يتمركز في الإنسان قطبان يتحكّمان بمختلف فاعليّته العمليّة وتجلّياته الروحيّة:
1- العقل: ويسمّى بـ"الحكمة" أيضاً، وهو مصدر الفكر والتبصّر والمنطق والاستدلال.
وتشعّ الهدايةُ والاستنارة من هذا البعد الإنسانيّ، والّذي يفتقر إلى قوّة العقل والبصيرة يشبه السيّارة الّتي تشقّ طريقها ليلاً من غير أن تضيء مصابيحها ولا أيّة وسيلة منيرة، فتضلّ وتتيه في الطرقات، إذ لا سبيل إلى معرفة المعالم من غير تلك الأنوار.
2- القلب: وهو منشأ التجلّيات الروحيّة والنفسيّة، من الرغبة والحبّ والتمنّي والانفعال.
وتنبعث من هذا القلب إشعاعات الحرارة والحركة في كيان الإنسان، والّذي يملك قلباً كئيباً لا رغبة فيه ولا أملاً، يتحوّل إلى كائن ساكن جامد، كائن فاقد لكلّ فاعليّة في هذا المجتمع، فيكون في الحقيقة أقرب إلى الموت منه إلى الحياة.
وفي الواقع فإنّ هاتين القوّتين تحكمان الناس جميعاً بكلّ حركاتهم بل وسكناتهم، فكلّ عمل يقوم به الإنسان، وكلّ كلمة تنبس بها شفتاه، كلّ ذلك يرتبط بمجموعة من المشاعر والعواطف والانفعالات النفسيّة من جهة، وبتدبّر وتفكير العقل من جهة أخرى.
منشأ واحد ونزاع متوقع
تنبع هاتان القوّتان من مصدر واحد هو تلك العين والروح الّتي تغذّي الإنسان بفاعليّتة، ومع ذلك فإنّ هاتين القوّتين قد تتوافقان، بحيث ينسجم حكم العقل وتبصّره مع مراد القلب وهواه، وقد يحصل صراع بينهما: فيرى العقل صلاح أمرٍ لا يستهويه القلب، أو ينجذب القلبُ إلى أمر لا يقتنع العقل بصلاحيّته.ومثاله: ذلك النزاع الّذي يهزّ كيان الوالدين في طول مسيرة تربيتهما للأولاد، إذ يستهوي قلبهما رفاهيّة وراحة الأبناء المطلقة، ويحلّ فيه حبّ قرب الأولاد والمحافظة عليهم بأفضل ما يمكن، فيما يحكم العقل بضرورة أن يتحمّل الأولاد بعض المشقّات في هذه الحياة وأن يخبروا مصاعب هذه الدنيا، بل ربما يحكم أحياناً بضرورة أن يذوق الوالدان مرارة فراق هذا الولد للسفر مثلاً سعياً في تأمين مستقبله وضمان نجاح أكبر في الحياة.
وعند النزاع بين هاتين القوّتين، يبرز اختلاف بعض الناس، فإمّا أن يُخضع الإنسان أهواءَ قلبه لمقوَد عقله، وإمّا أن يُطيع عقلُه هوى قلبه، وبتعبير آخر إمّا أن يتّبعَ العقل وإمّا أن ينجرَّ وراء القلب والعاطفة.
فإذا غلّب سلطانَ عقله فسينعم بأمان الانضباط والتنظيم والسلوك السليم، وإذا مال إلى المشاعر والعواطف فسيرزح تحت عبء اللامبالاة والتقلّب في الأهواء والمزاجيّة في التصرّفات.
تأثير القلب على حكم العقل
إنّ العقل في الواقع هو قاضٍ في ساحة ومحكمة الإنسان الداخليّة، فهو الّذي يحكم على تصرّفات الإنسان وغيره بالحقّ والبطلان، فإذا تمتّع هذا القاضي بالحرّية والاستقلاليّة، بحيث لا يؤثّر في عمله وأحكامه من لا شأن ولا علم له بالقضاء، فسيرى الأمور على ما هي عليه واقعاً، فيرى الحقّ حقّاً والباطل باطلاً.أمّا إذا وقع العقل تحت تأثير القلب فسوف يحيد عن الحقّ، إذ سيحكم بما يهوى هذا القلب وبما يحبّ، لا بمقتضى الحقّ.
ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من عشق شيئاً أعشى بصرَه وأظلم قلبَه (عقله)"(1)
فالحبّ والبغض والصداقة والعداوة إذا كان لها سلطة ما على العقل فإنّها تؤثّر في حكمه وقضائه وتؤدّي إلى مجانبة الحقّ والابتعاد عنه:
وعينُ الرضا عن كلّ عيبٍ كليلةٌ / كما أنّ عينَ السخط تُبدي المساويا
إذاً قد تفقد السلطة القضائيّة في داخل الإنسان حريّتها لتقع أسيرة القلب وأهوائه، ممّا يجعل أحكامها سقيمة ومخطئة، وكما أنّ أعضاء الإنسان لا تستطيع الحركة إلّا إذا كانت طليقة وحرّة غير مكبّلة بالسلاسل، كذلك أحكام العقل لا تكون مصيبة ما دامت مقيّدة بسلاسل رغبات النفس وأهواء القلب.
حسن الظن بالنفس وملامة الآخرين
إنّ أبرز ميدان لصراع العقل والقلب هو النفس، ذلك أنّ العقل والقلب على طرفي نقيض في الحكم على هذه النفس، ويسعى كلّ منهما سعيه لأجل أن يكون المسيطر في الحكم عليها، ولذا تُعدّ مسألة تربية النفس وتهذيبها وتزيينها بالأخلاق الإنسانيّة من أصعب الأمور وأشقّها.وفي هذا الصراع قد يتغلّب العقل أحياناً، وأثر ذلك لا يحتاج إلى زيادة بيان وتوضيح.
وأحياناً أخرى يُجبر القلبُ العقلَ على الإنصياع لأهوائه، وهو أنّه يعشق نفسه ويحبّها أكثر من أيّ شيء آخر، ذلك أنّ غريزة حبّ الذات من أهمّ الغرائز الكامنة في باطن هذا الإنسان، فيكون أثر ذلك في النتيجة أن ينظر المرء إلى نفسه نظرة إعجاب ورضا.
والنظر إلى النفس كذلك نظرة الإعجاب بها والرضا عنها في جميع الأحوال هو بمثابة وضع منظارٍ لا يرى من خلاله إلّا حسن الظنّ بها دائماً، وهذا ما يجعله يحيد عن الحقّ والحقيقة في الحكم عليها، وعليه فسيرى أخلاقه الرديئة وأعماله السيئة حسنة: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾(2)
إنّه يرى نفسه طاهراً نقيّاً لا عيب فيه: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾(3)
والملفت للنظر أنّ من يعيش حالة حسن الظنّ بنفسه، يعتقد بذلك فعلاً ويجزم به، لا أنّه يُبدي خلاف ما يعتقده من نفسه، والسبب في ذلك أنّه يكون وقد سيطر القلب عليه عاجزاً عن إدراك الحقيقة ورؤية الواقع على ما هو عليه، يكون "قد أغشى بصره"، وذلك نتيجة عدم تحرّر عقله ومنطقه.
وتؤدّي كثرة حسن الظنّ بالنفس إلى عدم الشعور بالتقصير، فلا يرى حلّاً للأخطاء الّتي يقع بها إلّا بأن يلقيها على عاتق الآخرين متبرّئاً منها، بل إنّه كلّما نظر إلى الآخرين وما يفعلونه فإنّه ينزع منظار حسن الظنّ عن بصيرته ليضع منظار سوء الظنّ مكانه، ويحكم عليهم بما يراه حينها فيسيء الظنّ بهم، وليس هذا إلّا من تسويلات تلك النفس الأمّارة.
حسن الظن بالنفس وملامة الآخرين والمجتمع الصالح
ثم إنّ حسن الظنّ بالنفس وسوء الظن بالآخرين يؤدي إلى مشكلات إجتماعية لا حصر لها، فهو يحول دون تحقق العدالة الإجتماعية؛ إذ العدالة الإجتماعية تقوم بهمّة سواعد العاملين الذين يحكمون بالقسط والحقّ على أنفسهم وعلى غيرهم.إذاً يرتبط إصلاح المجتمع بشكل مباشر بدفع تسويلات النفس، بأن يتحمّل الإنسان مسؤوليّة الأخطاء الّتي يمكن أن يقع فيها، ويترك آفّة إلقاء أخطائه على عاتق الآخرين، والّتي ليست إلّا نتيجة تلك القيود والسلاسل الّتي يفرضها على عقله وفكره: قيود أهواء القلب وسلاسل رغبات النفس. ولذا فإنّ الإسلام عندما ينطلق في بنائه للمجتمع الصالح فإنّه ينطلق من تنمية مَلَكة العدل والإنصاف في نفوس أفراد هذا المجتمع، بأن لا يتّبع الإنسان ما توحيه إليه نفسه بل يظنّ بها السوء دائماً، تحصيناً لنفسه من الوقوع في شَرَكها، كما عن أمير المؤمنين عليه السلام في بيان علامة من علامات المؤمن الحقيقيّ: "المؤمن لا يصبح ولا يمسي إلا ونفسه ظنون عنده"(4)
فيحتمل في كلّ لحظة أن يصدر منها عملٌ سيّئ، لذا
4 فهو يراقبها نازعاً عن رؤى بصيرته منظار حسن الظنّ والإعجاب بها متجنّباً سيطرة أهواء قلبه، ومسلّطاً في المقابل قضاء العقل الحرّ المستقلّ على جميع ما يريد أن يقوم به، وذلك كحجرٍ أساسٍ في بناء المجتمع الصالح.
والآية الشريفة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ﴾(5)
تشير أيضاً إلى ضرورة تحصيل هذه العدالة الاجتماعيّة.
وما لم تتحقّق هذه العدالة الاجتماعيّة، ببثّ روح الإنصاف في الحكم على النفس وعلى الناس، فعلى المجتمع الصالح السلام.
الإسلام والتزام جانب التعقّل
إنّ الإسلام بمفاهيمه السامية جاء ليحرّر الإنسان الّذي يرزح مستسلماً لسطوة تضليل نفسه، جاء ليحطّم تلك الأغلال والسلاسل الّتي تكبّل عقول الناس وأرواحهم، جاء ليضعَ عنهم إصرهم، فقد وصف القرآنُ الحكيم رسولَه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿...يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ...﴾(6)إنّ الإسلام قد اهتمّ كثيراً بهذا الجانب، فاعتبر تقييد سلطة العقل والتدبّر والتنظيم داءاً خطيرا يُخشى أن يسري وباؤه في شرايين هذا المجتمع الطموح، لذا تخوّف منه رسول الله صلى الله عليه وآله على أمّته: "ما أخاف على أمّتي الفقر ولكن أخاف عليهم سوء التدبير"(7)
بنظر الإسلام إنّ على المسلم أن ينقذ نفسه من سطوة الشهوات الّتي تدمّره، وذلك بتقوية سلطان العقل: بأن يتّبع المنطق لا المشاعر والأحاسيس والعواطف، بأن يلقي نور بصيرته على كلّ عمل يعزم على القيام به، بأن يبعد مزاجه الّذي يجعله يطرح سلطة العقل جانباً ويمنعه بالتالي من تبيّن عواقب الأمور ونتائجها.
فعلى المسلم، وقد تسلّح بالمخزون الفكريّ الوافي وبالرأسمال العلميّ الوافر، أن يتعقّل ويتفكّر في أموره وأن يتجنّب العجلة والسرعة، كما في وصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لذلك الرجل الّذي جاءه طالباً الموعظة: عظني يا رسول الله، فأجابه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "هل أنت مستوص إن أوصيتك؟".
فقال الرجل: نعم يا رسول الله، فكرّر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سؤاله ثلاث مرات، وفي كلّ مرة يردّ عليه الرجل بالإيجاب. وأخيراً قال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
"فإنّي أوصيك إذا أنت همَمْت بأمرٍ فتدبّر عاقِبته فإن
عاقِبته فإن يك رشدا فامضه، وإن يك غيّا فانته عنه"(8)
أي تعقّل الأمر وتبصّرْ فيه، وأَحكِم سلطة العقل حتّى لا تأخذك شهوة القلب.
وواضح أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يولي أهميّة استثنائيّة لهذه الموعظة القيّمة. يتبيّن ذلك من تشديده صلى الله عليه وآله وسلم على الرجل بالالتزام بهذه الموعظة إذ كرّر سؤاله عن ذلك ثلاثاً.
فعلى الإنسان الإعتياد على التعمّق في التفكير ودراسة النتائج والعواقب، وضبط مشاعره الداخليّة، قبل اتخاذه قراراً سريعاً حاسماً فيما ينوي القيام به من عمل.
وفي قصّة أخرى أنّ رجلاً من الأعراب جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وطلب منه النصيحة، فردّ عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بجملة قصيرة ومضمون كبير، إذ قال له: "لا تغضب!".
وقد كان لنصيحة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذه أثرها في المجتمع.
فإنّ الرجل بعد أن رجع إلى قومه متسلّحاً بهذه الجوهرة، جوهرة تحكيم العقل وعدم الاستسلام للقلب والعواطف، وبنور العقل والمنطق استطاع أن يُطفئ حرباً بين قبيلته وقبيلة أخرى أشعلتها العواطف والانفعالات، على إثر حادث وقع بين القبيلتين.
وفي مقام معالجة هذه الآفّة، على الإنسان أن لا يتوقّع أن يتحوّل إلى حكيم ذي بصيرة بين ليلة وضحاها، فمجرّد مرور الزمن لا يكفي ليجعل من المرء رجل عقل ومنطق، بل إنّ هذه الفضيلة الأخلاقيّة، كغيرها من الفضائل، تحتاج إلى تمرين ومراس.
للحصول على الملكة الأخلاقية
إنّ جهاد النفس والحصول على الملكات الأخلاقيّة الرفيعة واتّباع العقل وترك اتّباع الهوى لا يحصل تلقائيّاً، كما لا يحصل بمجرّد مرور الزمن والتقدّم بالعمر، وإنّما يتمّ على مرحلتين:في المرحلة الأولى: على الإنسان أن يقف بوجه رغباته وأهوائه، فعند كلّ معركة ونزاع ينشب بين العقل والقلب عليه أن يتجاهل رغبات القلب ويرتضي أوامر العقل.
في المرحلة الثانية: وهي مرحلة التمرين والحصول على الملكة بالسيطرة التامّة على هذه النفس الأمّارة، فعلى الإنسان أن يَلزم نفسه مدّة طويلة ليربّيها ويثقّفها بشكل دائم لا يهدأ، فلا تكون السيطرة يوماً لرغبات قلبه. وينبغي أن يكون عقله هو المسلّط على أعماله وأقواله، وحركاته وسكناته، فلا تعود نفسه تشتهي أصلاً ما لا يرضاه عقله، وذلك لأنّها إذا علمت بأنّها لا يمكن أن تؤثّر يوماً عليه بأيّ شكل من الأشكال، ويئست من إمكانيّة أن تكون السيطرة لها، فستعتاد مع مرور الزمن على ذلك، وتصبح طيّعة لعقله وبصيرته، لا تطلب سوى ما يطلبه.
والصراع والجهاد مع النفس الأمّارة يتطلّب نفحة قويّة من القدرة، بل هي القدرة الأسمى، كما ورد في القصّة الّتي تُنقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين مرّ بجمع من الشبّان كانوا يتبارون في رفع صخرة ثقيلة يمتحنون بها أشدَّهم وأقواهم، فقال لهم: "ألا أخبركم بأشدِّكم وأقواكم؟".
قالوا: "بلى يا رسول الله".
وقد ظنّوا أنّه سوف يختار منهم أقواهم عضلاً، ولكنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على خلاف ما ظنّوا، قال: "أشدكم وأقواكم الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق، وإذا قدر لم يتعاط لم ليس بحق"(9)
فليس الأقوى من امتاز بقوّة العضل، بل الّذي يمتاز بقوّة الروح.
ولأنّ مجاهدة النفس الأمّارة يتطلّب القدرة الأسمى، بل نوعاً من الحرب الداخليّة الّتي هي أشدّ من الحروب العاديّة المتعارفة فإنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد أن رجع مع أصحابه من الجهاد، التفت إليهم وقال لهم: "مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر".
فقالوا: وما الجهاد الأكبر يارسول الله؟!.
فقال "صلى الله عليه وآله وسلم": "هو مجاهدة النفس، ومجالدة هواها".
العقل والقلب هما القوّتان اللتان تمدّان الإنسان بمختلف فاعليّاته. القلب يتكفل ببثّ الحرارة في كيان هذا الإنسان ليدفعه إلى التحرّك، والعقل يُضفي على تحرّكاته نور البصيرة والفكر.
إنّ هاتين القوّتين في صراع دائم، نفسه تدعوه إلى الاستسلام للشهوات والعواطف، وعقله يحفّزه على التعقّل والتبصّر فيما يقوم به.
فإذا ألقى نور بصيرته فسينعم بالانضباط والنظام، وأمّا إذا وقع أسير القلب فسيكون في عالَمٍ من سوء التنظيم واللامبالاة.
إنّ من آثار الاستسلام إلى أحكام القلب أن تصبح أحكام العقل عقيمة سقيمة وتجانب الحقّ والحقيقة، إذ يحكم العقل حينئذ لصالح ما يهواه قلبه ويعشقه.
ونتيجة لذلك ينشأ حسن الظنّ بالنفس. لأنّ غريزة حبّ النفس والذات من أشدّ الغرائز تأثيراً على الإنسان، وفي المقابل يظهر سوء الظن بالآخرين. لأنّ قلبه يمنعه
عن لوم ذاته فيدفعه ذلك إلى قذف الأخطاء الّتي يقع فيها على عاتق الآخرين.
يمنع حسن الظنّ بالنفس وسوء الظنّ بالآخرين من قيام المجتمع الصالح. إذ قوام المجتمع الصالح العدالة الاجتماعيّة والحكم على النفس والآخرين بالعدل.
لذا فالإسلام في بنائه للمجتمع الصالح ينطلق من هذه النقطة، من إصلاح النفس وإقامة العدل الداخليّ، ومحاربة حسن الظن بها وسوء الظن بالآخرين.
وفي هذا المقام فإنّ الإسلام يدعو إلى التعقّل والاحتكام إلى المنطق دائماً، ويجابه أشكال الاستسلام للقلب وشهواته.
هذا الأمر يجعل المؤمن في جهاد دائم مع نفسه، وجهاد النفس هو المسمّى بالجهاد الأكبر لأنّه يتطلّب قدرة عالية، ويتطلّب مراساً وتمريناً يستمرّان على طول الزمن. فهو يتحقّق عبر مرحلتين:
الأولى: الوقوف عند كلّ حادثة نزاع بين العقل والقلب إلى جانب العقل.
الثانية: أن يرتفع النزاع بين العقل والقلب، بأن يتّحد ما يختاره القلب مع ما ينتخبه العقل، وذلك بالسيطرة التامّة على النفس وأهوائها.
المصادر :
1- نهج البلاغة، من الخطبة 108.
2- سورة فاطر، الآية/8.
3- سورة الكهف، الآيتان/104 103.
4- نهج البلاغة، من الخطبة 176.
5- سورة النساء، الآية/135.
6- سورة الأعراف، الآية/157.
7- رواه أصحاب الصحاح والسنن بتفاوت يسير، راجع صحيح البخاري وكتاب المغازي باب شهود الملائكة بدرا، وسنن ابن ماجة ج18/2، كتاب الفتن باب فتنة المال الحديث 3997.
8- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج68، ص339، ينقله عن قرب الإسناد ص32.
9- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج72، ص28، ينقله عن معاني الأخبار ص366.