تعددت المواقف و اختلفت الآراء لدى الکثیر تجاه مسألة مشاركة الإسلاميين في الحكم مع الأنظمة الوضعية (ملكية، ديمقراطية، ديكتاتورية)، على أساس التعددية السياسية في نظام الحكم، فمنهم من أيّد المشاركة وبيّن مصلحة المسلمين في ذلك، ودعم رأيه هذا بأدلة شرعية وسياسية، ومنهم من رفض المشاركة السياسية وبيّن الضرر الذي يصيب المسلمين والمسيرة الإسلامية من ذلك، ودعم رأيه هذا بأدلة شرعية وسياسية.
طرح الذين لا يجيزون المشاركة السياسية أدلتهم الشرعية والفكرية والسياسية المحددة بالتالي:
1- يفتي الإمام الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير بكفر مَن يتحاكم من المسلمين إلى كتاب أو شرعة وضعية، فيقول: "في ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزَّل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى (إلياسا)(1) وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين(2)... قال تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾(3).
2- ويرى سيد قطب أن المشاركة السياسية تأتي في صالح الجاهلية وأنظمتها الوضعية، لا في صالح الإسلام والدعوة الإسلامية، وأنه لا يمكن الالتقاء مع الجاهلية في منتصف الطريق، لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعه الصحابة الكرام، قد تحملوا من إيذاء وعنت الجاهلية الأولى، أكثر مما تفعله الجاهلية الحديثة بالمسلمين، ومع ذلك لم يلتقِ معها، ولم يستجب لعروضها المغرية في المشاركة السياسية للأسباب التالية:
أولاً: لقد قال الرجل العربي -بفطرته وسليقته- حين سمع رسول الله يدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله "هذا أمر تكرهه الملوك"، وقال رجل آخر من العرب بفطرته وسليقته "إذاً تحاربك العرب والعجم". لقد كان هذا العربي وذاك يفهم مدلولات لغته. كان يفهم أن شهادة أن لا إله إلا الله ثورة على الحاكمين بغير شرع الله عرباً كانوا أم عجماً! كانت لشهادة أن لا إله إلا الله جذبتها في حس هؤلاء العرب... إنهم يصرحون بالنتيجة الهائلة التي تتقرر من إعلان تلك الحقيقة. إنها الخروج من الأرض... إنها ذهاب السلطان... إنها إبطال شرعية الحكم... أو محاولة قلب نظام الحكم!... بالتعبير العصري الحديث(4).
ثانياً: إن الجاهلية جاهلية والإسلام إسلام، والفارق بينهما بعيد. والسبيل هو الخروج من الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته. وأول خطوة في الطريق هي تميز الداعية وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية تصوراً ومنهجاً وعملاً، الانعزال الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق، والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام... إنه ليس هناك أنصاف حلول ولا التقاء في منتصف الطريق ولا إصلاح عيوب ولا ترقيع مناهج(5).
ثالثاً: إن الذي يعود إلى ملة الطاغوت والجاهلية، التي لا يخلص فيها الناس الدينونة والطاعة لله وحده، والتي يتخذ الناس فيها أرباباً من دون الله يقرون لهم بسلطان الله... إن الذي يعود إلى هذه الملة - بعد أن قسم الله له الخير وكشف له الطريق وهداه إلى الحق وأنقذه من العبودية للعبيد- إنما يؤدي شهادة كاذبة على الله ودينه، شهادة مؤداها أنه لم يجد في ملة الله خيراً فتركها وعاد إلى ملة الطاغوت!، أو مؤداها -على الأقل- أن لملة الطاغوت حقاً في الوجود وشرعية في السلطان وأن وجودها لا يتنافى مع الإيمان بالله. فهو يعود إليها ويعترف بها بعد أن آمن بالله...
وهي شهادة خطيرة أخطر من شهادة من لم يعرف الهدى ولم يرفع راية الإسلام، بشهادة الاعتراف براية الطغيان. ولا طغيان وراء اغتصاب سلطان الله في الحياة!(6).
رابعاً: ثم تبقى الحقيقة القدرية التي ينبغي أن لا يغفل عنها الدعاة إلى الله في جميع الأحوال، وهي أن تحقيق وعد الله لأوليائه بالنصر والتمكين، والفصل بينهم وبين قومهم بالحق، لا يقع ولا يكون إلا بعد تميز أصحاب الدعوة وتحيزهم، وإلا بعد مفاصلتهم لقومهم على الحق الذي معهم... فذلك الفصل من الله لا يقع وأصحاب الدعوة متميعون في المجتمع الجاهلي، ذائبون في أوضاعه، عاملون في تشكيلاته... وكل فترة تميع على هذا النحو هي فترة تأخير وتأجيل لوعد الله بالنصر والتمكين وهي تبعة ضخمة هائلة يجب أن يتدبرها أصحاب الدعوة إلى الله وهم واعون مقدرون(7)
خامساً: لقد كمل هذا الدين وتمت به نعمة الله على المسلمين. ورضيه الله لهم منهج حياة وللناس أجمعين. ولم يعد هنالك من سبيل لتعديل شيء فيه أو تبديله، ولا لترك شيء من حكمه إلى حكم آخر، ولا شيء من شريعته إلى شريعة أخرى... وأي تعديل في هذا المنهج -دعك من العدول عنه- هو إنكار لهذا المعلوم من الدين بالضرورة... وقد علم الله أن معاذير كثيرة يمكن أن تقوم وأن يبرر بها العدول عن شيء مما أنزل الله واتباع أهواء المحكومين المتحاكمين... وإن هواجس قد تتسرب في ضرورة الحكم بما أنزل الله كله بلا عدول عن شيء يه في بعض الملابسات والظروف.
فحذر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآيات... ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾(8) وبذلك يغلق كل منافذ الشيطان ومداخله إلى النفس المؤمنة ويأخذ الطريق على كل حجة وكل ذريعة لترك شيء من أحكام هذه الشريعة لغرض من الأغراض في ظرف من الظروف ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾(9).
ما الذي يستطيع أن يقوله من ينحّي شريعة الله عن حكم الحياة؟ ما الذي يستطيع أن يقوله وبخاصة إذا كان يدعي أنه من المسلمين؟ الظروف؟ الملابسات؟ عدم رغبة الناس؟ الخوف من الأعداء؟ ألم يكن هذا كله في علم الله وهو يأمر المسلمين بأن يقيموا بينهم شريعته وأن يسيروا على منهجه وأن لا يفتنوا عن بعض ما أنزله؟(10)
3- ويبيّن محمد قطب للذين يسعون إلى المشاركة السياسية مع الأنظمة الديمقراطية!... يبيّن لهم حقيقة الديمقراطية بقوله "أما الديمقراطية فهي الفتنة الكبرى! فتنة يقع فيها كثير من الدعاة اليوم كما وقع بعضهم في فتنة الاشتراكية من قبل(يقصد بذلك الدكتور مصطفى السباعي عندما ألف كتابه اشتراكيتنا فاختلط لديه الأمر بين الاشتراكية والإسلام.)...
وما عندي شك في إخلاص هؤلاء الدعاة... ولكنهم مع ذلك مخدوعون في هذه الديمقراطية يحسبونها تخدم الإسلام... ويلتبس عليهم الأمر بسبب الشبه الظاهر بينها وبين الشورى التي ألزم الله بها الأمة الإسلامية، فيحسبون الإسلام والديمقراطية شيئاً واحداً، أو شيئين متجانسين يمكن مزجهما في عجينة واحدة! وأحسب أن الذي يجذبهم إلى الديمقراطية حتى ليحسبونها هي الصورة التطبيقية لروح الإسلام، هو رقابة الأمة على الحاكم في النظام الديمقراطي ومحاسبتها له، والضمانات التي تكفلها الديمقراطية للفرد إزاء الدولة"... فإذا نظر أولئك الدعاة إلى أنفسهم في وسط النظم الاستبدادية التي تشردهم وتعذبهم وتقتلهم قالوا: يا ليت لنا نظاماً ديمقراطياً يحمي الدعوة ورجالها من العسف والاستبداد!... نعم! ولكن هذا لا يبرر الخديعة بالديمقراطية. إن هناك قضية كبرى في حياة المسلم، تنطلق من عقيدته، وتسري في فكره وفي سلوكه العملي... تلك هي قضية (من المعبود)؟ الله أم آلهة أخرى معه، أو من دونه؟ ويتفرع عنها قضية أخرى لا تقل خطراً عنها... تلك هي قضية (من المشرِّع)؟
فأما قضية (من المعبود؟) فيكفي لبيانها في الديمقراطيات أن (حق) الإلحاد مكفول في دساتير تلك الأمم تحت عنوان (حرية العبادة)!... وأما قضية (من المشرِّع؟) فالواضح في الديمقراطيات أن حق التحليل والتحريم هو (للأمة) مصدر السلطات، والبرلمان الذي يمثلها، نظرياً على الأقل، بصرف النظر عن كون أصحاب رؤوس الأموال، هم الثقل الحقيقي وهم أصحاب السلطان من وراء (المسرحية) الجميلة، مسرحية التمثيل النيابي وحرية الاختيار وحرية التعبير!، ولكن إذا أخذنا بالنظرية فالبرلمان هو الهيئة التشريعية العليا، ولا معقب لحكمه ولو أباح الفاحشة - وقد أباحها - ولو أباح الفاحشة الشاذة - وقد أباحها - ولو أباح أي شيء وكل شيء...! إنني أقول للدعاة الذين ينادون بالديمقراطية - مخلصاً- إن الديمقراطية بصورتها الموجودة عليها اليوم في الأرض لن توصلهم إلى الإسلام، لأنها تعارض معارضة أساسية مبدأ الالتزام المسبق بأي شيء ولو كان من عند الله... بل إن أول شيء نبذته هذه الديمقراطية هو الالتزام بما جاء من عند الله!... ثم أقول لهم مخلصاً: إنها لن توصلهم إلى الإسلام من جانب آخر. لأن المشرفين على (اللعبة) الديمقراطية يفتحون الأبواب لكل عابث ولكل مفسد، ولكنهم لا يفتحونها للإسلام!، وقضية الجزائر ما زالت حيّة لم تغب عن الذاكرة... من حق أي فريق من البشر أن يحصل على أغلبية في البرلمان... إلا الإسلاميين!(11)
4- ويفند الأستاذ عبد القديم زلوم جانباً آخر من جوانب النظام الديمقراطي، والمحدد بالحريات العامة التي ليس فيها ضوابط معتبرة، وهي تناقض الإسلام، في منطلقاتها وأهدافها، وهي التالية:
أولاً: إن حرية الاعتقاد تعني أن الإنسان يحق له أن يعتقد العقيدة التي يريدها، وأن يعتنق الدين الذي يود، دون ضغط أو إكراه، كما يحق له أن يترك عقيدته ودينه وأن يتحول إلى عقيدة جديدة، ودين جديد، أو أن يتحول إلى غير دين... بينما الإسلام يحرم على المسلم أن يترك عقيدة الإسلام، وأن يرتد إلى اليهودية، أو النصرانية، أو البوذية
ثانياً: أما حرية الرأي في النظام الديمقراطي فإنها تعني أن الفرد له أن يحمل أي رأي وأي فكر، مهما كان هذا الرأي وهذا الفكر، وله أن يقول أي فكر وأي رأي، وأن يدعو إلى أي فكر وأي رأي، بمنتهى الحرية دون قيد أو حدٍ، وله أن يعبر عن ذلك بأي أسلوب من الأساليب المتاحة له... أما الإسلام فالأمر فيه مختلف، فالمسلم فيه مقيد في جميع أفعاله وأقواله بما جاءت به النصوص الشرعية، فلا يجوز له أن يعمل عملاً أو أن يقول قولاً إلا إذا جاءت الأدلة الشرعية بجوازه... كما أن الإسلام أوجب على المسلمين مجابهة الحكام بالرأي ومحاسبتهم على أعمالهم(12)
ثالثاً: أما حرية التملك -وهي التي أنتجت النظام الرأسمالي في الاقتصاد، وبالتالي أوجدت فكرة استعمار الشعوب، ونهب خيراتها، وسلب ثرواتها- فإنها تعني إباحة أن يتملك الإنسان المال ابتداء، وأن ينميه بأية وسيلة، وبأية كيفية كانت، فله أن يملك المال، وأن ينميه بأسلوب الاستعمار، ونهب الثروات وسرقة خيرات الشعوب المستعمرة، وبالاحتكار والمضاربة، وبالربا، وبالتدليس والغش والخداع والغبن الفاحش، وبالقمار والزنا واللواطة واستخدام أنوثة المرأة، وبصناعة الخمر وبيعها وبالرشوة وبغير ذلك من الأساليب... أما الإسلام فإنه نقيض هذه الحرية في أحكام تملك المال، فهو يحارب فكرة استعمار الشعوب، وفكرة نهب خيراتها، والاستيلاء على ثرواتها، كما يحارب فكرة الربا سواء أكان بفوائد مركبة أم بفوائد بسيطة، فالربا كله ممنوع. وقد حدد الإسلام أسباب تملك المال، وأسباب تنميته، وكيفية التصرف فيه، وحرم ما عداها... وبهذا يظهر أنه لا توجد حرية تملك للمال في الإسلام، بل المسلم مقيد في تملكه للمال وفي تصرفه بالمال بالأحكام الشرعية التي جاء الشرع بها، ولا يجوز له أن يتعداها.
رابعاً: أما الحرية الشخصية، فهي حرية الانفلات من كل قيد، حرية التحلل من كل القيم الروحية والخلقية والإنسانية، حرية تحطيم الأسرة، وإفقادها كيانها وتماسكها. الحرية التي ترتكب باسمها جميع الموبقات، وتستباح كل المحرمات. وهي الحرية التي أوصلت المجتمعات الغربية إلى مجتمعات بهيمية يندى لها جبين الإنسان، وأوصلت أهلها إلى مستوى أحط من مستوى البهائم والحيوان. هذه الحرية قررت أن من حق الإنسان أن يتصرف في سلوكه الشخصي، وفي حياته الشخصية بالشكل الذي يروق له، بمنتهى الحرية، دون أن تملك الدولة أو غيرها حق الحيلولة بينه وبين القيام بما يريد أن يقوم به من تصرف أو سلوك. وأباحت له الزنا واللواطة والسحاق والخمر والعُرْيَ، ومزاولة أي عمل مهما كان خسيساً بمنتهى الحرية دون قيد أو حد، بدون ضغط أو إكراه...
إن أحكام الإسلام تناقض هذه الحرية الشخصية مناقضة تامة. فلا حرية شخصية في الإسلام، والمسلم مقيد بأوامر الله ونواهيه في جميع أفعاله وتصرفاته، ويحرم عليه أن يقوم بفعل حرَّمه الله... والإسلام حرّم الزنا واللواط والسحاق والخمر والعري وغيرها من الموبقات، وجعل لكل منها عقوبة زاجرة، وأمر بالتخلق بالأخلاق الفاضلة، والسجايا الحميدة، وجعل المجتمع الإسلامي مجتمع الطهر والعفاف، ومجتمع القيم الرفيعة.
5- ويرى سعيد حوى، أن على الإسلاميين أن لا يسعوا إلى تطبيق جزء من الإسلام تحت عنوان التعاون مع الآخرين، لأن هذا يعتبر مساومة على دين الله، ويؤدي إلى الذلة والخسران، ويشير إلى الفساد والمفسدين في العالم الإسلامي، ويحمل الحكام مسؤولية ذلك، بقوله:
أولاً: إن حزب الله يرفض فكرة تبعيض الإسلام أياً كان مظهر هذا التبعيض، لأن التبعيض سبب من أسباب الذلة والخسران في الدنيا والآخرة، ولا يستمد حزب الله قوته إلا من الله الذي لا يعطي القوة لمن يتخلى عن جزء من دينه بل يذيقه ضعف الحياة وضعف الممات... إن تبعيض الإسلام سواء ظهر بشكل إسلام بلا سياسة أو ظهر بفكرة العهد المكي ثم المدني، أو ظهر بفكرة التعاون مع الآخرين على أساس اسم الإسلام لا حقيقته أو ربع الإسلام أو خمسه كل ذلك مرفوض...
إن حزب الله مكلف بإنهاء الردة والمرتدين مهما كان نوع الردة والمرتدين. هذا شأنه لا يمكن أن يضع يده بيدهم مهما كان نوع المصلحة التي يتوهمها الناس الآخرون في ذلك... وحزب الله لن يدخل في صراع مع الإسلاميين9 بل سيخدمهم ولكنه لا يعتبر إسلامياً إلا من آمن بشمول الإسلام وحرر ولاءه لأهله وعمل للإسلام(13)
ثانياً: إن أكثر أقطار الإسلام اليوم قد سيطر عليه الكافرون والمرتدون والزنادقة والملحدون والمنافقون والفاسدون على شكل أفراد أو هيئات أو منظمات، أو أحزاب... وقامت حكومات أقطار العالم الإسلامي على هذا المزيج الكافر، وساعد هذه الحكومات أجهزة مهمة رجالها تثبيت الفساد... وأمام هذا كله فقد أصبح واجباً على المسلمين أن ينظموا عملية تطهير واسعة في كل قطر من أقطارهم يستأصلون بها من ذكرناهم في باب الشدة على الكافرين، ويستأصلون بها الفساد، ويستلمون زمام الحكم في كل قطر ويعيدون الأمر إلى نصابه... (ويقول عن الحكام)... فالكافر ليس إمام حق، والمبتدع ليس إمام حق، والداعي إلى الضلال ليس إمام حق، والذي لا يصلي ولا يلتزم أحكام الإسلام في ذاته ليس إمام حق، والذي يلغي أحكام الله، ويعطل شريعته، ويريد أن ينشر الفسوق والإباحية ليس إمام حق، والذي يريد أن يفرق بين المسلمين بالعصبية القومية والوطنية ليس إمام حق.
6- ويبيِّن الشيخ عمر عبد الرحمن عدم جدوى دخول الإسلاميين إلى البرلمان، لأن فيه ضياع المبادئ الإسلامية، وفيه التضليل والحيرة للمسلمين، ويظهر ذلك من خلال أقواله التالية:
أولاً: إن ما نراه هو أن دخول هذه المجالس فيه فساد كثير، وفيه ضياع لمبادئ الإسلام، لأن هذه المجالس تصدر قوانين مخالفة للإسلام. والرئيس السابق للمجلس "محجوب" قال في جلسة من الجلسات: إن الربا من "المصالح المرسلة" وسكت الناس في مجلس الشعب، حتى الإسلاميون منهم. انظر الربا الذي حُرِّم بالكتاب جعله من المصالح المرسلة.
ثانياً: إن الناس حينما يرون الإسلاميين قد دخلوا هذه المجالس يقعون في حيرة. لو كان نظام الحكومة حقاً فلماذا يعيبون على هذا النظام؟ ولو كان نظام الحكومة باطلاً، فلماذا يدخل الإسلاميون في هذه المجالس؟ لذلك يقعون في حيرة شديدة من دخول الإسلاميين ومشاركتهم في هذه المجالس، فإذا كان النظام على حق فلماذا يطالبون بتغييره؟ وإذا كان على باطل فلماذا يشاركون فيه؟.
ثالثاً: إن الديمقراطية كما عرّفوها، حكم الشعب للشعب بالشعب، والإسلام يقول (لا حكم إلا لله) فكيف يكون ذلك؟ فالله هو الذي يحكم بين عباده ويصدر التشريعات لهم ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾(14)
فالحكم لله وحده. والشرع من عند الله. وليس للشعب ولا لفرد ولا لجماعة ولا لحزب ولا لمجلس ولا لهيئة ولا لفريق أن يشرعوا. الله هو الذي جعلنا على شريعة وهو الذي يحكم بيننا، الحكم له وحده، فلا يصح أن يكون للشعب، فالديمقراطية أمر لا يوافق عليه الإسلام من حيث إعطاء الحكم للشعب، لكن الحكم لله وتوجد المشورة في حدود مبادئ الإسلام وما بيّنه الإسلام من منهج.
رابعاً: مهما تكن النسبة العددية للإسلاميين في هذه المجالس البرلمانية فإنهم لن يحققوا شيئاً، ولك أن تسأل عن: ماذا حقق هؤلاء الإسلاميون بنسبهم العالية لدينهم فضلاً عن دنياهم؟ إنه نظام مرسوم، والحكام الذين يشرفون عليه لن يقبلوا بتطبيق الإسلام ولا يريدون اليوم أن يطبق فيه. ولن ينجح الإسلاميون بتحصيل شيء من هذه التجربة. وإذا كانوا يعتقدون أنهم سوف يحققون الإسلام بهذه الطريقة وحصل لهم ذلك فهو خير. لكنني أود أن أنبه إلى أن ما أُخِذَ بسهولة يُنزع بسهولة. وما أُخذ بالانتخاب يُنزع بالانتخاب، فإذا وصلوا إلى الحكم فإن هذا يُنزع عنهم بالسهولة نفسها التي وصلوا بها. فإذا تكالبت عليهم قوى الشر وأهل الأحزاب الأخرى وكانوا أكثر نزعوا منهم. ولكن إذا كان الوصول إلى الحكم عن طريق قول الحق والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله فإن أحداً لا يستطيع نزعه عنهم أبد24.
7- ويبيّن الدكتور عبد الله عزام موقفه من القانون الوضعي، ومن مسألة التحاكم إلى الطاغوت والرضى به، وخطورة إبعاد الشريعة الإسلامية عن واقع الحياة، من خلال تفسير قوله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾(15).
ويظهر ذلك من خلال التالي:
أولاً: هذه الآية الكريمة تمثل القاعدة الكبرى في هذا الدين، هذه القاعدة التي لا يكون بدونها إيمان، ولا إسلام، وهي قضية المسلم الكبرى يوم أن تنزَّل هذا القرآن. وهي قضيته الأساسية والكبرى كذلك في كل زمان، وهي قضية العصر الراهنة التي يجب أن تشغل اهتمام كل مسلم. إن التحاكم إلى الكتاب والسنّة هو الإسلام فحسب. ولذا فقد جاءت هذه الآية بهذا القسم المزلزل الذي ترتعش حياله الأوصال، وترتجف عند سماعه الأعضاء. وهذه بديهية من المفروض ألا تغيب عن بال بشر، وذلك لأننا عبيد لله، نعيش في ملك الله ونحن خلق من خلقه. ولذا يجب أن ينفذ فينا شرعه، ويطبق علينا حكمه، وإلا فهو تمرد على خالق الأرض والإنسان، وهو تصرف بغير إذن المالك بل مناوأة للسيد في ملكه وحكمه وعبيده، ومن ثم تصبح القضية خروجاً وفسوقاً وكفراً بمالك الملك الذي يتصرف في ملكه كما يشاء ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾. فدين الله هو: أوامره ونواهيه، وهي في جوانب العقيدة. كما أنها تتمثل في إقامة الشعائر -بالعبادات وغيرها- وأخيراً فهي تكون في جانب الشرائع والقوانين. وهذه الجوانب كلها متكاملة إذا غاب أي جزء من هذه الأجزاء فقد تخلف هذا الدين عن الوجود، لأن الإسلام كالجهاز المتناسق الذي يتوقف إذا رُفع منه أي جزء، أو أُضيفَ إليه جزء غريب عن كيانه.
ثانياً: وعلى هذا فكل من رضي بالقوانين الأرضية وبالشرائع القانونية التي شرعوها بغير إذن الله، بل هي مصادمة للنصوص القرآنية والنبوية، أقول: كل من رضي بها أو تحاكم إليها غير مكره، أو تدخل في تقنينها أو إقرارها أو تنفيذها راضياً فهو ممن ينسحب عليهم حكم الآية ويخرج بهذا العمل من دائرة الإيمان، لا سيما وأن البخاري يروي أنها نزلت في رجل من الأنصار، وهو قطعاً يقيم الشعائر ويعلن إسلامه، ومع ذلك فقد كان القسم رهيباً وجازماً في أن الذي لا يتحاكم إلى شرع الله ورسوله ليس مؤمناً28.
ثالثاً: ومن ناحية أخرى، فلقد جازت الحيلة على المسلمين البسطاء وأصبح الدين الجديد -القانون الوضعي- الذي حل محل دين الله في الأرض قانوناً يدرسه أبناؤنا وأقيمت الجامعات والمعاهد، وتتصدر هذه الجامعات الكلية التي تدرّس "الدين الجديد" وهي كلية الحقوق، ودخلها الآلاف المؤلفة من أبناء المسلمين يدرسون هذا الدين، ويتخصصون فيه ويصبحون هم بالتالي سدنته وكهنته وحماته، وبتخطيط عجيب يتسلم هؤلاء إدارة المحاكم وزمام الدولة، وقيادة الأمة والمؤسسات الحيوية في كل بلد كان في يوم ما داراً للإسلام... وبإمكاننا أن نقول: كل من رفض التحاكم إلى شريعة الله أو فضّل أي تشريع على تشريع الله، أو أشرك مع شرع الله شرائع أخرى من وضع البشر وأهوائهم، وكل من رضي أن يستبدل بشرع الله قانوناً آخر، فقد خرج من حوزة هذا الدين وألقى ربقة الإسلام عن عنقه، (و) رضي لنفسه أن يخرج من هذه الملة كافراً.
8- ويشير الأستاذ عبد القادر عودة إلى فشل النظام الديمقراطي الوضعي، ويوضح فساد النظام الديكتاتوري وما أدى إليه من كوارث، ويصل بالنتيجة إلى أن النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية هي الحل لكل معضلات المسلمين، وكل مشاكل البشرية... فيقول في ذلك:
أولاً: وإذا كان فشل البلاد الديمقراطية في تطبيق مبدأ الشورى يرجع في الأصل إلى انعدام الثقة فيمن يتصدون لقيادة الشعب، إلا أن تفشي هذا الفشل في كل البلاد الديمقراطية جعل الناس يعتقدون أن مبدأ الشورى نفسه غير صالح للتطبيق، فانتقل الشك وعدم الثقة من القائمين على تطبيق المبدأ إلى المبدأ ذاته، واعتنق الكثير من البلاد الديمقراطية مبدأ الديكتاتورية وهم يظنون أنهم سيجدون فيه علاجاً لحالة الشك وعدم الثقة التي تعيش فيها الشعوب.
ولكن التجارب أثبتت أن الديكتاتورية انتهت بفشل أفظع من فشل الديمقراطية، لأنها تؤدي إلى كم الأفواه وتعطيل حرية الرأي وحرية الاختيار وانعدام الثقة بين الشعوب والحكام وتوريط الشعوب والحكومات فيما لا تريده أو فيما لا يعود عليها إلا بالضرر.
ثانياً: أما النظام الإسلامي فيقوم على الشورى والتعاون في مرحلة الاستشارة، وعلى السمع والطاعة والثقة في مرحلة التنفيذ، ولا تسمح قواعده بتسليط فريق على فريق. وبهذا جمع النظام الإسلامي بين ما ينسب إلى الديمقراطية من فضائل، وما ينسب إلى الديكتاتورية من مزايا ومحاسن، ثم هو في الوقت نفسه بريء من العيوب التي تنسب للديمقراطية والديكتاتورية معاً.
ولقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في تقرير مبدأ الشورى بأحد عشر قرناً، حيث لم تعترف هذه القوانين بمبدأ الشورى إلا بعد الثورة الفرنسية، اللهم فيما عدا القانون الإنجليزي، فقد عرف مبدأ الشورى في القرن السابع عشر، وقانون الولايات المتحدة الذي أقر المبدأ بعد منتصف القرن الثامن عشر، أما القانون الفرنسي فقد أخذ بمبدأ الشورى في آخر القرن الثامن عشر، وعلى إثر ذلك انتشر مبدأ الشورى وأخذت به معظم القوانين في القرن التاسع عشر فالقوانين الوضعية حين قررت مبدأ الشورى لم تأتِ بجديد، وإنما انتهت إلى ما بدأت به الشريعة الإسلامية، وسارت في الطريق الذي سلكته الشريعة من القرن السابع الميلادي(16)
المصادر :
1- هي شرعة جنكيز خان التي كان يطبقها على البلاد التي يحتلها، وفيها الكثير من الظلم والاعتداء على الناس.
2- الإمام عماد الدين إسماعيل بن كثير - البداية والنهاية - م/7 - ج/13 - ص119.
3- النساء: 65.
4- سيد قطب - في ظلال القرآن - م/3 - ص1348.
5- سيد قطب - المرجع نفسه - م/6 - ص3992.
6- سيد قطب - المرجع نفسه - م/3 - ص1319.
7- سيد قطب - في ظلال القرآن - م/4 - ص2101-2103.
8- المائدة: 49.
9- المائدة: 50.
10- 11- سيد قطب - في ظلال القرآن - م/2 - ص903-905.
11- محمد قطب - لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهج حياة - ص150-152.
12- عبد القديم زلوم - المرجع نفسه - ص56-57.
13- سعيد حوى - جند الله ثقافة وأخلاقاً - ص44-45.
14- الجاثية: 18.
15- النساء: 65.
16- عبد القادر عودة - المرجع نفسه - م/1 - ص41.