
إن الباحث وهو يقف أمام نصوص الحديث النبوي الشريف ، ليلاحظ أمراً غريباً، فخطبة النبي (صلى الله عليه وآله) في غدير خم لبيان فضل علي بن أبي طالب، يقابلها خطبة النبي (صلى الله عليه وآله) في مرضه لبيان فضل أبي بكر، والكتاب الذي أراد أن يكتبه في مرضه يوم الخميس -والذي يحتج به الشيعة كما يقول ابن كثير دون أن يبين وجه احتجاجهم- يقابله الكتاب الذي أراد أن يكتبه لأبي بكر حتى لا يتمنى متمن ويأبى الله ذلك والمؤمنون، في يوم الخميس أيضاً كما يقول ابن كثير، ولا أدري كيف علم ابن كثير إن ذلك كان يوم الخميس، وليس في الروايات التي ذكرت ذلك الكتاب إشارة حول تعيين اليوم، مما يدل على أن ذلك كان من استنباط ابن كثير. إضافة الى روايات اُخرى متقابلة كحديث المرأة التي جاءت النبي، وحديث سدّ الأبواب وغيرها - مما سنتطرق إليه في هذا الفصل- حتى يمكن التوصل الى معرفة وجود نص أم لا، وإن وجد ففي من؟ فلنستعرض أولا بعض الأقوال في ذلك.
أورد إبن أبي الحديد المعتزلي أيضاً بعضاً من هذه الروايات تحت عنوان (فصل فيما وضع الشيعة والبكرية من الأحاديث)، قال فيه:
واعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة، فانهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم، حملهم على وضعهاعداوة خصومهم، نحو حديث السطل، وحديث الرمانة، وحديث غزوة البئر التي كان فيها الشياطين، وتعرف كما زعموا بـ (ذات العلم)، وحديث غسل سلمان الفارسي، وطيّ الأرض، وحديث الجمجمة، ونحو ذلك; فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة، وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث، نحو "لو كنت متخذاً خليلا"، فانهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء، ونحو سدّ الأبواب، فانه لعلي (عليه السلام)، فقلبته البكرية الى أبي بكر، ونحو "ائتوني بدواة وبياض أكتب فيه لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه اثنان"، ثم قال: "يأبى الله تعالى والمسلمون إلاّ أبا بكر"، فانهم وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه في مرضه: "ائتوني بدواة وبياض اكتب لكم ما لا تضلون بعده أبداً"، فاختلفوا عنده، وقال قوم منهم: لقد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله، ونحو حديث "أنا راض عنك فهل أنت عني راض"! ونحو ذلك، فلما رأت الشيعة ما قد وضعت البكرية، أوسعوا في وضع الأحاديث، فوضعوا حديث الطوق الحديد الذي زعموا أنه فتله في عنق خالد، وحديث اللوح الذي زعموا أنه كان في غدائر الحنفية اُم محمد، وحديث "لا يفعلن خالد ما اُمر به"، وحديث الصحيفة التي علّقت عام الفتح بالكعبة، وحديث الشيخ الذي صعد المنبر يوم بويع أبو بكر فسبق الناس ببيعته، وأحاديث مكذوبة كثيرة تقتضي نفاق قوم من أكابر الصحابة والتابعين الأولين وكفرهم، وعلي أدون الطبقات فيهم، فقابلتهم البكرية بمطاعن كثيرة في علي وفي ولديه، ونسبوه تارة الى ضعف العقل، وتارة الى ضعف السياسة، وتارة الى حبّ الدنيا والحرص عليها...(1)
أما ابن تيمية، فيعتقد عكس ما يقوله ابن أبي الحديد، فيقول في معرض رده على أحد علماء الشيعة، في قضية سدّ الأبواب:
وكذلك قوله: "وسدّوا الأبواب كلها إلاّ باب علي"، فان هذا مما وضعته الشيعة على طريق المقابلة، فان الذي في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال في مرضه الذي مات فيه: "لا يبقين في المسجد خوخة إلاّ سدّت إلاّ خوخة أبي بكر"(2).
وقال ابن الجوزي -بعد أن أورد روايات سدّ الأبواب غير باب علي، بطرقها: فهذه الأحاديث كلها من وضع الرافضة، قابلوا بها الحديث المتفق على صحته في "سدوا الأبواب إلاّ باب أبي بكر"(3).
أما سبط ابن الجوزي، فقال:
وأما قولهم إن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر بسدّ أبواب المسجد إلاّ باب أبي بكرفنقول: قد أخرج احمد والترمذي أن الواقعة كانت لعلي (عليه السلام)، وروى أبو سعيد أن الواقعة كانت لأبي بكر، وليس إحدى الروايتين بأولى من الاُخرى، فتوقف الأمر على التاريخ، غاية ما في الباب أن يقال: حديث أبي سعيد في الصحيحين(4).
رأي ابن حجر العسقلاني
بعد أن أورد ابن حجر روايات سدّ الأبواب غير باب علي، قال:
وهذه الأحاديث يقوّي بعضها بعضاً، وكل طريق منها صالح للاحتجاج فضلا عن مجموعها، وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات، أخرجه من حديث سعد بن أبي وقاص وزيد بن أرقم وابن عمر، مقتصراً على بعض طرقه عنهم، وأعلَّه ببعض من تكلم فيه من رواته، وليس ذلك بقادح لما ذكرت من كثرة الطرق، وأعلّه بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في باب أبي بكر، وزعم أنه من وضع الرافضة، قابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي بكر، وأخطأ في ذلك خطأ شنيعاً، فانه سلك في ذلك ردّ الأحاديث الصحيحة بتوهّمه المعارضة، مع أن الجمع بين القصتين ممكن، وقد أشار الى ذلك البزار في مسنده فقال: ورد من روايات أهل الكوفة بأسانيد حسان في قصة علي، وورد من روايات أهل المدينة بأسانيد حسان في قصة أبي بكر، فان ثبتت روايات أهل الكوفة، فالجمع بينهما بما دلّ عليه حديث أبي سعيد الخدري، يعني الذي أخرجه الترمذي أن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: "لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جُنباً غيري وغيرك"، والمعنى أن باب عليّ كان الى جهة المسجد، ولم يكن لبيته باب غيره، فلذلك لم يؤمر بسدّه... ومحصّل الجمع أن الأمر بسدّ الأبواب وقع مرتين، ففي الاولى استثني علي لما ذُكر، وفي الاُخرى استثني أبو بكر، ولكن لا يتم ذلك إلاّ بأن يُحمل ما في قصة علي على الباب الحقيقي، وما في قصة أبي بكر على الباب المجازي!(5).
رأي ابن كثير
قال ابن كثير - بعد أن أورد الروايات في سدّ الأبواب غير باب علي-:
وقد تقدم ما رواه أحمد والنسائي من حديث أبي عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس، الحديث الطويل، وفيه سدّ الأبواب غير باب علي، وكذا رواه شعبة عن أبي بلج، ورواه سعد بن أبي وقاص، قال أبو يعلي.. عن خيثمة عن سعد: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) سدّ أبواب المسجد وفتح باب علي، فقال الناس في ذلك، فقال: "ما أنا فتحته ولكن الله فتحه". وهذا لا ينافي ما ثبت في صحيح البخاري من أمره (عليه السلام) في مرض الموت، بسدّ الأبواب الشارعة الى المسجد إلاّ باب أبي بكر الصدّيق، لأن نفي هذا في حق علي كان في حال حياته، لاحتياج فاطمة الى المرور من بيتها الى بيت أبيها، فجعل هذا رفقاً بها، وأما بعد وفاته، فزالت هذه العلّة، فاحتيج الى فتح باب الصديق لأجل خروجه الى المسجد ليصلي بالناس، إذ كان الخليفة عليهم بعد موته (عليه السلام)، وفيه إشارة الى خلافته...(6).
إن القاعدة التقليدية التي اعتمدها ابن الجوزي ومن وافقه هي أن صحيح البخاري هو أقوى كتب الحديث وأصحها، فهو بذلك حجة على ما سواه من كتب الحديث، فينبغي -على رأي هؤلاء- أن تكون الواقعة لأبي بكر لا لعلي.
وقد ادعى ابن حجر أن ابن الجوزي قد توهم أن هذه الأحاديث متعارضة وأنه أخطأ في ذلك، لكن الحقيقة أن ابن الجوزي لم يخطئ في تعارض الأحاديث، ولكنه أخطأ في معرفة الحقيقة!
إن من الأسباب التي أوقعت الكثير من الشرّاح في الخطأ، هي أخذهم الأحاديث بأسانيدها فقط دون الالتفات الى النواحي الاُخرى، وهكذا وقعوا في خطأ التقدير، لأن الأخذ بالأحاديث ينبغي أن يكون مسبوقاً بمعرفة جملة الظروف -السياسية منها خاصّة- ومطابقتها للواقع، فعندئذ يمكن الحكم على الكثير من الأحاديث -وبخاصة المتعارضة منها- حكماً صحيحاً.
وعندما نسبر أغوار القضية يتبيّن لنا أن أبا بكر لم يكن له بيت في مسجد رسول الله حين وفاته (صلى الله عليه وآله)! وهذا يفسّر قول ابن حجر: ولكن لا يتم ذلك إلاّ بحمل ما في قصة علي على الباب الحقيقي، وما في قصة أبي بكر على الباب المجازي.
ففي صحيح البخاري، عن عائشة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مات وأبو بكر بالسنح، قال اسماعيل: يعني العالية(7).
وفي تاريخ الطبري تفصيل أكثر، فقد أخرج من عدة طرق: عن سعيد بن المسيّب، وعبدالرحمان بن صبيحة التيمي عن أبيه، وعن ابن عمر، وعن عروة عن عائشة، وعن أبي وجيزة عن أبيه، قال(الطبري): وغير هؤلاء أيضاً قد حدثني ببعضه، فدخل حديث بعضهم في حديث بعض، قالوا: قالت عائشة: كان منزل أبي بالسنح، عند زوجته حبيبة ابنة خارجة بن زيد بن أبي زهير من بني الحارث بن الخزرج، وكان قد حجّر عليه حجرة من سعف، فما زاد على ذلك حتى تحوّل الى منزله بالمدينة، فأقام هنالك بالسنح بعدما بويع له ستة أشهر، يغدو على رجليه الى المدينة، وربما ركب على فرس له، وعليه إزار ورداء ممشق، فيوافي المدينة، فيصلي الصلوات بالناس، فاذا صلّى العشاء رجع الى أهله بالسنح، فكان إذا حضر صلّى بالناس، وإذا لم يحضر صلّى بهم عمر بن الخطاب...(8)
والمصادر التاريخية الاُخرى متفقة على ذلك(9).
وقال ياقوت الحموي:
(السنح): وهي إحدى محال المدينة، كان بها منزل أبي بكر.. بعوالي المدينة، وبينها وبين مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) ميل(10).
أما محاولة ابن كثير للتوفيق بين هذه الأحاديث، فهي الأكثر تهافتاً، فادعاؤه أن هذا كان في حق علي حال حياته لاحتياج فاطمة الى المرور من بيتها الى بيت أبيها، كلام غير منطقي، إذ أن ابن حجر قال: إن باب علي كان إلى جهة المسجد، ولم يكن لبيته باب غيره فلذلك لم يؤمر بسده، فاذا لم يكن له باب غيره، فهل حكم النبي (صلى الله عليه وآله) على ابنته فاطمة بالحجر في ذلك البيت حتى الموت، وكيف استطاعت الخروج منه إذاً!
وتبقى هناك مسألة اُخرى، فاذا كانت واقعة سدّ الأبواب غير باب علي متقدمة على واقعة أبي بكر -لأنها كانت قبل وفاة النبي مباشرة- فهذا يعني أن جميع الأبواب -ومن ضمنها باب أبي بكر- كان مسدوداً من قبل، بينما يدل قول النبي -على زعمهم- أن الأبواب كانت مفتوحة فأمر بسدها واستثنى منها باب أبي بكر! فتبيّن من ذلك كله أن حديث سد الأبواب غير باب أبي بكر، قد وضع في مقابل الحديث في حق علي(11)
وهذه مسألة بالغة الخطورة، إذ تبيّن أن التزييف لم يقتصر على تاريخ المسلمين فقط، بل تعداه الى تراثهم كله -ومن ضمنه الحديث النبوي الشريف- ولهذا نبهنا في بداية هذا الكتاب الى ضرورة أن يفهم المسلمون تاريخهم بشكل صحيح، ونوّهنا الى أهمية ربط التاريخ الاسلامي والحديث النبوي الشريف بعضه ببعض، إذ لا يمكن فهم حقائق الاسلام إلاّ بذلك.
وقد يستغرب القارئ هذه الجرأة في رد الأحاديث التي اشتملت عليها
1- أورد ابن حجر عن عمر بن شبة في أخبار المدينة: أن دار أبي بكر التي أذن له في إبقاء الخوخة منها الى المسجد كانت ملاصقة للمسجد ولم تزل بيد أبي بكر حتى احتاج الى شيء يعطيه لبعض من وفد عليه، فباعها فاشترتها منه حفصة اُم المؤمنين بأربعة آلاف درهم، فلم تزل بيدها الى أن أرادوا توسيع المسجد في خلافة عثمان. فتح الباري 7: 11.
إلاّ أن ابن حجر لم يذكر لنا -ولا عمر بن شبة- متى باع أبو بكر داره هذه، فان كان قد باعها في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)، فلا يبقى عند ذلك معنى لطلب النبي (صلى الله عليه وآله) بسدّ الأبواب غير باب أبي بكر، أما إن كان باعها في خلافته -كما يبدو من ظاهر كلامهما- فلماذا بقي يسير من السنح الى المسجد طيلة ستة أشهر كما في رواية عائشة!
الصحاح -وبخاصة صحيح البخاري- لكن هذا هو الواقع فعلا، وستثبت الأبحاث القادمة ذلك بشكل قاطع، فلنواصل مناقشة حجج الطائفتين حول موضوع النص ونتبين السرّ في هذا التقابل في الأحاديث بين حجج الطرفين.
حديث محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه: (قوله أتت إمرأة)، لم أقف على اسمها..
وروى الطبراني من حديث عصمة بن مالك، قال: قلنا يا رسول الله، الى من ندفع صدقات أموالنا بعدك؟ قال: "الى أبي بكر الصديق". وهذا لو ثبت، كان أصرح في حديث الباب من الإشارة الى أنه الخليفة بعده، لكن إسناده ضعيف.
وروى الاسماعيلي في معجمه من حديث سهل بن أبي خيثمة قال: بايع النبي (صلى الله عليه وآله) أعرابياً فسأله إن أتى عليه أجله من يقضيه؟ فقال: "أبو بكر"، ثم سأله من يقضيه بعده؟ قال: "عمر" الحديث. وأخرجه الطبراني في الأوسط من هذا الوجه مختصراً، وفي الحديث أن مواعيد النبي (صلى الله عليه وآله) كانت على من يتولى الخلافة بعده تنجيزها، وفيه ردّ على الشيعة في زعمهم أنه نصّ على استخلاف علي والعباس...
لكننا عندما نتصفح كتب الحديث يفاجئنا أن هذه الأحاديث التي فسّرها ابن حجر وغيره بأنها نصوص على استخلاف أبي بكر - مخالفةً لنظرية الشيعة- إنما قد وضعت في مقابل حديث صحيح في علي!
فعن ذؤيب، أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما حُضر قالت صفية: يا رسول الله، لكل إمرأة من نسائك أهل تلجأ إليهم، وإنك أجليت أهلي، فان حدث حدث فالى من؟
قال: "الى علي بن أبي طالب"(12).
فهذا الحديث الصحيح واضح الدلالة والمعنى، والمرأة التي سألت النبي (صلى الله عليه وآله) هي زوجه صفية بنت حيي التي اُجلي أهلها من خيبر، ولم يبق لها أهل، فمن حقها أن تطمئن على مصيرها وتعرف الذي سيتولى أمرها بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله).
أما حديث البخاري فهو شديد الغموض، فمن هي تلك المرأة ومن هو أبوها، ألم يكن لها اسم أو قبيلة تنتسب إليها؟، وماذا طلبت من النبي (صلى الله عليه وآله) ولماذا توقعت المعاودة وسألت عن الشخص الذي يليه إذا توفي؟ وكذلك حديث الأعرابي الذي أخرجه الطبراني - وواضح أن الراوي الذي اختلق هذه الكذبة تعمد أن يجعله أعرابياً مجهولا- ومثله حديث الاسماعيلي، فالذي أتى النبي (صلى الله عليه وآله) أعرابي مجهول، والأغرب من ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكتف بالنص على أبي بكر، بل نص على عمر أيضاً!
المصادر :
1- شرح نهج البلاغة 11: 48.
2- منهاج السنّة النبوية 3: 9.
3- الموضوعات 1: 366 باب في فضائل علي (عليه السلام).
4- تذكرة الخواص: 46.
5- فتح الباري 7: 12.
6- البداية والنهاية 7: 342.
7- صحيح البخاري 5: 8.
8- تاريخ الطبري 3: 432.
9- الكامل في التاريخ 2: 323، المنتظم 4: 43، البداية والنهاية 5: 242، الروض الآنف 7: 546، السيرة النبوية لابن كثير 4: 480.
10- معجم البلدان 3: 760.
11- فتح الباري 7: 15.
12- مجمع الزوائد 9: 113 وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
أورد إبن أبي الحديد المعتزلي أيضاً بعضاً من هذه الروايات تحت عنوان (فصل فيما وضع الشيعة والبكرية من الأحاديث)، قال فيه:
واعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة، فانهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم، حملهم على وضعهاعداوة خصومهم، نحو حديث السطل، وحديث الرمانة، وحديث غزوة البئر التي كان فيها الشياطين، وتعرف كما زعموا بـ (ذات العلم)، وحديث غسل سلمان الفارسي، وطيّ الأرض، وحديث الجمجمة، ونحو ذلك; فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة، وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث، نحو "لو كنت متخذاً خليلا"، فانهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء، ونحو سدّ الأبواب، فانه لعلي (عليه السلام)، فقلبته البكرية الى أبي بكر، ونحو "ائتوني بدواة وبياض أكتب فيه لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه اثنان"، ثم قال: "يأبى الله تعالى والمسلمون إلاّ أبا بكر"، فانهم وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه في مرضه: "ائتوني بدواة وبياض اكتب لكم ما لا تضلون بعده أبداً"، فاختلفوا عنده، وقال قوم منهم: لقد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله، ونحو حديث "أنا راض عنك فهل أنت عني راض"! ونحو ذلك، فلما رأت الشيعة ما قد وضعت البكرية، أوسعوا في وضع الأحاديث، فوضعوا حديث الطوق الحديد الذي زعموا أنه فتله في عنق خالد، وحديث اللوح الذي زعموا أنه كان في غدائر الحنفية اُم محمد، وحديث "لا يفعلن خالد ما اُمر به"، وحديث الصحيفة التي علّقت عام الفتح بالكعبة، وحديث الشيخ الذي صعد المنبر يوم بويع أبو بكر فسبق الناس ببيعته، وأحاديث مكذوبة كثيرة تقتضي نفاق قوم من أكابر الصحابة والتابعين الأولين وكفرهم، وعلي أدون الطبقات فيهم، فقابلتهم البكرية بمطاعن كثيرة في علي وفي ولديه، ونسبوه تارة الى ضعف العقل، وتارة الى ضعف السياسة، وتارة الى حبّ الدنيا والحرص عليها...(1)
أما ابن تيمية، فيعتقد عكس ما يقوله ابن أبي الحديد، فيقول في معرض رده على أحد علماء الشيعة، في قضية سدّ الأبواب:
وكذلك قوله: "وسدّوا الأبواب كلها إلاّ باب علي"، فان هذا مما وضعته الشيعة على طريق المقابلة، فان الذي في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال في مرضه الذي مات فيه: "لا يبقين في المسجد خوخة إلاّ سدّت إلاّ خوخة أبي بكر"(2).
وقال ابن الجوزي -بعد أن أورد روايات سدّ الأبواب غير باب علي، بطرقها: فهذه الأحاديث كلها من وضع الرافضة، قابلوا بها الحديث المتفق على صحته في "سدوا الأبواب إلاّ باب أبي بكر"(3).
أما سبط ابن الجوزي، فقال:
وأما قولهم إن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر بسدّ أبواب المسجد إلاّ باب أبي بكرفنقول: قد أخرج احمد والترمذي أن الواقعة كانت لعلي (عليه السلام)، وروى أبو سعيد أن الواقعة كانت لأبي بكر، وليس إحدى الروايتين بأولى من الاُخرى، فتوقف الأمر على التاريخ، غاية ما في الباب أن يقال: حديث أبي سعيد في الصحيحين(4).
محاولات الجمع والتوفيق
اختلفت آراء العلماء وتضاربت -كما أوردنا القول لبعضهم- في حديث سدّ الأبواب، بحسب الآراء، فتسرع بعضهم بالحكم بالوضع على بعضها دون تمحيص دقيق، بينما قام بعض شرّاح الأحاديث بمحاولة الجمع والتوفيق بين هذه الأحاديث على قدر اجتهادهم، وسوف نستعرض آراء بعضهم في محاولة للخروج بنتيجة مرضية.رأي ابن حجر العسقلاني
بعد أن أورد ابن حجر روايات سدّ الأبواب غير باب علي، قال:
وهذه الأحاديث يقوّي بعضها بعضاً، وكل طريق منها صالح للاحتجاج فضلا عن مجموعها، وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات، أخرجه من حديث سعد بن أبي وقاص وزيد بن أرقم وابن عمر، مقتصراً على بعض طرقه عنهم، وأعلَّه ببعض من تكلم فيه من رواته، وليس ذلك بقادح لما ذكرت من كثرة الطرق، وأعلّه بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في باب أبي بكر، وزعم أنه من وضع الرافضة، قابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي بكر، وأخطأ في ذلك خطأ شنيعاً، فانه سلك في ذلك ردّ الأحاديث الصحيحة بتوهّمه المعارضة، مع أن الجمع بين القصتين ممكن، وقد أشار الى ذلك البزار في مسنده فقال: ورد من روايات أهل الكوفة بأسانيد حسان في قصة علي، وورد من روايات أهل المدينة بأسانيد حسان في قصة أبي بكر، فان ثبتت روايات أهل الكوفة، فالجمع بينهما بما دلّ عليه حديث أبي سعيد الخدري، يعني الذي أخرجه الترمذي أن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: "لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جُنباً غيري وغيرك"، والمعنى أن باب عليّ كان الى جهة المسجد، ولم يكن لبيته باب غيره، فلذلك لم يؤمر بسدّه... ومحصّل الجمع أن الأمر بسدّ الأبواب وقع مرتين، ففي الاولى استثني علي لما ذُكر، وفي الاُخرى استثني أبو بكر، ولكن لا يتم ذلك إلاّ بأن يُحمل ما في قصة علي على الباب الحقيقي، وما في قصة أبي بكر على الباب المجازي!(5).
رأي ابن كثير
قال ابن كثير - بعد أن أورد الروايات في سدّ الأبواب غير باب علي-:
وقد تقدم ما رواه أحمد والنسائي من حديث أبي عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس، الحديث الطويل، وفيه سدّ الأبواب غير باب علي، وكذا رواه شعبة عن أبي بلج، ورواه سعد بن أبي وقاص، قال أبو يعلي.. عن خيثمة عن سعد: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) سدّ أبواب المسجد وفتح باب علي، فقال الناس في ذلك، فقال: "ما أنا فتحته ولكن الله فتحه". وهذا لا ينافي ما ثبت في صحيح البخاري من أمره (عليه السلام) في مرض الموت، بسدّ الأبواب الشارعة الى المسجد إلاّ باب أبي بكر الصدّيق، لأن نفي هذا في حق علي كان في حال حياته، لاحتياج فاطمة الى المرور من بيتها الى بيت أبيها، فجعل هذا رفقاً بها، وأما بعد وفاته، فزالت هذه العلّة، فاحتيج الى فتح باب الصديق لأجل خروجه الى المسجد ليصلي بالناس، إذ كان الخليفة عليهم بعد موته (عليه السلام)، وفيه إشارة الى خلافته...(6).
القول الفصل
هذه بعض آراء العلماء والشرّاح في حديث سدّ الأبواب، فمن جملة المشاكل التي واجهها بعض الحفّاظ والشرّاح لكتب الحديث، هي مسألة التوفيق والجمع بين الأحاديث الصحيحة الأسناد -بحسب المقاييس المعروفة- المتعارضة المتون.إن القاعدة التقليدية التي اعتمدها ابن الجوزي ومن وافقه هي أن صحيح البخاري هو أقوى كتب الحديث وأصحها، فهو بذلك حجة على ما سواه من كتب الحديث، فينبغي -على رأي هؤلاء- أن تكون الواقعة لأبي بكر لا لعلي.
وقد ادعى ابن حجر أن ابن الجوزي قد توهم أن هذه الأحاديث متعارضة وأنه أخطأ في ذلك، لكن الحقيقة أن ابن الجوزي لم يخطئ في تعارض الأحاديث، ولكنه أخطأ في معرفة الحقيقة!
إن من الأسباب التي أوقعت الكثير من الشرّاح في الخطأ، هي أخذهم الأحاديث بأسانيدها فقط دون الالتفات الى النواحي الاُخرى، وهكذا وقعوا في خطأ التقدير، لأن الأخذ بالأحاديث ينبغي أن يكون مسبوقاً بمعرفة جملة الظروف -السياسية منها خاصّة- ومطابقتها للواقع، فعندئذ يمكن الحكم على الكثير من الأحاديث -وبخاصة المتعارضة منها- حكماً صحيحاً.
وعندما نسبر أغوار القضية يتبيّن لنا أن أبا بكر لم يكن له بيت في مسجد رسول الله حين وفاته (صلى الله عليه وآله)! وهذا يفسّر قول ابن حجر: ولكن لا يتم ذلك إلاّ بحمل ما في قصة علي على الباب الحقيقي، وما في قصة أبي بكر على الباب المجازي.
ففي صحيح البخاري، عن عائشة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مات وأبو بكر بالسنح، قال اسماعيل: يعني العالية(7).
وفي تاريخ الطبري تفصيل أكثر، فقد أخرج من عدة طرق: عن سعيد بن المسيّب، وعبدالرحمان بن صبيحة التيمي عن أبيه، وعن ابن عمر، وعن عروة عن عائشة، وعن أبي وجيزة عن أبيه، قال(الطبري): وغير هؤلاء أيضاً قد حدثني ببعضه، فدخل حديث بعضهم في حديث بعض، قالوا: قالت عائشة: كان منزل أبي بالسنح، عند زوجته حبيبة ابنة خارجة بن زيد بن أبي زهير من بني الحارث بن الخزرج، وكان قد حجّر عليه حجرة من سعف، فما زاد على ذلك حتى تحوّل الى منزله بالمدينة، فأقام هنالك بالسنح بعدما بويع له ستة أشهر، يغدو على رجليه الى المدينة، وربما ركب على فرس له، وعليه إزار ورداء ممشق، فيوافي المدينة، فيصلي الصلوات بالناس، فاذا صلّى العشاء رجع الى أهله بالسنح، فكان إذا حضر صلّى بالناس، وإذا لم يحضر صلّى بهم عمر بن الخطاب...(8)
والمصادر التاريخية الاُخرى متفقة على ذلك(9).
وقال ياقوت الحموي:
(السنح): وهي إحدى محال المدينة، كان بها منزل أبي بكر.. بعوالي المدينة، وبينها وبين مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) ميل(10).
أما محاولة ابن كثير للتوفيق بين هذه الأحاديث، فهي الأكثر تهافتاً، فادعاؤه أن هذا كان في حق علي حال حياته لاحتياج فاطمة الى المرور من بيتها الى بيت أبيها، كلام غير منطقي، إذ أن ابن حجر قال: إن باب علي كان إلى جهة المسجد، ولم يكن لبيته باب غيره فلذلك لم يؤمر بسده، فاذا لم يكن له باب غيره، فهل حكم النبي (صلى الله عليه وآله) على ابنته فاطمة بالحجر في ذلك البيت حتى الموت، وكيف استطاعت الخروج منه إذاً!
وتبقى هناك مسألة اُخرى، فاذا كانت واقعة سدّ الأبواب غير باب علي متقدمة على واقعة أبي بكر -لأنها كانت قبل وفاة النبي مباشرة- فهذا يعني أن جميع الأبواب -ومن ضمنها باب أبي بكر- كان مسدوداً من قبل، بينما يدل قول النبي -على زعمهم- أن الأبواب كانت مفتوحة فأمر بسدها واستثنى منها باب أبي بكر! فتبيّن من ذلك كله أن حديث سد الأبواب غير باب أبي بكر، قد وضع في مقابل الحديث في حق علي(11)
وهذه مسألة بالغة الخطورة، إذ تبيّن أن التزييف لم يقتصر على تاريخ المسلمين فقط، بل تعداه الى تراثهم كله -ومن ضمنه الحديث النبوي الشريف- ولهذا نبهنا في بداية هذا الكتاب الى ضرورة أن يفهم المسلمون تاريخهم بشكل صحيح، ونوّهنا الى أهمية ربط التاريخ الاسلامي والحديث النبوي الشريف بعضه ببعض، إذ لا يمكن فهم حقائق الاسلام إلاّ بذلك.
وقد يستغرب القارئ هذه الجرأة في رد الأحاديث التي اشتملت عليها
1- أورد ابن حجر عن عمر بن شبة في أخبار المدينة: أن دار أبي بكر التي أذن له في إبقاء الخوخة منها الى المسجد كانت ملاصقة للمسجد ولم تزل بيد أبي بكر حتى احتاج الى شيء يعطيه لبعض من وفد عليه، فباعها فاشترتها منه حفصة اُم المؤمنين بأربعة آلاف درهم، فلم تزل بيدها الى أن أرادوا توسيع المسجد في خلافة عثمان. فتح الباري 7: 11.
إلاّ أن ابن حجر لم يذكر لنا -ولا عمر بن شبة- متى باع أبو بكر داره هذه، فان كان قد باعها في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)، فلا يبقى عند ذلك معنى لطلب النبي (صلى الله عليه وآله) بسدّ الأبواب غير باب أبي بكر، أما إن كان باعها في خلافته -كما يبدو من ظاهر كلامهما- فلماذا بقي يسير من السنح الى المسجد طيلة ستة أشهر كما في رواية عائشة!
الصحاح -وبخاصة صحيح البخاري- لكن هذا هو الواقع فعلا، وستثبت الأبحاث القادمة ذلك بشكل قاطع، فلنواصل مناقشة حجج الطائفتين حول موضوع النص ونتبين السرّ في هذا التقابل في الأحاديث بين حجج الطرفين.
المرأة المجهولة
أما الحديث عن تلك المرأة التي جاءت الى النبي (صلى الله عليه وآله)، فأمرها بأن تأتي أبا بكر بعد وفاته، فسأترك الكلام أولا لابن حجر، ليدلي برأيه فيه، حيث قال:حديث محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه: (قوله أتت إمرأة)، لم أقف على اسمها..
وروى الطبراني من حديث عصمة بن مالك، قال: قلنا يا رسول الله، الى من ندفع صدقات أموالنا بعدك؟ قال: "الى أبي بكر الصديق". وهذا لو ثبت، كان أصرح في حديث الباب من الإشارة الى أنه الخليفة بعده، لكن إسناده ضعيف.
وروى الاسماعيلي في معجمه من حديث سهل بن أبي خيثمة قال: بايع النبي (صلى الله عليه وآله) أعرابياً فسأله إن أتى عليه أجله من يقضيه؟ فقال: "أبو بكر"، ثم سأله من يقضيه بعده؟ قال: "عمر" الحديث. وأخرجه الطبراني في الأوسط من هذا الوجه مختصراً، وفي الحديث أن مواعيد النبي (صلى الله عليه وآله) كانت على من يتولى الخلافة بعده تنجيزها، وفيه ردّ على الشيعة في زعمهم أنه نصّ على استخلاف علي والعباس...
لكننا عندما نتصفح كتب الحديث يفاجئنا أن هذه الأحاديث التي فسّرها ابن حجر وغيره بأنها نصوص على استخلاف أبي بكر - مخالفةً لنظرية الشيعة- إنما قد وضعت في مقابل حديث صحيح في علي!
فعن ذؤيب، أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما حُضر قالت صفية: يا رسول الله، لكل إمرأة من نسائك أهل تلجأ إليهم، وإنك أجليت أهلي، فان حدث حدث فالى من؟
قال: "الى علي بن أبي طالب"(12).
فهذا الحديث الصحيح واضح الدلالة والمعنى، والمرأة التي سألت النبي (صلى الله عليه وآله) هي زوجه صفية بنت حيي التي اُجلي أهلها من خيبر، ولم يبق لها أهل، فمن حقها أن تطمئن على مصيرها وتعرف الذي سيتولى أمرها بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله).
أما حديث البخاري فهو شديد الغموض، فمن هي تلك المرأة ومن هو أبوها، ألم يكن لها اسم أو قبيلة تنتسب إليها؟، وماذا طلبت من النبي (صلى الله عليه وآله) ولماذا توقعت المعاودة وسألت عن الشخص الذي يليه إذا توفي؟ وكذلك حديث الأعرابي الذي أخرجه الطبراني - وواضح أن الراوي الذي اختلق هذه الكذبة تعمد أن يجعله أعرابياً مجهولا- ومثله حديث الاسماعيلي، فالذي أتى النبي (صلى الله عليه وآله) أعرابي مجهول، والأغرب من ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكتف بالنص على أبي بكر، بل نص على عمر أيضاً!
المصادر :
1- شرح نهج البلاغة 11: 48.
2- منهاج السنّة النبوية 3: 9.
3- الموضوعات 1: 366 باب في فضائل علي (عليه السلام).
4- تذكرة الخواص: 46.
5- فتح الباري 7: 12.
6- البداية والنهاية 7: 342.
7- صحيح البخاري 5: 8.
8- تاريخ الطبري 3: 432.
9- الكامل في التاريخ 2: 323، المنتظم 4: 43، البداية والنهاية 5: 242، الروض الآنف 7: 546، السيرة النبوية لابن كثير 4: 480.
10- معجم البلدان 3: 760.
11- فتح الباري 7: 15.
12- مجمع الزوائد 9: 113 وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.