فکرة إشكالية علاقة الدين بالدولة هي فكرة لا تزال تجد تحدياتها جرّاء تطور الأشكال الحديثة للدولة لاسيما مع نشوء فكرة المواطنية التي أتاحت للدولة توفير حقل عمومي للأفراد وتأطيرهم بإطار الولاء الكلي عبر النظر إليهم بوصفهم أفراداً لا بوصفهم جماعات متغايرة بفعل العقيدة أو الانتماءات ذات الطابع التاريخي التقليدي.
لقد طُرحت دولة المواطنة كبديل للدولة التي كانت سائدة في العصور الوسطى في أوروبا قبل بروز فكرة فصل الدين عن الدولة. وقد وجدت هذه الفكرة حاضناً لها لدى العديد من المفكرين والمثقفين في العالم الإسلامي، علماً أن الدولة في العديد من أقطار هذا العالم ما زالت تستند إلى الولادات التقليدية كالقبيلة والطائفة وسائر الأطر التي لعبت ولا تزال دوراً وازناً في الحقل السياسي.
وعلى ضوء هذا الواقع المتلازم مع الإخفاق في برامج التنمية والحرية التي وعدت بها الدولة الناشئة بعد عهود الاستعمار، برزت إتجاهات في الفكر الإسلامي بمواجهة إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، وبين الدين ومدى ملاءمته للتطورات الحديثة في حقل السلطة والتشريع، وتلازمه مع مقتضيات العدالة والتنمية والتأطير العام خصوصاً في المجتمعات المتنوعة ومنها لبنان الذي يشكل أحد خصوصيات هذا الواقع بتعقيداته الاجتماعية والثقافيّة.
ففيما مضى كان شكل الحكم في الإسلام متفقاً عليه أثناء حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجهة الحاكمية التي شغلها هو نفسه. وبعد وفاته طرحت الإشكالية حول طبيعة النظام السياسي الإسلامي في كيفيّة انبنائه، وآليات تشكله.
حتى ذلك الحين لم تكن موضوعة الفصل بين الديني والزمني مطروحة بشكل حثيث على الفكر الإسلامي وإنما جلَّ ما كان مطروحاً هو ما كان حول الآلية التي يتم من خلالها تشكل السلطة، وبالتالي تكون مشروعية الحاكم هي المطروحة وليست مشروعية أحكام الدين باعتبارها أحكاماً فردية وأحكاماً اجتماعية تستوجب وجود سلطة لضمان تنفيذها وتشييد المجتمع الإسلامي على قواعد العدالة المفترضة بحسب التعاليم الدينية، فضلاً عن مشروعية التزام الحاكم بتعاليم الدين وضرورة طاعته أو عدمها.
غير أنه وبعد مرور قرون من الزمن، لا سيما مع دخول الاستعمار الغربي إلى العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، ومن ثم نشوء الكيانات القطرية في أعقاب انهيار الخلافة العثمانية التي كانت تمثل بنظر الكثير من المسلمين امتداداً لنظام الخلافة الإسلاميّة، أدى نشوء هذه الكيانات إلى بروز حركة شديدة الاعتراض حول الواقع الجديد خصوصاً لدى الحركات الإسلامية.
استناداً إلى هذا الأمر، وفي ظل تنامي الدعوة إلى أسلمة النظام السياسي من جهة وإلى الفهم الديني المقترن بقدرة الدين وأحكامه على التعاطي مع تعقيدات الواقع، كانت هذه المقاربة التي انطلقت من هاجس معرفة اتجاهات الفكر الإسلامي في مقاربته لإشكالية العلاقة بين الدين والدولة مسنودة إلى الحقل السياسي المفتوح على واقع التنوع في مصادر السلطة فضلاً عن تنوعه المجتمعي.
وبالاستناد إلى هذه الإشكالية حاولت المقاربة الرد على بعض التساؤلات المتفرعة عنها من قبيل التسويغات التي يقدمها المفكرون الإسلاميون حول المشاركة في الحقل السياسي العمومي أو نزعها عنه، وقد تراوحت هذه المقاربة بين شقين أحدهما عام يتناول إشكالية السلطة ببعدها العام، والآخر ذو طابع خاص اتخذ من التجربة اللبنانية ميداناً له.
إن للإسلام أسلوبه الخاص في صنع الحضارة وفي حل مشكلة الإنسان.
وقد يختلف في مفهومه عن الحضارة والمدنية عن مفاهيم أخرى، تماماً كما تختلف الماركسية عن الرأسمالية أو الاشتراكية عن الرأسمالية في طبيعة أسلوب الحياة التي تريدها للناس.
لذلك فنحن نؤكد أن الإسلام قادر بمفاهيمه وتشريعاته على أن يحقق السعادة للناس ولكن على طريقته الخاصة. ولكننا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نفرض على الإسلام صورة المدنية أو الحضارة على الطريقة الغربيّة، فنحن لا نعتبر أن الطريقة الغربية في الحياة المدنية هي الطريقة الفضلى. وهنا نسأل هل يستطيع الإسلام أن يكفل حياة مدنية للإنسان على الطريقة الغربية، أو بالطريقة غير الغربية، كما أن للاشتراكية مفهومها الخاص حول طريقة تنظيم حياة الإنسان الذي يختلف عن الرأسمالية؟ إن للإسلام مفهومه حول طريقة تنظيم حياة الإنسان الذي يختلف عن الاشتراكية والرأسمالية معاً، ولكنه في الوقت نفسه يستطيع أن يحقق للإنسان التقدم في كل مجالات الحياة، وفي كل المجالات الإنسانية العامة.
ونحن هنا لسنا في صدد التعمق أكثر، ولكن نؤكد أن الإسلام استطاع في مدى مئة سنة منذ انطلاق الدعوة الإسلامية، أن يصنع حضارة علمية وفكرية وإنسانية عالمية اعتُبرت كما يقول رئيس وزراء الهند السابق الراحل، جوهر لال نهرو "أم الحضارات الحديثة".
وإذا كان الإسلام قد استطاع أن يصنع حضارة متقدمة أغنت الحضارة الغربية، وأعطتها قوة دفع وانطلاق، فإنه قادرٌ على صناعة هذه الحضارة في شكل أفضل بعد التقدم الإنساني، الذي لا يتنكر له الإسلام، بحال من الأحوال.
هذا، وعندما نريد أن ندرس الديمقراطية من خلال قاعدتها الفكرية، فإننا نجد أنها تختلف اختلافاً كبيراً عن الإسلام، لأن المفهوم الذي تختزنه الديمقراطية في مضمونها الفكري هو أنّ شرعية أي قرار ينطلق من تصويت الأكثرية عليه وليست هناك أية شرعية لأي عنوان آخر في هذه الدائرة.
وفي ضوء هذا يستمد الإسلام شرعيته في حركة الواقع، من خلال اختيار الناس له لا من خلال كونه وحياً يحمل في ذاتيته معنى الشرعية، بل أعلى أنواع الشرعية، وانطلاقاً من هذا، فلو أنّ الناس رفضوا الإسلام لفقد شرعيته في حركة الواقع وفي الوعي السياسي العام. إنّ المسألة قد لا تكون لها انعكاسات عملية بالمعنى السياسي، لأنّ بعضهم قد يقول: ما همك إذا استطعت أن تحكم إسلامياً باسم الديمقراطية، بين أن يفكر بعض الناس بأنّ شرعيتك منطلقة من اختيار الأكثرية أو أن شرعيتك منطلقة من الله سبحانه وتعالى؟
ولكن على الرغم من أن حركة الواقع تفرض الإسلام، إلاّ أنّنا نلاحظ أنّه عندما يختار الإسلاميون عنوان الديمقراطية لحركتهم السياسية فإن معنى ذلك أنهم يلتزمون كل مضامينها وإيحاءاتها، الأمر الذي ينعكس سلباً على خطوط الثقافة الإسلامية في وعي الأمة، كما ينعكس على التزامات الإسلاميين بالنتائج السلبية أو الإيجابية للنهج الديمقراطي في مواجهتهم للنادي السياسي الذي يتحركون فيه. لذلك فإننا نتصور أن المسألة تحمل سلبية في الجانب الفكري والإيحائي ثم تتطور بعد ذلك، لتستطيع أن تطرح إمكانية تغيير هذا الحكم أو ذاك. لكننا إذا أردنا أن ننطلق من واقع الديمقراطية، بعيداً عن العنوان الفكري أو العنوان السياسي الذي يكون واجهة لحركتنا السياسية، فإنّ من الممكن عندما نعيش في مجتمع ديمقراطي أن نستفيد من هذا المجتمع، وأن ننطلق لنشارك في العمل على الدخول إلى كل مواقعه من خلال الفرصة العامة التي يفرضها اختيار الأكثرية عندما نؤمن بأننا نملك الأكثرية أو حتى عندما لا نملك الأكثرية، فإنّ التحرك في هذه الدائرة للحصول على أكبر قدر ممكن من الأصوات يمنحنا حضوراً سياسياً في الواقع السياسي العام، الأمر الذي يؤدي إلى إيجابيات كبيرة.
إذاً نحن نستطيع أن نستفيد من الديمقراطية في المجتمع المتنوع - كما يستفيد غيرنا أيضاً - من دون أن نتبنّاها كخط فكري، وفي هذا الجانب لا بد لنا من أن نحرك خطابنا السياسي عندما ننجح أو عندما نخسر بأسلوب ومنهجية لا يجعلان حركتنا السياسية - في وعي الناس الآخرين - حركة الإتجاه الذي يمنع الآخرين حرياتهم، كما لاحظنا في تجربة بعض البلدان الإسلامية التي استطاعت أن تحصل على قدر كبير من الاختيار الشعبي. إننا لاحظنا أنّ الخطاب السياسي، الذي تحرك في هذه الدائرة، أوجد إرباكاً في الجو السياسي والإعلامي لمصلحة خصوم الإسلام، ما جعلهم يهاجمون نتائج التجربة الشعبية من خلال طبيعة مفردات الخطاب السياسي الذي لم يكن مدروساً سواءً على مستوى خطوطه أو على مستوى توقيته.
هذا العرض الذي تحدّثنا عنه يتصل بالديمقراطية في شكل عام، ولكننا قد نستطيع أن نسأل في هذا المجال أننا عندما نعيش في مجتمع إسلامي هل يمكن أن نتبنى الديمقراطية؟ من الطبيعي أننا لن نستطيع أن نضعها في الوعي السياسي كمنهج فكري إذا أردنا أن نتحرك سياسياً في إطارها الشكلي، ولكننا نستطيع أن نحصنها بأن نطلق مسألة خيار الشعب بعد أن نضع الحدود للممارسة الديمقراطية من حيث الشروط التي لا بد من أن يتميز بها المرشح بما ينسجم مع الخطوط الإسلامية أو طبيعة الظروف الموضوعية للمسألة الإسلامية وشروطها الشرعية.
وبذلك نستطيع أن نجمع بين أصالة الخط الإسلامي، لنكفل له عدم الانحراف في اتجاه آخر ونكفل مشاركة الأمة في القرارات التي تتحرك في حياة مجتمعاتها أو أفرادها من أجل إعطاء المسألة بعداً تلتزم فيه الأمة بخطوطها الشرعية في التزامها بالأشخاص والتزامها بالنظام، بحيث يمكن أن يحقق للدولة الإسلامية العمق السياسي الذي يطل على العالم، بالطريقة التي تقول إنّ الإسلام لا يلغي الأمّة عندما يتحرك في كل إدارته لشؤونها التفصيلية ولكنه يجمع بين الإسلام الذي هو خيار الأمة، باعتباره دينها، وبين رأي الأمة في المصالح والتفاصيل. إننا بذلك يمكن أن نحصل على مشاركة الأمة في كل القرارات السياسية التي لم يجعل الإسلام لها خطوطاً تشريعية تعبدية حاسمة في ما شرّعه الله، سبحانه وتعالى، أو في ما بيّنه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبذلك يمكن أن نجمع بين الأمرين.
ولعلنا في هذه المسألة نستوحي تشريع البيعة. إننا نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أرسله الله، سبحانه وتعالى، رسولاً للناس لتكون شرعيته من خلال إرسال الله له لا من خلال الناس، إننا نلاحظ أنّ البيعة التي تحدّث عنها القرآن في بيعة النساء والرجال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، تعطي معنى الحاجة إلى أن يلتزم الناس العقيدة على مستوى الإيمان، من خلال أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو رسول الله، وأن يلتزموا السير في الواقع العملي لحركة العقيدة والشريعة في تفاصيلها في الالتزام بولي الأمر وبالخطوط التفصيلية للإسلام، على أساس أن يكون خيارهم من خلال إيمانهم والتزامهم. ربما كانت البيعة إشارة إلى ضرورة التزام الأمة القيادة والتعبير عن رأيها فيها حتى تلك التي تمثل قيادة معيّنة من الله، سبحانه وتعالى، ولن يكون رأي الأمة في القيادة هو الذي يعطيها شرعيتها ولكن ليعمق التزامها به وواقعية الحركة في هذا الاتجاه.
ومن هنا يمكننا أن نستوحي نهجاً يشبه النهج الديمقراطي في النتائج وهو أن يكون للأمة عملية الاختيار في سياستها بالتعاون مع النظام السياسي الحاكم، الذي قد يأخذ شرعيته من نظرية ولاية الفقيه أو من الشورى أو من أي شيء آخر.
هذا عندما نتحدث عن الديمقراطية كخط سياسي، فإذا أردنا أن نتحدث عن الديمقراطية من خلال إيحاءاتها الأخلاقية، عندما يُقال فلان إنسان ديمقراطي أو هذه طريقة ديمقراطية أو روحية ديمقراطية لتكون نفياً للديكتاتورية وللاستبداد، فإنّ الإسلام ديمقراطي بكل ما للكلمة من المعنى الإيحائي والسلوكي للديمقراطية بعيداً عما هو المنهج الفكري الذي أشرنا إليه.
المصدر : راسخون 2017