هذا نموذج من النساء ، بعد مسألة التحكيم ، أرسل معاوية ، الضحاك بن قيس وبسر بن أرطأة إلى اليمن وامرهما بارتكاب مجزرة عامة ضد رجال الشيعة واتباع أهل البيت هناك ، فهجموا على بيت أحد الشيعة ، وعندما لم يجدوه في البيت ذبحوا ولديه الصغيرين أمام أمهما ، ونجد أن أولئك النساء لم يستسلمن حين كن يشاهدن قتل أولادهن ، ولم يقلن لا تقتلوا أولادنا ونحن نضحي للأمويين بثروة أدبية .
أو يقلن لا تذبجوا أولادنا ونحن نتخلى عن الولاء لأهل البيت .
إن تحمل المرأة لتلك المصائب المؤلمة دليل على ان المرأة تستطيع مثل الرجال التواجد في مراسيم الشهادة أيضاً ، وليس هناك فرق بين المرأة والرجل في هذه الناحية .
ان تحمل هذا المشهد المؤلم كان صعباً على الأم ، وبعد فترة أصيبت هذه المرأة بمشاكل نفسية وأنشدت رثاء رفيعاً في استشهاد ولديها . وكانت تقرأه على كل امرأة ، وقد كان الشعر الأدبي لهذه الأم مؤثراً إلى درجة أن أحد الرجال من اليمن قرر أن يأخذ فدية هذين الولدين والانتقام لهما من بسر بن أرطأة ، فتقرب إلى بسر بن أرطأة بالنفوذ في جهاز إدارته وأصبح موضع ثقته ، حتى حمل معه ولديّ بسر بعد كسب الثقة وذبحهما ، وقال إن هذا هو جزاء ذلك القتل الذي قام به بسر تجاه ولدي تلك المرأة .(1)
أم الخير ، خطيبة صفين:
نموذج آخر هي بنت حريش بن سراقة الملقبة بـ ( أم الخير ) وهي من النساء المعروفات في صدر الإسلام وكانت تتمتع بقوة تعبير عالية وتعتبرخطيبة بليغة . لم تكن هذه المرأة من سكان المدينة بل كانت تسكن في الكوفة .كتب معاوية إلى واليه بالكوفة أن أوفد عليّ أم الخير بنت الحريش بن سراقة البارقية برحلة محمودة الصحبة غير مذمومة العاقبة واعلم أني مجازيك بقولها فيك بالخير خيراً وبالشر شراً ، فلما ورد عليه الكتاب ركب إليها فأقراها إياه فقالت :
أما أنا فغير زائغة عن طاعة ولا معتلة بكذب ولقد كنت أحب لقاء أمير المؤمنين لأمور تختلج في صدري تجري مجرى النفس يغلي بها غلي المرجل بحب البلس يوقد بجزل السمر . فلما شيعها وأراد مفارقتها قال لها يا أم الخير إن معاوية قد ضمن لي عليه أن يقبل قولك فيّ بالخير خيراً وبالشر شراً فانظري كيف تكونين .
قالت : يا هذا لا يطمعك والله برك بي في تزويقي الباطل ولا تؤيسنك معرفتك أياي أن أقول فيك غير الحق . فسارت خير مسير فلما قدمت على معاوية أنزلها مع الحرم ثلاثاً ثم اذن لها في اليوم الرابع وجمع لها الناس . فدخلت عليه فقالت : السلام عليك يا أمير المؤمنين . فقال : وعليك السلام ، وبالرغم والله منك دعوتني بهذا الاسم .
فقالت : مه يا هذا فان بديهة السلطان مدحضة لما يجب علمه ، قال صدقت يا خالة ، وكيف رأيت مسيرك ؟ قالت : لم أزل في عافية وسلامة حتى أوفدت إلى ملك جزل وعطاء بذل فانا في عيش أنيق عند ملك رفيق . فقال معاوية : بحسن نيتي ظفرت بكم واعنت عليكم . قالت : مه يا هذا لك والله من دحض المقال ما تردي عاقبته . قال ليس لهذا اردناك . قالت : إنما أجري في ميدانك إذا أجريت شيئاً أجريته فاسأل عما بدا لك .
قال : كيف كان كلامك يوم قتل عمار بن ياسر ؟ قالت : لم أكن و الله رويته قبل ولا زورته بعد وإنما كانت كلمات نفثها لساني حين الصدمة ، فان شئت أن أحدث لك مقالاً غير ذلك فعلت . قال لا أشأ ذلك ثم التفت إلى أصحابه فقال : ( أيكم يحفظ كلام أم الخير ؟ قال رجل من القوم أنا أحفظه يا أمير المؤمنين كحفظي سورة الحمد . (2)
قال : هاته . قال نعم كأني بها يا أمير المؤمنين وعليها برد زبيدي كثيف الحاشية وهي على جمل أرمك وقد احيط حولها حواء وبيدها سوط منتشر الظفرة وهي كالفحل يهدر في شقشقة تقول : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) (3) ان الله قد أوضح لكم الحق وأبان الدليل ونور السبيل ورفع العلم فلم يدعكم في عمياء مبهمة ولا سوداء مدلهمة ، فإلى أين تريدون رحمكم الله أفراراً عن أمير المؤمنين أم فراراً من الزحف أم رغبة عن الإسلام أم ارتداداً عن الحق ، أما سمعتم لله عز وجل يقول : ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ) (4)
ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول : اللهم قد عيل الصبر وضعف اليقين وانتشر الرعب وبيدك يا رب أزمة القلوب ، فاجمع اللهم الكلمة على التقوى وألفّ القلوب على الهدى واردد الحق إلى أهله .
هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل والوحي الو في والصديق الأكبر ، أنها أحن بدرية وأحقاد جاهلية وضغائن أحدية وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك بها ثارات بني عبد شمس ثم قالت : ( فقاتلوا أئمة الكفر أنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون ) صبراً معشر الأنصار والمهاجرين قاتلوا على بصيرة من ربكم وثبات من دينكم وكأني بكم غداً وقد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة فرت من قسورة لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض باعوا الآخرة بالدنيا واشتروا الضلالة بالهدى وباعوا البصيرة بالعمى وعما قليل ليصبحن نادمين حتى تحل بهم الندامة فيطلبون الإقالة ولات حين مناص ، انه والله من ضل عن الحق وقع في الباطل .
ومن لم يسكن الجنة نزل النار أيها الناس ان الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها واستبطأوا مدة الآخرة فسعوا لها . والله أيها الناس لولا ان تبطل الحقوق وتعطل الحدود ويظهر الظالمون وتقوى كلمة الشيطان لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه ، فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزوج ابنته وإبي بنيه خلق من طينته وتفرع من نبعته وخصّه بسره وجعله باب مدينته وعلم المسلمين وأبان ببغضه المنافقين فلم يزل كذلك يؤيده الله عز وجل بمعونته ويمضي على سنن استقامته لا يعرج لراحة الدأب وها هوذا مفلق الهام ومكسر الأصنام ، صلى والناس مشركون واطاع والناس مرتابون فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر وأفنى أهل أحد وهزم الأحزاب وقتل الله به أهل خيبر وفوق جمع هوازن فيا لها من وقائع زرعت في قلوب قوم نفاقاً وردة وشقاقاً وزادت المؤمنين إيماناً قد اجتهدت في القول وبالغت في النصيحة وبالله التوفيق وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
فقال معاوية : والله يا أم الخير ما أردت بهذا الكلام إلا قتلي والله ، لو قتلتك ما حرجت في ذلك ، فقالت : والله ما يسؤني يا ابن هند ان يجري الله ذلك على يدي من يسعدني الله بشقائه . قال : هيهات يا كثيرة الفضول ما تقولين في عثمان بن عفان ؟ ثم طرح معاوية قضية الزبير . فقالت : وأنا أسألك بحق الله يا معاوية فان قريشاً تحدثت أنك أحلمها ، ان تعفيني من هذه المسائل وامض لما شئت من غيرها .
أن المقصود من ذكر هذا التفصيل هو
أولاً : ان هذه المرأة كان لديها عمل عسكري ، وعمل إعلامي أيضاً .
ثانياً ان كلامها كان مقتبساً من القرآن وسنة المعصومين والعترة الطاهرين عليهم السلام .
ثالثاً : كانت مستعدة حتى الشهادة من أجل القيادة وإمامها .
رابعاً : ان شعارها كان في حد العقل والوحي وليس في حد العاطفة والشعور .
خامساً : ان كلامها هذا كان مهيجاً ، وكان في حضور الولي المعصوم ، لأنه لم يكن يحق لشخص التكلم حين الحرب بدون إذن علي بن أبي طالب عليه السلام ، وإذا قيل ان الخطابة ليست جهاداً ، نقول : هل أن جميع المجاهدين هم في الخط الأمامي ، ويحاربون مسلحين ؟ هناك عدة لديهم أعمال إعلامية ، وعدة لديهم أعمال تموينية ، وعدة ينقلون الأسلحة وعدة يقاتلون . في هذه الحروب تقسم الأعمال .
لو بحثتم هذا النوع من النماذج يتضح ان القرآن والعترة الطاهرين عليهم السلام نجحوا في تربية رجال مثل أبي ذر ، وكذلك تعليم نساء يتكلمن بالحق ويحاربن العدو ، لذا فالكلام في ان الرجل هو أفضل من المرأة لأنه ليس هناك أية امرأة بلغت مقام النبوة ، ذلك الكلام ليس فيه دلالة على أن مقام المرأة أقل ، ذلك لأن البحث ليس في مقام النبوة ، فلا تترتب فائدة على فخر ومباهاة الرجال ، ولا يكون له أثر في الشعور بالضعف لدى النساء . ان ما هو مسلم ان الطريق مفتوح لتربية وتكامل كليهما ، وكثير من الوظائف مشتركة ، وبعضها خاصة بلحاظ طبعهما .
المصادر :
1- الدر المنثور ، ص 56 .
2- الدرر المنثور ، ص 57
3- سورة الحج ، الآية : 1 .
4- سورة محمد ، الآية : 31 .