
القرآن الکريم يقول : إن النبي ـ عليه آلاف التحية والثناء ـ هو معلم الناس ، يعلم الناس الحكمة ويعلمهم الكتاب الإلهي ويزكي نفوسهم و ... وأساساً إن كل معلم يسير في طريق يدل الآخرين أيضاً لكي يتعرفوا على الطريق ويسلكوه أيضاً . ولكن الطريق الذي سار فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والانبياء المرسلون عليهم السلام ليس طريقاً يتمكن الآخرون من معرفته والذهاب فيه ، بل يدلون الآخرين على ذلك المقدار الذي يستطيعونه ، حتى يتعرفوا عليه ويقطعوه ، لذا فتعليم الأنبياء غير تعليم الآخرين .
أنواع التعاليم القرآنية :
ان تقسيم التعليم يكون بلحاظ تقسيم العلم ، ولأن العلم على ثلاثة أقسام ، فالتعليم كذلك .وجميع هذه الأنواع الثلاثة موجودة في القرآن ولكن مع تفاوت في جميع هذه الأنواع الثلاثة .
القسم الأول :
هو العلم الحسي ، الذي يذكر بصفة العلوم التجريبية ، وتسمى الشعب المتنوعة للعلوم التجريبية بالعلم الحسي ، سواء ما يدرك بالحس المسلح ، أو بالحس غير المسلح مثل الطبيعيات والطب .
القسم الثاني :
هو العلم العقلي ، وهي مجموعة المعارف التي لا تدرك بالحس ـ لا الحس المسلح ولا غير المسلح ـ ولكن سندها هو الحس ، لذا يأتي دور العلم العقلي بعد العلم الحسي .
القسم الثالث :
هو العلم القلبي والشهودي ، وهو أعلى من العلم الحسي والعلم العقلي .
أسلوب تعليم معلمي العلوم الثلاثة :
لكل علم من هذه الأنواع الثلاثة سالكون : وعلماء متخصصون ، وكل مجموعة في أي فرع تعمل ، تشرح مسيرها للآخرين ، وتبيّن الطريق الذي انتهجته للأجيال اللاحقة ، بل ان سند المعلمين أساساً هو سوابقهم الدراسية .ان الشخص الذي يتولى تبيين العلم الحسي والتجريبي يتكلم استناداً على تجاربه الماضية ، وإرشاداته تقوم أيضاً على أساس الطريق التي سلكها ، والشخص الذي يتولى تبيين الحكمة والفلسفة يقدم الطرق العقلية التي قطعها للسائرين في هذا الطريق ، وسند كلامه هي البراهين العقلية التي تعلمها ، وإذا أصبح شخص صاحب بصر في العلم الشهودي والحضوري فانه يعمل نفس العمل الذي يعمله صاحب النظر . أصحاب النظر يرتبون أنظارهم وأنظار الآخرين ويصبحون أصحاب رأي ، ويستفيدون من أنظارهم وأنظار الآخرين في مقام التعليم . والعرفاء الشاهدون أصحاب البصر يستفيدون من بصيراتهم وبصيرات الآخرين في مقام التعليم ويقدمون ذلك الطريق إلى السائرين في طريق الشهود والحضور .
غاية ما في الأمر ان الشاهد العارفي إذا جلس على كرسي التدريس ، يستفيد غالباً من طريق ( النظر ) أي يجعل المسائل البرهانية أرضية بصفتها ( عرفان نظري ) ، حتى يصل بعض الناس من ( النظر ) إلى ( البصر ) ؛ لأن ما هو قابل للنقل والانتقال هي ( المعاني والمفاهيم ) ، وليس الشهودات العينية حيث ان التحقق الخارجي هو عين ذاتها .
أحياناً قد يستطيع أولياء الله إيصال فيض للآخرين ، لكن ذلك قليل جداً ، إن الحكمة والفلسفة تمثل بالنسبة للعرفان نفس دور المنطق للفلسفة ، أي أن المعيار هو العمل ، هذه هي علوم بشرية ويقوم معلموا البشر في هذه الكراسي الثلاثة بتدريسها . ورأسمال تدريس وتعليم هذه العلوم الثلاثة هو الذي تقدم بيانه .
كيفية تعليم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم :
ذكر الله تعالى ، رسوله الأكرم ـ عليه آلاف التحية والثناء ـ بوصفه معلماً . قال سبحانه : ( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) .هل مقصود الآية هذا المعنى وهو ان رسول الله . يعلم الآخرين المعارف القرآنية بمستوى طبيب ، حيث يستفيد من رأسماله التجريبي ، أم بمعنى يعلم الآخرين المعارف القرآنية كحكيم ، يستخدم رأسماله الفكري والبرهاني ؟ أم أنه يعلم الآخرين المعارف الإلهية كعارف شاهد ينقل للآخرين نتائج مشهوداته ؟ .
قال الله تعالى وهو أول معلم ومعلم بالذات ، في شأن كيفية التعليم :
( علّم الإنسان ما لم يعلم ) (1) .
ان هذا التعليم ، ليس من سنخ العلوم الثالثة حيث يتعلم شيء بالحس أو العقل أو القلب ثم بعد ذلك يعلم للآخرين ، بل هو علم محض ، وتعليمه ينشأ من العلم الربوبي المحض ، وهذا فوق بحثنا ، أما الوجود المبارك لذلك النبي الذي لم يذهب إلى مدرسة ، فهو أيضاً لم يستعن بطريق العلم الحسي أو العقلي بالتأكيد ، أي أنه لم يصبح عالماً بالتجربة ، ولم يستعن بالبراهين من المدرسة .
أما عن العلم والتعليم الثالث ، فان كل سيرة وسنة وسريرة الوجود المبارك للنبي الأكرم ـ عليه آلاف التحية والثناء ـ هو حضور وشهود ، كان متعلماً لم يذهب إلاّ لمدرسة ( الله ) ، ومدرسة الله تبدأ من القلب وليس من الحس . ليس العلم الذي يقال فيه :
( من فقد حسّاً فقد فقد علماً ) .
بل العلم الذي يقول : أغلق الحواس ، حتى تفهم . على عكس علوم المدرسة التي تقول استعمل الحواس حتى تفهم . لذا فان قسماً مهماً من نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدأ من الرؤيا في أول الأمر ، أي أن بداية النبوة كانت في تلك الحال التي اغلقت فيها العين والأذن وسائر مجاري الإدراك الحسي ، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرى في المنام رؤى جيدة وكل رؤيا كان يراها رسول الله ـ عليه آلاف التحية والثناء ـ كانت تتضح مثل بياض الصبح . هذا العلم ، هو علم شهودي ، بناء على هذا فان علم النبي هو علم شهودي وقلبي . في مجال التعليم أيضاً يعلم الآخرين ذلك بثلاثة طرق : عن طريق ( التجربة ) بصفة ( الجدال الأحسن ) وليس بصفة ( سند التعليم ) بالشكل الذي كأنه تعلمه عن طريق التجربة الحسية ، وكذلك علم الحكماء بصفة ( برهان ) ليس بالشكل الذي كأنه تعلمه من المدرسة ، وعلم التلاميذ الشاهدين والعارفين كذلك بصفة ( إظهار ) .
وأما الطريق الخاص بالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فهو ليس بالطريق الذي يصله الإنسان بتهذيب النفس والتزكية فضلاً عن البراهين العقلية والعلوم الحسية .
( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) (2) .
إنها هبة خاصة لا تتوفر بالكسب والتهذيب والتزكية وأمثالها ، إنها ربط خاص بين إنسان كامل والله ، حيث ان ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ، وذلك أيضاً فوق بحثنا ، أي أن الإنسان المتعارف ليس داخلاً في هذا المجال .
فحين يتكلم القرآن الكريم معنا ، يتكلم بثلاثة طرق ؛ لأنه يتكلم معنا بلساننا ، حيث قال :
( ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) (3) .
وثبت ان الوجود المبارك للنبي الأكرم رسالته شاملة للعالم ، فجميع المجتمعات البشرية هم قومه ، انه يتكلم بلسان الجميع يتكلم بلسان أصحاب العلوم الحسية ويتكلم عن التجارب يتكلم بلسان أصحاب العلوم العقلية الصرفة ، ويتحدث عن البرهان ، ويتكلم بلسان الشاهدين العارفين أيضاً ، ويتكلم عن الوجدان .
هذه هي كيفية تعليم الوجود المبارك للنبي الأكرم ـ عليه آلاف التحية والثناء ـ وعندما يطرح القرآن موضوع المرأة يدخل أيضاً في هذه الطرق الثلاثة ، أي يتكلم باستعمال الطريق التجريبي ، والطريق العقلي وطريق العرفان والشهود ، ويعلمنا عظمة المرأة بكل هذه الطرق المختلفة .
المصادر :
1- سورة العلق ، الآية : 5 .
2- سورة الأنعام ، الآية : 124 .
3- سورة إبراهيم ، الآية : 4 .