
طغى التزييف على حوادث الفترة التی اعقبت الخلیفة الثالث وملابساتها وإرهاصاتها، كغيرها من الحوادث ، وتضاربت فيها أقوال المؤلفين، وإن كان معظمها متفقاً مع ما جاء في تاريخ الطبري برواية سيف بن عمر طبعاً. إلاّ أن القاضي ابن العربي خرج من هذه القضية بآراء غاية في الغرابة، أثارت إنتباه الكثير من المؤلفين والمحققين الذين أنكروا عليه بعض الاُمور، حتى من المؤيدين لوجهة نظره بالنسبة لخط سير الأحداث العام، فبعد أن ينقل القاضي ابن العربي بعض الروايات الشائعة، تحت عنوان (قاصمة)، يعود فيبدي رأيه فيما جرى، بالتمهيد للأحداث، فتحت عنوان (عاصمة)، يقول ابن العربي:
أما خروجهم الى البصرة، فصحيح لا إشكال فيه. ولكن لأي شيء خرجوا؟ لم يصح فيه نقل! ولا يوثق فيه بأحد! لأن الثقة لم ينقله!! وكلام المتعصب غير مقبول، وقد دخل مع المتعصب من يريد الطعن في الاسلام واستنقاص الصحابة. فيحتمل أنهم خرجوا خلعاً لعلي لأمر ظهر لهم، وهو أنهم بايعوا لتسكين الثائرة، وقاموا يطلبون الحق!
ويحتمل أنهم خرجوا ليتمكنوا من قتلة عثمان!
ويمكن أنهم خرجوا لينظروا في جمع طوائف المسلمين، وضم تشردهم، وردّهم الى قانون واحد حتى لا يضطربوا فيقتتلوا، وهذا هو الصحيح، لا شي سواه، بذلك وردت صحاح الأخبار!!
فأما الأقسام الاُول، فكلها باطلة وضيعفة!
أما بيعتهم كرهاً، فباطل، وأما خلعهم فباطل، لأن الخلع لا يكون إلاّ بنظر من الجميع، فيمكن أن يولي واحد أو إثنان، ولا يكون الخلع الاّ بعد الاثبات. وأما خروجهم في أمر قتلة عثمان فيضعف، لأن الأصل قبله تأليف الكلمة، ويمكن أن يجتمع الأمران(1).
إن آراء ابن العربي تبدو متناقضة تماماً، فهو يدعي أولا أن سبب خروج أصحاب الجمل لا يمكن معرفته لأنه لم يصح فيه نقل، ولا يوثق فيه بأحد، لأن الثقة لم ينقله، لكنه يعود فيدعي أن السبب في خروجهم هو محاولة لمّ الشعث ورد المسلمين جميعاً الى القانون حتى لا يقتتلوا، مدعياً بأن صحاح الأخبار قد وردت بذلك!! وسوف نستعرض صحاح الأخبار التي اعتمدها ابن العربي لنعرف أي مصدر موثوق هذا الذي اعتمده بهذه الصحاح كما يجزم، من أجل الكشف عن ملابسات هذه القضية الملتبسة التي أبدى ابن العربي حيرته أمامها في البداية. إلاّ أنني أجد من الضروري أن نناقش أولا الفقرة التي اعتبرها القاضي ابن العربي السبب الحقيقي لخروج أصحاب الجمل لصحة الأخبار عنها، وهي ادعاؤه بأنهم خرجوا بهدف الاصلاح بين المسلمين لكيلا تقع الحرب بينهم!
إن كلام ابن العربي يمكن أن يكون مقبولا لو كان هنالك أمر يستدعي الخروج للاصلاح، إذ لم يصل إلينا خبر أو أثر - حتى لو كان ضعيفاً- عن وجود أمر أو حادثة شغب وقعت في البصرة في الفترة بين مقتل عثمان ومجيء أصحاب الجمل، وهي لا تقل عن أربعة أشهر كما تذكر الروايات، فلقد تمت البيعة لعلي بن أبي طالب، وبدأ الخليفة الجديد يمارس مهامه، وقام بتفريق عمّاله على الولايات، فكانت البصرة من نصيب عثمان ابن حنيف الذي باشر اُمور ولايته بشكل طبيعي، ولم يترك لنا التأريخ وثيقة تقول بأن عثمان بن حنيف قد بعث كتاباً الى الخليفة يخبره بوجود اضطراب أو شغب يستدعي تدخل أحد لفضه! بل إن الاُمور قد سارت على عكس ما يدعيه القاضي ابن العربي، فإن مجيء أصحاب الجمل الى البصرة، كان مقدمة لفتنة جديدة استتبعها وقوع حرب طاحنة راح ضحيتها اُلوف المسلمين من بينهم عدد من كبار الصحابة وعلى رأسهم الصحابيان اللذان قادا معركة الجمل (طلحة والزبير)، وجُرحت اُم المؤمنين عائشة، وكادت تُقتل، فكانت تلك أول حرب تدور رحاها بين المسلمين أنفسهم. وفوق هذا وذاك، فإن ابن العربي ينقض الأخبار التي تصافقت على أن الهدف المعلن لخروج أصحاب الجمل كان المطالبة بدم عثمان، كما تثبت ذلك جميع المصادر، وكما سوف يتبين لنا من اعترافات أصحاب الجمل أنفسهم، وهي الحجة ذاتها التي تذرع بها معاوية بن أبي سفيان وأنصاره فيما بعد.
حوادث ما قبل الخروج
من أجل الإلمام بأطراف القضية، فان علينا أن لا نستبق الأحداث، فنعود قليلا الى الوراء مرة اُخرى، لنمسك بأطراف خيوط القضية، وتبيّن حقيقة النوايا التي أدت الى تلك الأحداث الدامية.لا اُريد أولا الاسترسال في الكلام حول بيعة علي بن أبي طالب بعد مقتل عثمان - فهي تكاد تكون معروفة رغم اضطراب بعض الأخبار حولها- لكن المهم إنها تمت على كل حال، والذي جرى بعد ذلك بقليل كان له الأثر الكبير على مجريات الأحداث فيما بعد، وذلك حينما كشف الخليفة الجديد عن نواياه في الإدارة، مما شكل مفاجأة لبعض الصحابة الذين لم يرقهم اسلوب علي وكيفية تسييره للاُمور.
لقد كشف الخليفة الجديد النقاب عن نواياه، في أول خطبة خطبها بعد توليه الخلافة ومن على المنبر، ليبين برنامج الحكم الذي ينوي تطبيقه، فكان من جملة ما قال: ألا لا يقولن رجال منكم غداً، قد غمرتهم الدنيا، فاتخذوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، إذا منعتُهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتُهم الى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا، ألا وأيّما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يرى أن الفضل له على من سواه لصحبته، فإن الفضل النيّر غداً عند الله، وثوابه وأجره على الله، وأيما رجل استجاب لله وللرسول، فصدّق ملّتنا، ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسَّم بينكم بالسوية، لا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غداً أحسن الجزاء وأفضل الثواب.
لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجراً ولا ثواباً، وما عند الله خير للأبرار، وإذا كان غداً إن شاء الله فاغدوا علينا، فإن عندنا مالا نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحد منكم، عربي ولا عجمي، كان من أهل العطاء أو لم يكن، إلاّ حضر إذا كان مسلماً حراً..
قال ابن أبي الحديد المعتزلي - بعد ايراده هذا- قال شيخنا أبو جعفر:
فكان هذا أول ما أنكروه من كلامه (عليه السلام)، وأورثهم الضغن عليه، وكرهوا إعطاءه وقسمه بالسوية، فلما كان الغد، غدا وغدا الناس لقبض المال، فقال لعبيدالله بن أبي رافع كاتبه: ابدأ بالمهاجرين فنادهم، واعط كل رجل ممن حضر ثلاثة دنانير، ثم ثنّ بالانصار فافعل معهم مثل ذلك، ومن يحضر من الناس كلهم، الأحمر والأسود، فاصنع به مثل ذلك...(2).
لقد أوضح الخليفة الجديد منهجه في الحكم، وبخاصة فيما يتعلق بالعطاء والاُمور المالية، فأفهم الجميع أن العطاء في العهد الجديد يتضمن القسمة بالسوية دون تفاضل بينهم، كما وكبح جماح كبار الصحابة حين أفهمهم أن التفاضل في الصحبة يكون عند الله وليس عند الخليفة، وأن الصحابة وباقي الناس شرع سواء، ولا شك أن مثل هذه الاجراءات كان ولابد لها من أن تخلّف آثاراً غير محمودة في نفوس الكثيرين، فإن الاجراءات التي اتخذها عمر بن الخطاب في الغاء مبدأ المساواة في العطاء، وتفضيل أهل السابقة على غيرهم، وتغيير الأمر عما كان عليه في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وخليفته أبي بكر، ومن ثم استمرار الوضع على ذلك طيلة خلافة عثمان كانت قد تركت أثراً في نفوس اولئك الصحابة من أهل السابقة وجعلتهم يعتقدون بأن لهم مكانة خاصة في المجتمع ينبغي مراعاتها، لذا فإنهم ثاروا على عثمان عندما أراد أن يفضل أقرباءه من غير ذوي السابقة عليهم وإيثاره إياهم بالأموال والمناصب، حتى قال طلحة بن عبيدالله، فيما أخرج عمر بن شبة عن حكيم بن جابر في إسناده قال:
كلَّم عليّ طلحة -وعثمان محصور في الدار- فقال: إنهم قد حيل بينهم وبين الماء.
فقال طلحة: أما حتى تعطي بنو اُمية الحق من أنفسها، فلا(3).
أما العهد الجديد، فإنه لم يبدُ عليه أنه يريد إعادة الاُمور الى ما كانت عليه في زمن عمر بن الخطاب، بل هو يريد إعادة الاُمور الى ما كانت عليه أيام رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر، فبدأ التململ منذ اليوم تجاه هذه السياسة الجديدة بالظهور على اولئك الصحابة، يضاف إليهم اولئك المنتفعين من بطانة عثمان ابن عفان الذين كانوا قد حصلوا على تلك الأموال من غير استحقاق، فأصبح النظام الجديد يتهدد مصالحهم ويلوّح بتجريدهم مما في أيديهم، فانضم هؤلاء الى اولئك، وانقلبت الاُمور إلى حالة عجيبة من ظهور التحالف بين الساخطين على عثمان والموالين له من أجل الوقوف أمام السياسة الجديدة التي تهدد مصالحهم المشتركة من الآن فصاعداً.
لقد بدأ سياق الأحداث يجري مجرىً جديداً، ويمكن تبيّن ذلك في تكملة أحداث الرواية السابقة التي ينقلها ابن أبي الحديد عن الاسكافي، قال:
فبينا الناس في المسجد بعد الصبح، إذ طلع الزبير وطلحة فجلسا ناحية عن علي (عليه السلام)، ثم طلع مروان وسعيد وعبدالله بن الزبير فجلسوا إليها، ثم جاء قوم من قريش فانضموا إليهم، فتحدثوا نجيّاً ساعة، ثم قام الوليدبن عقبة بن أبي معيط، فجاء الى علي (عليه السلام) فقال: يا أبا الحسن، إنك قد وترتنا جميعاً، أما أنا فقتلت أبي يوم بدر صبراً، وخذلت أخي يوم الدار بالأمس، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب -وكان ثور قريش- وأما مروان، فسخّفت أباه عند عثمان إذ ضمّه إليه، ونحن إخوتك ونظراؤك من بني عبدمناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنّا ما أصبناه من المال في أيام عثمان، وأن تقتل قتلته، وإنا إن خفناك تركناك فالتحقنا بالشام. فقال: أما ما ذكرتم من وتري إياكم، فالحق وتركم، وأما وضعي ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم، وأما قتلي قتلة عثمان، فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم أمس، ولكن لكم عليَّ إن خفتموني أن أؤمنكم، وإن خفتكم أن أسيّركم.
فقام الوليد الى أصحابه فحدّثهم، وافترقوا على إظهار العداوة وإشاعة الخلاف، فلما ظهر ذلك من أمرهم، قال عمار بن ياسر لأصحابه: قوموا بنا الى هؤلاء النفر من إخوانكم فإنه قد بلغنا عنهم ورأينا منهم ما نكره من الخلاف والطعن على إمامهم، وقد دخل أهل الجفاء بينهم وبين الزبير والأعسر العاق -يعني طلحة- فقام أبو الهيثم وعمار وأبو أيوب وسهل بن حنيف وجماعة معهم فدخلوا على علي (عليه السلام) فقالوا: يا أمير المؤمنين انظر في أمرك وعاتب قومك، هذا الحي من قريش، فإنهم قد نقضوا عهدك واخلفوا وعدك، وقد دعونا في السّر الى رفضك، هداك الله لرشدك، وذاك أنهم كرهوا الاُسوة وفقدوا الاثرة، ولمّا آسيت بينهم وبين الاعاجم أنكروا واستشاروا عدوّك وعظموه، وأظهروا الطلب بدم عثمان، فرقة للجماعة وتألفاً لأهل الضلالة، فرأيك!(4).
وهكذا بدأ التحالف القرشي الجديد يظهر على السطح، وكان هذا التحالف بحاجة الى غطاء يبرّر التمرد على السلطة الجديدة، وبما أن المطالب التي طرحها الحلف على الخليفة لم تكن تمتلك المسوّغ القانوني الذي يبيح لها ذلك، فقد قرر المتحالفون تبنّي نظرية تبدو أكثر قبولا عند الناس- وبخاصة الذين كانوا بعيدين عن الأحداث- فكان الطلب بدم الخليفة المقتول هو أفضل وسيلة لتحقيق ذلك، ومن العجب أن من بين اُولئك الذين طلبوا القصاص من قتلة عثمان، عدد كبير من الخاذلين لعثمان، بل ومن المحرّضين عليه! ولقد اعترف بعض زعماء الحلف الجديد بذلك، فقد روي أن الزبير قال في ملأ من الناس: هذا جزاؤنا من علي! قمنا له في أمر عثمان حتى قُتل، فلما بلغ بنا ما أراد، جعل فوقنا من كنّا فوقه!
وقال طلحة: ما اللّوم علينا، كنا معه أهل الشورى ثلاثة، فكرهه أحدنا- يعني سعداً- وبايعناه، فأعطيناه ما في ايدينا، ومنعنا ما في يده، فأصبحنا وقد أخطأنا اليوم ما رجوناه أمس، ولا نرجو غداً ما أخطأنا اليوم(5).
بعد أن تحقق زعماء التحالف الجديد من نوايا الخليفة، وأدركوا أنهم لا يستطيعون أن يثنوه عن السياسة التي يريد اتباعها، بدأوا تحركهم بشكل عملي، وكان الأمر يتطلب تنفيذ خطة العصيان خارج المدينة المنورة، لأن جمع الأعوان وتعبئتهم لا يمكن أن يتحقق إلاّ بجهد، ويستحيل تحقيق ذلك في عاصمة الخلافة، فكان الرأي بعد المشورة هو البدء من مكان آخر خارج العاصمة، ولم يكن هناك ما يبرر الخروج من المدينة لاستكمال تهيئة مستلزمات الثورة إلاّ بانتحال عذر مقبول، "فدخل الزبير وطلحة على علي (عليه السلام) فاستأذناه في العمرة، فقال: ما العمرة تريدان. فحلفا له بالله أنهما ما يريدان غير العمرة، فقال لهما: ما العمرة تريدان، وإنما تريدان الغدرة ونكث البيعة، فحلفا بالله ما الخلاف عليه ولا نكث البيعة يريدان، وما رأيهما غير العمرة. قال لهما: فأعيدا البيعة لي ثانية; فأعاداها بأشد ما يكون من الأيمان والمواثيق، فأذن لهما، فلما خرجا من عنده قال لمن كان حاضراً: والله لا ترونهما الاّ في فتنة يقتتلان فيها.
قالوا: يا أمير المؤمنين، فمر بردّهما عليك. قال: ليقضي الله أمراً كان مفعولا...
وكان التنصل من البيعة ونكثها أول خطوة لبدء التمرد، إذ أن طلحة والزبير ما كادا يخرجان من المدينة الى مكة، حتى "لم يلقيا أحداً إلاّ وقالا له: ليس لعلي في أعناقنا بيعة، وإنما بايعناه مكرهين.
فبلغ علي (عليه السلام) قولهما، فقال: أبعدهما الله وأغرب دارهما! أما والله لقد علمت أنهما سيقتلان أنفسهما أخبث مقتل، ويأتيان من وردا عليه بأشأم يوم، والله ما العمرة يريدان، ولقد أتياني بوجهَي فاجرين، ورجعا بوجهي غادرين ناكثين، والله لا يلقيانني بعد اليوم إلاّ في كتيبة خشناء يقتلان فيها أنفسهما، فبعداً لهما وسحقاً(6).
عائشة والتحالف
كان التحالف الجديد بحاجة الى عناصر اُخرى مؤثرة في الرأي العام الاسلامي يعطي لحركته غطاء مقبولا عند الناس، وكانت اُم المؤمنين عائشة خير عنصر يحتاجه هذا التحالف، فقد كانت اُم المؤمنين عائشة قد بدأت تتصدى للأحداث السياسية المهمة في خلافة عثمان، وكانت مؤهلة لذلك، لمنزلتها -كونها زوج النبي- ولما كانت تمتلك من مواهب اُخرى، كقوة الشخصية وفصاحة المنطق. وكانت عند مقتل عثمان في مكة، فقد مرّ بنا سابقاً أن الطبري قد روى عن سيف بأن بعض المسلمين قد جاءوا الى عائشة ورجوها أن تلغي زيارتها للبيت الحرام وتتولى مدافعة الناس وردهم عن عثمان، وأنها اعتذرت خوفاً من أن يصيبها ما أصاب اُم حبيبة!لكن المؤرخين -ومن بينهم الطبري- قد أوردوا رواية معاكسة لرواية سيف عن موقف عائشة من عثمان، فقد قالوا -واللفظ للبلاذري-:
لما اشتد الأمر على عثمان أمر مروان بن الحكم وعبدالرحمان بن عتاب ابن اُسيد; فأتيا عائشة وهي تريد الحج، فقالا لها: لو أقمت، فلعل الله يدفع بك عن هذا الرجل. فقالت: قد قرّبت ركابي وأوجبت الحج على نفسي; و والله لا أفعل، فنهض مروان وصاحبه ومروان يقول:
وحرّق قيس عليَّ البلاد / حتى إذا اضطرمت أجذما
فقالت عائشة: يا مروان! وددت والله أنه في غرارة من غرائري هذه، وإني طوّقت حمله حتى اُلقيه في البحر.
ومرّ عبدالله بن عباس بعائشة وقد ولاّه عثمان الموسم، وهي بمنزل من منازل طريقها فقالت: ياابن عباس، إن الله قد آتاك عقلا وفهماً وبياناً، فإيّاك أن تردّ الناس عن هذا الطاغية(7).
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي:
قال كل من صنّف في السير والأخبار، إن عائشة كانت من أشدّ الناس على عثمان، حتى إنها أخرجت ثوباً من ثياب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنصبته في منزلها وكانت تقول للداخلين عليها: هذا ثوب رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يَبلَ، وعثمان قد أبلى سنّته!
قالوا: أول من سمى عثمان نعثلا عائشة; والنعثل الكثير شعر اللحية والجسد، وكانت تقول: اقتلوا نعثلا، قتل الله نعثلا(8).
وروى المدائني في كتاب (الجمل) قال:
لما قُتل عثمان كانت عائشة بمكة، وبلغ قتله إليها وهي بشَراف، فلم تشُك في أن طلحة هو صاحب الأمر، وقالت: بُعداً لنعثل وسحقاً! إيه ذا الاصبع! إيه أبا شبل! إيه يابن عم، لكأني أنظر الى إصبعه وهو يبايع له، حثّوا الابل ودعدعوها(9).
كما روى الطبري عن عمر بن شبة بسنده قال: خرجت عائشة وعثمان محصور، فقدم عليها مكة رجل يقال له أخضر، فقالت: ما صنع الناس؟ فقال: قتل عثمانُ المصريّين! قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، أيقتل قوماً جاءوا يطلبون الحق وينكرون الظلم! والله لا نرضى بهذا(10).
كما روى البلاذري بسنده الى الزهري قال: وقد كانت عائشة واُم سلمة حجَّتا ذلك العام، وكانت عائشة تؤلب على عثمان، فلما بلغها أمره وهي بمكة، أمرت بقبّتها فضُربت في المسجد الحرام، وقالت: إني أرى عثمان سيشأم قومه كما شأم أبو سفيان قومه يوم بدر!(11).
ونقل ابن أبي الحديد عن أبي مخنف قوله: وقد روي من طرق مختلفة أن عائشة لما بلغها قتل عثمان بمكة، قالت: أبعده الله، ذلك بما قدَّمت يداه وما الله بظلام للعبيد.
فيرشح مما سبق أن عائشة كانت من أشد المحرضين على عثمان(12). والداعين الى قتله، وكانت ترجو انتقال الخلافة الى ابن عمها طلحة، إلاّأن الاُمور قد سارت بغير الاتجاه الذي تمنته، ونال الخلافة علي بنأبي طالب، فانقلبت عائشة من محرّض على دم عثمان الىمطالب به، وانضمت الى التحالف الجديد، بعد أن كتب إليها طلحة والزبير:
أن خذّلي الناس عن بيعة علي، وأظهري الطلب بدم عثمان، وحمّلا الكتابمع ابن اُختها عبدالله بن الزبير. فلما قرأت الكتاب كاشفت وأظهرتالطلب بدم عثمان(13).
المصادر :
1- العواصم من القواصم: 155.
2- شرح نهج البلاغة 7:37.
3- تاريخ المدينة: 1169.
4- شرح نهج البلاغة 7: 38.
5- شرح نهج البلاغة 7: 42.
6- شرح نهج البلاغة 1: 232، أنساب الاشراف 3: 22.
7- أنساب الأشراف 6: 195، تاريخ الطبري 4:، الطبقات الكبرى 5: 36،العقد الفريد 4: 229، تاريخ المدينة 4: 1172.
8- قال ابن منظور: ونعثل رجل يهودي كان بالمدينة، قيل شُبّه به عثمان(رض)... وشاتمو عثمان يسمونه نعثلا... وفي حديث عائشة: اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا، تعني عثمان. لسان العرب 14:198.
9- شرح نهج البلاغة 6: 215.
10- تاريخ الطبري 4: 449.
11- أنساب الأشراف 6: 212.
12- شرح نهج البلاغة 6: 216.
13- شرح نهج البلاغة 6: 216.