد موته ويصبح مضغةً في أفواه شعرائها وخطبائها ، ونهشةً لرواة السوء ـ كما فعلوا بعلي فيما بعد ـ. أم يعلن استخلاف عثمان صراحةً ، وهو يعلم ما لعلي من مكانةٍ في نفوس المسلمين ، فلن يسلم أيضاً من سبّه التاريخ ! ودفعاً لهذا وذاك ، تركها حرةً طليقة ، ولكن بعد أن امسك بزمامها ، تروح ثم تغدو إليه آخر الأمر.
وأدرك عليٌّ أبعاد هذه الشورى وما انطوت عليه من تدبير ، فلقي عمه العباس وقال له : « عُدِلتْ عنا ! » يعني الخلافة.
قال له : وما أعلمك ؟
قال : قرن بي عثمان ثم قال إن رضي ثلاثةٌ رجلاً ، ورضي ثلاثةٌ رجلاً ، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ! فسعدٌ لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن ، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون ، فلو كان الآخران معي ما نفعاني. (13)
وكان عمه العباس قبل ذلك قد أشار عليه باعتزال هذه الشورى والترفع عن جلساتها محذراً إياه بأنه سيلقى ما يكره. فكان جواب علي له : « انني أكره الخلاف ! »
والحق أن بغضه للخلاف ليس وحده هو الدافع لمشاركته لهم في هذا الأمر ، سيما بعد أن استبق النتيجة وعلم الأمر سيكون لغيره ، بل هناك دافع آخر للمشاركة معهم ، وهو يتلخص : « في أن لعلي مذهباً في السياسة ؛ مثاليّاً واقعيّ المثالية ، لا يتنازل عنه إلا أن يتنازل عن نفسه وشخصيته ؛ وما أظنك مغالياً إذا ظننت أن مذهبه هذا أعان خطة الشورى المكشوفة المقنّعة على النجاح ، كما اعان على علي نفسه قبل الشورى وبعدها مراتٍ عديدة. (14)

المصادر :
1- نهج البلاغة / ج ١ / ٤١ ـ ٤٢
2- الإصابة ٣ / ٤٥٢
3- مروج الذهب ٢ / ٣٢٠.
4- حليف مخزوم ـ ١٦٠.
5- مروج الذهب ٢ / ٣٢٠.
6- الإمامة والسياسة ١ / ٢٦.
7- الإمامة والسياسة ١ / ٢٦.
8- راجع الإمامة والسياسة ١ / ٢٨.
9- شرح النهج ١ / ١٦٤
10- شرح النهج ١ / ١٨٦ ـ ١٨٧.
11- شرح النهج ١ / ١٨٦ و ١٨٧.
12- العقد الفريد ٤ / ٢٧٥ والكامل ٣ / ٦٧.
13- العقد الفريد ٤ / ٢٧٦ وغيره.
14- حليف مخزوم ١٧٢ ـ ١٧٣.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.