
حصل خلاف حول دور الفقيه سعة وضيقاً، فمن الفقهاء من قال بولاية الفقيه الخاصة، أي الولاية المحدودة تنفيذياً وإدارياً في الأمور التي لا يرضى الشارع المقدس باهمالها وتركها، ولا بدَّ من القيام بها رعاية لشؤون المسلمين ومصالحهم، كالولاية على أموال اليتيم، وأموال الغائب، والأوقاف والوصايا التي لا وصي عليها، وكل ما من شأنه أن يحتاج إلى متابعة ورعاية وإجراء لعدم وجود الولي المباشر كالأب والوصي، وتسمى هذه الأمور بـ "الأمور الحسبية" التي يحتسب فيها الفقيه أجره على الله تعالى، ولا يرضى الشارع المقدس بإهمالها وتركها، فيقوم بها حفظاً للانتظام العام.
فعلى هذا المبنى، ولايةُ الفقيه الخاصة ولايةٌ ضيقة ومحدودة تنفيذياً، وإن كان الفقيه معنياً بتبيان الأحكام الشرعية للمكلفين، وهذا ما قام به مراجع التقليد من بداية عصر غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، فكتبوا "الرسائل العملية" التي تحدد الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات، وأصدروا الفتاوى في المسائل الخاصة أو المستحدثة، واستلموا أموال الخمس والزكاة والكفارات، وصرفوا الأموال الشرعية على الفقراء والمساكين والحوزات الدينية والتبليغ والأعمال الاجتماعية والثقافية والخيرية العامة، وأشرفوا على الأمور الحسبية.
ومن الفقهاء من قال بولاية الفقيه العامة، وهي الولاية المطلقة تنفيذياً وإدارياً، والتي تتضمن كل ما ذكرناه عن الولاية الخاصة وتبيان الأحكام الشرعية للمكلفين، يُضاف إليها إدارة شؤون المسلمين على مستوى كل الأمة في السياسات العامة، وتحديد المصالح والأولويات والواجبات، والأمر بالجهاد أو عدمه، وكيفية تعاطي جماعة المسلمين مع أحكام الإسلام في بلدانهم، على ضوء الواقع المحلي والدولي.
يقول الإمام الخامنئي دام ظله: "المراد بالولاية المطلقة للفقيه الجامع للشرائط هو أنَّ الدين الإسلامي الحنيف - الذي هو خاتم الأديان السماوية، والباقي إلى يوم القيامة - هو دين الحكم، وإدارة شؤون المجتمع، فلا بد أن يكون للمجتمع الإسلامي بكل طبقاته ولي أمر، وحاكم شرع، وقائد ليحفظ الأمة من أعداء الإسلام والمسلمين، وليحفظ نظامهم، وليقوم بإقامة العدل فيهم، وبمنع تعدي القوي على الضعيف، وبتأمين وسائل التقدم والتطور الثقافية، والسياسية، والاجتماعية، والازدهار لهم"(1)
برزت ولاية الفقيه العامة مع الإمام الخميني قدس سره وكأنَّها فكرة جديدة في نظرة علماء المسلمين إليها، مع العلم بأنَّ علماء كباراً في التاريخ الإسلامي قد قالوا بها، كالشيخ المفيد، والشيخ الطوسي، والعلامة الحلي، والشهيد الثاني العاملي، والشيخ النجفي صاحب كتاب الجواهر، كما قال بها جمع من العلماء المعاصرين كالسيد البروجردي، والسيد الكلبايكاني، والشهيد السيد محمد باقر الصدر، لكنَّ الظروف التاريخية للعلماء والمؤمنين لم تكن سانحة في السابق للتعبير عنها عملياً وبشكل واسع، وحتى في الأطر الأضيق من إقامة الدولة الإسلامية، لعدم وجود السلطة بأيديهم، أو عدم ملاءمة الأجواء المحيطة بهم لإِعْمال ولايتهم، فالأمر لا يقتصر على وجود المؤهَّل لولاية الأمر أو القناعة بها، بل يستلزم وجود المؤمنين الموالين الذين يستطيعون تطبيق أوامر ونواهي ولي الأمر في حياتهم العامة.
والذي أدَّى الى بروزها بهذا الشكل وهذه السعة مع الإمام الخميني قدس سره، سببان رئيسان:
الأول: مستوى الاهتمام بها من قِبَله، وتفصيلها في مجموعة من المحاضرات التي ألقاها أثناء نفيه في النجف الأشرف، والتي بيَّن فيها رؤيته عن ولاية الفقيه، وقد جُمعت في كتاب "الحكومة الإسلامية".
الثاني: تطبيقها العملي بسقوط الشاه وقيام الجمهورية الإسلامية في إيران، وكتابةُ دستورٍ مبني على الالتزام بولاية الفقيه كركيزة أساسية في الحكم.
إنَّ تصدي الإمام الخميني قدس سره لولاية الأمر لم يسبقه مثيل منذ زمن الأئمة عليهم السلام. وقد حاز على الموقع بأهليته وجدارته الفقهية والسياسية. وليس كل من تصدى بعنوان الولاية أو الخلافة أو الإمارة يستحق هذا الموقع بمجرد تصديه، وليس الولي على الشريعة من يحكم المسلمين كيفما كان براً أو فاجراً، فالأمر منوط- بحسب هذا المنهج- بمن يملك التقوى والكفاءة العلمية والقيادية.
صلاحيات الولي الفقيه: يُبيِّن الإمام الخميني قدس سره رؤيته في ولاية الفقيه، فيقول: "فتوهُّم أن صلاحيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحكم كانت أكثر من صلاحيات أمير المؤمنين عليه السلام، وصلاحيات أمير المؤمنين عليه السلام أكثر من صلاحيات الفقيه، هو توهُّم خاطئ وباطل. نعم إنَّ فضائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالطبع هي أكثر من فضائل جميع البشر، لكن كثرة الفضائل المعنوية لا تزيد في صلاحيات الحكم.
فالصلاحيات نفسها التي كانت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام في تعبئة الجيوش، وتعيين الولاة والمحافظين، واستلام الضرائب وصرفها في مصالح المسلمين، قد أعطاها الله تعالى للحكومة المفترضة هذه الأيام. غاية الأمر لم يعيِّن شخصاً بالخصوص، وإنما أعطاه لعنوان العالِم العادل"(2)
إنَّ صلاحية الولي الفقيه هي كصلاحية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصلاحية الإمام عليه السلام، انطلاقاً من موقعه ومسؤوليته في قيادة الأمة، وهو موقع تنفيذي، له صلاحية الإدارة والآمرية الكاملتين، ولا يوجد ربط بين هذه الصلاحية والوحي، فالوحي للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقط، والإلهام للإمام عليه السلام، والاجتهاد على ضوء الكتاب والسنة للفقيه في تحديد الأحكام الشرعية. إذاً الصلاحية ملازمة للقيادة، أمَّا المكانة والفضائل فيتمايز بها البشر، وهي مسألة أخرى لا علاقة لها بصلاحية قيادة الأمة.
وبما أنَّ الاجتهاد المؤدي إلى تحديد الأحكام الشرعية الفردية لا يكفي لإدارة شؤون الأمة، يقول الإمام الخميني قدس سره : "لا يكفي الاجتهاد المصطلح عليه في الحوزات، بل حتى ولو وجد إنسان هو الأعلم في العلوم المعروفة في الحوزات، لكنَّه غير قادر على تشخيص مصلحة المجتمع، أو لا يقدر على تشخيص الأفراد الصالحين والمفيدين من الأفراد غير الصالحين، ويفتقد بشكل عام للرأي الصائب في المجال الاجتماعي والسياسي والقدرة على اتخاذ القرار، فإن مثل هذا الإنسان يكون غير مجتهد في المسائل الاجتماعية والحكومية، ولا يمكنه التصدي لاستلام زمام المجتمع"(3).
فالاكتفاء بمرجع التقليد لا يملأ الفراغ في إدارة شؤون الأمة، لذا تكون الحاجة قائمة للولي الفقيه الذي حصل على درجة الاجتهاد، وتصدَّى لإدارة هذه الشؤون، سواءً أكان مرجع التقليد نفسه الذي يجمع بين المرجعية والولاية، أو كان مرجع التقليد شخصاً آخر، في تمايزٍ واضح بين المهمتين، مع أنَّ الجمع أفضل عند توفره في شخص الفقيه الواحد، هذا ما حصل مع الإمام الخميني قدس سره، وما هو حاصلٌ اليوم مع الإمام الخامنئي دام ظله، لمن آمن بولاية الفقيه العامة والتزم بها.
ينطلق الولي الفقيه من رؤيته الإسلامية لرسم السياسات العامة للأمة، ووضع الحلول المناسبة لقضاياها ومشاكلها، بما يحفظ قوتها واستقرارها وحريتها وازدهارها، وهو الحكيم الذي يعطي أحكاماً تتناسب مع متطلبات الواقع ولا تكون تجريدية، وهو العادل الذي يعطي كل ذي حق حقه، ويتصرف بما يواكب الفطرة الإنسانية، وهو المنصف الذي يراعي متطلبات الانتظام الإنساني في ظل الخلافات العقائدية والفكرية بين الناس، وهو الحصيف الذي يتخذ الموقف السليم على ضوء الظروف الموضوعية التي تعيشها الجماعة الملتزمة ولايته في أي بلد من بلدان العالم، وهو الذي لا يأمر المكلفين بما لا يستطيعونه بحسب قدرتهم وخصوصية ظروفهم.
فالولي الفقيه قائدٌ، عاقلٌ، حكيمٌ، عادلٌ، منصفٌ، حصيفٌ، موضوعي، يقود بناء لضوابط إيمانه وتقواه وكفاءته وخوفه من الله تعالى ورعايته لمصالح المكلفين.
يقرِّر الولي الفقيه التوجهات العامة، والسياسات الإجمالية الكبرى، ويرسم حدود وضوابط الجهاد في حماية الأمة من أعدائها والدفاع عن أوطانها، ويعيِّن ضوابط المشاركة السياسية المشروعة وحدودها، ويحث على الدعوة والتبليغ لنشر الإسلام، ويحكم بكل ما من شأنه أن يكون قاعدةً أو موقفاً عاماً شاملاً وذلك بتحديد معالمه الكبرى والأساسية، ما يشكل أهدافاً ومساراً للمؤمنين بولاية الفقيه.
لكنَّه لا يتدخل في الجزئيات والتفاصيل، ولا يتدخل بالإدارة المباشرة، ولا يتجاوز خصوصيات المؤمنين في بلدانهم، فقراراته أسس وقواعد، ولكل جماعة قيادتها الميدانية، وآليات عملها، وتعبيرها عن آرائها وقناعاتها، وكيفية نشاطها السياسي، وإعدادها العدة لمواجهة العدو والمحتل، وهيكليتها التنظيمية والإدارية، ومتابعة قراراتها والتزاماتها، وكيفية المشاركة بعد الحكم بمشروعيتها وفي حدودها، في تركيبة النظام السياسي القائم...
فالسياسات العامة التي يرسمها الولي الفقيه إطارٌ للمشروعية الدينية لعمل حزب الله، أمَّا الأداء والتحرك السياسي والجهادي والاجتماعي وكل حركة الحزب فمسؤولية قيادة حزب الله المنتخبة من كوادره، وهي الشورى التي يرأسها الأمين العام، ضمن آليات العمل الحزبية في توزيع المهام والصلاحيات.
الإيمان بولاية الفقيه
ما هو موقع من لا يؤمن بولاية الفقيه العامة من الفقهاء والمسلمين؟
يقول الإمام الخامنئي دام ظله : "ولاية الفقيه في قيادة المجتمع وإدارة المسائل الاجتماعية في كل عصر وزمان من أركان المذهب الحق الاثني عشري، ولها جذور في أصل الإمامة، ومن أوصله
الاستدلال إلى عدم القول بها فهو معذور، ولكن لا يجوز له بث التفرقة والخلاف"(4)
ويقول: "عدم الاعتقاد اجتهاداً أو تقليداً بولاية الفقيه المطلقة في زمن غيبة الإمام الحجة (أرواحنا فداه)، لا يوجب الإرتداد والخروج عن الإسلام"(5)
فمن آمن بولاية الفقيه التزمها، ومن لم يؤمن بولاية الفقيه معذور اجتهاداً إذا كان فقيهاً، وتقليداً إذا كان مكلفاً مقلِّداً، ولكنَّه مسؤول شرعاً كفقيه أو مقلِّد في إطاعة أوامر الولي الفقيه في قضايا المسلمين العامة، ذلك أنَّ الولي الفقيه هو المتصدي، ولا محل لرأي فقيه آخر يعارضه في التصدي لبعض الشؤون العامة طالما أنه ليس المتصدي الأول والقائد المسؤول، ولا يملك صلاحية الرفض أو المواجهة أو توجيه مقلديه في مرجعيته إلى مخالفة الولي الفقيه المتصدي لشؤون الأمة، فهو ليس مسؤولاً عنها بحسب موقعه، ولا يملك الصلاحية لذلك، فإذا تدخَّل مخالفاً اختلَّ النظام العام مع المخالفة، وتبعثرت قدرة الأمة، وضاعت في تحديد مسؤولياتها وأولوياتها تجاه القضايا العامة المختلفة.
وفي تفصيل وتوضيح صورة وجوب التزام الفقهاء وعموم المقلِّدين طاعة الولي الفقيه، يبيِّن الإمام الخامنئي دام ظله هذا الأمر في عدة نصوص نذكرها للفائدة:
1- "طبقاً للفقه الشيعي، يجب على كل المسلمين إطاعة الأوامر الولائية الشرعية الصادرة من ولي أمر المسلمين، والتسليم لأمره ونهيه، حتى على سائر الفقهاء العظام، فكيف بمقلديهم! ولا نرى الالتزام بولاية الفقيه قابلاً للفصل عن الالتزام بالاسلام وبولاية الأئمة المعصومين عليهم السلام "(6)
2- "يجب إطاعة أوامر ولي أمر المسلمين في الأمور العامة التي منها الدفاع عن الإسلام والمسلمين ضد الكفرة والطغاة المهاجمين"(7)
3- "اتِّباع حكم ولي أمر المسلمين واجب على الجميع، ولا يمكن لفتوى مرجع التقليد المخالِفة أن تعارضه"(8)
4- "رأيُ ولي أمر المسلمين هو المتَّبَع في المسائل المتعلقة بإدارة البلد الإسلامي، وبالقضايا العامة للمسلمين، وكل مكلف يمكنه اتباع مرجع تقليده في المسائل الفردية المحضة"(9)
توجد نظريات إسلامية أخرى مختلفة عن نظرية ولاية الفقيه في إدارة شؤون الأمة، فبعضهم يعتبر الحاكم باسم الإسلام ولياً للأمر ولو لم يكن مجتهداً، وذلك بمجرد تنصيبه وإعلانه الالتزام بالأحكام الإسلامية في شؤون الدولة، وهو غير الفقيه في الدولة. وبعض الآخر يدعو إلى نظام الخلافة على أن تكون البيعة لولي الأمر من خلال "أهل الحل والعقد".
وبعض ثالث يدافع عن الوراثة التي نشأت في التاريخ الإسلامي لاهتمامه بعنوان الحكم الإسلامي بصرف النظر عن شخص الولي الحاكم. وتوجد آراء أخرى في هذا المجال، لا إمكانية لعرضها ومناقشتها في هذه الدراسة المختصرة، كي لا نخرج عن هدفنا في الإكتفاء بعرض رؤيتنا عن دور الولي الفقيه.
المصادر :
1- الإمام الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات، ج1، ص:24.
2- الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، ص:86.
3- منهجية الثورة الإسلامية، ص: 163.
4- الإمام الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات، ج1، ص:23.
5- المصدر نفسه، ص:22.
6- المصدر نفسه، ص:23.
7- المصدر نفسه، ص:21.
8- المصدر نفسه، ص:21.
9- المصدر نفسه، ص:20.
فعلى هذا المبنى، ولايةُ الفقيه الخاصة ولايةٌ ضيقة ومحدودة تنفيذياً، وإن كان الفقيه معنياً بتبيان الأحكام الشرعية للمكلفين، وهذا ما قام به مراجع التقليد من بداية عصر غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، فكتبوا "الرسائل العملية" التي تحدد الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات، وأصدروا الفتاوى في المسائل الخاصة أو المستحدثة، واستلموا أموال الخمس والزكاة والكفارات، وصرفوا الأموال الشرعية على الفقراء والمساكين والحوزات الدينية والتبليغ والأعمال الاجتماعية والثقافية والخيرية العامة، وأشرفوا على الأمور الحسبية.
ومن الفقهاء من قال بولاية الفقيه العامة، وهي الولاية المطلقة تنفيذياً وإدارياً، والتي تتضمن كل ما ذكرناه عن الولاية الخاصة وتبيان الأحكام الشرعية للمكلفين، يُضاف إليها إدارة شؤون المسلمين على مستوى كل الأمة في السياسات العامة، وتحديد المصالح والأولويات والواجبات، والأمر بالجهاد أو عدمه، وكيفية تعاطي جماعة المسلمين مع أحكام الإسلام في بلدانهم، على ضوء الواقع المحلي والدولي.
يقول الإمام الخامنئي دام ظله: "المراد بالولاية المطلقة للفقيه الجامع للشرائط هو أنَّ الدين الإسلامي الحنيف - الذي هو خاتم الأديان السماوية، والباقي إلى يوم القيامة - هو دين الحكم، وإدارة شؤون المجتمع، فلا بد أن يكون للمجتمع الإسلامي بكل طبقاته ولي أمر، وحاكم شرع، وقائد ليحفظ الأمة من أعداء الإسلام والمسلمين، وليحفظ نظامهم، وليقوم بإقامة العدل فيهم، وبمنع تعدي القوي على الضعيف، وبتأمين وسائل التقدم والتطور الثقافية، والسياسية، والاجتماعية، والازدهار لهم"(1)
برزت ولاية الفقيه العامة مع الإمام الخميني قدس سره وكأنَّها فكرة جديدة في نظرة علماء المسلمين إليها، مع العلم بأنَّ علماء كباراً في التاريخ الإسلامي قد قالوا بها، كالشيخ المفيد، والشيخ الطوسي، والعلامة الحلي، والشهيد الثاني العاملي، والشيخ النجفي صاحب كتاب الجواهر، كما قال بها جمع من العلماء المعاصرين كالسيد البروجردي، والسيد الكلبايكاني، والشهيد السيد محمد باقر الصدر، لكنَّ الظروف التاريخية للعلماء والمؤمنين لم تكن سانحة في السابق للتعبير عنها عملياً وبشكل واسع، وحتى في الأطر الأضيق من إقامة الدولة الإسلامية، لعدم وجود السلطة بأيديهم، أو عدم ملاءمة الأجواء المحيطة بهم لإِعْمال ولايتهم، فالأمر لا يقتصر على وجود المؤهَّل لولاية الأمر أو القناعة بها، بل يستلزم وجود المؤمنين الموالين الذين يستطيعون تطبيق أوامر ونواهي ولي الأمر في حياتهم العامة.
والذي أدَّى الى بروزها بهذا الشكل وهذه السعة مع الإمام الخميني قدس سره، سببان رئيسان:
الأول: مستوى الاهتمام بها من قِبَله، وتفصيلها في مجموعة من المحاضرات التي ألقاها أثناء نفيه في النجف الأشرف، والتي بيَّن فيها رؤيته عن ولاية الفقيه، وقد جُمعت في كتاب "الحكومة الإسلامية".
الثاني: تطبيقها العملي بسقوط الشاه وقيام الجمهورية الإسلامية في إيران، وكتابةُ دستورٍ مبني على الالتزام بولاية الفقيه كركيزة أساسية في الحكم.
إنَّ تصدي الإمام الخميني قدس سره لولاية الأمر لم يسبقه مثيل منذ زمن الأئمة عليهم السلام. وقد حاز على الموقع بأهليته وجدارته الفقهية والسياسية. وليس كل من تصدى بعنوان الولاية أو الخلافة أو الإمارة يستحق هذا الموقع بمجرد تصديه، وليس الولي على الشريعة من يحكم المسلمين كيفما كان براً أو فاجراً، فالأمر منوط- بحسب هذا المنهج- بمن يملك التقوى والكفاءة العلمية والقيادية.
صلاحيات الولي الفقيه: يُبيِّن الإمام الخميني قدس سره رؤيته في ولاية الفقيه، فيقول: "فتوهُّم أن صلاحيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحكم كانت أكثر من صلاحيات أمير المؤمنين عليه السلام، وصلاحيات أمير المؤمنين عليه السلام أكثر من صلاحيات الفقيه، هو توهُّم خاطئ وباطل. نعم إنَّ فضائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالطبع هي أكثر من فضائل جميع البشر، لكن كثرة الفضائل المعنوية لا تزيد في صلاحيات الحكم.
فالصلاحيات نفسها التي كانت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام في تعبئة الجيوش، وتعيين الولاة والمحافظين، واستلام الضرائب وصرفها في مصالح المسلمين، قد أعطاها الله تعالى للحكومة المفترضة هذه الأيام. غاية الأمر لم يعيِّن شخصاً بالخصوص، وإنما أعطاه لعنوان العالِم العادل"(2)
إنَّ صلاحية الولي الفقيه هي كصلاحية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصلاحية الإمام عليه السلام، انطلاقاً من موقعه ومسؤوليته في قيادة الأمة، وهو موقع تنفيذي، له صلاحية الإدارة والآمرية الكاملتين، ولا يوجد ربط بين هذه الصلاحية والوحي، فالوحي للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقط، والإلهام للإمام عليه السلام، والاجتهاد على ضوء الكتاب والسنة للفقيه في تحديد الأحكام الشرعية. إذاً الصلاحية ملازمة للقيادة، أمَّا المكانة والفضائل فيتمايز بها البشر، وهي مسألة أخرى لا علاقة لها بصلاحية قيادة الأمة.
وبما أنَّ الاجتهاد المؤدي إلى تحديد الأحكام الشرعية الفردية لا يكفي لإدارة شؤون الأمة، يقول الإمام الخميني قدس سره : "لا يكفي الاجتهاد المصطلح عليه في الحوزات، بل حتى ولو وجد إنسان هو الأعلم في العلوم المعروفة في الحوزات، لكنَّه غير قادر على تشخيص مصلحة المجتمع، أو لا يقدر على تشخيص الأفراد الصالحين والمفيدين من الأفراد غير الصالحين، ويفتقد بشكل عام للرأي الصائب في المجال الاجتماعي والسياسي والقدرة على اتخاذ القرار، فإن مثل هذا الإنسان يكون غير مجتهد في المسائل الاجتماعية والحكومية، ولا يمكنه التصدي لاستلام زمام المجتمع"(3).
فالاكتفاء بمرجع التقليد لا يملأ الفراغ في إدارة شؤون الأمة، لذا تكون الحاجة قائمة للولي الفقيه الذي حصل على درجة الاجتهاد، وتصدَّى لإدارة هذه الشؤون، سواءً أكان مرجع التقليد نفسه الذي يجمع بين المرجعية والولاية، أو كان مرجع التقليد شخصاً آخر، في تمايزٍ واضح بين المهمتين، مع أنَّ الجمع أفضل عند توفره في شخص الفقيه الواحد، هذا ما حصل مع الإمام الخميني قدس سره، وما هو حاصلٌ اليوم مع الإمام الخامنئي دام ظله، لمن آمن بولاية الفقيه العامة والتزم بها.
ينطلق الولي الفقيه من رؤيته الإسلامية لرسم السياسات العامة للأمة، ووضع الحلول المناسبة لقضاياها ومشاكلها، بما يحفظ قوتها واستقرارها وحريتها وازدهارها، وهو الحكيم الذي يعطي أحكاماً تتناسب مع متطلبات الواقع ولا تكون تجريدية، وهو العادل الذي يعطي كل ذي حق حقه، ويتصرف بما يواكب الفطرة الإنسانية، وهو المنصف الذي يراعي متطلبات الانتظام الإنساني في ظل الخلافات العقائدية والفكرية بين الناس، وهو الحصيف الذي يتخذ الموقف السليم على ضوء الظروف الموضوعية التي تعيشها الجماعة الملتزمة ولايته في أي بلد من بلدان العالم، وهو الذي لا يأمر المكلفين بما لا يستطيعونه بحسب قدرتهم وخصوصية ظروفهم.
فالولي الفقيه قائدٌ، عاقلٌ، حكيمٌ، عادلٌ، منصفٌ، حصيفٌ، موضوعي، يقود بناء لضوابط إيمانه وتقواه وكفاءته وخوفه من الله تعالى ورعايته لمصالح المكلفين.
يقرِّر الولي الفقيه التوجهات العامة، والسياسات الإجمالية الكبرى، ويرسم حدود وضوابط الجهاد في حماية الأمة من أعدائها والدفاع عن أوطانها، ويعيِّن ضوابط المشاركة السياسية المشروعة وحدودها، ويحث على الدعوة والتبليغ لنشر الإسلام، ويحكم بكل ما من شأنه أن يكون قاعدةً أو موقفاً عاماً شاملاً وذلك بتحديد معالمه الكبرى والأساسية، ما يشكل أهدافاً ومساراً للمؤمنين بولاية الفقيه.
لكنَّه لا يتدخل في الجزئيات والتفاصيل، ولا يتدخل بالإدارة المباشرة، ولا يتجاوز خصوصيات المؤمنين في بلدانهم، فقراراته أسس وقواعد، ولكل جماعة قيادتها الميدانية، وآليات عملها، وتعبيرها عن آرائها وقناعاتها، وكيفية نشاطها السياسي، وإعدادها العدة لمواجهة العدو والمحتل، وهيكليتها التنظيمية والإدارية، ومتابعة قراراتها والتزاماتها، وكيفية المشاركة بعد الحكم بمشروعيتها وفي حدودها، في تركيبة النظام السياسي القائم...
فالسياسات العامة التي يرسمها الولي الفقيه إطارٌ للمشروعية الدينية لعمل حزب الله، أمَّا الأداء والتحرك السياسي والجهادي والاجتماعي وكل حركة الحزب فمسؤولية قيادة حزب الله المنتخبة من كوادره، وهي الشورى التي يرأسها الأمين العام، ضمن آليات العمل الحزبية في توزيع المهام والصلاحيات.
الإيمان بولاية الفقيه
ما هو موقع من لا يؤمن بولاية الفقيه العامة من الفقهاء والمسلمين؟
يقول الإمام الخامنئي دام ظله : "ولاية الفقيه في قيادة المجتمع وإدارة المسائل الاجتماعية في كل عصر وزمان من أركان المذهب الحق الاثني عشري، ولها جذور في أصل الإمامة، ومن أوصله
الاستدلال إلى عدم القول بها فهو معذور، ولكن لا يجوز له بث التفرقة والخلاف"(4)
ويقول: "عدم الاعتقاد اجتهاداً أو تقليداً بولاية الفقيه المطلقة في زمن غيبة الإمام الحجة (أرواحنا فداه)، لا يوجب الإرتداد والخروج عن الإسلام"(5)
فمن آمن بولاية الفقيه التزمها، ومن لم يؤمن بولاية الفقيه معذور اجتهاداً إذا كان فقيهاً، وتقليداً إذا كان مكلفاً مقلِّداً، ولكنَّه مسؤول شرعاً كفقيه أو مقلِّد في إطاعة أوامر الولي الفقيه في قضايا المسلمين العامة، ذلك أنَّ الولي الفقيه هو المتصدي، ولا محل لرأي فقيه آخر يعارضه في التصدي لبعض الشؤون العامة طالما أنه ليس المتصدي الأول والقائد المسؤول، ولا يملك صلاحية الرفض أو المواجهة أو توجيه مقلديه في مرجعيته إلى مخالفة الولي الفقيه المتصدي لشؤون الأمة، فهو ليس مسؤولاً عنها بحسب موقعه، ولا يملك الصلاحية لذلك، فإذا تدخَّل مخالفاً اختلَّ النظام العام مع المخالفة، وتبعثرت قدرة الأمة، وضاعت في تحديد مسؤولياتها وأولوياتها تجاه القضايا العامة المختلفة.
وفي تفصيل وتوضيح صورة وجوب التزام الفقهاء وعموم المقلِّدين طاعة الولي الفقيه، يبيِّن الإمام الخامنئي دام ظله هذا الأمر في عدة نصوص نذكرها للفائدة:
1- "طبقاً للفقه الشيعي، يجب على كل المسلمين إطاعة الأوامر الولائية الشرعية الصادرة من ولي أمر المسلمين، والتسليم لأمره ونهيه، حتى على سائر الفقهاء العظام، فكيف بمقلديهم! ولا نرى الالتزام بولاية الفقيه قابلاً للفصل عن الالتزام بالاسلام وبولاية الأئمة المعصومين عليهم السلام "(6)
2- "يجب إطاعة أوامر ولي أمر المسلمين في الأمور العامة التي منها الدفاع عن الإسلام والمسلمين ضد الكفرة والطغاة المهاجمين"(7)
3- "اتِّباع حكم ولي أمر المسلمين واجب على الجميع، ولا يمكن لفتوى مرجع التقليد المخالِفة أن تعارضه"(8)
4- "رأيُ ولي أمر المسلمين هو المتَّبَع في المسائل المتعلقة بإدارة البلد الإسلامي، وبالقضايا العامة للمسلمين، وكل مكلف يمكنه اتباع مرجع تقليده في المسائل الفردية المحضة"(9)
توجد نظريات إسلامية أخرى مختلفة عن نظرية ولاية الفقيه في إدارة شؤون الأمة، فبعضهم يعتبر الحاكم باسم الإسلام ولياً للأمر ولو لم يكن مجتهداً، وذلك بمجرد تنصيبه وإعلانه الالتزام بالأحكام الإسلامية في شؤون الدولة، وهو غير الفقيه في الدولة. وبعض الآخر يدعو إلى نظام الخلافة على أن تكون البيعة لولي الأمر من خلال "أهل الحل والعقد".
وبعض ثالث يدافع عن الوراثة التي نشأت في التاريخ الإسلامي لاهتمامه بعنوان الحكم الإسلامي بصرف النظر عن شخص الولي الحاكم. وتوجد آراء أخرى في هذا المجال، لا إمكانية لعرضها ومناقشتها في هذه الدراسة المختصرة، كي لا نخرج عن هدفنا في الإكتفاء بعرض رؤيتنا عن دور الولي الفقيه.
المصادر :
1- الإمام الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات، ج1، ص:24.
2- الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، ص:86.
3- منهجية الثورة الإسلامية، ص: 163.
4- الإمام الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات، ج1، ص:23.
5- المصدر نفسه، ص:22.
6- المصدر نفسه، ص:23.
7- المصدر نفسه، ص:21.
8- المصدر نفسه، ص:21.
9- المصدر نفسه، ص:20.