لقد حظي الجار في الإسلام بمكانة لم يحظ بها في الأديان الأخرى انطلاقاً من حب التعارف والتعاون بين الإنسان وأخيه الإنسان حيث لم تحصر حقوقه في حدود الوحدة الدينية بل تعدّتها في السعة والشمول والحثّ والاهتمام بما لم تصل إليه في موارد أخرى وما ذلك إلا لمضمون سمائي يترجم التعاليم الإلهية في خطوط الحياة العامة ويحدّد الأسس التي ينتمي إلى رحمها الأمثل والأكمل من التعامل،
﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾(1)
ألف- حرمة الجار:
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "حرمة الجار على الإنسان كحرمة أمه"(2).
فكانت الدعوة من الله سبحانه كما في الآية والوصية من جبريل كما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه فمن قصرّ في حقه عداوة أو بخلاً فهو آثم"(3).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "الله الله في جيرانكم فإنهم وصيّة نبيّكم"(4)...
وهو في لحظات عروج روحه إلى الملكوت الأعلى مهتما ومشدّداً في الحفاظ على هذه الوصيّة الأساسية.
ب- حدّ الجار:
ربما تسأل عن الحد المكاني الذي تنتهي معه حقوق الجوار بحيث أن الذي يتجاوزه لا يحسب جاراً، والجواب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أربعون داراً جارٌ"(5)
ولعلي عليه السلام: "حريم المسجد أربعون ذراعاً، والجوار أربعون داراً من أربعة جوانبها"(6)
وعلى ذلك يصبح المحيطون بدارك شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً بما اشتملت عليه مساحة الأربعين لهم حقوق الجار عليك.
ج- اختيار الجار:
ما من أحد لم يسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "الجار ثمّ الدار" حينما سُئل من أحدهم أين يأمره بشراء داره(7)
ولعل التصميم على تقديمه أنه الأهم وما يترتب عليه من هناء أو عناء وما يكتسبه الرجل من جيرانه فإنه حسن الجوار يعمّر الديار ويزيد في الأعمار.
وإن جار السوء أعظم الضرّاء وأشدّ البلاء، فمن هنا وجب التأني في الاختيار لما يترتب على ذلك من الآثار وهو المعنى المراد بقول أمير المؤمنين عليه السلام: "سل عن الجار قبل الدار"(8).
د- الجيران ثلاثة:
حيث جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "الجيران ثلاثة: فجار له ثلاثة حقوق، وجار له حقان، وجار له حق واحد".
1- فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب فله حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام.
2- والجار الذي له حقان فهو الجار المسلم، فله حق الإسلام وحق الجوار.
3- والجار الذي له حق واحد، الكافر فله حق الجوار(9).
هـ- حقوق الجار:
الأول: حفظه غائباً.
ومعنى ذلك أن لا يتعرض له بالغيبة والنميمة مستغلاً غيابه للنيل منه والاعتداء على كرامته مريداً بذلك تشويه سمعته أمام الآخرين وقتله من الناحية المعنوية.
الثاني: إكرامه شاهداً.
أي من حقه حالة حضوره إكرامه وتوقيره واحترامه وتقديره على أحسن الوجوه التي تقضي بها ثوابت العلاقة السليمة وسبل الحياة الكريمة.
الثالث: نصرته إذا كان مظلوماً.
حيث لا يشرع السكوت عن ظلامته بل لا بد من رفعها عنه وعدم ضياع حقه في حضرتك سواء كان مظلوماً في شأن ديني أو شأن دنيوي، فإن الواجب معونته وردّ غيبته.
الرابع: أن لا يتّبع عورته.
وهي صفة رذيلة نهى الإسلام عنها وحذّر منها ويتأكد هذا في الجار حيث أن القرب والجوار يشكّلان منفذاّ للإطلاع على بعض الخصائص والأسرار التي لا يتيّسر للبعيد التعرّف عليها وربما كان ذلك في شؤون بيتية أو عائلية فمن القبح بمكان السعي وراء معرفة عيوبه وأقبح من ذلك إذاعتها لتعييره بها.
الخامس: أن يستر عليه.
وهذا ما بات واضحاً من خلال معرفة الحق الرابع، فإن ذلك ثابت له، سواء كان العلم... ناتجاً عن التتبع المذموم أو من خلال الصدفة والاتفاق.
السادس: أن ينصحه.
ويكون ذلك لزاماً مع تحقق أمرين: الأول: أن يقبل النصيحة ولا ينفر، والثاني: أن تكون بينك وبينه حيث أنها تمثّل في السرّ زيناً له، بينما في العلم وأمام الملأ تصبح شيناً عليه.
السابع: إعانته عند الشّدة.
فإن من حق الجار أن لا يسلّم جاره عند المصيبة الشديدة ويتركه للنائبات بل أن يقف إلى جانبه مؤازراً ومواسياً ومعيناً له بالنفس والمال وما وقع تحت قدرته.
الثامن: أن يعفو عنه(10).
لأن العيش الكريم والإباء والترفع على خط واحد فيما لو صدرت منه إساءة أو زل في مقام أو عشر في حديث وما أكثر ما يقع ذلك بين الجيران خصوصاً في المرافق العامة المشتركة بينهم كمواقف السيّارات أو مداخل الأبنية وما شاكلها، فإن المطلوب هو الصفح عنه والحلم معه حتى يرجع إلى رشده وصوابه وهو الأقرب للتقوى ودوام حسن الجوار.
التاسع: أن يعوده إذا مرض.
وفي عيادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لجاره اليهودي كما تحدثنا الروايات كفاية.
العاشر: أن يشيّعه إذا مات.
ويدل على ذلك ما ورد عموماً في تشييع الجنازة والجار من باب أولى وخصوصاً ما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تعداد حقوقه: "وإن مات اتبعت جنازته"(11)
وهناك حقوق تفصيلية اشتمل عليها حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ما تقدم حيث يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "وإن استقرضك أقرضته، وإن افتقر عدت عليه، وإن أصابته مصيبة عزّيته، وإن أصابه خير هنّأته، وإن مرض عدته، وإن مات اتبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، وإذا اشتريت فاكهة فأهدِ له، فإن لم تفعل فأدخلها سراً، ولا تخرج بها ولدك تغيظ بها ولده، ولا تؤذه بريح قدرك إلا أن تغرف له منها"(12)
إن ذكر هذا المنهج في التعاطي ما هو إلا للحرص على راحة الجار والعناية الفائقة به حتى أثناء القيام بالحاجات الشخصية كطهي الطعام وغيره رعاية لإبقاء المودة حتى بين الصغار الذين هم بذور الخير التي ستثمر غداً في ربوع هذه العلاقة الحميمة.
بل الواجب تفقّده لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: "ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جائع"(13)
و- آثار حسن الجوار:
1- زيادة الرزق:
حيث جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام: "حسن الجوار يزيد في الرزق"(14)
2- زيادة العمر:
كما عنه عليه السلام: "حسن الجوار يعمّر الديار ويزيد في الأعمار"(15) وكذلك يتضح من هذا الحديث أثر ثالث وهو:
3- عمران الديار.
المصادر :
1- النساء:36.
2- ميزان الحكمة، 3008.
3- م.ن، 3005.
4- م.ن، 3006.
5- م.ن، 3028.
6- م.ن، 3027.
7- م.ن، 3010.
8- م.ن، غرر الحكم، 5598.
9- يراجع: البحار، ج71، ص155 – ومستدرك الوسائل، ج8، ص424.
10- إن جميع هذه الحقوق مستفادة من رسالة الحقوق، ص119.
11- ميزان الحكمة، 3026.
12- م.ن، 3026.
13- م.ن، 3024.
14- م.ن، 2999.
15- م.ن، 3000.