تطبيقات ولاية الفقيه

تتَّسع ولاية الفقيه لتشمل نظام الحكم بإدارة الفقيه، ولكنَّ تطبيقها بهذه السعة والشمولية يستلزم موافقة الناس على تبنيها لتكون حاكمة في بلدٍ ما، وأمامنا تجربتان للمقارنة والتوضيح:
Friday, March 2, 2018
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
تطبيقات ولاية الفقيه
 تطبيقات ولاية الفقيه

تتَّسع ولاية الفقيه لتشمل نظام الحكم بإدارة الفقيه، ولكنَّ تطبيقها بهذه السعة والشمولية يستلزم موافقة الناس على تبنيها لتكون حاكمة في بلدٍ ما، وأمامنا تجربتان للمقارنة والتوضيح:
1- تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران، التي اختارت الإسلام كنظام حكم لها، واختارت الولي الفقيه كقائد أعلى، له صلاحيات واسعة في دستور الجمهورية الإسلامية لإدارة البلد وتحديد سياساتها وحربها وسلمها، ويتم انتخابه من مجلس الخبراء المنتخب من الشعب الإيراني.
وبالتالي فإنَّ حاكمية الولي الفقيه تحولت إلى قانون يلتزمه الشعب الإيراني، من دون فرق بين من آمن منهم بولاية الفقيه دينياً أو من لم يؤمن بها، فهذا هو دستورهم الذي صوتوا عليه واختاروه ناظماً لشؤونهم. أمَّا المؤمن بولاية الفقيه فقد حقَّق مراده وانسجم مع إيمانه ويطيع من موقع التزامه وعبادته، وأمَّا غير المؤمن بها، فهو يلتزم بها في إطار القانون، وقد يكون له رأي مخالف لها، لكن القوانين المرعية الإجراء تبقى حاكمة بسبب النظام العام، ولها آلياتها في التعبير والتغيير أو الثبات. فالولي الفقيه بالنسبة لإيران، قيادة شرعية وقيادة دستورية.
2- تجربة حزب الله - لبنان، الذي اختار الإسلام عقيدة وشريعة، وآمن بالولي الفقيه قائداً، والتزم بقيادة الولي الفقيه الذي رآه متصدياً لشؤون الأمة، والذي توفرت فيه الكفاءة والأهلية لهذا الموقع. جاء ذلك تلبية لإيمان الحزب بوجوب الالتزام الديني بالولي الفقيه، ليحصل على مشروعية عمله، وليعرف الأحكام الشرعية التي تُبرئ ذمة المرتبطين به بقيامهم بتكليفهم الشرعي. فالحزب بحاجة لمعرفة الواجبات والمحرمات في القضايا العامة التي تتطلب حكماً أو فتوىً أو أمراً من الولي الفقيه، ليكون منسجماً مع إيمانه.
التزم حزب الله بولاية الإمام الخميني قدس سره، ومن بعده بالولي الفقيه الإمام الخامنئي دام ظله، كحلقة من سلسلة الولاية التي تبدأ من الولاية لله تعالى، ثم الولاية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم الولاية للإمام عليه السلام، ثم الولاية للفقيه العالم العادل، وهو اختيار يحمِّل الحزب مسؤولية التزام أوامره من موقع الإيمان الديني. وبالتالي فالحزب لا يلتزم قيادة دستورية خاصة بإيران، بل يلتزم قيادة شرعية لا تحدها الأوطان، اتخذت نمطاً للإدارة والحكم، ولها نمط آخر في لبنان له علاقة بتبني حزب الله لقيادة الفقيه الشرعية. فالولي الفقيه بالنسبة إلى حزب الله قيادة شرعية. أمَّا ارتباط الآخرين من المؤمنين بولاية الفقيه في البلدان الأخرى، فعائدٌ إلى درجة إيمانهم بها وظروفهم، وإذا ما كانوا أفراداً أو علماء أو جماعات أو أحزاباً، كل ذلك في إطار تبرئة المكلفين لذمتهم الشرعية.
يؤمن حزب الله بولاية الفقيه، ولا يُلزم بها غيره، ولا أولئك المؤمنين بالإسلام والذين لا يؤمنون بولاية الفقيه، والأولى أن لا يُلزم بها من لا يؤمن بمشروع الإسلام، وهذا منسجم تماماً مع إيمانه بأنَّ الله تعالى لم يُكرِه أحداً على الإيمان: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لاَمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾(1)
إذ يقتصر تكليفنا على دعوة الناس إلى ما نؤمن به، وهم أحرار في خياراتهم، وعلينا أن نتعامل معهم في الوطن الواحد على أساس أنَّنا مختلفون في الرؤية والمنهج بشكل عام، لكنَّنا نعيش في بلد واحد، وعلينا البحث عن القواسم المشتركة التي تمكِّننا من الاستمرار معاً، في إطار الشراكة والمسؤولية المشتركة في إدارة البلد وحمايته من الأعداء، وبما لا يتعارض مع ما نؤمن به، وفق منظومة تعاقدية، تتجسد في نظام الحكم القائم على الرضا بين أبناء الوطن الواحد، ولو كان بعنوان الحد الأدنى المشترك، وذلك لينتظم الاجتماع العام في لبنان مع وجود الاختلافات في الرؤية والمنهج.
لبنان ليس دولة إسلامية، وولاية الفقيه ليست جزءاً من دستورها. لبنان بلدٌ متعدد الطوائف، وله دستور وقوانين ناظمة لحكمه، والأصل أن يساهم حزب الله وجمهوره في بناء وإدارة هذا الوطن مع جميع أبنائه. وقد حكم الولي الفقيه بمشروعية عمل حزب الله ضمن واقع النظام القائم في لبنان، فالمشاركة في الانتخابات مشروعة وهي تعبِّر عن تمثيل الناس في البرلمان لحمل قضاياهم والدفاع عن حقوقهم وإقرار القوانين التي تحفظ مصالحهم، والمشاركة في الحكومة بشكل مؤثر مشروعة خاصة عندما تكون طريقاً للقرارات المصيرية والكبرى وما فيه مصلحة البلد، وللمشاريع والقوانين والقرارات والمراسيم التي تتعلق ببناء البلد والانتظام العام ومصالح الناس.
وافق حزب الله على العمل في إطار تنفيذ اتفاق الطائف الذي تحوَّل دستوراً، والذي شكَّل المخرج من الحرب الأهلية الطاحنة التي استمرت خمسة عشر عاماً من سنة 1975 إلى سنة 1990، ورأى أنَّ الملاحظات عليه يمكن متابعتها بحسب الآليات القانونية المعتمدة في الدستور، فهي
لا تتطلب ولا تتحمل انقلاباً جذرياً عليها، وهذا لا يعني أنَّه الحل الأمثل، بل هو الحل الممكن في ظل تعقيدات الواقع اللبناني الداخلية والمؤثرات الإقليمية والدولية عليه، وحرصاً على الاستقرار السياسي والأمني الذي يتطلب قاعدة ارتكاز يُجمع عليها اللبنانيون. لكنَّ هذا لا يمنعنا من الدعوة إلى الأفضل، والاستفادة من الشريعة الإسلامية السمحاء، في إطار توافق مكونات المجتمع، بما يحافظ على الاستقرار وعدم العودة إلى الحرب الأهلية.
استقلالية لبنان: الوطن جامع لأبنائه، وكلهم مواطنوه، لكنَّ القناعات متفاوتة. وهذا حقٌّ مشروع في إطار حرية الإيمان والاعتقاد اللتين كفلهما الدستور، الذي ورد في مقدمته، الفقرة ط: "أرضُ لبنان أرضٌ واحدة لكل اللبنانيين. فلكل لبناني الحق في الإقامة على أي جزء منها، والتمتع به في ظل سيادة القانون، فلا فرز للشعب على أساس أي انتماءٍ كان، ولا تجزئة، ولا تقسيم، ولا توطين"(2)
وجاء في المادة التاسعة: "حرية الاعتقاد مطلقة، والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب، وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها، على أن لا يكون في ذلك إخلالٌ في النظام العام .
وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية"(3)
وفي المادة الثالثة عشرة: "حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة، وحرية الطباعة، وحرية الاجتماع، وحرية تأليف الجمعيات، كلها مكفولة ضمن دائرة القانون"(4)
المهم أن لا يتحول الخلاف العقائدي أو السياسي إلى تقاتل داخلي، لأنَّه يؤدي إلى خسارة الجميع. ولكن لا يوجد في الوطن من يمنح شهادة للآخرين في المواطنة الصالحة أو الوطنية، فالأعمال هي التي تدل على نفسها وعلى أصحابها. ولا يوجد في الوطن من يُعتبر مرجعاً لتحديد سلامة الرؤية أو التفكير المنسجم مع الولاء للوطن، طالما أن الآراء مرتبطة بالرؤى التي يختلف الناس عليها. تبقى قاعدة واحدة تساعد على ضبط الإطار الوطني العام، وهي الاحتكام إلى الدستور والقوانين لحل الخلافات وتحصيل الحقوق، وعدم اللجوء إلى القوة لتغليب رؤية جماعة على أخرى.
تشكَّل لبنان في إطار تقسيم الدولة الإسلامية الكبرى في القرن العشرين، حيث تشكَّلت دولٌ عديدة في المنطقة بحدودها الجغرافية المعترف بها دولياً. وهو بالتالي دولةٌ مستقلة لجميع أبنائها كباقي الدول، وليس مطروحاً أن تنضمَّ إلى بلدٍ مجاور أو غير مجاور، ولها أن تختار مدى التنسيق والتعاون مع البلدان الأخرى، وكذلك أن تكون أو لا تكون جزءاً من اتحادٍ له قواعده مع دول أخرى كما هو حال الاتحاد الأوروبي مثلاً، وأن تتماهى أو لا تتماهى مع أنظمة سياسية لها قضايا مشتركة مع لبنان.
يختلف لبنان بخصوصية تعدُّد طوائفه ونظامه السياسي عن محيطه، ولا بدَّ أن تؤخذ هذه الخصوصية بعين الاعتبار لطمأنة أبنائه. وهو يشترك مع سوريا في حدود جغرافية طويلة (325كلم)، ومصالح سياسية واقتصادية مشتركة، ويواجه عدواً إسرائيلياً توسعياً يحتلُّ من البلدين أجزاءً منهما، وله أطماع كثيرة فيهما، ما يستدعي علاقات مميَّزة مع سوريا، لا تلغي خصوصية واستقلال كل منهما، ولا تُعطي الغلبة بالانقياد لأحدهما في ركب الآخر، وإنما بترجمة هذه العلاقات المميزة بخطط وإجراءات عملية تنفع البلدين.
ونحن نوافق بالكامل على ما ورد في وثيقة الوفاق الوطني اللبناني (اتفاق الطائف) حول العلاقات اللبنانية السورية: "إنَّ لبنان، الذي هو عربي الانتماء والهوية، تربطه علاقات أخوية صادقة بجميع الدول العربية، وتقوم بينه وبين سوريا علاقات مميزة تستمد قوتها من جذور القربى والتاريخ والمصالح الأخوية المشتركة، وهو مفهوم يرتكز عليه التنسيق والتعاون بين البلدين وسوف تجسده اتفاقات بينهما، وفي شتى المجالات، بما يحقق مصلحة البلدين الشقيقين في إطار سيادة واستقلال كل منهما. استناداً إلى ذلك، ولأن تثبيت قواعد الأمن يوفر المناخ المطلوب لتنمية هذه الروابط المتميزة، فإنه يقتضي عدم جعل لبنان مصدر تهديد لأمن سوريا وسوريا لأمن لبنان في أي حال من الأحوال. عليه فإن لبنان لا يسمح بأن يكون ممراً أو مستقراً لأي قوة أو دولة أو تنظيم يستهدف المساس بأمنه أو أمن سوريا. وإنَّ سوريا الحريصة على أمن لبنان واستقلاله ووحدته ووفاق أبنائه لا تسمح بأي عمل يهدد أمنه واستقلاله وسيادته"(5).
نحن ندعو إلى الالتزام بهذا النص وترجمته عملياً.
قضية فلسطين: يشترك لبنان مع فلسطين بحدود طولها 72 كلم. وقد غصب الصهاينة القادمون من شتى أنحاء العالم أرض فلسطين، فاحتلوها بإشراف وتواطؤ دولي من خلال عصبة الأمم المتحدة، وبرعاية مباشرة من بريطانيا، فسيطروا في المرحلة الأولى عام 1948 على ثلاثة أرباع مساحة فلسطين، ثم أكملوا احتلالهم لباقي فلسطين عام 1967، واحتلوا معها أراضيَ عربية أخرى من مصر وسوريا والأردن، ثم اجتاحوا جنوب لبنان عام 1978 فاحتلوا منه مساحة 500 كلم2 ضمَّت 61 مدينة وقرية، ثم اجتاحوا لبنان مجدداً عام 1982 وسيطروا على ثلث مساحته تقريباً، ثم ما لبثوا أن انسحبوا بفعل ضربات المقاومة إلى مساحة احتلال بلغت في العام 1985 نصف محافظتي الجنوب والنبطية بما يعادل 1100كلم2 أي حوالى 11% من مساحة لبنان شملت 168 مدينة وقرية. ولم تنسحب إسرائيل من لبنان في العام 2000 بعد 22 سنة من الاحتلال إلاَّ بجهاد المقاومة، التي كان لحزب الله الدور الأبرز فيها، وبقيت مزارع شبعا وتلال كفرشوبا محتلة.
إسرائيل عدو محتلٌّ لفلسطين وجزءٍ من لبنان وأراضٍ عربية أخرى. فهي بالميزان الديني معتدية ومحتلة وظالمة لشعب فلسطيني مجاورٍ لنا، يشترك معنا في قضايا كثيرة، فضلاً عن احتلالها لأرضنا في لبنان. وبالميزان الوطني فإسرائيل تحتل أرضنا اللبنانية، وتشكل خطراً يومياً علينا، كما انعكس احتلالها لفلسطين تهجيراً للاجئين الفلسطينيين إلى لبنان. ولها أطماع سياسية واقتصادية توسعية في لبنان والمنطقة تجعل منها أزمة حقيقية تواجه لبنان وفلسطين وبلدان المنطقة.
أن نؤمن بتحرير فلسطين فهذا مرتبط بإيماننا وقناعتنا بحق الشعب الفلسطيني في أرضه، وعدم مشروعية الاحتلال الإسرائيلي ولو دعمته دول العالم في إطار لعبة المصالح. وأن نرى وجوب تحرير فلسطين فلأنها أرض مقدسة للمسلمين والمسيحيين، ومهدٌ للأنبياء والمرسلين، ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليها، وأول قبلة للمسلمين في صلاتهم، وفيها شعبٌ نشترك معه بالجوار وأمور كثيرة، يجعل لهم علينا حق الأخوة في دعم مشروعهم للتحرير.
ومن الطبيعي أن يكون أصحاب الأرض طليعة الذين يعملون لتحرير أرضهم، وليس مطروحاً ولا ممكناً أن ينوب شعبٌ في أرض أخرى عن أصحاب الأرض في تحريرها من الاحتلال. وقد سجّل التاريخ المعاصر ملاحم البطولة والفداء للشعب الفلسطيني المجاهد في مقاومته التي لم تتوقف، بل هي في تصاعد مستمر رغم الضغوطات والمؤامرات الدولية والإقليمية وجرائم إسرائيل وعدوانها.
ولكنَّ النصرة لهذا الشعب مطلوبة، بحسب الإمكانات المتاحة والظروف الملائمة، التي يعود تقديرها للمؤمنين بالنصرة، وهذا أقل الإيمان. وبما أنَّ العالم اليوم قرية كونية واحدة، وتتداخل مصالح الدول والقوى المختلفة، وتتشكَّل التحالفات التي تتعارض مع خصوصيات ومشاريع دول وجهات مستقلة، فمن السذاجة والخطأ أن ننأى بأنفسنا عن دعم القضايا المحقَّة في منطقتنا ومحيطنا بما يمسنا بنتائجه في نهاية المطاف. ففي الدعم للقضية الفلسطينية نصرةٌ لها، وتعطيلٌ لمشاريع التوسع العدواني الإسرائيلي، وتأديةٌ للواجب، في مقابل الدعم المطلق دولياً للإجرام والاحتلال الإسرائيلي.
ومن الموقع الوطني اللبناني يشكل هذا الدعم إرباكاً للعدو في ساحة احتلاله، وإضعافاً لتأثيره في ساحتنا، ولا تعارض بين دفاعنا عن بلدنا ومناصرة إخواننا في دفاعهم عن بلدهم، بل يكمِّل كل منهما الآخر في تحقيق الحد الأدنى من حماية بلدنا من الشر الإسرائيلي المزروع في هذه المنطقة.
نجاحات حزب الله: يرى حزب الله وجوب الجهاد وقتال إسرائيل لإنهاء احتلالها وعودة الأراضي المحتلة إلى أهلها. ويرى وجوب تحرير فلسطين والقدس، كما يرى وجوب تحرير الأرض اللبنانية المحتلة. ولأن الجهاد يستلزم الشهادة والجَرح وسقوط الدماء، فلا بدَّ من الحصول على إذنٍ بشرعية الجهاد ضد إسرائيل، كي لا يكون القتال عبثياً أو رمياً بالنفس إلى التهلكة، فسقوط الدم وإزهاق الروح مسؤولية لا يملك الفرد التفريط فيها.
ومع الإجازة الشرعية من الولي الفقيه يكون المقتول شهيداً عند الله تعالى وله أجر الشهداء، وتبرأ ذمة المكلف مهما كانت نتائج هذا العمل. أمَّا ضوابط الإعداد والتنظيم والتسلح والتخطيط والقيام بالعمليات وكل ما يحيط بمواجهة إسرائيل، فهي من مختصات قيادة حزب الله، في المكان والزمان والكيفية والأولوية، بما يتناسب مع القدرة وتقدير المصلحة والظروف الموضوعية.
بدأ حزب الله مقاومته للاحتلال الإسرائيلي في لبنان مع نشأته عام 1982، وجعل أولويته قتال العدو الإسرائيلي المحتل، في مناطق ومواقع احتلاله في لبنان. ولم يربط عملياته العسكرية بأي تحرك سياسي أو دبلوماسي لقناعته بعقمه وعدم جدواه، في ظل واقع دولي يدعم إسرائيل بالكامل، ويهيئ لها مقومات ترسيخ احتلالها واستثماره. ثم تبيَّن صحة الرهان على المقاومة، فقد طال زمن الاحتلال 22 سنة إلى التحرير المشرِّف في 25 أيار من العام 2000، من دون أن تتقدم الحلول السياسية خطوة واحدة، ومن دون تنفيذ القرار الدولي 425 القاضي بوجوب انسحاب إسرائيل من لبنان. وأنجزت المقاومة الإسلامية في هذا التاريخ بدعم شعب لبنان وجيشه وسوريا وإيران وكل المؤمنين بالمقاومة كخيار، تحريراً مشرفاً عزيزاً من دون أي ثمن سياسي، لقد كان تحريراً نظيفاً ومضيئاً. وفي الوقت نفسه، سقط خيار فريق من اللبنانيين من الذين تعاملوا مع إسرائيل سقوطاً مدوياً، وهم الذين اعتبروا العمالة والتبعية لإسرائيل وطنية، وخدموا المشروع الإسرائيلي لترسيخ احتلاله في لبنان ضد أهلهم وشعبهم، ووقفوا أكياس رمل ليدافعوا عنه عسكرياً وسياسياً بحجة مصلحة لبنان، إلاَّ أنَّ الاحتلال لا يملك أي صفة وطنية فضلاً عن منحها، والعمالة للعدو تخرِّب الوطن وتضيِّعه وتُفقده استقلاله. وقد حمى الله تعالى لبنان من رؤيتهم الضَّالة وعملهم المنكر، ببركة وعي الشعب اللبناني والتفافه حول مقاومته ضد الاحتلال.
حقَّق حزب الله هدفاً كبيراً بتحرير لبنان، وتماهى في ذلك مع رؤية كل مواطن يريد بلده محرَّراً ومستقلاً. لم تكن مقاومته نيابةً عن أحد، بل هي جزء من إيمانه وقناعته، ولم يفتح جبهةً مغلقة كرمى لعيون أحد، فالاحتلال الصهيوني أتى إلينا واحتل أرضنا، وكان القتال ضد مواقع الاحتلال، ولم يغامر فيما أنشأه وطوَّره من العمل المقاوم، إذ لا تتوقع أي مقاومة أن تحصد نتائج عملها سريعاً، وهي مصحوبةٌ عادةً بالتضحيات والآلام التي تُعتبر أقل من كلفة الاحتلال، لكنَّها تأمل بالفوز والتحرير، وهذا ما حصل في إنجاز التحرير المدوي، وبفترة زمنية قياسية، مع قلة العدد والعدة، في مواجهة التآمر الدولي، وتفوُّق قدرة العدو العسكرية.
حدَّد حزب الله نظرته للمقاومة ودورها في وثيقته السياسية كالتالي: "تَحقَّقَ هذا الإنجاز الوطني للمقاومة بمؤازرة شعب وفيٍّ وجيش وطني، وأَحبطَ أهدافَ العدو وأوقعَ به هزيمةً تاريخيةً، لِتَخْرج المقاومة بمجاهديها وشهدائها ومعها لبنان بشعبه وجيشه بانتصارٍ عظيم أسَّس لمرحلةٍ جديدة في المنطقة عنوانها محورية المقاومة دوراً ووظيفةً في ردع العدو وتأمين الحماية لاستقلال الوطن وسيادته والدفاع عن شعبه واستكمال تحرير بقية الأرض المحتلة.
إنَّ هذا الدور وهذه الوظيفة ضرورةٌ وطنيةٌ دائمةٌ دوام التهديد الإسرائيلي ودوام أطماع العدو في أرضنا ومياهنا ودوام غياب الدولة القوية القادرة، وفي ظل الخلل في موازين القوى ما بين الدولة والعدو - الخلل الذي يدفع عادةً الدول الضعيفة والشعوب المستهدفة من أطماع وتهديدات الدول المتسلطة والقـوية، إلـى البحث عن صيغ تستفيد من القدرات والإمكانات المتاحة - فإنَّ التهديد الإسرائيلي الدائم يفرض على لبنان تكريس صيغة دفاعية تقوم على المزاوجة بين وجود مقاومةٍ شعبية تساهم في الدفاع عن الوطن في وجه أي غزو إسرائيلي، وجيشٍ وطني يحمي الوطن ويثبِّت أمنه واستقراره، في عملية تكاملٍ أثبتت المرحلة الماضية نجاحها في إدارة الصراع مع العدو وحقَّقت انتصاراتٍ للبنان ووفرت سبل الحماية له.
هذه الصيغة، التي توضع من ضمن استراتيجية دفاعية، تشكّل مظلّة الحماية للبنان، بعد فشل الرهانات على المظلات الأخرى، سواء أكانت دُوليّة أم عربية أم تفاوضية مع العدو، فانتهاج خيار المقاومة حقّق للبنان تحريراً للأرض واستعادةً لمؤسسات الدولة وحمايةً للسيادة وإنجازاً للإستقلال الحقيقي"(6)
سيستفيد من نجاح خيار المقاومة كل من يؤمن بها ويدعمها، وسيتضرر وينزعج كل من أيَّد إسرائيل واحتلالها. ربحت المقاومة الفلسطينية من كسر شوكة إسرائيل في لبنان، واستفادت من تجربة مقاومة حزب الله بعد أن استفاد الحزب من تجربتها، وانطلقت مجدداً انتفاضة المسجد الأقصى المسلحة بعد تحرير العام 2000، بأملٍ يحدوها في أن يتكرر ما حصل في لبنان.
وربحت سوريا من إضعاف عدونا المشترك إسرائيل، الذي فشل في استثمار احتلاله في لبنان، ولم يتمكن من ابتزاز سوريا من خاصرتها الرخوة. وربحت إيران عندما فشلت إسرائيل في استمرار احتلالها للبنان، وهذا ما ينسجم مع رؤيتها في كون إسرائيل غدة سرطانية خطرة على المنطقة. واستأنس كل عربي ومسلم وحر، وكل جهة إقليمية أو دولية تؤمن برفع المظلومية والاحتلال عن لبنان. لا تُنقص هذه الأرباح شيئاً من ربح لبنان، بل لا يمكن أن يتحقق لأيّ منها هذا الربحُ لولا ربح لبنان ومقاومته، فالكسب أولاً لمشروع تحرير لبنان، ولكل من أطلقه وضحى لأجله.
خسرت أمريكا في لبنان لأنها لم تستطع إلزامه بخياراتها الشرق أوسطية، ولم تنجح مؤامراتها المتتالية لإنهاء المقاومة في لبنان، وانكسرت ذراعها الإسرائيلية بالتحرير عام 2000 وبهزيمة الصهاينة في تموز 2006، ولم يتمكن مؤيدو سياساتها في لبنان من تحقيقها، وخسر مناصرو التسوية السياسية في لبنان والمنطقة لأنَّ فشل إسرائيل في لبنان سيعطِّل فرض شروطها السياسية، وسيكون لبنان حجر عثرة حقيقية بوجه التوطين الناتج عن التسوية المزعومة، وبالتالي خسرت كل الدول والاتجاهات التي أرادت لبنان معبراً لتثبيت الكيان الإسرائيلي كدولة مستقرة في المنطقة.
انعكس نجاح مقاومة حزب الله في طرد إسرائيل بتألُّقه على الساحة السياسية في لبنان، والالتفاف الجماهيري الواسع حوله، ومناصرة قوى سياسية فاعلة ووازنة للمشروع المقاوم. وقد اكتسب حزب الله هذا الموقع والدور من الأولوية التي أعطاها للمقاومة على ما عداها، فقوي بها وقويت به، وأصبح قوة سياسية فاعلة ومؤثرة في لبنان.
هذا النجاح مدينٌ للرؤية، والعمل الدؤوب بتضحية وصبر، والاستفادة من الظروف السياسية والموضوعية التي أحاطت بهذه المرحلة. وقد ملأ الحزب فراغ تعثر الدولة اللبنانية بأجهزتها وقدراتها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي للبنان، وحرص على التمييز بين أدائه المقاوم وموقعه في النظام السياسي في لبنان، فلم يستثمر مقاومته لتحقيق المكاسب ضمن مشروع الدولة، بل عمل كجهة سياسية كالجهات الأخرى، يشارك في الحكم وبناء الدولة، ويعتمد آليات العمل السياسي المعروفة، كالمشاركة في الانتخابات، ويقبل بنتائجها، ويساهم في جلسات الحوار للاتفاق على القضايا الكبرى الرئيسة في البلد، ويشارك في حكومة الوحدة الوطنية كمكوِّن رئيس مع المعارضة الفاعلة الموجودة في لبنان، ويحمل مطالب الناس وقضاياهم لمعالجتها، ضمن أطر الدولة وأجهزتها، وكذلك أبقى حزب الله على اهتمامه بالمقاومة من أجل التحرير ومواجهة الخطر الإسرائيلي.
الحضور القوي للحزب: تنامى دور حزب الله في لبنان، وتقدَّم على كل الأصعدة، بسبب أهدافه وبرامجه لتحقيق هذه الأهداف. فقد أعطى نموذجاً مميزاً للمقاومة والمقاومين، واهتم بالشؤون الاجتماعية للناس، وأولى رعايته لمؤسسات المجتمع المدني، والتزم إعمار ما هدَّمه العدوان الإسرائيلي فيما لم تتبنّه الدولة، وصدَقَ مع الناس في مدى قدرته على معالجة قضاياهم من ضمن واقع الدولة المربك والمتخلِّف، ووفَّر من جانبه كل عناصر المساهمة في تدعيم السلم الأهلي، ورفض الانجرار إلى الفتنة المذهبية والفتنة الطائفية، وبذل جهداً كبيراً وتضحيات كثيرة لتعطيل مشاريع الفتنة، ونسج علاقات سياسية واضحة وفاعلة في خدمة لبنان، مع قوى وازنة، كالتيار الوطني الحر، من خلال وثيقة تفاهم أكَّدت على البعد الوطني في المشتركات السياسية.
أزعج هذا التنامي قوىً سياسية مخالفة لرؤية حزب الله في استمرار دوره وموقعه المقاوم، وقوىً تراجعت شعبيتها وحضورها ولا زالت تعيش أمجاد التاريخ، فعملت على طرح رؤيتها مطالبةً بتجريد الحزب من قوته المقاومة، اعتقاداً منها بأنَّها تتوازن معه بعد ذلك، وتُقلِّص الفارق بينها وبين الحضور القوي لحزب الله، ولكن كيف نحرِّر باقي الأرض؟ وكيف ندفع خطر المشروع الإسرائيلي الذي يهددنا بالاجتياح والاحتلال والقتل والتوطين؟ وهل تستطيع الدولة اللبنانية بواقعها الحالي وقدراتها الفعلية أن تتصدى للاحتلال وأن تحمي لبنان من دون وجود المقاومة؟
يرى حزب الله أنَّ قدرة المقاومة وإنجازاتها مصلحة كبرى للبنان، ومن لديه قوة لا يفرِّط بها ليقف ضعيفاً ومكشوفاً أمام إسرائيل ويمكن نقاش مستقبل المقاومة ودورها في إطار إستراتيجية دفاعية جدِّية وواقعية، ولكن لا يصح إسقاط القواعد السياسية المجرَّدة على واقعنا بما يؤدي إلى إضعاف لبنان.
فلا يصح شعار حق الدولة وجيشها فقط في مواجهة إسرائيل، على أن تنسحب المقاومة من الميدان مهما كانت النتائج! كل الدول التي ترزح تحت الاحتلال تفتش عن شعبها ليرفدها بالمقاومة، فكيف نتخلى عنها ونحن بأمسِّ الحاجة إليها، وقد أثبتت جدواها وأثمرت نتائجها؟! فلبنان ما زال في دائرة الخطر المحدق الذي يتهدده من إسرائيل.
الدولة في لبنان ضعيفة، ينتشر فيها الفساد والمحاصصة والهدر، وتتعزر فيها سلطة المَزَارع على حساب الدولة القوية، وترزح تحت مديونية تتجاوز الخمسين مليار دولار أمريكي، وتتداخل السلطات فيها إلى درجة التسييس والتطييف لكل شيء، ولم تنطلق الحكومات المتعاقبة بخطوات جدِّية وعملية للإصلاح والتغيير والمحاسبة، وهي ضعيفة بسبب إدارتها وأداء الجهات السياسية المختلفة فيها. إنَّ الانتقال من الضعف إلى القوة، ومن الفساد إلى الإصلاح، ومن المزرعة إلى الدولة، يحتاج إلى تظافر جهود الجميع وتضحياتهم.
إنَّ حضور حزب الله القوي سياسياً وجهادياً لا يتعارض مع وجود الدولة القوية التي لا تشكِّل منافساً له، بل يريحه وجودها لتأمين مصالح الناس بعدالة وتوازن واستقامة. ولم يكن حضور حزب الله القوي على حساب الدولة وبنيتها، بل من رصيد تضحياته وأولوياته، فهو لم يشارك الكثيرين ممن غرفوا من المال العام ومراكز الإدارة. وإذا ما بقيت الدولة على حالتها الحاضرة فلن تكون قوية، حتى ولو لم يكن حزب الله موجوداً، فخلل الدولة بنيوي وعملي.
لم يَسْعَ حزب الله ليحل محل الدولة في أبسط الأمور، حتى في المرحلة التي انتشرت فيها الإدارة المدنية لبعض الأحزاب أثناء الحرب الأهلية. عندما تتقاضى الدولة الرسوم والضرائب، وتعتقل المخلين بالأمن والاجتماع العام والجواسيس، وتقضي بين الناس، وتقرر القوانين، وتصدر المراسيم والقرارات، وتشرف على الانتخابات، وتسير وفق الدستور، فهذا ما يعني أنها تقوم بدورها ولا أحد ينافسها على ذلك، بصرف النظر عن حسن التطبيق أو سوئه.
چ لم يتصدَّ حزب الله لأيٍ من هذه الأمور، وعندما اتهمه بعضهم بأنَّه دولة داخل الدولة، فلأنَّه هالهم أن يكون قوياً في حضوره بين الناس وخدمته لهم وتحريره للأرض، فضاقوا ذرعاً بهذا النموذج، واعتقدوا أن بإمكانهم إرباكه باتهامهم له. لكنَّ هذا الاتهام لا يغيِّر الوقائع. فلكي تكون الدولة قوية تحتاج إلى مسار يعزِّز قوتها. وإذا كانت القوى السياسية قوية فيها فهذه قوةٌ للدولة، وليس إضعافاً لها، طالما أنَّ دور الدولة محفوظ ولا يقترب منه أحد. الدولة القوية هي التي تسلح جيشها وقواها الأمنية بما يتناسب مع حاجاتها الدفاعية والأمنية، وهي التي تعدل بين الناس في الحقوق والواجبات، وتهيئ فرص العمل، وتهتم بالزراعة والصناعة والتجارة وحاجات الناس، وتلبي متطلبات المجتمع... وليست قوتها من ضعف الآخرين.
كل الجهات السياسية موضع تقييم بحسب رؤيتها السياسية. فلا توجد جهة محدَّدة تملك زمام التقييم، وإنما الجميع تحت غرباله، وعلى كلّ منهم إقناع الآخرين بصوابية طروحاته. وإنَّ وجود قوى سياسية متعددة دليلٌ على وجود تمايز بينها، حتى لو كان هذا التمايز محدوداً مع بعضها. وهذه هي طبيعة البشر وطبيعة الحياة السياسية. وهنا يجب أن يكون البحث عن المشتركات للتعاون، كي لا يبقى الخلاف السياسي مؤثراً ومعطلاً لقدرة الدولة.
عندما تثبت التجربة أنَّ حزب الله، الذي طرح رؤيته وأهدافه وبرامجه على الشعب اللبناني، استطاع أن يكون الحزب الأكثر انتشاراً وفعالية ومقبولية، ونسج تحالفات واسعة مع قوى سياسية متعددة، واتخذ موقعه التمثيلي للشعب بجدارة، واعترف العالم بحضوره وتأثيره في الساحة، فهذا يعني أنَّه ركن أساس في استقلال وحضور لبنان.
البحث عن المشروعية: كل جماعة في لبنان تبحث عن مشروعية عملها بالاستناد إلى ما تؤمن به. فمنهم من يرى مشروعية عمله من قيادته المحلية بالكامل، فيحمل رؤيتها للعمل في لبنان سياسياً واجتماعياً، ويفصل بين المشروعية السياسية والمشروعية الدينية الفردية، فيأخذ مشروعيته الدينية العبادية من مصدر آخر كالفاتيكان أو بطريركية إنطاكية أو من الأزهر أو من السعودية أو من النجف الأشرف... ومنهم من يدَّعي التزام المشروعية السياسية المحلية، لكنَّه يلتزم ضوابط التوجيه السياسي الإقليمي والدولي، وهو يبرِّر ذلك بالصداقة أو الدعم. وهذا خيار يختلط فيه البحث عن المشروعية السياسية بالتبعية للآخر، ومع ذلك فهو خيار موجود عند بعض الجهات في لبنان. ومنهم من يؤمن بضرورة تغيير النظام في لبنان، ويرفض التعايش معه، ويرى منهجاً آخر لإدارة شؤون البلد، لكنه يلتزم العمل السلمي للتغيير، ومنهم غير ذلك.
إذاً، نحن أمام رؤى متفاوتة في دفاع الجهات المختلفة عن رؤاها.
لكن الجميع -تقريباً- قد تسالم على التزام الدستور والقوانين الناظمة لعلاقات الناس مع بعضهم، والتعبير عن رؤاهم في إطار هذه القوانين.
المصادر :
1- يونس: 99.
2- الدستور اللبناني، ص: 8.
3- المصدر نفسه، ص: 11.
4- المصدر نفسه، ص: 13.
5- وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، مجلس النواب، ص: 17 و 18.
6- الوثيقة السياسية لحزب الله، الفصل الثاني،المقاومة، نُشرت في الصحف بتاريخ 1/12/2009.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.