عن الإمام الرضا عليه السلام: "ولا عيش أغنى من حسن الخلق"(1).
الخُلق بالضم يطلق على الملكات والصفات الراسخة في النفس، حسنة كانت أم قبيحة، وهي في مقابلة الأعمال، ويطلق حسن الخلق غالباً على ما يوجب حسن المعاشرة ومخالطة الناس بالجميل.
قال الراغب: "الخَلق والخُلق في الأصل واحد، لكن خصّ الخَلق بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخصّ الخُلق بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة.
وقال في النهاية: الخُلق بضم اللام وسكونها الدين والطبع والسجيَّة وحقيقته أنه صورة الإنسان الباطنة وهي نفسها وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخَلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة..."(2)
مما تقدَّم تعرف أن الخُلق هو ما يطلق على الصفات النفسية الباطنة سواء كانت حسنة أم قبيحة، وأن حسن الخُلق له اطلاق حسب الغالب على المعاشرة والمخالطة للناس بالجميل.
لقد اهتم الإسلام العظيم بإصلاح الصفات الخُلُقيّة للإنسان، اهتماماً كبيراً، حتى قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما بعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق"(3)، ولقد وصف اللَّه تعالى رسوله في القرآن العظيم "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ"(4)
والسؤال الذي يُطرح هنا، هل الإنسان يستطيع أن يغيِّر أخلاقه وصفاته النفسية؟ هل عنده إرادة التغيير؟ وللجواب نقول:
الإنسان صاحب إرادة
إن كل إنسان لو رجع إلى نفسه ودقَّق فيها يعرف أن في ذاته جهتين: جهة إرادية إختيارية، وجهة لا إرادية:
فبعض أفعال الإنسان تتم بصورة آلية ودون أن يتدخّل الإنسان في المعتاد في مجراها، فهضم الطعام ودوران الدّم وخفقان القلب وفرز الغدد وما إليها، تتم بصورة آلية ولا يتدخل الإنسان فيها إلا في أحوال طارئة وظروف استثنائية.
وهذه أفعال غير إراديّة. وهناك أفعال وسط بين الإرادية وغير الإرادية، مثل التنفّس، فالإنسان ممكن أن يتحكم بها بعض التحكم.
وهناك نوعٌ ثالث من الأفعال يخضع لمشيئة وإرادة الإنسان تماماً، فتحريك يدك أو عدم تحريكها، عمل إرادي، وخروجك عن المألوف من عاداتك عمل إرادي، وامتناعك عن الكلام عمل إرادي، وهكذا.
وهذا أمر يؤكِّد أن هناك في الإنسان جهة إختيارية له الدّور الأساس فيها، فباستطاعته أن يفعل أو لا يفعل في نطاق هذه الجهة الإراديَّة.
والأعضاء التي تحكمها هذه الجهة الإرادية الاختيارية هي: اليد، الرجل، العين، اللسان، السمع، الفرج، العقل، القلب.
فأنت تستطيع أن تضرب فلاناً أو لا تضرب، وتقدر على أن تذهب إلى عالم تنتفع بعلمه أو تذهب إلى مكان آخر تضر فيه نفسك، وتستطيع أن تنظر إلى خلق اللَّه لتعتبر أو تنظر لتلتهي، وتستطيع أن تتكلم الكلام الطيِّب أو لا تستطيع، وهكذا بقيّة الأعضاء. هذه مسألة وجدانية، ولولا ذلك، لما حثّ الإسلام والرسول والأئمة عليهم السلام على تغيير الأخلاق كما سيأتي ، لأنهم لا يأمرون بما لا يُطاق، "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا"(5).
وحسن القوة الغضبيّة واعتدالها يعبّر عنها بالشجاعة، وحسن قوّة الشهوة واعتدالها يعبّر عنه بالعفّة.
فإن مالت قوّة الغضب عن الاعتدال إلى طرف الزيادة سمي ذلك تهوّراً، وإن مالت إلى الضعف والنقصان سُمي ذلك جُبناً وخوراً.
وإن مالت قوّة الشهوة إلى طرف الزيادة سمي شرهاً، وإن مالت إلى النقصان سمي خموداً، والمحمود هو الوسط وهو الفضيلة، والطرفان رذيلتان مذمومتان.
والعدل إذا فات فليس له طرفان زيادة ونقصان بل له ضد واحد وهو الجور. وأما الحكمة العقل فيسمّى إفراطها عند الاستعمال في الأغراض الفاسدة جربزة خداع، ويسمّى تفريطها بلهاً، والوسط هو الذي يختص باسم الحكمة.(6)
فإذن أمّهات الأخلاق وأصولها أربعة: الحكمة، والشجاعة، والعفّة، والعدل... فمن اعتدال هذه الأصول الأربعة تصدر الأخلاق الجميلة كلها6 ولعلَّ الأصل في هذا التفصيل ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام: "الفضائل أربعة أجناس: أحدها: الحكمة وقوامها في الفكرة، والثاني: العفّة، وقوامها في الشهوة، والثالث: القوّة، وقوامها في الغضب، والرابع: العدل، وقوامها في اعتدال قوى النفس"(7).
كيف تحصّل الخُلق الحسن
ألف- الذليل عزيز بأخلاقه:
يقول الإمام علي عليه السلام: "ربّ عزيز أذلّه خلقه، وذليل أعزّه خلقه"(8).
ب- حسن الخلق والرزق الغنى المادي:
عن الإمام علي عليه السلام: "حسن الخلق يدرُّ الأرزاق ويؤنس الرفاق"(9).
ج- المحبة:
عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: "حسن الخلق يثبت المودة"(10)
"سوء الخلق يُوحش القريب وينفر البعيد"(11)
د- راحة النفس:
عن علي عليه السلام: "سوء الخلق يوحش النفس ويرفع الأُنس"(12)
"وإذا كان سوء الخلق يوحش ويتعب النفس، فحسن الخلق يرحيها".
هـ عظيم الدرجات الأخروية:
عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الاخرة وشرف المنازل..."(13)
عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إن اللَّه تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن خلقه كما يعطي المجاهد في سبيل اللَّه يغدو عليه ويروح"(14)
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من شيء أثقل في الميزان من خلق حسن"(15)
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إن صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصائم القائم"(16)
1- تنمية العقل والعلم
ومن الأمور التي تساعد على تحصيل الخلق الحسن تنمية وتثقيف العقل، يقول علي عليه السلام: "الخلق المحمود من ثمار العقل، الخلق المذموم من ثمار الجهل"(17)
2-ترويض وجهاد النفس
يقول الإمام علي عليه السلام: "روِّضوا أنفسكم على الأخلاق الحسنة..."(18)
وعنه عليه السلام: "ثابروا على اقتناء المكارم"(19).
وعنه أيضاً عليه السلام: "ابذل في المكارم جهدك تخلص من الماثم، وتحرز المكارم"(20)
وعنه عليه السلام: "تجنّب كلَّ خلق أسوأه، وجاهد نفسك على تجنّبه، فإن الشّر لجاجة"(21)
4- التعوّد على المكارم
عن الإمام علي عليه السلام: "عوِّد نفسك السماح، وتخيّر لها من كل خلق أحسنه، فإن الخير عادة"(22)
يقول العلامة الطباطبائي: "اعلم أن اصلاح أخلاق النفس وملكاتها في جانبي العلم والعمل، واكتساب الأخلاق الفاضلة، وإزالة الأخلاق الرذيلة، إنما هو بتكرار الأعمال الصالحة المناسبة لها ومزاولتها، والمداومة عليها، حتى تثبت في النفس،... وتتراكم وتنتقش في النفس انتقاشاً متعذر الزوال أو متعسرها، مثلاً: إذا أراد الإنسان إزالة صفة الجبن، واقتناء ملكة الشجاعة كان عليه أن يكرر الورود في الشدائد والمهاول... وكلّما ورد في مورد وشاهد أنه كان يمكنه الورود فيه وأدرك لذة الإقدام وشناعة الفرار والتحذر انتقشت نفسه بذلك انتقاشاً بعد انتقاش حتى تثبت فيها ملكة الشجاعة..."(23)
5- الصحبة الصالحة
يقول علي بن الحسين عليه السلام: "مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح..."(24)
أيها الأخوة الأعزاء، لتسعوا جهدكم، ولتعملوا على تحصيل الإرادة القوية، لكي تسيروا في خط الأخلاق الحسنة، وتتكاملوا في طريق الإنسانية، فمن لا إرادة له، فمن الصعوبة بل من المستحيل أن يصل إلى اللَّه، فاللَّه لا يصل إليه إلا من كان ذا عزم وإرادة.
اللهم أعنّا على تقوية إرادتنا، ووفقنا لذلك يا قوي يا عزيز، إنك سميع مجيب.
والعزم... هو أن يوطن الإنسان نفسه ويتخذ قراراً بترك المعاصي وبأداء الواجبات، وتدارك ما فاته أيام حياته، وبالتالي أن يعمل على أن يجعل ظاهره إنساناً عاقلاً وشرعياً، بحيث يحكم الشرع والعقل بحسب الظاهر بأن هذا الشخص إنسان. والإنسان الشرعي هو الذي ينظم سلوكه وفق ما يتطلبه الشرع، وأن يكون ظاهره كظاهر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يقتدي بالنبي العظيم صلى الله عليه وآله وسلم ويتأسَّى به في جميع حركاته وسكناته، وفي جميع ما يفعل أو ما يترك. وهذا أمر ممكن، لأن جعل الظاهر مثل هذا القائد أمر مقدور لأي فرد من عباد اللَّه.
واعلم: أن طي الطريق في المعارف الإلهية، لا يمكن إلا بالبدأ بظاهر الشريعة، وما لم يتأدب الإنسان بآداب الشريعة الحقة، لا يحصل له شيء من حقيقة الأخلاق الحسنة، كما لا يمكن أن يتجلى في قلبه نور المعرفة وتتكشف العلوم الباطنية وأسرار الشريعة. وبعد انكشاف الحقيقة، وظهور أنوار المعارف في قلبه، سيستمر أيضاً في تأدبه بالآداب الشرعية الظاهرية.
... أيها العزيز... اجتهد لتصبح ذا عزم وإرادة، فإنك إذا رحلت من هذه الدنيا دون أن يتحقق فيك العزم على ترك المحرمات فأنت إنسان صوري، بلا لب، ولن تحشر في ذلك العالم عالم الآخرة على هيئة إنسان، لأن ذلك العالم هو محل كشف الباطن وظهور السريرة، وإن التجرؤ على المعاصي يفقد الإنسان تدريجياً العزم ويختطف منه هذا الجوهر الشريف، يقول الأستاذ المعظم: "إن أكثر ما يسبب فقد الإنسان العزم والإرادة هو الاستماع للغناء".
إذاً تجنّب يا أخي المعاصي، واعزم على الهجرة إلى الحق تعالى، واجعل ظاهرك ظاهراً إنسانياً،... واطلب من اللَّه تعالى في الخلوات أن يكون معك في الطريق لهذا
الهدف، واستشفع برسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام حتى يفيض ربك عليك التوفيق، ويمسك بيدك في المزالق التي تعترضك، لأن هناك مزالق كثيرة تعترض الإنسان أيام حياته، ومن الممكن أنه في لحظة واحدة يسقط في مزلق مهلك، يعجز من السعي لإنقاذ نفسه، بل قد لا يهتم بانقاذ نفسه، بل ربما لا تشمله حتى شفاعة الشافعين. نعوذ باللَّه منها(25)
المصادر :
1- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج8، ص444.
2- انظر بحار الأنوار، المجلسي، ج68، ص372.
3- ميزان الحكمة، الري شهري، مج3، ص149، ح5058.
4- القلم4
5- البقرة286.
6- انظر: ميزان الحكمة، الري شهري، مج3، ص145 144، نقلاً عن المحجة البيضاء.
7- ن.م، ص145، ح5035.
8- ن.م، ص137، ح4987.
9- ن.م، ص151، ح5076.
10- ن.م، ص151، ح5080.
11- ن.م، ص153، ح5092.
12- ن.م، ص153، ح5091.
13- المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني، ج5، ص93.
14- الكافي، الكليني، ج2، ص10.
15- البحار، المجلسي، ج71، ص383.
16- ميزان الحكمة، مج3، ح5013.
17- ن.م، ص4993 138.
18- ن.م، ص146، ح5040.
19- ن.م، ص147، ح5046.
20- ن.م، ص147، ح5047.
21- ن.م، ص151، ح5074.
22- ن.م، ص151، ح5073.
23- تفسر الميزان، محمد حسين الطباطبائي، ج1، ص354.
24- شرح أصول الكافي، مولى محمد صالح المازندراني، ج1، ص175.
25- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، ص25 24.
الخُلق بالضم يطلق على الملكات والصفات الراسخة في النفس، حسنة كانت أم قبيحة، وهي في مقابلة الأعمال، ويطلق حسن الخلق غالباً على ما يوجب حسن المعاشرة ومخالطة الناس بالجميل.
قال الراغب: "الخَلق والخُلق في الأصل واحد، لكن خصّ الخَلق بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخصّ الخُلق بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة.
وقال في النهاية: الخُلق بضم اللام وسكونها الدين والطبع والسجيَّة وحقيقته أنه صورة الإنسان الباطنة وهي نفسها وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخَلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة..."(2)
مما تقدَّم تعرف أن الخُلق هو ما يطلق على الصفات النفسية الباطنة سواء كانت حسنة أم قبيحة، وأن حسن الخُلق له اطلاق حسب الغالب على المعاشرة والمخالطة للناس بالجميل.
لقد اهتم الإسلام العظيم بإصلاح الصفات الخُلُقيّة للإنسان، اهتماماً كبيراً، حتى قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما بعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق"(3)، ولقد وصف اللَّه تعالى رسوله في القرآن العظيم "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ"(4)
والسؤال الذي يُطرح هنا، هل الإنسان يستطيع أن يغيِّر أخلاقه وصفاته النفسية؟ هل عنده إرادة التغيير؟ وللجواب نقول:
الإنسان صاحب إرادة
إن كل إنسان لو رجع إلى نفسه ودقَّق فيها يعرف أن في ذاته جهتين: جهة إرادية إختيارية، وجهة لا إرادية:
فبعض أفعال الإنسان تتم بصورة آلية ودون أن يتدخّل الإنسان في المعتاد في مجراها، فهضم الطعام ودوران الدّم وخفقان القلب وفرز الغدد وما إليها، تتم بصورة آلية ولا يتدخل الإنسان فيها إلا في أحوال طارئة وظروف استثنائية.
وهذه أفعال غير إراديّة. وهناك أفعال وسط بين الإرادية وغير الإرادية، مثل التنفّس، فالإنسان ممكن أن يتحكم بها بعض التحكم.
وهناك نوعٌ ثالث من الأفعال يخضع لمشيئة وإرادة الإنسان تماماً، فتحريك يدك أو عدم تحريكها، عمل إرادي، وخروجك عن المألوف من عاداتك عمل إرادي، وامتناعك عن الكلام عمل إرادي، وهكذا.
وهذا أمر يؤكِّد أن هناك في الإنسان جهة إختيارية له الدّور الأساس فيها، فباستطاعته أن يفعل أو لا يفعل في نطاق هذه الجهة الإراديَّة.
والأعضاء التي تحكمها هذه الجهة الإرادية الاختيارية هي: اليد، الرجل، العين، اللسان، السمع، الفرج، العقل، القلب.
فأنت تستطيع أن تضرب فلاناً أو لا تضرب، وتقدر على أن تذهب إلى عالم تنتفع بعلمه أو تذهب إلى مكان آخر تضر فيه نفسك، وتستطيع أن تنظر إلى خلق اللَّه لتعتبر أو تنظر لتلتهي، وتستطيع أن تتكلم الكلام الطيِّب أو لا تستطيع، وهكذا بقيّة الأعضاء. هذه مسألة وجدانية، ولولا ذلك، لما حثّ الإسلام والرسول والأئمة عليهم السلام على تغيير الأخلاق كما سيأتي ، لأنهم لا يأمرون بما لا يُطاق، "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا"(5).
أمهات الأخلاق
تحدّث علماء الأخلاق عن تحصيل الخلق الحسن ومن النظريات: أن في باطن الإنسان أربعة أركان لا بد من الحسن في جميعها حتى يتم حسن الخلق، فإذا استوت الأركان الأربعة واعتدلت وتناسبت حصل حسن الخُلق، وهي: قوّة العلم العقل، وقوة الغضب، وقوّة الشهوة، وقوّة العدل بين هذه القوى الثلاث...وحسن القوة الغضبيّة واعتدالها يعبّر عنها بالشجاعة، وحسن قوّة الشهوة واعتدالها يعبّر عنه بالعفّة.
فإن مالت قوّة الغضب عن الاعتدال إلى طرف الزيادة سمي ذلك تهوّراً، وإن مالت إلى الضعف والنقصان سُمي ذلك جُبناً وخوراً.
وإن مالت قوّة الشهوة إلى طرف الزيادة سمي شرهاً، وإن مالت إلى النقصان سمي خموداً، والمحمود هو الوسط وهو الفضيلة، والطرفان رذيلتان مذمومتان.
والعدل إذا فات فليس له طرفان زيادة ونقصان بل له ضد واحد وهو الجور. وأما الحكمة العقل فيسمّى إفراطها عند الاستعمال في الأغراض الفاسدة جربزة خداع، ويسمّى تفريطها بلهاً، والوسط هو الذي يختص باسم الحكمة.(6)
فإذن أمّهات الأخلاق وأصولها أربعة: الحكمة، والشجاعة، والعفّة، والعدل... فمن اعتدال هذه الأصول الأربعة تصدر الأخلاق الجميلة كلها6 ولعلَّ الأصل في هذا التفصيل ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام: "الفضائل أربعة أجناس: أحدها: الحكمة وقوامها في الفكرة، والثاني: العفّة، وقوامها في الشهوة، والثالث: القوّة، وقوامها في الغضب، والرابع: العدل، وقوامها في اعتدال قوى النفس"(7).
كيف تحصّل الخُلق الحسن
1- معرفة أهمية الأخلاق
أن تعرف أهميَّة وإيجابية مكارم الأخلاق، وسلبية الأخلاق السيئة، فالعاقل يبتعد عمّا يسيء له ولحياته، ويقترب من كلِّ ما يتقدّم ويغني حياته وآخرته، وإليك بعض إيجابيات وسلبيات الأخلاق:ألف- الذليل عزيز بأخلاقه:
يقول الإمام علي عليه السلام: "ربّ عزيز أذلّه خلقه، وذليل أعزّه خلقه"(8).
ب- حسن الخلق والرزق الغنى المادي:
عن الإمام علي عليه السلام: "حسن الخلق يدرُّ الأرزاق ويؤنس الرفاق"(9).
ج- المحبة:
عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: "حسن الخلق يثبت المودة"(10)
"سوء الخلق يُوحش القريب وينفر البعيد"(11)
د- راحة النفس:
عن علي عليه السلام: "سوء الخلق يوحش النفس ويرفع الأُنس"(12)
"وإذا كان سوء الخلق يوحش ويتعب النفس، فحسن الخلق يرحيها".
هـ عظيم الدرجات الأخروية:
عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الاخرة وشرف المنازل..."(13)
عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إن اللَّه تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن خلقه كما يعطي المجاهد في سبيل اللَّه يغدو عليه ويروح"(14)
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من شيء أثقل في الميزان من خلق حسن"(15)
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إن صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصائم القائم"(16)
1- تنمية العقل والعلم
ومن الأمور التي تساعد على تحصيل الخلق الحسن تنمية وتثقيف العقل، يقول علي عليه السلام: "الخلق المحمود من ثمار العقل، الخلق المذموم من ثمار الجهل"(17)
2-ترويض وجهاد النفس
يقول الإمام علي عليه السلام: "روِّضوا أنفسكم على الأخلاق الحسنة..."(18)
وعنه عليه السلام: "ثابروا على اقتناء المكارم"(19).
وعنه أيضاً عليه السلام: "ابذل في المكارم جهدك تخلص من الماثم، وتحرز المكارم"(20)
وعنه عليه السلام: "تجنّب كلَّ خلق أسوأه، وجاهد نفسك على تجنّبه، فإن الشّر لجاجة"(21)
4- التعوّد على المكارم
عن الإمام علي عليه السلام: "عوِّد نفسك السماح، وتخيّر لها من كل خلق أحسنه، فإن الخير عادة"(22)
يقول العلامة الطباطبائي: "اعلم أن اصلاح أخلاق النفس وملكاتها في جانبي العلم والعمل، واكتساب الأخلاق الفاضلة، وإزالة الأخلاق الرذيلة، إنما هو بتكرار الأعمال الصالحة المناسبة لها ومزاولتها، والمداومة عليها، حتى تثبت في النفس،... وتتراكم وتنتقش في النفس انتقاشاً متعذر الزوال أو متعسرها، مثلاً: إذا أراد الإنسان إزالة صفة الجبن، واقتناء ملكة الشجاعة كان عليه أن يكرر الورود في الشدائد والمهاول... وكلّما ورد في مورد وشاهد أنه كان يمكنه الورود فيه وأدرك لذة الإقدام وشناعة الفرار والتحذر انتقشت نفسه بذلك انتقاشاً بعد انتقاش حتى تثبت فيها ملكة الشجاعة..."(23)
5- الصحبة الصالحة
يقول علي بن الحسين عليه السلام: "مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح..."(24)
أيها الأخوة الأعزاء، لتسعوا جهدكم، ولتعملوا على تحصيل الإرادة القوية، لكي تسيروا في خط الأخلاق الحسنة، وتتكاملوا في طريق الإنسانية، فمن لا إرادة له، فمن الصعوبة بل من المستحيل أن يصل إلى اللَّه، فاللَّه لا يصل إليه إلا من كان ذا عزم وإرادة.
اللهم أعنّا على تقوية إرادتنا، ووفقنا لذلك يا قوي يا عزيز، إنك سميع مجيب.
في العزم
يقول الإمام الخميني قدس سره: يقول أحد مشايخنا: "إن العزم هو جوهر الإنسانية، ومعيار ميزة الإنسان، وإن اختلاف درجات الإنسان باختلاف درجات عزمه".والعزم... هو أن يوطن الإنسان نفسه ويتخذ قراراً بترك المعاصي وبأداء الواجبات، وتدارك ما فاته أيام حياته، وبالتالي أن يعمل على أن يجعل ظاهره إنساناً عاقلاً وشرعياً، بحيث يحكم الشرع والعقل بحسب الظاهر بأن هذا الشخص إنسان. والإنسان الشرعي هو الذي ينظم سلوكه وفق ما يتطلبه الشرع، وأن يكون ظاهره كظاهر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يقتدي بالنبي العظيم صلى الله عليه وآله وسلم ويتأسَّى به في جميع حركاته وسكناته، وفي جميع ما يفعل أو ما يترك. وهذا أمر ممكن، لأن جعل الظاهر مثل هذا القائد أمر مقدور لأي فرد من عباد اللَّه.
واعلم: أن طي الطريق في المعارف الإلهية، لا يمكن إلا بالبدأ بظاهر الشريعة، وما لم يتأدب الإنسان بآداب الشريعة الحقة، لا يحصل له شيء من حقيقة الأخلاق الحسنة، كما لا يمكن أن يتجلى في قلبه نور المعرفة وتتكشف العلوم الباطنية وأسرار الشريعة. وبعد انكشاف الحقيقة، وظهور أنوار المعارف في قلبه، سيستمر أيضاً في تأدبه بالآداب الشرعية الظاهرية.
... أيها العزيز... اجتهد لتصبح ذا عزم وإرادة، فإنك إذا رحلت من هذه الدنيا دون أن يتحقق فيك العزم على ترك المحرمات فأنت إنسان صوري، بلا لب، ولن تحشر في ذلك العالم عالم الآخرة على هيئة إنسان، لأن ذلك العالم هو محل كشف الباطن وظهور السريرة، وإن التجرؤ على المعاصي يفقد الإنسان تدريجياً العزم ويختطف منه هذا الجوهر الشريف، يقول الأستاذ المعظم: "إن أكثر ما يسبب فقد الإنسان العزم والإرادة هو الاستماع للغناء".
إذاً تجنّب يا أخي المعاصي، واعزم على الهجرة إلى الحق تعالى، واجعل ظاهرك ظاهراً إنسانياً،... واطلب من اللَّه تعالى في الخلوات أن يكون معك في الطريق لهذا
الهدف، واستشفع برسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام حتى يفيض ربك عليك التوفيق، ويمسك بيدك في المزالق التي تعترضك، لأن هناك مزالق كثيرة تعترض الإنسان أيام حياته، ومن الممكن أنه في لحظة واحدة يسقط في مزلق مهلك، يعجز من السعي لإنقاذ نفسه، بل قد لا يهتم بانقاذ نفسه، بل ربما لا تشمله حتى شفاعة الشافعين. نعوذ باللَّه منها(25)
المصادر :
1- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج8، ص444.
2- انظر بحار الأنوار، المجلسي، ج68، ص372.
3- ميزان الحكمة، الري شهري، مج3، ص149، ح5058.
4- القلم4
5- البقرة286.
6- انظر: ميزان الحكمة، الري شهري، مج3، ص145 144، نقلاً عن المحجة البيضاء.
7- ن.م، ص145، ح5035.
8- ن.م، ص137، ح4987.
9- ن.م، ص151، ح5076.
10- ن.م، ص151، ح5080.
11- ن.م، ص153، ح5092.
12- ن.م، ص153، ح5091.
13- المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني، ج5، ص93.
14- الكافي، الكليني، ج2، ص10.
15- البحار، المجلسي، ج71، ص383.
16- ميزان الحكمة، مج3، ح5013.
17- ن.م، ص4993 138.
18- ن.م، ص146، ح5040.
19- ن.م، ص147، ح5046.
20- ن.م، ص147، ح5047.
21- ن.م، ص151، ح5074.
22- ن.م، ص151، ح5073.
23- تفسر الميزان، محمد حسين الطباطبائي، ج1، ص354.
24- شرح أصول الكافي، مولى محمد صالح المازندراني، ج1، ص175.
25- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، ص25 24.