
جمع المقداد أعضاء الشورى الستة في بيت ، بينما وقف أبو طلحة الأنصاري على الباب ومعه خمسون رجلاً متقلدي سيوفهم تنفيذاً لوصية عمر. أما عبد الرحمن بن عوف فقد أمضى أياماً ثلاثة يشاور الناس في أمر الخلافة.
وأقبل الناس نحو المسجد يتدافعون إلى جهة الباب ، وهم لا يشكون في مبايعة علي بن أبي طالب.
وكان هوى قريش كافة ـ ما عدا بني هاشم ـ في عثمان ، وهوى طائفة من الأنصار مع علي ، وهوى طائفةٍ أخرى مع عثمان ـ وهي أقل الطائفتين ـ وطائفة لا يبالون أيهما يبايع. (١)
وقام كل واحد من الستة يدلي برأيه على مسمع الآخرين ـ كما ذكر الطبري ـ في خطبة يستهلها بالحمد والثناء على الله ، حتى قام علي عليهالسلام فقال :
الحمد لله الذي إختار محمداً منا نبيّا ، وإبتعثه إلينا رسولا ، فنحن أهلُ بيت النبوّة ، ومعدنُ الحكمةِ ، أمانٌ لأهل الأرض ، ونجاةٌ لمن طلب ، إنّ لنا حقاً إن نُعطَهُ نأخذه ، وان نمنعه نركب أعجاز الإِبل (قوله عليهالسلام : نركب أعجاز الإِبل ، كناية عن المعاناة والمشقة ، فهو يحتمل أحد تفسيرين :
الأول : إن نُمنعه : نصبر على المشقة كما يصبرعليها راكب عجز البعير.
والثاني أن نمنعه نتأخر ونتبع غيرنا كما يتأخر راكب البعير عن مردفه) وإن طال السرى ! لوعهد إلينا رسول الله صلىاللهعليهوآله عهداً لأنفذنا عهده ، ولو قال لنا قولاً لجالدنا عليه حتى نموت. لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق ، وصلة رحم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (2).
إسمعوا كلامي ، وعوا منطقي ، عسى أن تروا هذا الأمر بعد هذا الجمع تنتظى فيه السيوف ، وتخانُ فيه العهود ، حتى لا يكون لكم جماعة ، وحتى يكون بعضكم أئمةً لأهل الضلالة ، وشيعةً لأهل الجهالة.
إنتهى كل واحد من كلامه ، وخيّم سكون مملٍ ، بينما كان الصخب يملأ أرجاء المسجد ، والهتاف يتعالى معلناً إسم علي تارةً واسم عثمان أخرى ، مما دفع بالأربعة الباقين أن يتخذوا القرار المناسب في حق أنفسهم فيدلي كل واحد منهم بصوته إلى عثمان أو علي ؛ لأنهم علموا أن الناس لا يعدلوهم بهما ، ولأن عبد الرحمن فرض نفسه من أول الأمر كمنظم لهذه الشورى ومدير لها ، سيما وأن عمر ألمح إليه بأن الخلافة لا تصلح له ، حين قال له : « وما زهرة وهذا الأمر ! ».
إذن ، كان الناس فريقان ، فريق يريدها لعلي ، وهو الفريق الممثل بالمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر. وفريق يريدها لعثمان ، وهو الفريق الممثل بابن أبي سرح وابن أبي المغيرة ؛ وتعالت الأصوات في هذا الحال ، كل فريق ينادي باسم صاحبه.
أقبل المقداد بن الأسود على الناس ، فقال : أيها الناس ، إسمعوا ما أقول ، أنا المقداد بن عمرو ، إنكم إن بايعتم عليّاً سمعنا وأطعنا. وان بايعتم عثمان سمعنا وعصينا ! ».
فقام عبدالله بن أبي ربيعة المخزومي ، وقال : « ايها الناس ، إنكم إن بايعتم عثمان سمعنا وأطعنا ، وان بايعتم عليّاً سمعنا وعصينا. ».
فانتفض المقداد ورد عليه فقال : « يا عدُوّ الله ، وعُدوّ رسوله ، وعدُوّ كتابه ، ومتى كان مثلك يسمع له الصالحون ! » ؟
فقال له عبدالله : يابن الحليف العسيف ، ومتى كان مثلك يجترئ على الدخول في أمر قريش !
وصاح عبدالله بن أبي سرح : « أيها الملأ ، إن أردتم أن لا تختلف قريش فيما بينها ، فبايعوا عثمان. ».
فنهض عمار بن ياسر وقال : « إن أردتم أن لا يختلف المسلمون فيما بينهم فبايعوا عليّاً ». ثم أقبل على ابن أبي سرح وقال له : يا فاسق يا ابن الفاسق ، أأنت ممن يستنصحه المسلمون أو يستشيرونه في أمورهم ! ».
فتكلم بنو هاشم وبنو أمية ، فقام عمار فقال : أيها الناس ، إن الله اكرمكم بنبيه وأعزكم بدينه ، فالى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ! » (3).
كانت أصوات الفريقين تعجل في حسم الأمر خوفاً من وقوع الفتنة ، فتقدم طلحة فأشهدهم على نفسه أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان.
فقال الزبير : وأنا أشهدكم على نفسي أني قد وهبت حقي من الشورى لعلي.
فقال سعد بن أبي وقاص : وأنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمي عبد الرحمن. (4)
وسكت عليٌّ وظل عثمان ساكتاً ، وأسفرت الجولة الأولى عن رجحان بين لعبد الرحمن ، لقد ملك صوتين كعلي وعثمان ، وزاد عليهما بأن صوته يعادل صوتين ، فهو حتى الآن مركز الثقل حقاً.
ترى ، أيضم صوته لنفسه فيخرج على خطة عمر القائلة : « وما زهرة وهذا الأمر ؟ » أم يمضي الى أمر عمر وخدمة صهره ؟ أم يعدل عن هذا كله ويتجه الى علي صاحب الأمر في عقيدة الكل ؟
كان الرجل ساكتاً أيضاً ، وكان يدير في فكره لفتةً بارعةً ، لا ندري أهي من بناته أم من محفوظاته ؟ ولكنها بارعةٌ في كل حال. (5) فقد التفت إليهما وقال :
أيكما يخرج نفسه من الخلافة ويكون إليه الاختيار في الإثنين الباقيين ؟ فلم يتكلم منهما أحد. فقال عبد الرحمن : أشهدكم أنني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدهما (6).
ومن براعة لفتته أنه لم يلتفت إلى عثمان ، بل التفت الى علي فقال له : أمدد يدك أبايعك على العمل بكتاب الله ، وسنة رسوله ، وسيرة الشيخين.
فيقول علي : بل على العمل بكتاب الله ، وسنة رسوله ، وأجتهاد رأيي.
فيلتفت آنذاك عبد الرحمن إلى عثمان فيذكر له شروطه الثلاثة ، فيقرها عثمان.
ثم لا يعجل عبد الرحمن ، فيسرع إلى بيعة أخي زوجه من أول مرة ، فهو مطمئن إلى ان علياً يرفض الخلافة بغير شرطه هو ، لأنه لا يناقض نفسه ، ولا يسر حسواً في إرتغاء. ومن أجل هذا إستأنى عبد الرحمن وكرّرَ عرضه على عليّ الذي أباه ثلاث مرات ! ثم نهض وعبد الرحمن يَصفِق على يد عثمان بالبيعة. (7) ويقول له : السلام عليك يا أمير المؤمنين.
وهنا يلتفت علي إلى عبد الرحمن ، فيقول له : والله ما فعلتها إلا لأنك رجوتَ منه ما رجا صاحبكما من صاحبه. دَقّ الله بينكما عِطر مَنشِم. » (8)
وقد عبر علي بن أبي طالب عن عدم رضاه عن هذه النتيجة ، وتسليمه بالأمر الواقع ، قائلاً.
« لأُسَلِمّنَّ ما سلمت أمور المسلمين ، ولم يكن فيها جورٌ إلا عليّ خاصة » (9).
وفي رواية الطبري : أن علياً عليهالسلام قال حين بويع عثمان : ليس هذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ؟ والله ما وليته الأمر إلا ليردّهُ إليك ، والله كل يوم في شأن.
فقال عبد الرحمن : لا تجعل على نفسك سبيلاً يا عليّ ـ يعني أمرَ عُمر أبا طلحة أن يضرب عُنق المخالف ـ فقام علي عليهالسلام فخرج ، وقال :
قال الأصمعي : منشم إسم امرأة كانت بمكة عطارة وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيبوا من طيبها ، وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فيما بينهم ، فكان يقال : أشأم من عطر منشم ، فصار مثلاً. وقال أبو هلال العسكري في كتاب ( الأوائل ) ، استجيبت دعوة علي عليهالسلام في عثمان وعبد الرحمن فما ماتا إلا متهاجرين متعاديين ..
ولما بنى عثمان قصر طمار بالزوراء وصنع طعاماً كثيراً ودعا الناس إليه ، كان فيهم عبد الرحمن. فلما نظر للبناء والطعام قال : يابن عفان ، لقد صدّقنا عليك ما كنا نُكذّب فيك ، واني استعيذ الله من بيعتك ، فغضب عثمان وقال : اخرجه عني يا غلام ، فاخرجوه وأمر الناس أن لا يجالسوه ، فلم يكن يأتيه أحد إلا ابن عباس ، كان يأتيه فيتعلم منه القرآن والفرائض ، ومرض عبد الرحمن فعاده عثمان وكلمه ، فلم يكلّمه حتى مات. (10)
فقال عمار : يا عبد الرحمن ، أما والله لقد تركته ، وانه من الذين يقضون بالحق وبه كانوا يعدلون.
وقال المقداد : تالله ما رأيت مثل ما أُوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم ، واعجباً لقريش ! لقد تركت رجلاً ما أقول ولا أعلم أن أحداً أقضى بالعدل ، ولا أعلم ، ولا أتقى منه ! أما والله لو أجد أعواناً.
فقال عبد الرحمن : إتق الله يا مقداد ، فإني خائف عليك الفتنة.
لكن عليّاً عليهالسلام إلتفت نحو المقداد وعمار ، وقال ، مسلياً ومهدئاً لهما :
« اني لأعلم ما في أنفسهم ، إن الناس ينظرون إلى قريش ، وقريش تنظر في صلاح شأنها ، فتقول : إن وليَ الأمر بنو هاشم لم يخرج منهم أبداً ، وما كان في غيرهم فهو متداول في بطون قريش » (11)
المصادر :
1- شرح النهج ٩ / ٥٢.
2- شرح النهج ١ / ١٩٥.
3- شرح النهج ٩ / ٥٢.
4- شرح النهج ١ / ١٨٧ ـ ١٨٨.
5- حليف مخزوم ١٧٥.
6- شرح النهج ١ / ١٨٨.
7- حليف مخزوم ١٧٥.
8- شرح النهج ١ / ١٨٨.
9- ثورة الحسين / ٣٤.
10- شرح النهج ١ / ١٩٦.
11- شرح النهج ١ / ١٩٤.