هدف خلق الإنسان

إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من روح وجسد وكما يحتاج هذا الجسد للغذاء فإن روحه تحتاج أيضا لذلك وإلا يختل التوازن عند الإنسان فيصبح جسدا بلا روح، لذلك لا بد من الرجوع إلى مدرسة أهل البيت عليهم السلام لنزود
Wednesday, March 7, 2018
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
هدف خلق الإنسان
 هدف خلق الإنسان

إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من روح وجسد وكما يحتاج هذا الجسد للغذاء فإن روحه تحتاج أيضا لذلك وإلا يختل التوازن عند الإنسان فيصبح جسدا بلا روح، لذلك لا بد من الرجوع إلى مدرسة أهل البيت عليهم السلام لنزود هذه الروح بما تحتاج من الزاد حتى تتلاءم في نشأتها مع الجسد المودعة فيه، فكان اختيار خطبة المتقين لسيد الموحدين وإمام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي تكلم عن صفات المتقين والسالكين إلى الله تعالى مبينا صفاتهم وتفانيهم وشوقهم إلى المحبوب الأوحد، الذي ينعكس ذلك على تصرفاتهم بل وسكناتهم فتصبح ساعاتهم وأيامهم كلها لله تعالى فيجدهم الله حيث يحب ويفتقدهم حيث يكره، فكان لهذه الخطبة الجليلة أثرها على أصحابها هادية لهم ومحددة طريقهم وخياراتهم.
رُوِي أنّ صاحِبا لِأمِيرِ الْمُؤْمِنِين عليه السلام يُقالُ لهُ همّامٌ كان رجُلا عابِدا فقال لهُ يا أمِير الْمُؤْمِنِين صِفْ لِي الْمُتّقِين حتّى كأنِّي أنْظُرُ إِليْهِمْ فتثاقل عليه السلام عنْ جوابِهِ ثُمّ قال يا همّامُ اتّقِ اللّه وأحْسِنْ فإِنّ اللّه مع الّذِين اتّقوْا والّذِين هُمْ مُحْسِنُون فلمْ يقْنعْ همّامٌ بِهذا الْقوْلِ حتّى عزم عليْهِ فحمِد اللّه وأثْنى عليْهِ وصلّى على النّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ثُمّ قال عليه السلام:
أمّا بعْدُ فإِنّ اللّه سُبْحانهُ وتعالى خلق الْخلْق حِين خلقهُمْ غنِيّا عنْ طاعتِهِمْ آمِنا مِنْ معْصِيتِهِمْ لِأنّهُ لا تضُرُّهُ معْصِيةُ منْ عصاهُ ولا تنْفعُهُ طاعةُ منْ أطاعهُ فقسم بيْنهُمْ معايِشهُمْ ووضعهُمْ مِن الدُّنْيا مواضِعهُمْ فالْمُتّقُون فِيها هُمْ أهْلُ الْفضائِلِ منْطِقُهُمُ الصّوابُ وملْبسُهُمُ الِاقْتِصادُ ومشْيُهُمُ التّواضُعُ غضُّوا أبْصارهُمْ عمّا حرّم اللّهُ عليْهِمْ ووقفُوا أسْماعهُمْ على الْعِلْمِ النّافِعِ لهُمْ نُزِّلتْ أنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبلاءِ كالّتِي نُزِّلتْ فِي الرّخاءِ ولوْ لا الْأجلُ الّذِي كتب اللّهُ عليْهِمْ لمْ تسْتقِرّ أرْواحُهُمْ فِي أجْسادِهِمْ طرْفة عيْنٍ شوْقا إِلى الثّوابِ و خوْفا مِن الْعِقابِ عظُم الْخالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ فصغُر ما دُونهُ فِي أعْيُنِهِمْ فهُمْ والْجنّةُ كمنْ قدْ رآها فهُمْ فِيها مُنعّمُون وهُمْ والنّارُ كمنْ قدْ رآها فهُمْ فِيها مُعذّبُون قُلُوبُهُمْ محْزُونةٌ وشُرُورُهُمْ مأْمُونةٌ وأجْسادُهُمْ نحِيفةٌ وحاجاتُهُمْ خفِيفةٌ وأنْفُسُهُمْ عفِيفةٌ صبرُوا أيّاما قصِيرة أعْقبتْهُمْ راحة طوِيلة تِجارةٌ مُرْبِحةٌ يسّرها لهُمْ ربُّهُمْ أرادتْهُمُ الدُّنْيا فلمْ يُرِيدُوها وأسرتْهُمْ ففدوْا أنْفُسهُمْ مِنْها أمّا اللّيْل فصافُّون أقْدامهُمْ تالِين لِأجْزاءِ الْقُرْآنِ يُرتِّلُونها ترْتِيلا يُحزِّنُون بِهِ أنْفُسهُمْ ويسْتثِيرُون بِهِ دواء دائِهِمْ فإِذا مرُّوا بِآيةٍ فِيها تشْوِيقٌ ركنُوا إِليْها طمعا وتطلّعتْ نُفُوسُهُمْ إِليْها شوْقا وظنُّوا أنّها نُصْب أعْيُنِهِمْ وإِذا مرُّوا بِآيةٍ فِيها تخْوِيفٌ أصْغوْا إِليْها مسامِع قُلُوبِهِمْ وظنُّوا أنّ زفِير جهنّم وشهِيقها فِي أُصُولِ آذانِهِمْ فهُمْ حانُون على أوْساطِهِمْ مُفْترِشُون لِجِباهِهِمْ وأكُفِّهِمْ ورُكبِهِمْ وأطْرافِ أقْدامِهِمْ يطْلُبُون إِلى اللّهِ تعالى فِي فكاكِ رِقابِهِمْ وأمّا النّهار فحُلماءُ عُلماءُ أبْرارٌ أتْقِياءُ قدْ براهُمُ الْخوْفُ برْي الْقِداحِ ينْظُرُ إِليْهِمُ النّاظِرُ فيحْسبُهُمْ مرْضى وما بِالْقوْمِ مِنْ مرضٍ ويقُولُ لقدْ خُولِطُوا ولقدْ خالطهُمْ أمْرٌ عظِيمٌ لا يرْضوْن مِنْ أعْمالِهِمُ الْقلِيل ولا يسْتكْثِرُون الْكثِير فهُمْ لِأنْفُسِهِمْ مُتّهِمُون و مِنْ أعْمالِهِمْ مُشْفِقُون إِذا زُكِّي أحدٌ مِنْهُمْ خاف مِمّا يُقالُ لهُ فيقُولُ أنا أعْلمُ بِنفْسِي مِنْ غيْرِي وربِّي أعْلمُ بِي مِنِّي بِنفْسِي اللّهُمّ لا تُؤاخِذْنِي بِما يقُولُون واجْعلْنِي أفْضل مِمّا يظُنُّون واغْفِرْ لِي ما لا يعْلمُون فمِنْ علامةِ أحدِهِمْ أنّك ترى لهُ قُوّة فِي دِينٍ وحزْما فِي لِينٍ وإِيمانا فِي يقِينٍ وحِرْصا فِي عِلْمٍ وعِلْما فِي حِلْمٍ و قصْدا فِي غِنى وخُشُوعا فِي عِبادةٍ وتجمُّلا فِي فاقةٍ وصبْرا فِي شِدّةٍ وطلبا فِي حلالٍ ونشاطا فِي هُدى وتحرُّجا عنْ طمعٍ يعْملُ الْأعْمال الصّالِحة وهُو على وجلٍ يُمْسِي وهمُّهُ الشُّكْرُ ويُصْبِحُ وهمُّهُ الذِّكْرُ يبِيتُ حذِرا ويُصْبِحُ فرِحا حذِرا لِما حُذِّر مِن الْغفْلةِ وفرِحا بِما أصاب مِن الْفضْلِ والرّحْمةِ إِنِ اسْتصْعبتْ عليْهِ نفْسُهُ فِيما تكْرهُ لمْ يُعْطِها سُؤْلها فِيما تُحِبُّ قُرّةُ عيْنِهِ فِيما لا يزُولُ وزهادتُهُ فِيما لا يبْقى يمْزُجُ الْحِلْم بِالْعِلْمِ والْقوْل بِالْعملِ تراهُ قرِيبا أملُهُ قلِيلا زللُهُ خاشِعا قلْبُهُ قانِعة نفْسُهُ منْزُورا أكْلُهُ سهْلا أمْرُهُ حرِيزا دِينُهُ ميِّتة شهْوتُهُ مكْظُوما غيْظُهُ الْخيْرُ مِنْهُ مأْمُولٌ والشّرُّ مِنْهُ مأْمُونٌ إِنْ كان فِي الْغافِلِين كُتِب فِي الذّاكِرِين وإِنْ كان فِي الذّاكِرِين لمْ يُكْتبْ مِن الْغافِلِين يعْفُو عمّنْ ظلمهُ ويُعْطِي منْ حرمهُ ويصِلُ منْ قطعهُ بعِيدا فُحْشُهُ ليِّنا قوْلُهُ غائِبا مُنْكرُهُ حاضِرا معْرُوفُهُ مُقْبِلا خيْرُهُ مُدْبِرا شرُّهُ فِي الزّلازِلِ وقُورٌ وفِي الْمكارِهِ صبُورٌ وفِي الرّخاءِ شكُورٌ لا يحِيفُ على منْ يُبْغِضُ ولا يأْثمُ فِيمنْ يُحِبُّ يعْترِفُ بِالْحقِّ قبْل أنْ يُشْهد عليْهِ لا يُضِيعُ ما اسْتُحْفِظ ولا ينْسى ما ذُكِّر ولا يُنابِزُ بِالْألْقابِ ولا يُضارُّ بِالْجارِ ولا يشْمتُ بِالْمصائِبِ ولا يدْخُلُ فِي الْباطِلِ ولا يخْرُجُ مِن الْحقِّ إِنْ صمت لمْ يغُمّهُ صمْتُهُ وإِنْ ضحِك لمْ يعْلُ صوْتُهُ وإِنْ بُغِي عليْهِ صبر حتّى يكُون اللّهُ هُو الّذِي ينْتقِمُ لهُ نفْسُهُ مِنْهُ فِي عناءٍ والنّاسُ مِنْهُ فِي راحةٍ أتْعب نفْسهُ لِآخِرتِهِ وأراح النّاس مِنْ نفْسِهِ بُعْدُهُ عمّنْ تباعد عنْهُ زُهْدٌ ونزاهةٌ ودُنُوُّهُ مِمّنْ دنا مِنْهُ لِينٌ ورحْمةٌ ليْس تباعُدُهُ بِكِبْرٍ وعظمةٍ ولا دُنُوُّهُ بِمكْرٍ وخدِيعةٍ
قال فصعِق همّامٌ صعْقة كانتْ نفْسُهُ فِيها فقال أمِيرُ الْمُؤْمِنِين عليه السلام: أما واللّهِ لقدْ كُنْتُ أخافُها عليْهِ ثُمّ قال أهكذا تصْنعُ الْمواعِظُ الْبالِغةُ بِأهْلِها.
فقال لهُ قائِلٌ فما بالُك يا أمِير الْمُؤْمِنِين؟
فقال عليه السلام: ويْحك إِنّ لِكُلِّ أجلٍ وقْتا لا يعْدُوهُ وسببا لا يتجاوزُهُ فمهْلا لا تعُدْ لِمِثْلِها فإِنّما نفث الشّيْطانُ على لِسانِك.
هدف خلق الإنسان
"فإِنّ الله - سُبْحانهُ وتعالى - خلق الْخلْق حِين خلقهُمْ غنِيّا عنْ طاعتِهِمْ آمِنا مِنْ معْصِيتِهِمْ، لأنه لا تضُرُّهُ معْصِيةُ منْ عصاهُ، ولا تنْفعُهُ طاعةُ منْ أطاعهُ، فقسم بيْنهُمْ معايِشهُمْ، ووضعهُمْ مِن الدُّنْيا مواضِعهُمْ".
مهّد الإمام هذه المقدّمة لأنه عليه السلام لما كان بصدد شرح حال المتقين تفصيلا حسبما اقترحه همام وكان ربما يسبق إلى الأوهام القاصرة أنّ ما يأتي به المتّقون من مزايا الأعمال والصالحات وما كلّفهم اللّه سبحانه به من محامد الخصال والقربات من أجل حاجة منه - تعالى عن ذلك - إليها، قدّم هذه المقدّمة تنبيها على كونه سبحانه منزّها عن ذلك، متعاليا عن صفات النقص والحاجة في الأزل كما في الأبد، وأنه لم يكن غرضه تعالى من الخلق والإيجاد جلب المنفعة له ودفع المضرّة عنه كما هو شأن البشر حيث يعملون ما يفتقرون إليه ويرفعون به ما بهم من نقص وحاجة، وأمّا اللّه الحيّ القيّوم فهو الغنىّ الكامل المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله: قال تعالى "يا أيُّها النّاسُ أنْتُمُ الْفُقراءُ إِلى اللّهِ واللّهُ هُو الْغنِيُّ الْحمِيدُ"(1) والله تعالى لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان ولا تخوّف من عواقب زمان ولا استعانة على ندّ مثاور ولا شريك مكائر ولا ضدّ منافر (كما في الخطبة الرّابعة والستّين).
وهذا المدخل الى الخطبة يقتضينا الوقوف عند جملة أمور أشار إليها أمير المؤمنين عليه السلام.
غاية الخلق
إن عدم وجود غرض يعود إليه تعالى لا يعني عبثية الخلق والتي تنافي الحكمة الإلهية، قال تعالى "أفحسِبْتُمْ أنّما خلقْناكُمْ عبثا وأنّكُمْ إِليْنا لا تُرْجعُون"(2)، والعبث يطلق على الشيء الذي لا غاية حقيقية له، وهو يأتي في قبال الحكمة. إن الإنكار هنا بمعنى أنكم حسبتم أن لا حكمة في خلقكم، وأن ليس هناك غاية حكيمة
إن أي فعل ـ نركز عليه ـ لا بدّ أن يكون باتجاه هدف معين، وطبيعي أن بعثة الأنبياء كانت تستهدف تكميل الإنسان. ومما صرحت به الشرائع أن الأنبياء جاؤوا ليعينوا الإنسان، ويأخذوا بيده إلى الكمال.
إن في حياة الإنسان ـ في الواقع ـ نوعا من الخلل والنقص لا يمكن للإنسان الفردي، بل وحتى الإنسان الاجتماعي أن يسده بمعونة طاقات الأفراد العاديين، فيتعين عليه أن يستعين بالوحي.
ويلزمنا حينئذ أن نعود إلى القرآن الكريم ليحدثنا ـ بشكل أكثر تفصيلا وأشد تعيينا ـ عن هدف الإنسان، وهل تحدث عن الهدف من خلق الإنسان؟ وهل ذكرنا الهدف من بعثة الأنبياء؟ وهل تحدث عن الهدف الذي يعيش له الإنسان؟
العبادة هدف
القرآن الكريم يصرح في موضع منه: "وما خلقْتُ الْجِنّ والْأِنْس إِلّا لِيعْبُدُونِ"(3)
أي أن غاية خلق الإنسان والموجود الآخر المسمى بـ(الجن) هي العبادة.
فما معنى هذا الهدف؟ وما هي الفائدة التي تعود بها العبادة على الله؟ وهي حتما ليست بذات فائدة له، لأن الله غني عن العالمين، لكن ما هي فائدتها العائدة على البشر ليخلق البشر لأجل العبادة.
وفي التوحيد بإسناده عن ابن أبي عمير قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اعملوا فكلٌّ ميسّر لما خلق له؟ " فقال: إن الله عز وجل خلق الجن والإِنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه وذلك قوله عز وجل: "وما خلقْتُ الْجِنّ والْأِنْس إِلّا لِيعْبُدُونِ" فيسّر كلا لما خلق له فويل لمن استحبّ العمى على الهدى(4).
وفي العلل بإسناده إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: خرج الحسين بن علي عليه السلام على أصحابه فقال: "إن الله عز وجل ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه"(5)
الجدير بالذكر أن هناك إشارات وردت في آيات عديدة من القرآن الكريم تبين الهدف من خلق الإنسان أوالكون، وقد تبدومختلفة، ولكن بالنظرة الدقيقة نلاحظ أنها ترجع إلى حقيقة واحدة:
1- في الآية (56) من سورة الذاريات يعتبر "العبادة" هي الهدف من خلق الجن والإنس "وما خلقْتُ الْجِنّ والْأِنْس إِلّا لِيعْبُدُونِ".
2- وفي الآية (7) من سورة هود يضع امتحان الإنسان وتمحيصه كهدف لخلق السماوات والأرض: " هُو الّذِي خلق السّماواتِ والأرْض فِي سِتّةِ أيّامٍ وكان عرْشُهُ على الْماء لِيبْلُوكُمْ أيُّكُمْ أحْسنُ عملا".
3 - في الآية (119) من سورة هو د يقول: إن الرحمة الإلهية هي الهدف "ولِذلِك خلقهُمْ".
4- وفي الآية (12) من سورة الطلاق اعتبر العلم والمعرفة بصفات الله هي الهدف "اللّهُ الّذِي خلق سبْع سماواتٍ ومِن الْأرْضِ مِثْلهُنّ يتنزّلُ الْأمْرُ بيْنهُنّ لِتعْلمُوا أنّ اللّه على كُلِّ شيْءٍ قدِيرٌ وأنّ اللّه قدْ أحاط بِكُلِّ شيْءٍ عِلْما". إن تدقيقا بسيطا في هذه الآيات يرينا أن بعضها مقدمة للبعض الآخر، فالعلم والمعرفة مقدمة للعبودية، والعبادة هي الأخرى مقدمة للامتحان وتكامل الإنسان، وهذا مقدمة للاستفادة من رحمة الله.
الطاعة والمعصية يعودان على الإنسان نفسه
إن المتأمل في أمور الحياةِ وشؤون الأحياءِ يجِد فئاتٍ مِن النّاس تعيش ألوانا من التعبِ والشقاء وتنفث صدورُها أنواعا مِن الضّجر والشّكوى، ضجرٌ وشقاء يعصِف بالأمانِ والاطمِئنان، ويُفقِد الراحة والسعادة، ويتلاشى معه الرّضا والسّكينة، نفوسٌ منغمِسةٌ في أضغانِها وأحقادِها وبؤسها وأنانيتها، ويعود المتأمل مرة أخرى ليرى فئات من الناس قد نعمت بهنيء العيش وفيوض الخير، كريمةٌ على نفوسها، كريمة على النّاس، طيّبة القلبِ سليمة الصدر طليقة المحيا. ما الذي فرق بين هاتين الفئتين ؟ إنها الطاعة والمعصية.
فالطاعة سكينة ورضا وحلاوة، والمعصية قلق ولا استقرار وتأفف، والطاعة سعة في الرزق ومحبة في قلوب المؤمنين، والمعاصي خلاف ذلك.
اختلاف الناس في المواهب والرزق
ورد في النص القرآني ما يشير إلى ذلك التفاوت: "وضرب اللّهُ مثلا رّجُليْنِ أحدُهُما أبْكمُ لا يقْدِرُ على شيْءٍ وهُو كلٌّ على موْلاهُ أيْنما يُوجِّههُّ لا يأْتِ بِخيْرٍ هلْ يسْتوِي هُو ومن يأْمُرُ بِالْعدْلِ وهُو على صِراطٍ مُّسْتقِيمٍ"(6) والمعنى أنّ الله عز وجل نفى التساوي بين الأفراد الذين خلقهم. ولا شك أنّ التفاضل في الرزق، والتفاوت في القدرة على التصرف بالمال يعتبران من السنن التكوينية
وجزءا لا يتجزأ من التصميم الإلهي للخلق والتكوين. ولكن هذا التفاضل التكويني، والاختلاف في القدرات العقلية والجسدية إنما تؤديان ثمارهما العملية على الصعيد الاجتماعي، إذا التزم الأفراد بتطبيق مفردات الشريعة الإسلامية فحسب؛ وإلاّ أصبحت تلك الاختلافات من موارد انعدام العدالة الاجتماعية.
وفي ضوء ذلك، جعل الإسلام في أموال الأغنياء حقا ثابتا للفقراء، وبذلك فهو لم يلغِ التفاضل الاجتماعي، بل وضع له ضريبة ثابتة تدخل في دائرة منفعة الأفراد الذين لم يوفقوا اقتصاديا واجتماعيا.
إن الاخـتلاف في الاستعدادات ينبغي أن يوظف لخدمة مسيرة البناء، كما في اخـتـلاف طـبيعة أعضاء بدن الإنسان أوأجزاء الوردة، فمع تفاوتها إلا أنها ليست متزاحمة، بل إن البعض يعاضد البعض الآخر وصولا للعمل التام على أكمل وجه.
وإلى هذا الأمر في خلق الله أشار أمير المؤمنين بقوله "وقسّم بينهم معيشتهم" وما يعيشون به في الحياة الدّنيا من أنواع الرّزق والخير والمنافع والنعماء، ووضع كلا منهم موضعه من الفقر واليسار والغنى والافتقار والسعة والإقتار على ما يقتضيه حكمته البالغة وتوجبه المصلحة الكاملة كما أشير إليه في قوله عزّ وجلّ "نحْنُ قسمْنا بيْنهُم مّعِيشتهُمْ فِي الْحياةِ الدُّنْيا ورفعْنا بعْضهُمْ فوْق بعْضٍ درجات"(7).
وهذا الأمر يبتني على حكمة وليس تفاضلا عبثيا ففي الحديث القدسي، "إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ومن عبادي لا يصلحه إلا الغنى".
وقد يكون ابتلاء، فإن وجود التفاضل بين الناس مهم في عملية الابتلاء فلوكان بنوالإنسان جميعهم على نمط واحد ينالون قسطا من عطاء الله متساويا لتعطل الجزء الأكبر من الابتلاء بجميع تفاعلاته ولما ظهرت خفايا كل امرئ وما تكنه الصدور.
وفي ابتلاء الإنسان منافعٌ له ولغيره. المنفعة الأولى، هي أن الابتلاء يقرب الإنسان من ربه، فيتضرع إلى الله، يقوم الليل، ويصوم النهار، ويتصدق على المساكين والفقراء، ويدعو الله أن يمن عليه ويفك كربته كما إن الابتلاء، يكشف عن معدن الإنسان.
الرزق وسعي الإنسان
إن كل شيء من الناحية العقائدية تنتهي نسبته الى اللّه عز وجل، وكل موحد يعتقد إن منبع وأصل كل خير منه سبحانه وتعالى، ويردد ما تقوله الآية (26) من سورة آل عمران: "بِيدِك الْخيْرُ إِنّك على كُلِّ شيْءٍ قدِيرٌ".
وقد أعطت الأحاديث والروايات أهمية استثنائية للسعي في طلب الرزق المصحوب بالتقوى، وحتى روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "لا تكسلوا في طلب معايشكم، فان آباءنا كانوا يركضون فيها ويطلبونها"(8).
وروي عنه أيضا: "الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل اللّه"(9).
وذكر ان من جـمـلة من لا يستجاب لهم الدعاء أولئك الذين تركوا طلب الرزق على ما لهم من استطاعة، وانزووا في زوايا بيوتهم يدعون اللّه أن يرزقهم.
فالسعي والعمل الصحيح البعيد عن اي إفراط أو تفريط، هو أساس كسب الرزق، ولعل هـذا الأمر هـوالذي دفع أمير المؤمنين عليه السلام في كلماته القصار في تقديم ذكر الرزق الذي يطلبه الانـسان على الرزق الذي يطلب الانسان، حيث قال : "يا ابن آدم، الرزق رزقان : رزق تطلبه، ورزق يطلبك"(10).
الابتلاء بالشر والخير
والابتلاء بالشر مفهو م إجمالا ويمكن مواجهته بالانتباه والثبات حتى تنقشع غيوم الشدة، أما أن يبتلي المرء بالخير فهنا الامتحان الملتبس، فالكثيرون وهم ينغمسون في طيبات الخير لا يحسبون أنهم مبتلون ولذا تتراخى أعصابهم حد غياب اليقظة والحذر ويرتكبون أغلظ الأخطاء وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا..!
غير أن هم المؤمن الحق وهو يتقلب بين نار المصيبة ورخاء النعمة يجب أن ينصب دائما على التماس رضا الله تعالى، مع الالتفات إلى أن كثرة الرزق عند البعض لا تعبر عن كرامة نالها من عند المنعم سبحانه، وكذلك خواء اليد لا يدل على هو ان، يقول تعالى: "فأمّا الْإِنسانُ إِذا ما ابْتلاهُ ربُّهُ فأكْرمهُ ونعّمهُ فيقُولُ ربِّي أكْرمنِ ..وأمّا إِذا ما ابْتلاهُ فقدر عليْهِ رِزْقهُ فيقُولُ ربِّي أهاننِ.. كلّا!" فالعبرة ليست بالمنع والعطاء ولكن بما يسفر عنه الابتلاء..!
خلاصة
إن عدم وجود غرض يعود إليه تعالى لا يعني عبثية الخلق والتي تنافي الحكمة الإلهية، قال تعالى "أفحسِبْتُمْ أنّما خلقْناكُمْ عبثا وأنّكُمْ إِليْنا لا تُرْجعُون"، والعبث يطلق على الشيء الذي لا غاية حقيقية له، وهو يأتي في قبال الحكمة.
إن تدقيقا بسيطا في هذه الآيات يرينا أن بعضها مقدمة للبعض الآخر، فالعلم والمعرفة مقدمة للعبودية، والعبادة هي الأخرى مقدمة للامتحان وتكامل الإنسان، وهذا مقدمة للاستفادة من رحمة الله.
إن المتأمل في أمور الحياةِ وشؤون الأحياءِ يجِد فئاتٍ مِن النّاس تعيش ألوانا من التعبِ والشقاء وتنفث صدورُها أنواعا مِن الضّجر والشّكوى.
فالطاعة سكينة ورضا وحلاوة، والمعصية قلق ولا استقرار وتأفف، والطاعة سعة في الرزق ومحبة في قلوب المؤمنين، والمعاصي خلاف ذلك.
السعي والعمل الصحيح البعيد عن اي إفراط اوتفريط، هو أساس كسب الرزق، ولعل هـذا الأمر هـو الذي دفع أمير المؤمنين عليه السلام في كلماته القصار في تقديم
ذكر الرزق الذي يطلبه الإنسان على الرزق الذي يطلب الإنسان
الابتلاء بالشر مفهوم إجمالا ويمكن مواجهته بالانتباه والثبات حتى تنقشع غيوم الشدة، أما أن يبتلي المرء بالخير فهنا الامتحان الملتبس، فالكثيرون وهم ينغمسون في طيبات الخير لا يحسبون أنهم مبتلون ولذا تتراخى أعصابهم حد غياب اليقظة والحذر ويرتكبون أغلظ الأخطاء وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا..!
أشعار الحكمة
زيادة المرء في دنياه نقصـان
وربحه غير محض الخير خسـرانُ
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهـم
فطالما استبعد الإنسان إحسان
أقبل على النفس واستكمل فضائلها
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
فإن أساء مسيء فليكن لك فـي
عروض زلّته صفح وغفـران
واشدد يديك بحبل الله معتصما
فإنه الركـن أن خانتك أركان
سافر العالم العابد المرحوم الشيخ ميرزا أحمد الكافي اليزدي قاصدا زيارة مرقد الإمام الرضا عليه السلام وهناك طلب منه بعض المؤمنين أن يقيم عندهم، وبعد إصرارهم الشديد وافق على البقاء، وبعد مدة أُصيب بألم في عينيه وانتهى به الحال العمى!!
فراجع الأطباء في مشهد ولكنه لم يحصل على علاج يقول الشيخ: فلما يئست من الأطباء قلت لنفسي: إنني جئت إلى مدينة مشهد المقدسة لمجاورة الإمام الرضا عليه السلام كما جاور أخي الحاج ميرزا حسن مرقد الإمام علي عليه السلام في النجف الأشرف ثلاثين عاما، فهل يصح أن أكون هنا فاقد البصر أعتمد العصا أومن يأخذ بيدي إلى حرم الرضا عليه السلام؟
فذهبت إلى الحرم الرضوي الشريف - والكلام مازال للمرحوم الشيخ الكافي اليزدي- وجلست مقابل الضريح وجها لوجه مع الإمام الرضا عليه السلام متضرعا إلى الله تبارك وتعالى وأنا أقول للإمام الولي: سيدي جاءك - العميان- من بلادهم فرجعوا من حضرتك وهم يُبصرون، وأنا جئتك ببصري لأجاورك فأصبحت أعمى، فهل هذا من حسن ضيافة الأولياء للغرباء يا مولاي؟! وهكذا وبينما كنت أبكي واتضرع وأعاتب، عرضت علي حالة غفوة فصرت كأني أرى راكبا يقترب مني على ناقة حتى دنا مني وقال: تحرك يا شيخ.
ويستمر الشيخ اليزدي في سرد حكايته المؤثرة قائلا:
قلت: دعني أفصح عن ألمي وأملي
قال: تقصد ألم عينيك؟
قلت: نعم.
قال: خذ هذه العصابة وامسح بها عليهما، فأخذتها وأخرجت ما فيها ومسحت به على عيني، فانفتحتا وعاد إليهما النور.
ولم يعد للشيخ ألم العين إلى آخر عمره الذي قضاه في سبيل الله وخدمة الإسلام حيث انتقل إلى رحمة الله تعالى ليلة الإثنين من منتصف شهر رجب المبارك سنة 1389 للهجرة المصادف لوفاة سيدتنا زيب بنت علي عليهما السلام وقيل: إنه في اللحظات الأخيرة من حياته - عند الإحتضار- قال ثلاثا: "السلام عليك يا أبا عبد الله". السلام عليك يا أبا عبدالله السلام .عليك يا أبا عبدالله
المصادر :
1- فاطر:15.
2- المؤمنون:115.
3- الذاريات:56.
4- المجلسي - محمد باقر- بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة -ج5 ص157.
5- المجلسي - محمد باقر- بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة -ج5 ص312
6- النحل:76.
7- الزخرف:32
8- الشيخ الصدوق - من لا يحضره الفقيه-جامعة المدرسين- الطبعة الثانية 1404هـ-ج3 ص157.
9- الوسائل، ج12، ص 43.
10- نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم379.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.