تتعدد لديهم مفاهيم المواطنة في كثير من الدول ومواطنيها تبعاً للتيارات السياسية النافذة فيها، سواء تلك التي بيدها مقاليد الحكم أو المعارضة لها، حتى أصبحت المواطنة بالنسبة لبعضهم هي الانتماء للطائفة أو المذهب أو الانتماء للحزب الفلاني أو التيار السياسي الفلاني وهكذا...
وما عدا ذلك يكون خارج مفهوم المواطنة، بل وأكثر من ذلك، يصبح ممنوعاً من حقوقٍ جمّة لتصبح حكراً على مدعي المواطنة ممن لا يمتّ إليها بصلة.
وإن الشريعة الإسلامية الغرّاء بصلاحيتها لكل زمان ومكان وبمعالجتها كافة القضايا في مختلف المجالات، جاءت لتقرر مفهوم المواطنة الذي يعيش تحت سقفه الجميع من كل الملل والنِحل، وتؤكد أن الإسلام دين للعالمين جميعاً، يمكن تحت ظل دولته أن يعيش الناس في مواطنة يعتزون بها، أساسها العدل والأمن والاحترام المتبادل بين جميع المواطنين.
وخير نموذج لهذه الدولة، هو ذلك المجتمع الإسلامي الذي نشأ في المدينة المنورة فور قدوم الرسول محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إليها عندما هاجر من مكة المكرمة وكتب دستوراً لهذه الدولة عُرف بصحيفة المدينة المنورة، نص فيه على مجموعة قواعد ومبادئ يلتزمها جميع من يعيش على أرض المدينة أي على أرض الدولة سواء كان من المسلمين أو غير المسلمين.
جاء التعريف اللغوي يتحدث عن الوطن باعتباره محل وجود الإنسان المواطِن، وأنه مولد الإنسان والبلد الذي هو فيها، دون التطرق إلى المواطنة كمفهوم يحمل المعنى الاجتماعي أو السياسي للكلمة. لذلك فقد خلت قواميس اللغة عن تعريف المواطنة ككلمة ذات معنى لغوي.
أما بالنسبة للتعريف الاصطلاحي، فلقد تعددت تعريفات المواطنة من حيث كونها الانتماء إلى وطن ما، وحمل جنسية الدولة التي ينتسب إليها الإنسان والتعايش بين الناس في مجتمع واحد...
فمنهم من عرفها بأنها الرابطة الاجتماعية والقانونية بين الأفراد ومجتمعهم
ومنهم رأى أن المواطنة أساسها الموطن، وهي بذلك تختلف عن كلمة المواطنية التي أساسها الوطن، فالموطن هو مكان الإقامة أو الاستقرار أو الولادة أو التربية، أما الوطن فهو المكان الذي ينتمي إليه الفرد من خلال انتمائه لجماعة هذا الوطن، وعلى الرغم من أن الفرد في كلتا الحالتين يعتبر مواطناً ومشاركاً ومنتمياً من الناحية الاجتماعية والجغرافية إلا أن مشاركته وانتمائه في الوطن تكون من ناحية اجتماعية سياسية، وبالتأكيد أن الانتماء للوطن أعمق(1)
ويرى بعضهم أن مصطلح مفهوم المواطنة في الموسوعة يعني الانتماء إلى أمة أو وطن بينما كان مصطلح مفهوم المواطنة في علم الاجتماع علاقة اجتماعية بين طرفين يلتزم الأول بالولاء والآخر بالحماية وهما المواطن والدولة(2)
أو هي رابطة التعايش السلمي بين أفراد يعيشون في زمان معين ومكان معين (أي جغرافية محددة). مع الاعتبار أنها لا تتناقض مع المبدأ الإسلامي لأن العلاقة الدينية تع-زز الروابط الزمنية أيضاً، ولا خلاف في ارتباط الإنسان المسلم مع غير المسلم ضمن إطار اجتماعي يتم الاتفاق عليه تحت عنوان المواطنة(3)
ثانياً: مفهوم المواطنة بين حقوق الإنسان وواجباته
تحتل قضية حقوق المواطنة محوراً رئيسياً في النظرية والممارسة الديمقراطية الحديثة9، إذ إن مكونات المواطنة هي الانتماء الذي هو شعور داخلي يجعل المواطن يعمل بحماس للارتقاء بوطنه والحقوق والواجبات التي يجب أن يؤديها ويحصل عليها إضافة إلى المشاركة المجتمعية التطوعية التي هي أبرز سمات المواطنة مبينة أن مؤسسات تربية المواطنة هي الأسرة والمدرسة والمجتمع المدني، وأهم مؤسسة هي الأسرة التي يجب أن تلتزم تعزيز ثقافة المواطنة وتعمل على إدراك الطفل للرمز السياسي الوطني إضافة الى تعويده على احترام القانون وغرس حب الوطن والدفاع عنه بداخله(4).
فالمواطنية ترتبط عملياً بالذهنية المسيطرة على المجتمع، وبالتالي قد يكون المجتمع قومياً أو إسلامياً أو طائفياً أو حتى عشائرياً، فتكون المواطنية متأثرة بهذه الذهنية(5)
لقد صارت رابطة "المواطنة" منافع وحقوقاً مادية محددة يطالب بها المواطن في مجالات الصحة والتعليم وبالتالي تهبط المواطنة من الحقوق العامة السياسية إلى تفاصيل المنافع المادية المباشرة، أي تم التركيز على الحقوق وليس الواجبات. ومن ناحية أخرى كان هذا يعني مزيداً من سلطة الدولة في الوقت الذي كانت تحولات الإتصال والعولمة ترشحها فيه للتآكل والذبول، فاستردت دورها في التوزيع السلطوي للقيم -المادية والمعنوية - وما لبثت أن بدلت هذا الدور شكلاً في ظل تنامي الحديث عن الإدارة السياسية (Governance) عبر الحديث عن الشراكة بين الدولة والمجتمع المدني ورجال الأعمال، رغم أن سلطتها لا تقارن بالطرفين الآخرين، ونفوذها يخترقهما. وعبر تفاعل هذه المعطيات تحول مفهوم المواطنة لدلالات نفعية وذاتية فردانية أعمق، كما صار مؤسساً على واقع معقد لا يثمر نتائجه المثالية الأصلية المنشودة بسبب وجود الدولة الطاغي(6)
استناداً لما سبق، أصبحت المواطنة هي الآلية للحد من الصراعات العرقية، والاجتماعية، وغيرها... على قاعدة مبدأي عدم التمييز والمساواة. والمساواة تعد من الكلمات التي استهوت المجتمعات والأفراد، إذ استعملها الزعماء والقادة المصلحون لتحريك المشاعر على كافة الأصعدة. ومما لا ريب فيه أنه لا توجد مساواة طبيعية، لأن الناس خُلقوا متفاوتين خَلقاً وخُلقاً، فهم مختلفون، في التكوين، والشكل واللون، والعقل والذكاء، وهم مختلفون متمايزون في القوة والجمال والصحة والعمر والأخلاق والميول والطبائع. فإذاً لا مساواة بين الناس في عرف الطبيعة، إلا من حيث بعض التكوين الأساسي والغرائز الفطرية(7)
وكذلك لا توجد المساواة الاجتماعية فيما بين الناس. فعلى الرغم من أن الأديان والشرائع السماوية قد دعت إلى المساواة، مثلما أن المصلحين والحكماء والفلاسفة دعوا إليها أيضاً، فإن الناس يترتبون في فئات ودرجات في الغنى والجاه، والحسب والنسب، كما أنهم مختلفون في أنواع العمل وطرق الكسب والمعيشة، ويتمايزون في حياتهم العائلية والزوجية، وفي مجتمعاتهم، وملذاتهم وآلامهم ومعاملاتهم وعباداتهم.
إذن لا مساواة بين الناس في أعراف الحياة الاجتماعية وتقاليدها. فما هي المساواة التي أرادها الفلاسفة والحكماء والمصلحون والمشرعون والسياسيون عندما نادوا بها كحق من حقوق الإنسان الأساسية؟
إن المساواة المقصودة هي المساواة القانونية، أي مساواة الناس جميعاً أمام القانون من ناحية الحقوق والواجبات والحماية القانونية. هذه المساواة التي أقرتها الدساتير والشرائع الداخلية والدولية.
وأصبح من غير الغريب أن تجد مجتمعاً متعدد الأعراق والأصول كفئة موحدة وفق منظومة من البنى القانونية، والمفاهيم الاجتماعية والقيمية التي تشترط عدم التميز والمساواة في الحقوق والواجبات.
وقد أدى هذا إلى إنهاء مفهوم العنصرية الذي أصبح مفهوماً مثيراً لاشمئزاز الإنسان، وتعزز ذلك عبر كفاح الشعوب ضد أنظمة الاستعمار من أجل إزالة نظام التمييز العنصري كما حصل في كفاح شعب جنوب إفريقيا، وكذلك عبر حركة الحقوق المدنية والتي عبر عنها مارتن لوثر كنج في الولايات المتحدة الأمريكية، تلك الحركة التي أفضت إلى إلغاء كل القوانين العنصرية بحق السود الذين كان يتم التعامل معهم بوصفهم كائنات إنسانية من الدرجة الثانية أو الثالثة.
وتتمثل أهم حقوق المواطنة، فضلاً عن المساواة القانونية، بمجموعة الحقوق الآتية:
1- الحق في السلامة الجسدية.
2- الحق في العمل.
3- الحق في السكن.
4- حق التعليم.
5- الحق في دعم ورعاية الدولة.
6- الحق في الخدمات الصحية.
7- حق اللجوء إلى القضاء.
8- الحق في التصرف.
9- الحق في الخصوصية.
10- الحق في رفض ذكر القومية أو الدين في الوثائق.
11- الحق في الإدارة الذاتية.
12- حق الحماية والتعويض.
13- حق الإرث والشهادة والاختيار.
14- الحقوق الاجرائية.
15- حق المتهم أو الموقوف(8).
وتعد المواطنة من القضايا القديمة المتجددة التي ما تلبث أن تفرض نفسها عند معالجة أي بعد من أبعاد التنمية بالمفهوم الإنساني الشامل بصفة خاصة ومشاريع الإصلاح والتطوير بصفة عامة(9).
ولقد احتلت هذه القضية مساحة كبيرة في الدراسات السياسية والاجتماعية والتربوية. وتعددت أبعاد المواطنة في علاقاتها الممتدة عبر قضايا تتمحور في علاقة الفرد بالمجتمع والدولة من خلال أطر قانونية منظمة للحقوق والواجبات، ومبينة مواصفات المواطن وأبعاد المواطنة حسب المنابع الفكرية للدولة ومرجعية نظرياتها السياسية(10)
وبذلك يتبين أن مفهوم المواطنة لا يمكن فصله عن حقوق الإنسان وواجباته تجاه الوطن الذي ينتمي إليه أياً كانت أفكاره ومعتقداته...
المصادر :
1- أ. ليث زيدان: مفهوم المواطنة في النظام الديمقراطي، دنيا الرأي، 7/12/2005،
2- أ. وفاء العرادي: التنشئة الاجتماعية المتوازنة 25/10/2009، جريدة الحرية،
3- أ.علي وتوت: في مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان، 23/آذار/2009
4- المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية، بيروت، ط1، 2001، ص 65.
5- أ. ايليا حريق: المواطنية والقيم المدنية، 1999، ص 55.
6- د.هبة رؤوف:المواطنة بين مثاليات الجماعة وأساطير الفردانية1/3/2009
7- علي وتوت:في مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان، 23/آذار/ 2009
8- أ. علي وتوت: في مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان، 23/آذار/2009
9- دراسة مقدمة للقاء السنوي الثالث عشر لقادة العمل التربوي، 1926 ه-، منشور في موقع المنشاوي للدراسات والبحوث.
10- دراسة مقدمة للقاء السنوي الثالث عشر لقادة العمل التربوي، 1926 ه-، منشور في موقع المنشاوي للدراسات والبحوث.