الحکومة والعقيدة

أن الله أرادنا أن نتحرك في خط شريعته من موقع طاعته وتجسيد معنى العبودية في الحياة أمامه. لأن الله يريد للحياة الإنسانية أن تنسجم مع الحياة الكونية، لتتحرك تلك بإرادة الله في التكوين وتتحرك هذه بإرادة الله في التشريع، ليكون
Friday, January 19, 2018
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
الحکومة والعقيدة
الحکومة والعقيدة



 

أن الله أرادنا أن نتحرك في خط شريعته من موقع طاعته وتجسيد معنى العبودية في الحياة أمامه. لأن الله يريد للحياة الإنسانية أن تنسجم مع الحياة الكونية، لتتحرك تلك بإرادة الله في التكوين وتتحرك هذه بإرادة الله في التشريع، ليكون هناك تكامل بين
الإنسان الذي يطيع الله في أوامره ونواهيه وبين الكون الذي يعيش الإنسان في داخله ويخضع في وجوده التكويني لقوانينه، ليطيع الله في حركة السنن الكونية. فليس لأحد أن يشرّع في مقابل شريعة الله وليس لأحد أن يتجاوز الخطوط التي وضعها الله، تعالى، في مسألة الحكم والحاكم وفي تفاصيل القانون الذي ثبت أنه وحي من الله.
ولكن ليس معنى ذلك أن لا حكم للإنسان أو أن الإنسان لا يستطيع، في الدائرة الواسعة التي أوكل الله أمرها إليه ضمن ضوابط معينة أو التي أباح الله له أمر التحرك فيها وتحديد تفاصيلها، ليس معنى ذلك أن الإنسان يتجمد وأننا نطلق كلمة الحاكمية لله، لنظل نحدّق في البعيد من دون أن ننطلق في حياتنا من خلال أصولها العملية التي تمثل التفاصيل الحياتية للإنسان. إن الله تعالى يحكم من خلال الإنسان، فقد حكم الله من خلال أنبيائه وأوليائه ومن خلال كل الناس الذي ينسجمون مع الخط العريض للإسلام. ولذلك فإنه لا بد للناس من أن يحكمهم الناس. ولكن القضية هي أن الناس الذين يحكمون أو الذين يحكّمهم الناس في أنفسهم وفي الواقع لا بد من أن تكون لهم الصفات التي يرضاها الله سبحانه وتعالى للذين يتولّون مسؤولية الحياة، ومسؤولية الناس.
ومن هنا، فإننا عندما ندرس نظرية الحكم في الإسلام، سواء كان ذلك على مستوى نظرية الإمامة أو نظرية الخلافة أو نظرية الشورى التي ربما تتحرك في إطار أوسع من شروط الإمامة والخلافة، بحسب الضوابط الموجودة لدى الفقهاء أو المفكرين المسلمين، عندما ندرس ذلك نجد أن مسألة حاكمية الله لا تعني أن الحكم في الحياة يكون إلهياً، بمعنى أن يكون الحاكم ظل الله في الأرض من دون أية ضوابط وحدود؛ بحيث تكون المسألة هي ذاتية الحاكم في موقعه، لا موضوعية الخط الذي جعله الله له في حركته.
إننا نجد أن الله حدّد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو النموذج الأعلى للإنسان الذي جعله الله نبياً وخليفةً للناس، حدد له الحدود وقنّن له القوانين؛ فلا يستطيع النبي أن يحكم بمزاجه وإن كنا نفترض أن مزاجه لا ينفصل عن إرادة الله فيما أودعه الله في نفسه من القداسة ومن العصمة ومن الانفتاح على كل مواقع رضاه، ولكن الله لم يجعل ذلك منطلقاً من الذات بل من الخط. ومن هنا رأينا الله يتحدث معه كما يتحدث مع أي مسلم، ويتحدث مع الأنبياء كما يتحدث مع أي إنسان. ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾( الزُّمر: 65.) و ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ﴾( الحاقَّة: 44-45).
ومن هنا، فإن مسألة الحكم ليست إلهية، بالمعنى الذي يفهم بعض الناس منه الحكم الإلهي، أي الإنسان الذي لا يسمح لأحد أن يناقش أو يسأل، والإنسان الذي يتحرك بمزاجه وبإرادته الذاتية، بعيداً عن الضوابط التي تحمي الناس منه أو تحميه من نفسه. ولذلك فإن الله أمر نبيه أن يشاور الناس مع أن النبي مرتبط بالوحي، فقال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ (آل عمران: 159). لذلك إن الحكم في الإسلام ينطلق من حالة موضوعية، تتحرك فيها الذات القائدة بالضوابط التي يمكن للناس أن يرصدوا من خلالها حركة الحكم في انسجامها مع هذه الضوابط أو عدم انسجامها. فهو ليس الحكم الإلهي المطلق، ولكنه الحكم الإنساني الذي يستمد شرعيته من الخطوط التي جعلها الله تعالى للحكم ولحركته.
ولهذا لاحظنا أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو المعصوم من قبل الله في التبليغ وفي حركته في الواقع، ولذلك نرى أن السنّة هي قوله وفعله وتقريره. إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقف، فيما ترويه كتب السيرة، أمام المسلمين في آخر لحظات حياته، ليقول لهم: "إنكم لا تمسكون عليّ بشيء وإنني ما أحللت إلا ما أحلّ القرآن وما حرّمت إلا ما حرم القرآن"، وفي رواية "إني ما أحللت إلا ما أحلّ الله وما حرمت إلا ما حرم الله". كأنه يريد أن يقول لهم ادرسوا كل تاريخي معكم في حركة الدعوة والممارسة والحكم واعرضوا ذلك على شريعة الله التي بلَّغتكم إياها، لتجدوا أن أقوالي وأفعالي وعلاقاتي منسجمة مع هذا الخط، وهذا ما نقرأه في بعض كلمات الأنبياء ﴿وَمَا أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْه﴾ أو ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾.
إننا نفهم من ذلك أن الحكم في الإسلام هو حكم إنساني، يستمد شرعيته من الله في حدود الضوابط التي جعلها الله للحكم وللحاكم.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الدولة الإسلامية هي دولة مدنية، عندما تُطلُّ على بعض جوانب المعنى الإلهي في الدولة. فهي دولة مدنية لأن للحاكم فيها ضوابط معينة يستمر فيها ما استمر مع هذه الضوابط ويبتعد عنها ما ابتعد عن هذه الضوابط، بحيث إن الأمة إذا رأت أن هذا الحاكم فقد الضوابط الشرعية التي تجعله في موقع الشرعية للحكم فإن عليها أن تبتعد عنه. وهكذا نجد أن لهذه الدولة قانوناً شاملاً لكل المجالات العملية التي يعيشها الإنسان بحيث تستطيع الأمة أن تواجه الحاكم بالقانون، كما يستطيع الحاكم أن يواجه الأمة في أعماله أو في ما يريده منها من خلال القانون.
وعلى هذا الأساس، فإن الدولة ليست دولة الحاكم المطلق الذي يحكم باسم الله من خلال مزاجه أو أفكاره الذاتية الخاصة ولكنها الدولة التي يحكم فيها الحاكم باسم شريعة الله؛ فإذا كان معصوماً فإنه ينطلق من خط العصمة في ما تبلّغه وفي حكمه ولكن بالمستوى الذي يسمح فيه للآخرين بأن يثيروا أمامه علامة الاستفهام حول طبيعة حركته في الموقع. ولذلك لاحظنا مثلاً أن الإمام علياً كان يواجه الناس، ليطلب منهم أن ينقدوه وكان يقول لهم "فلا تكلموني بما تكلمون به الجبابرة، ولا تظنوا بي استثقالاً لحق يُقال لي أو لعدل يُعرض عليّ فإن مَن استثقل الحق أن يقال له والعدل أن يُعرض عليه كان العمل بهما عليه أثقل، فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست بفوق أن أخطىء".
إن الحاكم هنا، الذي يعتقد فريق من المسلمين بعصمته في هذا المجال، يغري الناس بنقده وبمراقبة كل أفعاله، وبأن يقولوا له كلمة الحق ولو كانت قاسية وأن يشاوروه بكلمة العدل، مهما كانت طبيعتها ويغريهم بذلك على أساس أن يقول لهم "إني لست بفوق أن أخطىء". إن معنى ذلك أن الحاكم الإسلامي هو حاكم مدني مسؤول يغري الناس بأن ينقدوه بدل أن يعظموه أو يمدحوه أو يرفعوه إلى الدرجات الذاتية العليا. إنه كان يقول لهم: "ليس أمري وأمركم واحد، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم".
إننا عندما ندرس شخصية الحاكم الإسلامي في شخصية النبي عندما يحكم، وفي شخصية كل الخلفاء والأئمة الذين يمثلون الشرعية عند المسلمين، نجد أن الحاكم كان يحدث الناس عن الشريعة وعن كتاب الله وعن أسس الحكم، ولهذا فإننا نستطيع أن نقول: إنّ الحكومة الإسلامية هي حكومة مدنية تتحرك في الخط الإلهي، أي الوحي الذي يحدد للحاكم شرعية الحكم وشرعية وقوفه في موقع الحكم، ليحدد له شرعية كل التفاصيل في نطاق القانون الشرعي أي الشريعة.
أما الحديث عن النموذج الغربي للديمقراطية باعتباره الأنسب والأصلح للواقع العربي فإنني لا أعتقد أن عملية إسقاط هكذا نموذج، نتج من ذهنية تعيش في أجواء محددة، يمكن أن تنجح بشكل آلي في مجتمعاتنا العربية. وأكاد أقول إن مجتمعاتنا تعيش الذهنية الشرعية، ذهنية "البطل" ولا تنسجم مع عقلية المؤسسة إلا من خلال المؤسس؛ الأمر الذي يجعل تأثير البطل في الواقع الشرعي أكثر من تأثير أية مسألة أخرى، ولهذا نجد هذا الالتزام الديني بالأشخاص في كل الأديان الشرقية يتقدم على الالتزام بالدين نفسه، ولذلك فإن التطور الديني الشعوري يحوّل مسألة الالتزام بالأشخاص إلى نوع من العبادة وإلى حالة تقرب من الحالة الوثنية فتستغرق في الشخص أكثر من الاستغراق في قيمه ومفاهيمه.
نحن نتصور أن الديمقراطية الغربية ليست هي النموذج الأمثل للمرحلة العربية من خلال طبيعة التركيبة الذهنية. ونحن لا نعارض وجود فئات تعيش قلق الحرية ومعنى التعددية في تفكيرها، ولكن هذه الفئات بالذات، إذا نزلت إلى الأرض واستطاعت أن تمسك بزمام الحكم، فإنّ أصحابها يتخلّون عنها بسهولة، ولعل أفضل دليل على ذلك هو ديمقراطية الجزائر فقد لاحظنا أن الأسلوب الديمقراطي الذي ساهم في نجاح جبهة الإنقاذ (في الجزائر) قد انتفض عليه وعلى نتائجه بدعوى أن الديمقراطية لا يمكن أن تحتضن غير الديمقراطيين.

الموقف من الأقليات الدينية

أما عن الإسلام والأقليات الدينيّة، فقد انطلق التشريع حول هذه المسألة في خطين عريضين:
الخط الأول: هو خط أهل الكتاب الذين ينتمون في صفتهم الدينية إلى كتاب منزلٍ كاليهود والنصارى والمجوس - في قول مشهور - والصابئة، فهؤلاء تنتهي مسألة القتال بين المسلمين وبينهم بالإسلام أو بدفع الجزية التي يفرضها وليّ الأمر الذي يتغلب عليهم، لتكون الجزية في مقابل الحماية الإسلامية لهم من دون أن يلتزموا أي التزام عسكري في حماية ثغور المسلمين، هذا إضافة إلى حقوقهم الدينية في عباداتهم وطقوسهم وتقاليدهم في نطاق النظام العام للدولة من دون انتقاص إنسانيتهم، وذلك على أساس عقد الجزية الذي يخضع فيه الطرفان للالتزامات المتبادلة في المفاوضات في هذا الميثاق، وهذا هو الذي يطلق عليه عنوان "عقد الذمة" باعتبار أن هؤلاء يدخلون في ذمام المسلمين وفي مسؤوليتهم الأمنية والسياسية.
وإذا كان بعض الناس يثير هذه المسألة بطريقة سلبية على أساس أنها تنتقص عن حقوقهم الإنسانية، فإننا ندعوهم إلى دراسة المسألة في شكل دقيق بعيداً من الأساليب الاستهلاكية السياسية، ليروا أنها كانت تمثل أسلوباً حضارياً يحمي الأقليات ويمنحها حقوقها الدينية والاجتماعية والسياسية في نطاق النظام العام، ويبعدها عن الإحراج في إدخالها في الحرب التي قد تشنّها الدولة الإسلامية ضد الفئات التي تلتقي مع هذه الأقليات في انتمائها الديني، أو الحرب التي تتحرك للدفاع عن الإسلام الذي لا يؤمن به أتباع الأقليات ولا يرون مبرراً للتضحية بأنفسهم في سبيله.
إننا لا نريد الدخول في تفاصيل "عقد الذمة" أو عقد "الجزية" الذي يمثل حالة إنهاء الحرب مع أهل الكتاب، لأن البحث لا يستهدف الدخول في التفاصيل، فلذلك مجال آخر، بل يستهدف إعطاء الأفكار العامة في نظرة الإسلام إلى الأقليات.

الإسلام وغير أهل الكتاب

الخط الثاني: هو خط غير أهل الكتاب، كالملاحدة والمشركين والأديان الأخرى غير السماوية، كالبوذية ونحوها.
ويرى الفقهاء المسلمون - من خلال الكتاب والسنّة في الاجتهاد المعروف فيما بينهم - أنه يُقبل منهم الإسلام حتى في صورته الشكلية التي لا تنطلق من قناعة ذاتية، لأن المطلوب - في هذه الحالة - إخضاعهم للسلطة الإسلامية، وإخراجهم من أجواء العداوة للإسلام والمسلمين، وإدخالهم في المجتمع الإسلامي كما لو كانوا جزءاً منه، لأن ذلك هو السبيل الأقرب لاندماجهم في الجو الإسلامي وانفتاحهم على حقائق الإسلام من خلال الوضع المنفتح على الحقيقة الإسلامية بهدوءٍ بعيداً عن حال التشنج العدواني الذي كانوا يعيشون فيه سابقاً.
وربما كان الأساس في ذلك هو أن الإسلام لا يعتبر الإلحاد والشرك فكراً محترماً يفرض احترام انتماء الناس إليه، بل يراه نهجاً منحرفاً عن طبيعة الأشياء منطلقاً من الجهل والتخلف والعصبية، ولذلك عبّر القرآن الكريم عن الكافرين والمشركين بأنهم ﴿الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ للإيحاء بأنهم كفروا من موقع جهل، لا من موقع فكرٍ مضاد.
وإذا كانت المسألة تتحرك في هذا الاتجاه، فإن من الطبيعي أن لا يحترم الإسلام الجهل في طبيعته ونتائجه، فيضغط على الذين يختارونه لينتقلوا منه إلى المواقع التي تتيح لهم إمكانات المعرفة المنفتحة على حقائق الغيب في آفاق الإيمان بالله.

سُبل العيش بين المسلمين وغيرهم

وليس هذا هو السبيل الوحيد للتعايش بين المسلمين وغير المسلمين من أهل الكتاب والكافرين والمشركين، فهناك سبيل آخر يمكّن للأقليات الدينية وغير الدينية - من الفئات المضادة للدين - من أن تتعايش مع المسلمين في داخل المجتمع الإسلامي، أو في بلدانها الخاصة المستقلة، من خلال الدخول في المعاهدة أو المهادنة أو المعاقدة مع المسلمين حسب الشروط التي تتفق عليها مع أولياء الأمر من المسلمين، تبعاً للمصلحة الإسلامية العليا التي تفرض على المسلمين إنهاء الحرب مع الآخرين أو تجميدها، والدخول إلى مواقع السلام مع الشعوب الأخرى التي لا تدين بالإسلام، سواء كان السبب في ذلك قوة الكافرين في عددهم وعدّتهم ومواقعهم السياسية أو الاقتصادية، بحيث لا يملك المسلمون الدخول معهم في حرب متعادلةٍ، ما قد يدفع المسلمين إلى طلب الدخول في محادثات سلام أو معاهدة معهم أو إلى قبول ذلك إذا قدّم الكافرون الطلب بمبادرة منهم، أو كان السبب وجود مصلحة عليا للمسلمين للتعايش مع الآخرين في سلام عادل متوازن من خلال طبيعة الأجواء الدولية التي تربط كل دول العالم في ميثاق شامل للصداقة أو عدم الاعتداء على طريقة ميثاق الأمم المتحدة، ما يجعل المسلمين في عهد شامل مع كل دول العالم، إلا الدول التي تنقض العهد وتعلن الحرب عليهم، أو الدول التي لا تملك أية شرعية سياسية لدى المسلمين، كإسرائيل.
وهذا الخط -خط المعاهدة- يختلف عن الخطين الآخرين، وهو الذي يمكن أن يزيل الكثير من السلبيات التي قد يثيرها بعضهم حول المنهج الإسلامي في نظرته إلى الآخرين ليكون السيف هو كل شيء في المسألة، ليفرض الإسلام أو الجزية أو القتل، مما يبتعد به المسلمون عن إمكان التعايش مع الشعوب الأخرى التي تختلف عنهم في الانتماء الديني أو عن إمكان التعامل بإنسانية وعدالة مع الأقليات الدينية الأخرى التي لا تريد الدخول في الإسلام ولا تحب دفع الجزية، ولا تعرّض نفسها للحرب الدائمة.
وفي ضوء ذلك، يمكن لنا أن نتصور أن المجتمع الإسلامي في نطاق الدولة الإسلامية يحتوي على المواطنين الذين يتنوّعون في أديانهم مع مساواتهم في الحقوق المدنية أو السياسية العامة التي لا تتنافى مع الخصوصيات الذاتية للإسلام.
أقول إننا بحاجة إلى تطوير في الشكل لا في العمق، لأن الفكر الإسلامي الذي عاش تجربة طويلة متنوعة في طبيعته المنفتحة على حاجات الإنسان في كل مرحلة من المراحل، يوحي بأن النظام الإسلامي ليس مجرد عنوان فكري نحاول البحث عن أرض يمكن أن يتحرك فيها، ولكنه يمثل كياناً قانونياً فكرياً فلسفياً على مستوى القواعد الفكرية النظرية والعملية. ومشكلتنا الآن هي: كيف يمكن إخراج هذا النظام الإسلامي إلى الواقع بطريقة عصرية جديدة؟
تكثر الدراسات التي تتناول الحراك الفكري والثقافي لدى الإسلاميين على امتداد العالم الإسلامي. وقد انصبت هذه الدراسات على تناول بعض الأبعاد المتصلة بهذا الحراك وما يتلازم معه من سلوكات عملية تتعلق بكيفية التعامل مع الذات ومع الآخر المغاير سواء في الدين أو المذهب أو الأيديولوجيا، أو لناحية الدعوة إلى التجديد الديني وتكييف أحكام هذا الدين مع الواقع المفتوح على مقتضيات التطورات الحديثة في ميادين العلوم والتكنولوجيا، وسائر ميادين المعرفة وما يرتبط بها من تبدلات في أنماط التفكير والسلوك. غير أن هناك من بين هذه الدراسات التي لا زالت تحظى باهتمام الباحثين إشكالية علاقة الدين بالدولة وهي فكرة لا تزال تجد تحدياتها جرّاء تطور الأشكال الحديثة للدولة لاسيما مع نشوء فكرة المواطنية التي أتاحت للدولة توفير حقل عمومي للأفراد وتأطيرهم بإطار الولاء الكلي عبر النظر إليهم بوصفهم أفراداً لا بوصفهم جماعات متغايرة بفعل العقيدة أو الانتماءات ذات الطابع التاريخي التقليدي.
لقد طُرحت دولة المواطنة كبديل للدولة التي كانت سائدة في العصور الوسطى في أوروبا قبل بروز فكرة فصل الدين عن الدولة. وقد وجدت هذه الفكرة حاضناً لها لدى العديد من المفكرين والمثقفين في العالم الإسلامي، علماً أن الدولة في العديد من أقطار هذا العالم ما زالت تستند إلى الولادات التقليدية كالقبيلة والطائفة وسائر الأطر التي لعبت ولا تزال دوراً وازناً في الحقل السياسي.
وعلى ضوء هذا الواقع المتلازم مع الإخفاق في برامج التنمية والحرية التي وعدت بها الدولة الناشئة بعد عهود الاستعمار، برزت إتجاهات في الفكر الإسلامي بمواجهة إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، وبين الدين ومدى ملاءمته للتطورات الحديثة في حقل السلطة والتشريع، وتلازمه مع مقتضيات العدالة والتنمية والتأطير العام خصوصاً في المجتمعات المتنوعة ومنها لبنان الذي يشكل أحد خصوصيات هذا الواقع بتعقيداته الاجتماعية والثقافيّة.
ففيما مضى كان شكل الحكم في الإسلام متفقاً عليه أثناء حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجهة الحاكمية التي شغلها هو نفسه. وبعد وفاته طرحت الإشكالية حول طبيعة النظام السياسي الإسلامي في كيفيّة انبنائه، وآليات تشكله.
حتى ذلك الحين لم تكن موضوعة الفصل بين الديني والزمني مطروحة بشكل حثيث على الفكر الإسلامي وإنما جلَّ ما كان مطروحاً هو ما كان حول الآلية التي يتم من خلالها تشكل السلطة، وبالتالي تكون مشروعية الحاكم هي المطروحة وليست مشروعية أحكام الدين باعتبارها أحكاماً فردية وأحكاماً اجتماعية تستوجب وجود سلطة لضمان تنفيذها وتشييد المجتمع الإسلامي على قواعد العدالة المفترضة بحسب التعاليم الدينية، فضلاً عن مشروعية التزام الحاكم بتعاليم الدين وضرورة طاعته أو عدمها.
غير أنه وبعد مرور قرون من الزمن، لا سيما مع دخول الاستعمار الغربي إلى العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، ومن ثم نشوء الكيانات القطرية في أعقاب انهيار الخلافة العثمانية التي كانت تمثل بنظر الكثير من المسلمين امتداداً لنظام الخلافة الإسلاميّة، أدى نشوء هذه الكيانات إلى بروز حركة شديدة الاعتراض حول الواقع الجديد خصوصاً لدى الحركات الإسلامية.
استناداً إلى هذا الأمر، وفي ظل تنامي الدعوة إلى أسلمة النظام السياسي من جهة وإلى الفهم الديني المقترن بقدرة الدين وأحكامه على التعاطي مع تعقيدات الواقع، كانت هذه المقاربة التي انطلقت من هاجس معرفة اتجاهات الفكر الإسلامي في مقاربته لإشكالية العلاقة بين الدين والدولة مسنودة إلى الحقل السياسي المفتوح على واقع التنوع في مصادر السلطة فضلاً عن تنوعه المجتمعي. وبالاستناد إلى هذه الإشكالية حاولت المقاربة الرد على بعض التساؤلات المتفرعة عنها من قبيل التسويغات التي يقدمها المفكرون الإسلاميون حول المشاركة في الحقل السياسي العمومي أو نزعها عنه، وقد تراوحت هذه المقاربة بين شقين أحدهما عام يتناول إشكالية السلطة ببعدها العام، والآخر ذو طابع خاص اتخذ من التجربة اللبنانية ميداناً له.
المصدر : راسخون 2017
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.