سوابق أصحاب الجمل

قد يستغرب القارئ عند سماعه صدور الاُمور المقززه عن بعض الصحابة، رغم السابقة والفضل، إلاّ أن استطلاع أحوال بعض الصحابة كفيل بأن يكشف سر ذلك، فطلحة بن عبيدالله قد آذى النبي (صلى الله عليه وآله) بمقولة شنيعة،
Thursday, February 22, 2018
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
سوابق أصحاب الجمل
 سوابق أصحاب الجمل

قد يستغرب القارئ عند سماعه صدور الاُمور المقززه عن بعض الصحابة، رغم السابقة والفضل، إلاّ أن استطلاع أحوال بعض الصحابة كفيل بأن يكشف سر ذلك، فطلحة بن عبيدالله قد آذى النبي (صلى الله عليه وآله) بمقولة شنيعة، حتى نزلت في حقه آية فيها من التوبيخ والتقريع ما فيها.
فقد أخرج جمع من المفسرين والمحدّثين، أن قوله تعالى (وَما كانَ لكُمْ أَنْ تُؤذُوا رَسولَ اللهِ وَلا أن تَنكِحوا أزواجهُ مِنْ بَعدهِ أبداً إنَّ ذلكُم كانَ عندَ اللهِ عظيماً)(1). قد نزل في طلحة.
قال السيوطي: أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي(رضي الله عنه) قال: بلغنا أن طلحة بن عبيدالله قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمّنا ويتزوج نساءنا من بعدنا! لئن حدث به حدث لنتزوجنّ نساءه من بعده!
وأخرج عبدالرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة(رضي الله عنه) قال: قال طلحة بن عبيدالله: لو قُبض النبي (صلى الله عليه وآله)، تزوجت عائشة(رض).
وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، في قوله (وَما كانَ لكُم أن تؤذوا رسولَ اللهِ...)، قال: نزلت في طلحة بن عبيدالله، لأنه قال: إذا توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) تزوجت عائشة(2).
وروى الشعبي قصة المحاججة بين علي بن أبي طالب وبقية المرشحين للخلافة من الذين اختارهم عمر بن الخطاب لذلك، فكان مما قاله علي: وأما أنت يا طلحة فقلت: إن مات محمد، لنركضن بين خلاخيل نسائه كما ركض بين خلاخيل نسائنا...!(3).
أما الزبير، فقد صدقت فيه فراسة عمر بن الخطاب، فعن قيس بن أبي حازم قال: جاء الزبير الى عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) يستأذنه في الغزو، فقال عمر: اجلس في بيتك فقد غزوت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: فردد ذلك عليه، فقال عمر في الثالثة أو التي تليها: اقعد في بيتك فوالله إني لأجد بطرف المدينة منك ومن أصحابك أن تخرجوا فتفسدوا على أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله)!(4).
أما اُم المؤمنين عائشة، فمع تيّقنها من أنها هي المعنية من تحذير النبي (صلى الله عليه وآله) في قصة كلاب الحوأب، إلاّ أنها تغافلت عن ذلك التحذير، وصمّت اُذنيها عن النصائح التي بذلت لها شفاهاً أو من خلال الكتب التي أجاب بها بعض خيار الصحابة على خطاباتها المحرّضة للحرب وركبت رأسها وخرجت إلى البصرة هاتكة ستر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتى قُتل عند خطام جملها اُلوف المسلمين وهي تحرضهم على القتال، وقد مرّ فيما سبق أنها أمرت بقتل السيابجة الذين اُسروا، بل وأمرت بقتل عثمان بن حنيف، متهمة الأنصار بأنهم قتلوا عثمان أو تواطأوا على قتله، ولاُم المؤمنين عائشة سوابق كثيرة في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنها وصاحبتها حفصة قد تظاهرتا على النبي (صلى الله عليه وآله) إيذاءً شديداً، حتى نزلت بحقهما سورة كاملة في القرآن الكريم، فيها ما فيها من آيات التهديد والوعيد لهما، والانذار بالمصير الأسود الذي انتهت اليه زوجتا نبيين سابقين، هما نوح ولوط (عليهما السلام)، ولم يشفع لهما أنهما كانتا زوجتي نبيين كريمين، فقال عزّ من قائل: (ضَربَ اللهُ مثلا للذينَ كَفروا امرأةَ نوح وامرأة لوط كانتا تحتَ عَبدينِ مِنْ عِبادِنا صالحين فخانتاهما فلمْ يُغنيا عَنهما منَ اللهِ شيئاً وَقيلَ ادخُلا النارَ معَ الدّاخلينَ)(5).

إخبار النبي عن الصحابة

لا شك أن التنازع على الدنيا كان دافعاً لبعض الصحابة على الخروج عن الجادة والتقحّم في الفتن، ولقد أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) بكل ذلك، والتي هي حقاً من دلائل نبوته ومعاجزه الكبرى، لذا فإنه ما ترك أمراً ملتبساً يمكن أن يكون محل نزاع وخلاف بين المسلمين الاّ وأوضحه، وأشار الى الفتن المقبلة، ودلَّ اُمته على مواطن الحق، وأرشدهم الى علامات مضيئة لتكون معالم لهم يميزون بها المحق من المبطل، ليقطع الحجة على المخالفين لأمره.
فعن اُسامة: أن النبي (صلى الله عليه وآله) أشرف على أطم من آطام المدينة، ثم قال: "هل ترون ما أرى! إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر"(6).
وعندما ألمّ بالنبي (صلى الله عليه وآله) المرض، خرج الى البقيع وسلّم على أموات المسلمين، ثم قال: "ليهنئكم ما أصبحتم فيه، قد أقبلت الفتن كقطع الليلالمظلم"(7).
فالنبي (صلى الله عليه وآله) قد أخبر بأن الفتن سوف تبدأ بعد وفاته، وحذّر أصحابه منها في العديد من المناسبات، أخرج المحدّثون بصددها عدداً من الأحاديث في كتبهم.
ففي الصحيحين –واللفظ لمسلم- عن عقبة بن عامر، قال: صلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) على قتلى اُحد، ثم صعد المنبر كالمودّع للأحياء والأموات، فقال: "إني فرطكم على الحوض، وإن عرضه كما بين أيلة الى الجحفة، إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم!"(8).
وعندما أرسل النبي (صلى الله عليه وآله) أبا عبيدة الى البحرين ليأتي بجزيتها، فسمعت الأنصار بقدومه فوافته صلاة الصبح مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما انصرف تعرّضوا له، فتبسّم حين رآهم، وقال (صلى الله عليه وآله): "أظنكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة وأنه جاء بشيء".
قالوا: أجل يا رسول الله. قال: فأبشروا وأمّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها وتلهيكم كما ألهتهم"(9).
بل إن النبي (صلى الله عليه وآله) قد حذّر أصحابه في أكثر من مناسبة، بأن الكثيرين منهم سوف يرتدون على أعقابهم ويحدثون أحداثاً يستوجبون عليها دخول النار! فعن أبي وائل، قال: قال عبيدالله: قال النبي (صلى الله عليه وآله): "أنا فرطكم على الحوض ليرفعن إلي رجال منكم، حتى إذا أهويت لأنالهم; اختلجوا دوني، فأقول: أي ربّ، أصحابي! يقول: لا تدري ما أحدثو بعدك!"(10).
وعن أبي حازم، قال:سمعت سهل بن سعد يقول: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: "أنا فرطكم على الحوض، من ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً، ليرد علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم"(11).
وعن عبدالله(رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن رجال منكم ثم ليختلجن دوني، فأقول: يا رب أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك!"(12).
وعن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي، فيحلؤن عن الحوض، فأقول: يا رب أصحابي! فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى!"(13).
وعن ابن المسيّب، أنه كان يحدّث عن أصحاب النبي، أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "يرد على الحوض رجال من أصحابي فيحلؤون عنه، فأقول: يا رب أصحابي! فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري!"(14).
وعن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: "بينا أنا قائم، إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم! فقلت: أين؟ قال: الى النار والله! قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم، خرج من بيني وبينهم فقال: هلم. قلت: أين؟ قال: إلى النار والله! قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النَّعَم!"(15).
وعن عبدالله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أنا فرطكم على الحوض، ولأنازعنّ أقواماً ثم لأغلبن عليهم، فأقول: يا رب أصحابي أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك!"(16).
وعن اُم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله)، أنها قالت: كنت أسمع الناس يذكرون الحوض، ولم أسمع ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما كان يوماً من ذلك، والجارية تمشطني، فسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "أيها الناس"، فقلت للجارية: استأخري عني، قالت: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء! فقلت: إني من الناس; فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إني فرطكم على الحوض، فإيّاي، لا يأتين أحدكم فيُذب عني كما يُذب البعير الضّال، فأقول: فيم هذا؟! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول: سحقاً"(17).
وعن أنس بن مالك، أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني،حتى إذا رأيتهم ورفعوا إلي; اختلجوا دوني، فلأقولن: أي ربّ، اُصيحابي اُصيحابي، فليقالن لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك!"(18).
وعن أبي هريرة قال –يحدّث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) – "والذي نفس محمد بيده، لأذودن رجالا منكم عن حوضي كما تذاد الغريبة من الابل عن الحوض، ألا ليذادن رجال منكم عن حوضي كما يذاد البعير الضّال، اُناديهم: ألا هلم; فيقال لي: إنهم بدّلوا بعدك! فأقول: سحقاً سحقاً"(19).
وعن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: "ليذادن من أصحابي عن الحوض كما تذاد الغريبة من الابل!"(20).
وعن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول على هذا المنبر: "ما بال رجال يقولون: إن رحم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا تنفع قومه! بلى والله، إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة، وإني أيها الناس فرط لكم على الحوض، فإذا جئتم، قال رجل: يا رسول الله، أنا فلان بن فلان، وقال أخوه: أنا فلان بن فلان، قال لهم: أما النسب فقد عرفته، ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم القهقرى"(21).
وعن أبي بكرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "ليردن علي رجال ممن صحبني ورآني، حتى إذا رفعوا إلي ورأيتهم، اختلجوا دوني، فلأقولن: رب أصحابي أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك"(22).
وعن اُم سلمة قالت: قال النبي (صلى الله عليه وآله): "من أصحابي من لا أراه ولا يراني بعد أن أموت أبداً..."(23).
وعن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "ليردن علي الحوض رجلان ممن صحبني، فإذا رأيتهما اختلجا دوني"(24).
وفي مسند أحمد روايات اُخرى كثيرة بهذا الشأن(25).
إن هذه الروايات المتكاثرة الطرق، ما كانت إلاّ ناقوس الخطر، أراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يحذّر أصحابه من التلبّس في الفتن المقبلة عليهم، ويذكرهم بأن صحبتهم له لا تكفي لنجاتهم من النار إذا ما أحدثوا بعده أو انقلبوا على أعقابهم.

ادعاءات فارغة

حول موضوع ارتداد الصحابة وانقلابهم على الأعقاب، كتب محمود مهدي الاستانبولي: ومما يحتج به الرافضة على ارتداد الصحابة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حديث ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله): "إن اُناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال" أي الى جهنم.
فأقول: اُصيحابي اُصيحابي، على صيغة القلة والتصغير، لقلة عددهم، فيقول-أي الله سبحانه- "إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم. فأقول كما قال العبد الصالح –أي عيسى (عليه السلام) معتذراً- وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم –الى قوله: العزيز الحكيم-" متفق عليه.
قال في أشعة اللمعات في الرد على الرافضة: قالوا إنه لم يرتد أحد منهم بعد النبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ قوم من جفاة العرب من أصحاب مسيلمة الكذاب والأسود العنسي، أو بعض مؤلفة القلوب الذين لم تكن لهم بصيرة ولا قوة في الإيمان...
ولما كان كل من رأى النبي (صلى الله عليه وآله) لحظة يطلق عليه لفظ صاحب، كان هذا الحديث بحق من لم يرسخ الإسلام في نفسه، وهو بحق هؤلاء الأصحاب...
ومن أغراض الرافضة التي يقصدونها من وراء ادعاء ارتداد الصحابة; العمل على فقدان الثقة في الأجيال الإسلامية بسلفّيهم، وحرمانهم الاقتداء بالجيل المثالي الأول الذي تربى في مدرسة محمد (صلى الله عليه وآله)، فيصبحون هملا لا تاريخ عظيم لهم، ولا قدوة صالحة، وتضليل الناشئة مئات السنين... مما رأينا في هذا الكتاب نماذج من أكاذيبهم وأضاليلهم، وكيف ردّ عليها القاضي ابن العربي، ومحب الدين الخطيب...!(26).
لا أجد حاجة للتعليق على قيمة معلومات القاضي ابن العربي ومحب الدين الخطيب بعد أن تبين للقارئ مصدر هذه المعلومات، ولكنني أود مناقشة ادعاءات الاستانبولي في هذه القضية، وكيف يلجأ الى تزييف الحقائق، وكيف أن أصحاب هذا الاتجاه يوقعون أنفسهم في تناقضات عجيبة لا يعرفون لها مخرجاً إلاّ بالاستمرار في تضليل المسلمين.
لقد فات الاستانبولي أن القاضي ابن العربي قد استشهد في بداية كتابه، وفي اُولى قواصمه، بقول أنس بن مالك الصحابي: ما نفضنا أيدينا من تراب قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتى أنكرنا قلوبنا!(27).
والذي يشكل اعترافاً صريحاً ومقصوداً من الصحابي أنس بن مالك، وغير مقصود من القاضي ابن العربي، بأن قلوب كثير من الصحابة قد تغيّرت بموت رسول الله (صلى الله عليه وآله) –وكما أخبر الباري عزوجل فيما سيأتي- وأصابهم ما أصاب الاُمم الاُخرى، وأصحاب الأنبياء السابقين من حب الدنيا والتنازع عليها، بل إن قلوب بعض الصحابة قد تغيّرت، وارتد بعضهم في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي بدايات البعثة، فعن اُم حبيبة (زوج رسول الله) قالت:
رأيت في المنام كأن عبيدالله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهه! ففزعت وقلت: تغيرت والله حاله!
فاذا هو يقول حين أصبح: يا اُم حبيبة، إني نظرت في الدين، فلم أر خيراً من النصرانية! وكنت قد دنتُ بها، ثم دخلت في دين محمد، ثم رجعت الى النصرانية!
فقلت: والله ما خير لك. وأخبرته بالرؤيا التي رأيت، فلم يحفل بها، وأكب على الخمر حتى مات...(28).
فهذا الصحابي عبيدالله بن جحش، من المسلمين الأوائل، ومن الذين هاجروا الى الحبشة، إلاّ أنه ارتد هناك في دار هجرته، ومات مرتداً عن دينه!
وقصة عدد من الذين ارتدوا بعد اسلامهم في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) معروفة، وقد قتل المسلمون – بأمر النبي- عدداً منهم يوم فتح مكة، بينما فرّ آخرون وبعضهم شفع له بعض الصحابة وانجاه من القتل، كابن أبي سرح، كما تقدم.
والرواية التي استشهد بها الاستانبولي وذكر فيها أن صيغة التصغير الواردة على لسان النبي (صلى الله عليه وآله) قد جاءت للتدليل على قلة عدد اُولئك الأصحاب، فيردّه ما أوردناه من روايات متكاثرة تدل على أن زمراً عديدة منهم يؤخذ بهم ويختلجون دون النبي (صلى الله عليه وآله)، ولعل رواية أبي هريرة التي أخرجها البخاري، وفيها قول النبي (صلى الله عليه وآله): "فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم!"(29).
لتؤكد على أن الهالكين من الصحابة هم أكثر من الناجين، مع العلم أن صيغة التصغير لا تستعمل للتقليل في العدد فقط، بل قد تستعمل للتحبيب أو للتحقير أيضاً.
أما الادعاء بأن المقصود باُولئك الأصحاب، هم بعض أجلاف العرب والمؤلفة قلوبهم، فلا صحة له أيضاً، لأن الصيغ التي نطق بها الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، لتؤكد عكس ذلك تماماً، فقوله مخاطباً أصحابه: "رجال منكم" و "أصحابي"، و "رهط من أصحابي" و "ناس من أصحابي" و"رجال ممن صاحبني"، و"ليرد علي أقوام أعرفهم ويعرفوني"، وقوله "أما النسب فقد عرفته" لتدل كلها دلالة واضحة على أن الكثير من اُولئك الصحابة، هم ممن يعرفون النبي (صلى الله عليه وآله) ويعرفهم معرفة وثيقة، فضلا عن أن تخصيصه لاثنين من أصحابه لا يراهما ولا يريانه بعد موته أبداً، يدل على أن هذين الصحابيين كانا على علاقة وثيقة في صحبتهما مع النبي (صلى الله عليه وآله) ولا يمكن أن يكونا من أجلاف العرب وجفاتهم!
ومن السخف أيضاً الادعاء بأن اولئك الصحابة إنما هم أتباع مسيلمة الكذاب والأسود العنسي، لأن هؤلاء قد ارتدوا في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) وليس بعد موته، وقد جرت بين مسيلمة وبين النبي (صلى الله عليه وآله) مراسلات عديدة مذكورة في كتب التاريخ والسيرة والحديث، فضلا عن أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد جهّز بعض الحملات العسكرية ووجهها لمحاربة اولئك المرتدين.
ولو أننا تنزلنا رغم كل ذلك، وصدّقنا بأن المقصود هم اولئك الأعراب، فإن ذلك لا ينقذ القائلين بهذا القول من أصحاب التيار المحافظ المعروف من الورطة، لأن اولئك قد ثبتت صحبتهم، والمفروض أن الصحابة جميعاً وعلى الاطلاق، عدول، وكلهم من أهل الجنة، فكيف يخبر النبي (صلى الله عليه وآله) بأن اولئك الأصحاب من أصحاب النار! وأين الحصانة التي يدعيها هؤلاء للصحابة!
لقد أكّد القرآن الكريم على إمكانية ارتداد بعض الصحابة وانقلابهم على أعقابهم بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال عزّ من قائل: (وَما محمدٌ إلاّ رسولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبلهِ الرُّسلُ أفئنْ ماتَ أو قُتلَ انقَلَبتُمْ على أعقابكمْ وَمَنْ يَنقلِب على عَقبيهِ فلنْ يَضُرَّ الله شيئاً وسَيجزي اللهُ الشاكِرينَ)(30).
قال الطبري، عن سلمة بن إسحاق:
وذكر أن هذه الآية اُنزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيمن انهزم عنه باُحد من أصحابه... أي افئن مات أو قتل نبيكم، رجعتم عن دينكم كفاراً كما كنتم وتركتم جهاد عدوكم وكتاب الله وما قد خلف نبيه من دينه معكم وعندكم وقد بيّن لكم فيما جاءكم عني أنه ميت ومفارقكم، ومن ينقلب على عقبيه، أي يرجع عن دينه(31).
ومن الجدير بالذكر أن معظم الصحابة قد فرّوا عن النبي (صلى الله عليه وآله) يوم اُحد، ثم تكرر ذلك منهم يوم حنين أيضاً!
وقوله تعالى: (إنَّ الذينَ يُبايعونَك إنّما يُبايعونَ اللهَ يَدُ اللهَ فوقَ أَيديهِمْ فَمَنْ نكثَ فإنّما ينكثُ على نَفسهِ وَمَنْ أوفى بما عاهدَ عَليه اللهَ فَسيؤتيهِ أجراً عظيماً)(32).
قال ابن كثير: أي إنّما يعود وبال ذلك على الناكث، والله غني حميد(33).
فالوعد لمن أوفى بيعته، والوعيد لم نكثها، ومعلوم أن الذين بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله) هم الصحابة وليس أحد غيرهم.
المصادر :
1- الاحزاب: 53.
2- الدر المنثور 6: 643.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 49
4- المستدرك على الصحيحين 3: 120 كتاب معرفة الصحابة، وصححه ووافقه الذهبي.
5- التحريم: 10
6- صحيح البخاري 2: 27 باب آطام المدينة، صحيح مسلم، كتاب الفتن واشراط الساعة، باب نزول الفتن كمواقع القطر، مسند الحميدي 1: 248 و 8: 594، مسند أبي يعلى 2: 95، دلائل النبوة لإسماعيل الاصبهاني: 163، الجامع الصغير للسيوطي 2: 712، كنز العمال 11: 128، 280، فيض القدير للمناوي 6: 458.
7- تاريخ الطبري 3: 188، الكامل لابن الاثير 2: 318.
8- صحيح مسلم 4: 1796، صحيح البخاري 8: 112، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها.
9- صحيح البخاري 8: 112.
10- صحيح البخاري 9: 58 كتاب الفتن.
11- صحيح البخاري 9: 58.
12- المصدر السابق 9: 148 باب في الحوض.
13- صحيح البخاري 8: 150.
14- المصدر السابق.
15- المصدر السابق.
16- صحيح مسلم 4: 179.
17- صحيح مسلم 4: 179.
18- المصدر السابق.
19- مسند أحمد 2: 298، 300.
20- المصدر السابق 2: 454.
21- المصدر السابق 3: 18.
22- المصدر السابق 5: 48.
23- مسند أحمد 6: 298.
24- المصدر السابق 4: 20.
25- انظر مسند احمد 1: 384، 406، 425، 439، 453، 5: 332، 339.
26- العواصم من القواصم: 187 هامش: 331.
27- العواصم من القواصم: 54 والحديث في مسند أحمد 3: 221.
28- مستدرك الحاكم 4: 20، مسند أحمد 4: 20.
29- قال ابن منظور: وفي حديث الحوض "فلا يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم" الهمل: ضوال الابل، واحدها هامل، أي أن الناجي منهم قليل في قلة النعم الضالة. لسان العرب 11: 710.
30- آل عمران: 144.
31- تفسير الطبري 4: 74.
32- الفتح: 10.
33- تفسير القرآن العظيم 4: 199.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.