
اعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده.
وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة والتربية.
أ- العوامل الثلاثة لشخصية الولد
أولاً: عامل الوراثة
من الحقائق العلمية المعترف بها اليوم أن الأبناء يرثون من ابائهم بالإضافة إلى الخصائص البدنية من شكل ولون الخصائص النفسية والعقلية.
وهذا يعني أن مسؤولية الاباء عن أبنائهم تبدأ في مرحلة سابقة
على ولادتهم، فما يتمتع به الاباء من أخلاق ومعتقدات في تلك المرحلة له تأثير على ما سيكون عليه الأبناء في تكوينهم النفسي والعقلي فضلاً عن الجسدي، سلباً أو إيجاباً.
وقد أطلق العلماء على الوسائل الناقلة للموروثات اسم "الجينات"، فيما عبرت عنه النصوص الشرعية باسم "العرق"، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: "انظر في أي شيء تضع ولدك فإن العرق دساس"، ومعنى كلمة "دساس" هو أن أخلاق الاباء تنتقل إلى الأبناء على ما ذكر في المعجم.
وهذا العامل الوراثي يساهم من خلال ما يحمله من معتقدات وأخلاق الاباء في سعادة الولد أو شقائه وهو في بطن أمه: "الشقي شقي في بطن أمه والسعيد سعيد في بطن أمه"، وهذا ما أشار إليه القران الكريم في خبر نوح عليه السلام: "وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا"(1).
وهذا يفسر أحد أسباب تشديد النصوص الشرعية على مراعاة الموازين والمعايير الإيمانية والأخلاقية في اختيار الزوج والزوجة: "تخيروا لنطفكم فإن الخال أحد الضجيعين"، وعلى الرغم من أهمية العامل الوراثي وخطورته إلا أن ما يرثه الإنسان لا يصل إلى حد الإجبار والإلجاء، على السلوك بمقتضاه، بل إن الإنسان يستطيع أن يعيد تنظيم شخصيته من خلال العقل والإرادة.
ثانياً: عامل البيئة
تترك البيئة التي يعيش فيها الإنسان تأثيراً كبيراً على شخصية الطفل، فهو يتشرب من عائلته ومدرسته ومجتمعه الأعراف والقيم والعقائد ونظام حياته، مما يسهم في تكوين شخصيته.
وقد حث الإسلام على تربية الأبناء على القيم الفضلى من خلال توفير المناخ البيئي الأمثل والذي تسود فيه قيم العدل والحق والمساواة وتزول فيه قيم الظلم والباطل والأنانية.
وقد قام علم الإجتماع على حقيقة أن الحياة الإجتماعية هي حياة تأثر وتأثير وتفاعل متبادل بين أبناء المجتمع، وأن الأصدقاء والزملاء والأقارب والجيران.. يساهمون مع الأهل في بناء وتكوين شخصية الطفل إلى حد كبير.
ولذلك وردت التوصيات في هذا المجال مؤكدة على مصاحبة الأخيار ومخالطة أهل الفضل والدين، ومجالسة العلماء وغير ذلك.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "قارن أهل الخير تكن منهم وباين أهل الشر تبن عنهم"(2).
ويقول عليه السلام أيضاً: "خير من صاحبت ذوو العلم والحلم"(3)
وقال لقمان لابنه: "يا بني.. جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن اللّه عز وجل يحيى القلوب بنور الحكمة كما يحي الأرض بوابل السماء"(4)
قال عيسى بن مريم عليه السلام للحواريين: "تحببوا إلى اللَّه وتقربوا إليه، قالوا: يا روح اللّه بماذا نتحبب إلى اللّه ونتقرب، قال: ببغض أهل المعاصي والتمسوا رضا اللّه بسخطهم، قالوا: يا روح اللّه من نجالس إذاً؟ قال: من يذكركم اللّه رؤيته، ويزيد في عملكم منطقه، ويرغبكم في الاخرة عمله"(5)
وقد بينت الأحاديث المتضافرة شروط من تنبغي معاشرتهم ومن لا ينبغي.
ثالثاً: عامل التربية
التربية هي عبارة عن إعداد الطفل بدنياً وعقلياً وروحياً، وقد أوصى الإسلام بالعناية بالأهل وتربية الأبناء على الأسس الصحيحة والسليمة، قال تعالى: "" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ""(6).
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه لما نزلت الاية السابقة قال الناس: كيف نقي أنفسنا وأهلنا؟ قال: "اعملوا الخير وذكروا به أهليكم وأدبوهم على طاعة اللَّه"(7)
وروي عن الإمام علي عليه السلام أيضاً في تفسير الاية: "علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم"(8)
ب- حقوق الولد في جوانبها الثلاثة
في رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام: "وأما حق ولدك فتعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره وأنك مسؤول عما وليته من حسن الأدب والدلالة على ربه والمعونة له على طاعته فاعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه"(9)
وفي رواية: "خير ما ورّث الاباء الأبناء الأدب"(10)
لجانب التكويني:
وتبدأ مسؤولية الأب من حين اختيار الزوجة المناسبة وهو عامل تكويني للولد خارج عن الجانب التربوي.
وعنه صلى الله عليه وآله: "تخيروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم"(11)
وعنه صلى الله عليه وآله: "تخيروا لنطفكم فإن النساء يلدن أشباه إخوانهن وأخواتهن"(12)
2- الجانب الاقتصادي:
وتمتد مسؤولية الأب إلى تأمين حاجات الأبناء الاقتصادية ومراعاة ما ينبغي رعايته في نفقة العيال، فعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "إن أرضاكم عند اللَّه أسبغكم على عياله"(13)
وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "إن المؤمن يأخذ بأدب اللَّه إذا وسّع اللَّه عليه اتسع وإذا أمسك عليه أمسك"(14)
وعنه صلى الله عليه وآله: "من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج، وليبدأ بالإناث قبل الذكور..."(15)
وهنا نجده صلى الله عليه وآله يبيّن كيفية التوزيع بينهم وأين محل الابتداء.
3- الجانب التربوي:
ومن الخطأ أن يعتقد الأباء أن مهمتهم تقتصر على تحمل الأعباء الاقتصادية فقط، فيهملون الجوانب التربوية الأخرى من تأديب وتربية ومصاحبة ومراقبة لأبنائهم:
في وصية الإمام علي عليه السلام لإبنه الحسن عليه السلام: "إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك"(16)
وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "أكرموا أولادكم وأحسنوا ادابهم يغفر لكم"(17)
وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "من كانت له ابنة فأدبها وأحسن أدبها وعلمها فأحسن تعليمها فأوسع عليها من نعم اللَّه التي أسبغ عليه، كانت له منعة وستراً من النار"(18)
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا يزال المؤمن يورث أهل بيته العلم والأدب الصالح حتى يدخلهم الجنة"(19)
ج- برنامج التربية
لقد كشف القران الكريم عن النموذج الصالح للتربية الحسنة على لسان لقمان الحكيم:
"وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ:يا بنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (20)
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ
وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ
وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ
وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ
وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ"20.
د- مراحل التربية
إن لتربية الأولاد مراحل لا يسوغ إقحام ما تطلبه كل مرحلة في الأخرى بل لا بد من القيام بالوظيفة المناسبة على ضوء التقسيم الذي دلّت عليه روايات أهل البيت عليهم السلام فقد جاء عنه عليه السلام: "دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدب سبعاً، وألزمه نفسك سبع سنين، فإن أفلح، وإلا فإنه من لا خير فيه"(21)
المرحلة الأولى: 1-7 سنوات
وهي توجب في مقام التعامل مع الأطفال عدة أمور:
أولاً: حبّهم
وهو ما ينبغي إظهاره من خلال تقبيلهم فعن النبي صلى الله عليه وآله: "أكثروا من قبلة أولادكم، فإن لكم بكل قبلة درجة في الجنة مسيرة خمسمائة عام22 أو مصارحتهم بخطاب المحبة أو المسح على رؤوسهم"
فقد ورد أن صلى الله عليه وآله: "إذا أصبح مسح على رؤوس ولده وولد ولده"(23)
ثانيا:ً الصبر عليهم
ويشمل ذلك بالتأكيد الحالات الخاصة من المرض والبكاء والتضجر والشكوى فقد جاء عن صلى الله عليه وآله: "لا تضربوا أطفالكم على بكائهم فإن بكاءهم أربعة أشهر شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأربعة أشهر الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله واله عليهم السلام وأربعة أشهر الدعاء لوالديه"(24)
ثالثا:ً ملاعبتهم وملاطفتهم
حيث كان النبي صلى الله عليه وآله يمارس ذلك ويحمل الحسن والحسين عليه السلام على ظهره وهو يقول: "نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أنتم"(25)
رابعاً: عدم الخلف بالوعد معهم
عن أبي الحسن عليه السلام: "إذا وعدتم الصبيان... ففوا لهم فإنهم يرون أنكم الذين ترزقونهم"(26)
خامساً: المساواة بينهم
وذلك في الجنس الواحد أو الجنسين، ورد عن النبي صلى الله عليه وآله: "من كان له أنثى فلم يبدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها أدخله اللَّه الجنة"(27)
المرحلة الثانية: 7-14 سنة
وهي تفرض أيضاً جملة من الواجبات.
أولا:ً تعليمهم
وهو ما يشمل الكتابة والقران الكريم والعقائد الصحيحة والأحكام الشرعية والصلاة وبعض الفنون والمهارات كالسباحة والرماية ودلّ على ذلك كله جملة من النصوص بالتفصيل(28)
يجمعها قوله صلى الله عليه وآله: "لئن يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدّق كل يوم بنصف صاع"(29)
ومن كلمات الإمام الخميني قدس سره: "إن أشرف عمل في العالم هو تربية الطفل وتزويد المجتمع بإنسان حقيقي(30).
ثانياً: اختيار البيئة السليمة لهم
وهي عبارة عن الوالدين أولاً والمعلّم والمدرسة المناسبين ثانياً وكذلك الزملاء والشخصيات البارزة التي تترك عميق الأثر وأوضح السمات في وجوه حياتهم.
فمن كلمات الإمام الخميني قدس سره بهذا الصدد: "ليكن همّ المعلمين تهذيب أنفسهم حتى يؤثر كلامهم في الاخرين"
ثالثاً: اللجوء إلى أسلوب الضرب
إذا انحصر العلاج به وهو محدّد ومبيّن في الرسالات العملية الفقهية بشروطه لكنه اخر الدواء.
المصادر :
1- نوح:26-27.
2- نهج البلاغة، ج3، ص52.
3- عيون الحكم والمواعظ، ص238.
4- بحار الأنوار، ج1، ص204.
5- بحار الأنوار، ج74، ص147.
6- 6 سورة التحريم/6.
7- ميزان الحكمة، ج1، ص56.
8- نفس المصدر.
9- تحف العقول، ص263،(أنظر الحاشية)
10- ميزان الحكمة، ج1، ص52.
11- ميزان الحكمة، ج2، ص1183.
12- نفس المصدر.
13- الكافي، ج4، ص11.
14- نفس المصدر، ص12.
15- الامالي للصدوق، ص672.
16- نهج البلاغة، ج3، ص40.
17- ميزان الحكمة، ج1، ص56.
18- نفس المصدر.
19- نفس المصدر.
20- لقمان:13-19.
21- ميزان الحكمة، ج1، ص57.
22- روضة الواعظين، ص404.
23- البحار، ج102، ص99.
24- الوسائل، ج15، ص171.
25- البحار، ج43، ص285.
26- مستدرك الوسائل، ج15، ص202.
27- م. ن، ص118.
28- راجع مستدرك الوسائل، ج15.
29- مستدرك الوسائل، ج15، ص166.
30- الكلمات القصار، ص247.
وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة والتربية.
أ- العوامل الثلاثة لشخصية الولد
أولاً: عامل الوراثة
من الحقائق العلمية المعترف بها اليوم أن الأبناء يرثون من ابائهم بالإضافة إلى الخصائص البدنية من شكل ولون الخصائص النفسية والعقلية.
وهذا يعني أن مسؤولية الاباء عن أبنائهم تبدأ في مرحلة سابقة
على ولادتهم، فما يتمتع به الاباء من أخلاق ومعتقدات في تلك المرحلة له تأثير على ما سيكون عليه الأبناء في تكوينهم النفسي والعقلي فضلاً عن الجسدي، سلباً أو إيجاباً.
وقد أطلق العلماء على الوسائل الناقلة للموروثات اسم "الجينات"، فيما عبرت عنه النصوص الشرعية باسم "العرق"، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: "انظر في أي شيء تضع ولدك فإن العرق دساس"، ومعنى كلمة "دساس" هو أن أخلاق الاباء تنتقل إلى الأبناء على ما ذكر في المعجم.
وهذا العامل الوراثي يساهم من خلال ما يحمله من معتقدات وأخلاق الاباء في سعادة الولد أو شقائه وهو في بطن أمه: "الشقي شقي في بطن أمه والسعيد سعيد في بطن أمه"، وهذا ما أشار إليه القران الكريم في خبر نوح عليه السلام: "وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا"(1).
وهذا يفسر أحد أسباب تشديد النصوص الشرعية على مراعاة الموازين والمعايير الإيمانية والأخلاقية في اختيار الزوج والزوجة: "تخيروا لنطفكم فإن الخال أحد الضجيعين"، وعلى الرغم من أهمية العامل الوراثي وخطورته إلا أن ما يرثه الإنسان لا يصل إلى حد الإجبار والإلجاء، على السلوك بمقتضاه، بل إن الإنسان يستطيع أن يعيد تنظيم شخصيته من خلال العقل والإرادة.
ثانياً: عامل البيئة
تترك البيئة التي يعيش فيها الإنسان تأثيراً كبيراً على شخصية الطفل، فهو يتشرب من عائلته ومدرسته ومجتمعه الأعراف والقيم والعقائد ونظام حياته، مما يسهم في تكوين شخصيته.
وقد حث الإسلام على تربية الأبناء على القيم الفضلى من خلال توفير المناخ البيئي الأمثل والذي تسود فيه قيم العدل والحق والمساواة وتزول فيه قيم الظلم والباطل والأنانية.
وقد قام علم الإجتماع على حقيقة أن الحياة الإجتماعية هي حياة تأثر وتأثير وتفاعل متبادل بين أبناء المجتمع، وأن الأصدقاء والزملاء والأقارب والجيران.. يساهمون مع الأهل في بناء وتكوين شخصية الطفل إلى حد كبير.
ولذلك وردت التوصيات في هذا المجال مؤكدة على مصاحبة الأخيار ومخالطة أهل الفضل والدين، ومجالسة العلماء وغير ذلك.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "قارن أهل الخير تكن منهم وباين أهل الشر تبن عنهم"(2).
ويقول عليه السلام أيضاً: "خير من صاحبت ذوو العلم والحلم"(3)
وقال لقمان لابنه: "يا بني.. جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن اللّه عز وجل يحيى القلوب بنور الحكمة كما يحي الأرض بوابل السماء"(4)
قال عيسى بن مريم عليه السلام للحواريين: "تحببوا إلى اللَّه وتقربوا إليه، قالوا: يا روح اللّه بماذا نتحبب إلى اللّه ونتقرب، قال: ببغض أهل المعاصي والتمسوا رضا اللّه بسخطهم، قالوا: يا روح اللّه من نجالس إذاً؟ قال: من يذكركم اللّه رؤيته، ويزيد في عملكم منطقه، ويرغبكم في الاخرة عمله"(5)
وقد بينت الأحاديث المتضافرة شروط من تنبغي معاشرتهم ومن لا ينبغي.
ثالثاً: عامل التربية
التربية هي عبارة عن إعداد الطفل بدنياً وعقلياً وروحياً، وقد أوصى الإسلام بالعناية بالأهل وتربية الأبناء على الأسس الصحيحة والسليمة، قال تعالى: "" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ""(6).
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه لما نزلت الاية السابقة قال الناس: كيف نقي أنفسنا وأهلنا؟ قال: "اعملوا الخير وذكروا به أهليكم وأدبوهم على طاعة اللَّه"(7)
وروي عن الإمام علي عليه السلام أيضاً في تفسير الاية: "علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم"(8)
ب- حقوق الولد في جوانبها الثلاثة
في رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام: "وأما حق ولدك فتعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره وأنك مسؤول عما وليته من حسن الأدب والدلالة على ربه والمعونة له على طاعته فاعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه"(9)
وفي رواية: "خير ما ورّث الاباء الأبناء الأدب"(10)
لجانب التكويني:
وتبدأ مسؤولية الأب من حين اختيار الزوجة المناسبة وهو عامل تكويني للولد خارج عن الجانب التربوي.
وعنه صلى الله عليه وآله: "تخيروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم"(11)
وعنه صلى الله عليه وآله: "تخيروا لنطفكم فإن النساء يلدن أشباه إخوانهن وأخواتهن"(12)
2- الجانب الاقتصادي:
وتمتد مسؤولية الأب إلى تأمين حاجات الأبناء الاقتصادية ومراعاة ما ينبغي رعايته في نفقة العيال، فعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "إن أرضاكم عند اللَّه أسبغكم على عياله"(13)
وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "إن المؤمن يأخذ بأدب اللَّه إذا وسّع اللَّه عليه اتسع وإذا أمسك عليه أمسك"(14)
وعنه صلى الله عليه وآله: "من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج، وليبدأ بالإناث قبل الذكور..."(15)
وهنا نجده صلى الله عليه وآله يبيّن كيفية التوزيع بينهم وأين محل الابتداء.
3- الجانب التربوي:
ومن الخطأ أن يعتقد الأباء أن مهمتهم تقتصر على تحمل الأعباء الاقتصادية فقط، فيهملون الجوانب التربوية الأخرى من تأديب وتربية ومصاحبة ومراقبة لأبنائهم:
في وصية الإمام علي عليه السلام لإبنه الحسن عليه السلام: "إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك"(16)
وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "أكرموا أولادكم وأحسنوا ادابهم يغفر لكم"(17)
وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "من كانت له ابنة فأدبها وأحسن أدبها وعلمها فأحسن تعليمها فأوسع عليها من نعم اللَّه التي أسبغ عليه، كانت له منعة وستراً من النار"(18)
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا يزال المؤمن يورث أهل بيته العلم والأدب الصالح حتى يدخلهم الجنة"(19)
ج- برنامج التربية
لقد كشف القران الكريم عن النموذج الصالح للتربية الحسنة على لسان لقمان الحكيم:
"وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ:يا بنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (20)
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ
وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ
وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ
وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ
وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ"20.
د- مراحل التربية
إن لتربية الأولاد مراحل لا يسوغ إقحام ما تطلبه كل مرحلة في الأخرى بل لا بد من القيام بالوظيفة المناسبة على ضوء التقسيم الذي دلّت عليه روايات أهل البيت عليهم السلام فقد جاء عنه عليه السلام: "دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدب سبعاً، وألزمه نفسك سبع سنين، فإن أفلح، وإلا فإنه من لا خير فيه"(21)
المرحلة الأولى: 1-7 سنوات
وهي توجب في مقام التعامل مع الأطفال عدة أمور:
أولاً: حبّهم
وهو ما ينبغي إظهاره من خلال تقبيلهم فعن النبي صلى الله عليه وآله: "أكثروا من قبلة أولادكم، فإن لكم بكل قبلة درجة في الجنة مسيرة خمسمائة عام22 أو مصارحتهم بخطاب المحبة أو المسح على رؤوسهم"
فقد ورد أن صلى الله عليه وآله: "إذا أصبح مسح على رؤوس ولده وولد ولده"(23)
ثانيا:ً الصبر عليهم
ويشمل ذلك بالتأكيد الحالات الخاصة من المرض والبكاء والتضجر والشكوى فقد جاء عن صلى الله عليه وآله: "لا تضربوا أطفالكم على بكائهم فإن بكاءهم أربعة أشهر شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأربعة أشهر الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله واله عليهم السلام وأربعة أشهر الدعاء لوالديه"(24)
ثالثا:ً ملاعبتهم وملاطفتهم
حيث كان النبي صلى الله عليه وآله يمارس ذلك ويحمل الحسن والحسين عليه السلام على ظهره وهو يقول: "نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أنتم"(25)
رابعاً: عدم الخلف بالوعد معهم
عن أبي الحسن عليه السلام: "إذا وعدتم الصبيان... ففوا لهم فإنهم يرون أنكم الذين ترزقونهم"(26)
خامساً: المساواة بينهم
وذلك في الجنس الواحد أو الجنسين، ورد عن النبي صلى الله عليه وآله: "من كان له أنثى فلم يبدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها أدخله اللَّه الجنة"(27)
المرحلة الثانية: 7-14 سنة
وهي تفرض أيضاً جملة من الواجبات.
أولا:ً تعليمهم
وهو ما يشمل الكتابة والقران الكريم والعقائد الصحيحة والأحكام الشرعية والصلاة وبعض الفنون والمهارات كالسباحة والرماية ودلّ على ذلك كله جملة من النصوص بالتفصيل(28)
يجمعها قوله صلى الله عليه وآله: "لئن يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدّق كل يوم بنصف صاع"(29)
ومن كلمات الإمام الخميني قدس سره: "إن أشرف عمل في العالم هو تربية الطفل وتزويد المجتمع بإنسان حقيقي(30).
ثانياً: اختيار البيئة السليمة لهم
وهي عبارة عن الوالدين أولاً والمعلّم والمدرسة المناسبين ثانياً وكذلك الزملاء والشخصيات البارزة التي تترك عميق الأثر وأوضح السمات في وجوه حياتهم.
فمن كلمات الإمام الخميني قدس سره بهذا الصدد: "ليكن همّ المعلمين تهذيب أنفسهم حتى يؤثر كلامهم في الاخرين"
ثالثاً: اللجوء إلى أسلوب الضرب
إذا انحصر العلاج به وهو محدّد ومبيّن في الرسالات العملية الفقهية بشروطه لكنه اخر الدواء.
المصادر :
1- نوح:26-27.
2- نهج البلاغة، ج3، ص52.
3- عيون الحكم والمواعظ، ص238.
4- بحار الأنوار، ج1، ص204.
5- بحار الأنوار، ج74، ص147.
6- 6 سورة التحريم/6.
7- ميزان الحكمة، ج1، ص56.
8- نفس المصدر.
9- تحف العقول، ص263،(أنظر الحاشية)
10- ميزان الحكمة، ج1، ص52.
11- ميزان الحكمة، ج2، ص1183.
12- نفس المصدر.
13- الكافي، ج4، ص11.
14- نفس المصدر، ص12.
15- الامالي للصدوق، ص672.
16- نهج البلاغة، ج3، ص40.
17- ميزان الحكمة، ج1، ص56.
18- نفس المصدر.
19- نفس المصدر.
20- لقمان:13-19.
21- ميزان الحكمة، ج1، ص57.
22- روضة الواعظين، ص404.
23- البحار، ج102، ص99.
24- الوسائل، ج15، ص171.
25- البحار، ج43، ص285.
26- مستدرك الوسائل، ج15، ص202.
27- م. ن، ص118.
28- راجع مستدرك الوسائل، ج15.
29- مستدرك الوسائل، ج15، ص166.
30- الكلمات القصار، ص247.