المواطنة فی لبنان

لا یخلو مجتمع من المجتمعات فی العصر الحدیث من مجموعة من الانتماءات سواء کانت فطریة أو إرادیة. کذلک هناک تنوع فی الولاءات التی یقع الأفراد تحت تأثیرها.
Tuesday, January 9, 2018
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
المواطنة فی لبنان
 المواطنة فی لبنان



 
 

لا یخلو مجتمع من المجتمعات فی العصر الحدیث من مجموعة من الانتماءات سواء کانت فطریة أو إرادیة. کذلک هناک تنوع فی الولاءات التی یقع الأفراد تحت تأثیرها.
المقصود بالولاء هنا هو العلاقات التبعیَّة والهیمنة والانصیاع والأسبقیة للأفراد وللجماعات داخل المجتمع الواحد. وهی ولاءات تتجسد عبر المؤسسات والأطر الطبیعیة والإرادیة التی تؤطر الأفراد أو الجماعات بإطارها وتنظم العلاقات فیما بینها، والتی تتجلى فی تعینات ونماذج متـنوعة کالأسرة والعائلة والطائفة، والحزب والنقابة، والدولة، والأمة.
ففی کل دائرة أو إطار من هذه الإطارات تنعقد روابط الأفراد وتقدم علاقات التعاون والمحبة والنزوع نحو تحقیق الأهداف.
ولا بد لکل من هذه الإطارات من معاییر ضبطیة وازنة تتحدد على أساسها سلوکات الأفراد بحسب المواقع والأدوار التی ترسمها الجماعة لنفسها. ومن هنا، تظهر لدى کل منها التراتبیات والمواقع المقرونة بمنظومة من القیم والمعاییر والقوانین الخاصة التی تحدد الأدوار، وهی أدوار لا تخرج عن نطاق الأهداف الخاصة للجماعة.
وفی هذا السیاق، فإن ترافق الولاء مع موضوعة الانتماءات الطبیعیة والإرادیة یثیر إشکالیة طُرحت ولا تزال على بساط البحث وهی تقوم على أساس السؤال حول کیفیة حسم الولاء فی حال وجود أکثر من انتماء للفرد کالانتماء إلى الطائفة والانتماء إلى الدولة، وفی حال التعارض بینهما لناحیة الأهداف لأی من هاتین الدائرتین یحسم الفرد ولاءه؟ وثمة مثال عملی حول الموضوع یتمثل بالنزوع نحو بناء دولة المواطنة فی لبنان، وهی قد تتعارض مع الدعوة إلى الالتزام بأهداف الطوائف والرؤى الفکریة ذات المنطلقات الدینیة.
وبطبیعة الحال لا تکمن الإجابة عن الإشکالیة فی هذه المقاربة المقتضبة، بقدر ما هی محاولة لفتح باب النقاش حول هذه الفکرة التی ستعمد إلى بلورة فکرة المواطنیة والبحث حول الإشکالات المثارة حولها، ثم تبیان مدى ملاءمتها مع الدعوة إلى بناء الدولة القویة العادلة.

بروز فکرة المواطنیة

یتعرض مفهوم الدولة فی الإسلام منذ قرنین من الزمن إلى کثیر من الجدل الدائر حوله. وترافق هذا الجدل فی حیثیاته الزمنیة مع التطورات التی شهدتها المجتمعات الأوروبیة جراء حسم الصراع لصالح الفصل بین الزمنی والروحی من دائرة الاجتماع السیاسی. لقد حُسِم هذا الصراع بعد سیرورة من التحولات التی عمت شمال أوروبا وغربها بینها معاهدة وستفالیا عام 1648 التی أقرت مبدأ سیادة الدول المشارکة فیها على المناطق التی تخضع لسیطرتها، وبنتیجتها صار سکانها أتباعاً للدولة على اختلاف انتماءاتهم العرقیة والثقافیة، وصار للدولة سیادة تختص بإقلیم جغرافی معین، وعلى المواطنین القاطنین فی ذلک الإقلیم، وهو ما یعنی زوال عهد الإمبراطوریات وبدایة مفهوم الدولة الأمة.
لم تکن هذه التطورات أسیرة الساحة الأوروبیة فحسب، لکنها ستمتد إلى العالم الإسلامی جراء تحولات وتغیرات جرت فی هذا العالم وان لم تکن مماثلة لما حدث فی الغرب، وإنما بفعل انهیار السلطنة العثمانیة التی کانت تمثل ولو رمزیاً امتداداً لعهود الخلافة الإسلامیة بامتداداتها الجغرافیة واستیعابها لمکونات ثقافیة وعرقیة لم تکن تجد فی ذواتها ما یؤدی إلى تأکید خصوصیاتها بالانفصال عن السلطنة، بل راحت تعلن لها الولاء ولو لم یکن بالمطلق، انطلاقاً من مبدأ مشروعیة السلطة المتأسسة تاریخیاً على الدمج بین الدینی والسیاسی.
إن انهیار السلطنة وبروز عهود الاستعمار والاحتکاک الثقافی المباشر مع الغرب من خلال النخب الثقافیة، ثم محاولات حرکات التحرر الوطنی الانعتاق من الاستعمار، وبناء الدولة الحدیثة، کل ذلک أدى إلى وضع موضوعة الدولة والسلطة على بساط البحث والجدل. وقد تشعبت الآراء بین نخب تنوعت فی منطلقاتها وغایاتها بینها تلک التی حاولت الانعتاق من دائرة الدمج بین الدینی والسیاسی، والولوج إلى مقاربات تحاکی تلک التی بنى فیها الغرب دولته على قاعدة إعادة النظر بوظیفة السلطة وغایاتها وعلاقتها بالأرض والإقلیم والجماعات القاطنة فیها کأفراد یمثلون ذواتهم الفردیة فی إطار علاقتهم بالدولة دون إلغاء خصوصیاتهم الثقافیة التی تبقى فی إطار دوائرها الاجتماعیة، فیما تعلو الدولة علیها وترتقی فوقها بشکل مستقل عن الأطراف التی تدخل فی تکوینها المجتمعی.
جراء هذه التطورات، ما زال الحدیث یتزاید حول فکرة المواطنیة فی عالمنا العربی والإسلامی منطلقاً من محورین أساسیَن: أولهما خارجی وهو الغرب الساعی نحو تعمیم نموذجه الدیمقراطی فی عالمنا المعاصر فی مقابل دعوات أسلمة السلطة والعودة إلى فکر الخلافة التی تتجاوز الجغرافیا بوصفها أحد مخلفات الاستعمار الحدیث.
والمحور الآخر، هو المحور الداخلی الذی یمثله المثقفون ودعاة الحریة فی التیارات العلمانیة والإصلاحیون الإسلامیون الذین تجاوزوا فکرة دولة الخلافة أو الامامة إلى دولة المواطنة التی تقوم على أساس علاقة الفرد بالدولة فی إطار جغرافی محدد

مبادئ المواطنیة:

بفعل التطور الحاصل فی التنظیر لفکرة دولة المواطنیة ثمة جملة من المبادئ التی یمکن أن ترتکز علیها هذه الفکرة یمکن إیرادها على الشکل التالی:
تقوم المواطنیة على أساس الانخراط العمیق فی مبادئ عامة واحدة قوامها الحقوق والواجبات التی یتساوى فیها المواطنون بوصفهم أفراداً قبل أن یکونوا جماعات وطوائف وأدیاناً.
تقوم المواطنیة على أساس الولاء للدولة التی تؤطر المواطنین بإطارها العام والکلی فیما یتحول الولاء إلى الجماعات التقلیدیة إلى ولاء ثانوی.
تستلزم المواطنیة وجود الحریة بمستویاتها المتنوعة السیاسیة وأصلها حق الانتخاب والترشّح وتکوین الجماعات السیاسیة، وأن الشعب مصدر السلطة والحریة الدینیة التی تستلزم احترام العقائد والأدیان داخل الدولة نفسها، ثم الحریة الاقتصادیة القائمة على مبادئ الحریة فی الکسب والعیش فی حدود القوانین التی ترعاها الدولة.
تقوم المواطنیة على أساس تنظیم الخلاف عبر تحدیدها لآلیات الوصول إلى السلطة التی یکون الشعب مصدراً لها ولیس شیئاً آخر
تستند المواطنیة إلى فکرة أن الشعب هو مصدر القوانین والتشریعات ولیست الأدیان.
تعتبر المواطنیة أن المؤسسات تعلو على الأفراد، بوصفها مؤسسات عامة تتجاوز انتماءاتهم السیاسیة والاعتقادیة.
تنظم دولة المواطنة سلطة الدولة باعتبارها صاحبة السیادة على أرضها ومواطنیها.
لا تخرج دولة المواطنة عن مفهوم الدین وغایاته، ویعتبر منظورها أن علاقة الفرد بخالقه مکفولة باحترام الدولة لتطبیق الشعائر الدینیة، بل هی تجسد إحدى غایات الدین بتأکیدها المساواة بین البشر. وهی على هذه الحال ترتکز على أبعاد إنسانیة وأخلاقیة واجتماعیة.

علاقة المواطنیة بالدیمقراطیة:

تبرز فکرة المواطنیة کأحد الحلول المطروحة فی لبنان على أنها فکرة جاهزة للتطبیق. ولکن یمکننا القول إن البحث فی موضوعة المواطنیة لا یخلو من صعوبات خصوصاً عند محاولات شرح المفهوم لکونه خضع للتعدیل عبر مسارات تاریخیة متعددة حکمت علاقة الفرد بالدولة ولکونه یتداخل مع مفهوم الوطن والوطنیة ومع مفهوم الهویة والأمة والشعب، ولذلک عبّر بعض الباحثین عن أنماط مختلفة من المواطنیة عبر انتقاء عینات تناولتها دراساتهم انطلاقاً من عهود الیونان والرومان مروراً بالعصور الوسطى وحتى عصرنا الراهن. وقد برزت خلالها أشکال متنوعة فی ممارسة المواطنیة. وکان من بین هذه الدراسات الأکثر شهرة وتأثیراً المواطنیة والطبقات الاجتماعیة من تألیف ت-هـ - مارشال وهی على شکل مقالات ألقاها عام 1949 میز خلالها ثلاثة أشکال من المواطنیة، وهی المدنیة (مثلاً المساواة أمام القانون) والسیاسیة (التصویت على سبیل المثال) والاجتماعیة ونموذجها دولة الخدمات الاجتماعیة. هذا بحسب تطورها التاریخی بالنسبة لمارشال(1) .
قامت المواطنیة کمبدأ مؤسس للسیادة الفردیة وکمصدر لتضامن حی بین أناس أحرار، على الاعتقاد فی مواجهة الکنیسة بصلاحیة العقل الانسانی کأساس للتفاهم العام.
ومع فکرة المواطنیة لم تعد السیاسة قائمة على علاقة روحیة أو مشروطة بالإیمان، وإنما تحولت إلى نظام من التوازنات بین القوى والأفراد والجماعات، أی إلى سلطة شرعیتها نابعة من فکرة السیادة الشعبیة. وضمن فضاء هذه الشرعیة تتحقق السیاسة بما هی منافسة، وبما هی مفاوضة وتقاسم للمصالح والامتیازات. وهذا الأمر عدل بشکل جذری فی مفهوم الحقوق والواجبات والالتزامات الجمعیة والفردیة والمسؤولیات العامة، فی کل میدان(2).
تتلازم الدیمقراطیة مع المواطنیة. وهی ضروریة لأن الدیمقراطیة تقوم على الفصل بین المجتمع المدنی والمجتمع السیاسی، تضمن الحقوق القانونیة والسیاسیة لجمیع مواطنی بلد من البلدان بصرف النظر عن انتماءاتهم، المجتمعیة والدینیة والإثنیة وغیرها.
کذلک فإن المواطنة ارتبطت ارتباطاً وثیقاً بالهویة. ولکنها الهویة التی تعنی الدولة الأمة بالمعنى الحدیث بحیث یجب أن تکونا متطابقتین، رغم أن تلازمهما مع الدیمقراطیة یفرض عکس ذلک.
وفی التحدیدات، ثمَّة تمایز بین المواطنیة والمواطنة کمرادف للجنسیة فی الدولة ــ الوطن. فالفرد هو مواطن باعتباره یحمل جنسیة الدولة، والأفراد المقیمون إما مواطنون وإما أجانب. ویمکن للفرد المواطن أن یکون مواطناً فی دولة تحرم بعض مواطنیها من أنواع من هذه الحقوق الثلاثة التی تقدم بها مارشال لدولة جنوب أفریقیا قبل إلغاء قانون التمییز العنصری عام 1996. (3)
حتى القرن الثامن عشر، کان لکلمة أمة دلالات مختلفة عما هی علیه الیوم. الیوم أضحت الأمة مرادفة لـ "البلد" أو "أرض الأجداد" والشعب الذی سکنها.
ومثلما بدأت کلمة موطن تنسلخ عن معناها البلدی، وتلتصق بالدولة، کذلک أخذ تعبیر أمة یتصل بالدولة أیضاً.(4)
لقد نجحت بلا شک، الدولة الأمة، عبر تثبیت نموذج دولة المواطنیة بضبط توترات الجتمعات الأوروبیة والغرب عموماً. ولکن ثمة فارق بین اعتمادها کنموذج یحتذى فی لبنان، وبین الوعی بظروف وملابسات نشأتها التاریخیة بالتلازم مع خصوصیات المجتمع الأوروبی. فی سعی دولة المواطنیة الدیمقراطیة نحو تثبیت فکرتها هذه، هجست بحلم الدولة التوحیدیة والتجانسیة. یقودنا هذا إلى مقاربة ممارسات عدّة على غرار مبدأ الدیار الدینیة الذی طغى على أوروبا أیام إیزابیل الکاثولیکیة التی طردت الیهود، وقضت على الحضارة العربیة، حتى نقض صک نانت من جانب لویس الرابع عشر عام 1685، وما تلاه من مجازر وتهجیر ونفی داخلی وخارجی للبروتستانت الفرنسیین وخاصة فی منطقة السیفین (5)
ولئن یدفعنا ذلک إلى القول بأن ذلک حدث إبان سیادة نظام الملکیة فی فرنسا، وسبق إعلان حقوق الإنسان عام 1789، وإنه لا مجال للحدیث فی عصرنا الحاضر عن اضطهاد للأدیان المغایرة للمسیحیة، أو المذاهب المغایرة للکاثولیکیة فی فرنسا وغیرها من البلدان الأوروبیة، ولکن انطلاقاً من مبدأ المواطنیة نفسه، وما یستند إلیه من حقوق وواجبات وولاء للدولة الأمة التی تعکس انتماء الفرد لجنسیة الدولة، فهل الحال ینطبق على الیهود الذین لا زالوا مشدودین إلى غیر دولهم وتحدیداً أرض المیعاد فضلاً عن تأثیراتهم على مجرى السیاسة العامة عبر ممالأة المرشحین الرئاسیین لهم عقب إجراء کل عملیة انتخابیة. لا یستطیع لبنان أن یحذو حذو بعض الدول الأوروبیة فی اضطهادها للأقلیات إبان محاولة تثبیت دیمقراطیاتها باعتبار أن نسیجه الاجتماعی کله عبارة عن أقلیات طائفیة أو على الأقل عن مجتمع منقسم بین دیانتین لا یمکن لإحداهما أن تطغى على الأخرى.
قد تتعرض الدیمقراطیة فی مراحل التأسیس إلى انفجارات تهزّ المجتمعات خصوصاً المنقسمة من الناحیة الإثنیة. وقد شکلت المرحلة التی أدت إلى تفکک یوغسلافیا فی تسعینات القرن العشرین مثالاً جیداً فی محاولة فرض قسری لمجتمع موحد قبل الشروع ببناء دیمقراطیة تحاکی النظم الغربیة، وبدعم من النظم الدیمقراطیة العریقة فی الغرب، کان التطهیر العرقی فی کرواتیا والبوسنة. وما تزال المجتمعات المتشکلة فی آسیا الوسطى والمجاورة لروسیا بعد تفکک الاتحاد السوفیاتی مثالاً على أزمة بناء الدیمقراطیة کما فی جورجیا وأبخازیا وأوسیتیا حیث لم تحلّ معضلة تنوع الإثنیات وبناء مجتمع المواطنة.
أما فی منطقة الشرق الأوسط، فتقدم ترکیا مثالاً واضحاً عن عجز الدیمقراطیة والعلمانیة المفروضة هناک عن انتاج مجتمع یتمتع فیه الأفراد بصفات المواطنة والمواطنیة فی آن معاً. لم تستطع هذه العلمانیة رغم عقود من الزمن استیعاب أو الحدّ من مطالبات الأفراد بالحقوق الثقافیة والاعتراف بخصوصیاتهم التی دفعتهم فیما بعد للمطالبة والعمل على بناء دولتهم الخاصة. کذلک لم تستطع هذه العلمانیة منع بروز الحرکة الإسلامیة التی صعدت إلى الحکم مع حزب الرفاه منذ عام 1994، وما زالت تسیطر على زمام السلطة هناک بالرغم من الضغوطات التی تتعرض لها تحت شعار اعادة النظر بقانونیة ودستوریة إطاراتها التنظیمیة بحجة مخالفة أعراف العلمنة الترکیة.
بحسب ارند لیجفارت، وفی معرض دراسته لتطبیقات الدیمقراطیة فی المجتمعات المنقسمة من الناحیة الإثنیة، یرى أن الدیمقراطیة الجذریة تقصی حزب الأقلیة عن السلطة وتبقى "دیمقراطیة" من الناحیة النظریة. وقلة هی الأنظمة السیاسیة التی تستطیع أن تستمر إلى الأبد عن طریق استثناء الأقلیة. فالمستثنون سوف یثورون فی نهایة المطاف، ما یمهد الطریق لقمعهم أو لنشوب حرب أهلیة.
وإن التفسیر الذی یقدمه بعضهم للآلیات الدیمقراطیة التناسبیة فی المجتمعات المنقسمة کیف أن الانتخابات الدیمقراطیة تکرر الانقسام الطائفی فی البرلمان عندما تلتحم الهویات الاجتماعیة الاقتصادیة والثقافیة والسیاسیة لانتاج أحزاب تمثل طبقة أو مجموعة إثنیة واحدة تمثیلاً صارماً. فإذا استخدم الحزب الرابح سیطرته على البرلمان لکی یقصی الأحزاب الإثنیة الاخرى عن السلطة بشکل دائم، لا یکون هناک حافز لدى الخاسر یدفعه إلى التمسک باللعبة الدیمقراطیة، ولن یکون بوسع الخاسرین أن یکونوا دیمقراطیین وبذلک یطرح التمثیل النسبی کمخرج لأزمة حتمیة(6).
وهذه المعضلة کان یجری التعبیر عنها فی أعمال لیبرالیین کبار فی القرن التاسع عشر مثل جون ستیوارت میل ولورد أکتون، فمیل، برغم أنه کان من الدعاة الثابتین للیبرالیة دیمقراطیة، یجادل بأن " المؤسسات الحرة تقرب من الاستحالة فی بلد یتألف من قومیات مختلفة"(7)

المواطنیة فی دائرة الواقع

لم یسقط الغرب نظام المواطنیة دفعة واحدة، ولم یتم تکریسها على النحو القائم إلا بعد خطوات متدرجة استوجبتها طبیعة الانتقال نحوها.
فبلدان کمنطقة شمال الأطلسی أی الولایات المتحدة وجنوب أوروبا إضافة إلى استرالیا ونیوزلندا، کانت طلیعة الدول المبادرة إلى إرساء حقوق المواطنیة وتوطیدها من القرن الثامن عشر وحتى یومنا هذا.
ولکن من خلال تتبع عملیة الإرساء هذه، تبین أن إحدى المشکلات المتعلقة بالمواطنیة هی صعوبة ترسیخها فی الثقافة الاجتماعیة السیاسیة فی دولة ما خلال فترة وجیزة من الزمن. فالولایات المتحدة الأمیرکیة وفرنسا، وبریطانیا، وسویسرا، والبلاد الواطئة استغرقت عدّة أجیال لتصل إلى المستویات الحالیة للحیاة المدنیة، وما زالت مستویاتها قاصرة عن بلوغ المثال المنشود بعدما تسنى للمواطنیة أکثرمن قرنین کی تنضج فی الولایات المتحدة الأمیرکیة(8)
ففی تجربة الغرب لم تکن المواطنیة لتستوجب وجود دولة جمهوریة کلیة القدرة، بل وجود ترابط شدید بین المجتمع المدنی والسستام السیاسی. لذا جرى التمهید للحداثة السیاسیة فی الغرب. واستوجب الأمر مدّة طویلة عبر سلسلة من الخطوات على غرار القضاء على الملکیة المطلقة فی بریطانیا، کذلک إعلان حقوق الانسان والمواطن الفرنسی، وإعلان الدستور الأمیرکی(9)
عقب حرب الاستقلال الأمریکیة عام 1776، أُنجزت المواد الدستوریة التی تم التصدیق النهائی علیها حتى عام 1781 والقاضیة بإقامة حکومة مرکزیة مؤقتة، فی حین عولجت مسألة المواطنیة فی المادة الرابعة المسماة "فقرة التآلف" لأن الغرض منها هو تربیة الشعور بالتقارب الاجتماعی بین الولایات المختلفة. وهی تنص على ضرورة أن ینعم السکان الأحرار فی کل ولایة من هذه الولایات بجمیع الامتیازات أسوة بالمواطنین الأحرار فی الولایات المختلفة باستثناء من یعیشون عالة على الغیر، کالمشردین، والهاربین من العدالة(10)
لکن تبعات هذا الأمر کشفت أن کلمة الأحرار یکتنفها الکثیر من الغموض بعدما بدت تعبر عن انقسامات فی قوانین الولایات فیما یتصل بالعبودیة حیث کان أعضاء "العرق الأفریقی" مستثنین فی الدستور من مکانة المواطن بالرغم من أن ولایة ما یمکن أن تمنح حقوقاً للسود(11)
ولم یبطل هذا الأمر إلا بعد إلغاء حق الولایات فی رفض المواطنیة لجمیع السود وبذلک زال نظام العبودیة ذاته.
کذلک فإن انکلترا لم تعمم الحقوق الانتخابیة إلا ببطء وعن طریق اتخاذها الإصلاح تلو الإصلاح بحیث لم تمنح الحقوق لمجمل الرجال البالغین إلا عام 1884.
ولذلک یمکننا القول إن الإیمان بضرورة اعتماد المواطنیة فی لبنان شیء والانطلاق نحو تطبیقها وترسیخها شیء آخر.
فمن بین ما یترتب على اعتماد مبدأ المواطنیة، بما هی حقوق وواجبات فی تعاطی الأفراد مع السلطة، أنها تخلق مناخاً سیاسیاً عاماً عبر اعتماد آلیات دیمقراطیة متجاوزة للطوائف تتیح الإقبال على صنادیق الانتخاب من قبل المواطنین بوصفهم أفراداً لا أبناء طوائف. ولکن ماذا تعنی حریة انتخاب الممثلین عن هؤلاء الأفراد أو الشعب إذا کان على سبیل الفرض هؤلاء الممثلون لا یشعرون بالانتماء إلى حقل سیاسی عام بقدر ما یشعرون بالانتماء إلى طوائفهم؟ فهل تکفی القوانین والمبادئ الدستوریة بهذه المهام ما لم یکن هناک وعی بمستلزمات المواطنیة وهی تحتاج إلى مراحل من التربیة والتنشئة أوإلى عملیة متدرجة من تجاوز الطائفیة باستحداث قوانین تراعی مبدأ هذا التدرج، لا سیما أن الإقرار المنزل من قبل نخبة السلطة، قد لا یحوز على الاجماع بضرورة تطبیق هذا المبدأ؟ وما یمنع الممثلین الذین عبروا إلى السلطة بناء على استیلاد المجتمع العام من العمل على تغریز الوشائجیة بین أبناء طوائفهم لضمان العبور مجدداً إلى السلطة حتى مع وجود آلیات دیمقراطیة مترتبة على اعتماد المواطنیة؟
ثمة اعتبارات حقیقیة تسهم فی إنجاح تطبیق المواطنیة وهی وجود وحدة مجتمعیة داخل الدولة نفسها، فی حین وجود مجتمع قائم على التنوع فی مکوناته الاجتماعیة والثقافیة والدینیة قد یعیق تطبیق مبدأ المواطنیة.
قد یثیر بعضهم النقاش حول وجود هویة واحدة لمکونات الاجتماع السیاسی اللبنانی. وقد أثیر الجدل بین الکثیر من المثقفین اللبنانیین، فاختلفت المقاربات باختلاف منطلقات هؤلاء المثقفین. فالمنطلقات التی تحیل إلى الدین والطائفة تقول بالتنوع داخل هذا المجتمع الذی یضم مسلمین ومسیحیین، بل حتى التنوع داخل الدین نفسه. والمقاربة التی تحیل إلى اللغة تتباین بین أصالة اللغة العربیة بین هذه المکونات کافة وبین رأى آخر یراه آخرون ینطلقون فی التفریق بین اللغة العربیة کأم وبین التعریب الذی فرض على المسیحیین لیحل محل لغات لاتینیة وسریانیة إبان الفتوحات الإسلامیة، وهکذا بالنسبة إلى الانتماء العرقی إلى أصول عربیة وآخرى آرامیة وسریانیة.
وبمعزل عن هذا الجدل الذی ازدهر فی الخمسینات إبان صعود فکرة القومیة العربیة، فإن واقع الحال یشکل منطلقاً فعلیاً للمقاربة وهی وجود هذا التنوع الذی یحیل إلى الدین أو الطائفة إن لم یکن إلى أکثر من ذلک. ولکن مع وجود هذا التنوع فما لا شک فیه إن تجرید هذه الانتماءات المتنوعة دینیاً وطائفیاً من أبعادها الوشائجیة بما تعنیه من وظیفة تخدم الطائفة فی حقل المغالبة والمحاصصة، یردها إلى أصالتها المفتوحة على القیم الدینیة، فإن هذه التنوعات تتشارک بالبعد الایمانی المتجاوز لخصوصیات الدین أو الطائفة. فإذا جاز القول إن عموم المجتمع اللبنانی بتنوعاته وانقساماته هو مجتمع إیمانی بغض النظر عن مدى تعبیر کل فرد عن مضمون هذا الإیمان هذا اذا ما تم الفصل بین تحول الدین أو الطائفة إلى عصبیة وبین حالته الأصلیة بما هو انفتاح علاقة الفرد على عالم السماء.
اذن یبقى هاجس المواطنیة غیر مشدود، والحال کذلک، نحو البحث عن مجتمع قومی موحد، بقدر ما ترتبط القضیة بعدم تحویل هذه التنوعات إلى مادة استعمالیة من قبل الطامحین إلى سدّة السلطة، إلى وحدات سیاسیة تستثمر انتماءاتها السابقة على الشعور بالانتماء إلى حقل سیاسی عام، وهو ما لا یتم إلا بتحریر مواقع السلطة من قیودها الطائفیة.
ولکن یبقى السؤال الأهم أنه بحال تم تحریر السلطة باعتماد مبدأ الدیمقراطیة والمواطنة کیف تتم المحافظة والمواءمة بین علاقة الدولة مع مجتمعه بکونه یتشکل من أفراد وبین المحافظة على الانتماءات الأهلیة؟
وکیف یصار بحال حکم الأغلبیة إلى عدم طغیانها على الأقلیة؟ إن العودة إلى فکرة إقامة الدولة العادلة کدعوة حواریة بین مکونات المجتمع اللبنانی تشکل إحدى مقدمات الإجابات عن هذه المعضلة.
المصادر:
1- دیریک هیتر، تاریخ موجز للمواطنیة، دار الساقی، بیروت 2007، ص 6.
2- برهان غلیون، نقد السیاسة، المؤسسة العربیة للدراسات والنشر، بیروت 1993، ص 159.
3- المصدر نفسه، ص 170. 
4- 5-دیریک هیتر، تاریخ موجز للمواطنیة، دار الساقی، بیروت 2007، ص 134. 
5- آلان تورین، ماهیة الدیمقراطیة، دار الساقی، بیروت 1995، ص 98.
6- دانیال برومبرغ، التعدد وتحدیات الاختلاف دار الساقی، بیروت 1997، ص 15. 
7- التعدد وتحدیات الاختلاف، مصدر سابق، ص 114.
8- تاریخ موجز للمواطنیة، مصدر سابق، ص 173.
9- الان تورین، ماهیة الدیمقراطیة، دار الساقی، بیروت 1995، ص 94.
10- تاریخ موجز للمواطنیة، مصدر سابق، ص 149.
11- المصدر نفسه، ص 151.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.