
عندما نراجع الروايات التي تحدثت عن إمامة أبي بكر للصحابة في الصلاة في مرض النبي (صلى الله عليه وآله) فاننا نجد أنفسنا أمام مجموعة من الروايات المتضاربة، في أشياء كثيرة، حول عدد الأيام التي صلّى فيها أبو بكر بالناس، وعدد الصلوات التي صلاها، وحتى مكان جلوس النبي (صلى الله عليه وآله) منه، والنفر الذين كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتهادى بينهم - لشدة مرضه- عند خروجه للصلاة وغيرذلك، وهذا أمر مستغرب حقاً في حادثة حدثت في المسجد النبوي الشريف، وعلى مرأى ومسمع من اُلوف الصحابة، أو كلّهم كما يدعي ابن كثير، ومع ذلك فالروايات بطرق قليلة -أهمها روايات عائشة التي شكلت الثقل الأهم في الصحيحين وبخاصة البخاري - مع أن عائشة لم تدّع الرؤية، ولا ثبت أنها كانت في المسجد ورأت بعينها شيئاً، ولكنها مع ذلك لا تنسب الرواية الى أحد غيرها!
وقد أفاض ابن كثير في هذا الموضوع، فأورد جميع الروايات التي تحدثت عن صلاة أبي بكر من مصادرها المختلفة، وقام بمناقشتها مبدياً رأيه في الأمر كله، ليخرج بالنتيجة التي ظنّها صحيحة ومرضية. وأول تناقض في الروايات نجده فيما ذكره ابن كثير، من أن الإمام أحمد أخرج عن عبدالله بن زمعة، قال: لما استعزّ برسول الله (صلى الله عليه وآله) -وأنا عنده في نفر من المسلمين- دعا بلال للصلاة فقال: "مروا من يصلي بالناس"، فخرجت فاذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائباً، فقلت: قم يا عمر فصل بالناس، فقام، فلما كبّر عمر، سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) صوته -وكان عمر رجلا مجهراً- فقال رسول الله: فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون (مرتين)! فبعث الى أبي بكر فجاء بعدما صلّى عمر تلك الصلاة فصلّى بالناس. وقال عبدالله بن زمعة: قال لي عمر: ويحك ماذا صنعت يا ابن زمعة، والله ما ظننت حين أمرتني إلاّ أن رسول الله أمرني بذلك، ولولا ذلك ما صليت. قلت: والله ما أمرني رسول الله، ولكن حين لم أرَ أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة...
وقال أبو داود، عن عبدالله بن عتبة، أن عبدالله بن زمعة أخبره، قال: لما سمع النبي(صلی الله عليه وآله وسلم ) صوت عمر، قال ابن زمعة: خرج النبي (صلى الله عليه وآله) حتى أطلع رأسه من حجرته ثم قال: "لا، لا، لا يصلي للناس إلاّ إبن أبي قحافة"، يقول ذلك مغضباً!
لا أدري ما سبب غضب النبي وهو لم يعين في بداية الأمر اسم الشخص الذي يريده أن يصلي بالناس، ولا أدري أيضاً كيف عرف ابن زمعة أن النبي كان يعني أبا بكر، فلما لم يجده اختار عمر، وفي هذه الرواية ما يوحي بالنص ليس على أبي بكر فحسب، بل وعلى عمر أيضاً من بعده!
لكن الروايات الاُخرى - وأكثرها عن عائشة- تذكر أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد حدّد الشخص المطلوب للصلاة، وهو أبو بكر، وأن عائشة هي التي كانت تحاول صرفه عن ذلك حتى أغضبته، فقد أورد ابن كثير فيما أخرج البخاري عن عائشة قالت:
لما مرض النبي (صلى الله عليه وآله) مرضه الذي مات فيه، فحضرت الصلاة فأذّن بلال، فقال: "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"، فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلّي بالناس، وأعاد فأعادوا له فأعاد الثالثة، فقال: "إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"، فخرج أبو بكر، فوجد النبي (صلى الله عليه وآله) في نفسه خفة فخرج يهادي بين رجلين، كأني أنظر الى رجليه تخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي (صلى الله عليه وآله) أن مكانك، ثم أتى به حتى جلس الى جنبه، قيل للأعمش: فكان النبي (صلى الله عليه وآله) يصلّي وأبو بكر يصلّي بصلاته، والناس يصلّون بصلاة أبي بكر؟ فقال برأسه: نعم!
قال ابن حجر:
هي العشاء، كما في رواية موسى بن أبي عائشة (قوله: فأعاد الثالثة فقال إنكن صواحب يوسف).. وفيه أيضاً: فمرّ عمر فقال: مه، إنكن لأنتن صواحب يوسف; وصواحب جمع صاحبة، والمراد إنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن، ثم إن هذا الخطاب وإن كان بلفظ الجمع، فالمراد به واحد وهي عائشة... وإن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المؤتمّين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك وهو أن لا يتشاءم الناس به...
وأورد ابن حجر ما في رواية موسى ابن أبي عائشة أن أبا بكر قال: يا عمر صلِّ بالناس، فقال له عمر: أنت أحق بذلك.
قال في شرحه: وقول أبي بكر هذا لم يرد به ما أرادت عائشة، قال النووي: تأوله بعضهم على أنه قاله تواضعاً، وليس كذلك، بل قاله للعذر المذكور، وهو كونه رقيق القلب كثير البكاء، فخشي أن لا يسمع الناس.
قال ابن حجر: ويحتمل أن يكون(رضي الله عنه) فهم من الإمامة الصغرى الإمامة العظمى، وعلم ما في تحملها من الخطر، وعلم قوة عمر على ذلك فاختاره...
وهذا في الحقيقة إيحاء آخر -من ابن حجر هذه المرة- بأن إمامة الصلاة إنما هي نص على الإمامة الكبرى أي الخلافة.
وحول خروج النبي (صلى الله عليه وآله) يتهادى بين رجلين والاختلاف فيهما حسب الروايات يقول ابن حجر:
(قوله بين رجلين): في الحديث الثاني من حديثي الباب أنهما العباس بن عبدالمطلب وعلي بن أبي طالب، ومثله في رواية موسى بن أبي عائشة، و وقع في رواية عاصم المذكورة: وجد خفّة من نفسه فخرج بين بريرة ونُويّة، ويُجمع كما قال النووي بأنه خرج من البيت الى المسجد بين هذين، ومن ثم الى مقام الصلاة بين العباس وعلي، أو يحمل على التعدد، ويدل عليه ما في رواية الدارقطني أنه خرج بين اُسامة بن زيد والفضل بن العباس، وأما ما في مسلم: أنه خرج بين الفضل بن العباس وعلي، فذاك في مجيئه الى بيت عائشة...
إن الحمل على التعدد قد يكون صحيحاً إذا صحّ المطلب نفسه، أي إذا تكررت حادثة خروج النبي (صلى الله عليه وآله) الى الصلاة في المسجد بعد شروع أبي بكر في الصلاة، إلاّ أن ذلك لا يمكن إثباته، إذ أن جلّ الروايات توحي بعدم تكرر ذلك الحادث، أما التبريرات الاُخرى حول اختلاف أسماء الأشخاص، فلا يخفى على اللبيب أنها مصطنعة، ولقد أشار ابن حجر الى ذلك إشارة غامضة فقال: ودعوى وجود العباس في كل مرة والذي يتبدل غيره مردودة...
وعن كيفية جلوس النبي (صلى الله عليه وآله) بعد خروجه الى المسجد -وحينما كان أبو بكر قد شرع في الصلاة- اضطربت الروايات واختلفت، وأورد ابن كثير روايات متعددة في ذلك، إذ أورد فيما أخرج أحمد عن ابن عباس قال: لما مرض النبي (صلى الله عليه وآله)، أمر أبا بكر أن يصلّي بالناس، ثم وجد خفة فخرج، فلما أحس به أبو بكر أراد أن ينكص، فأومأ إليه النبي (صلى الله عليه وآله) فجلس إلى جنب أبي بكر عن يساره، واستفتح من الآية التي انتهى إليها أبو بكر(رضي الله عنه).
قال ابن كثير: ثم رواه أيضاً عن وكيع، عن ابن عباس بأطول من هذا، وقال وكيع مرة: فكان أبو بكر يأتم بالنبي (صلى الله عليه وآله)، والناس يأتمون بأبي بكر...، وقد قال الإمام أحمد عن مسروق عن عائشة قالت:
صلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) خلف أبي بكر قاعداً في مرضه الذي مات فيه! وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث شعبة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال أحمد، عن مسروق عن عائشة: إن أبا بكر صلّى بالناس ورسول الله (صلى الله عليه وآله) في الصف!
وقال البيهقي، عن عائشة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلّى خلف أبي بكر! وهذا إسناد جيد ولم يخرجوه.
قال البيهقي: عن أنس بن مالك: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج وأبو بكر يصلّي بالناس فجلس الى جنبه... فصلّى بصلاته!
قال البيهقي (عن أنس): آخر صلاة صلاّها رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع القوم في ثوب ملتحفاً به خلف أبي بكر! قلت: وهذا اسناد جيد على شرط الصحيح ولم يخرجوه.
وهذا التقيد جيد بأنها آخر صلاة صلاّها مع الناس (صلى الله عليه وآله) (1).
فنلاحظ أن بعض الروايات تقول: إن النبي جلس إلى يسار أبي بكر، واُخرى تقول إنه جلس خلفه، واُخرى تقول إنه كان في الصف.
وفوق هذا وذاك نجد اُم المؤمنين عائشة -وهي راوية عدد كبير من أحاديث الصلاة هذه- تعود فتذكر اختلاف الناس في هذه القضية، حيث يذكر ابن حجر عن ابن خزيمة في صحيحه عن محمد بن بشار عن أبي داود بسنده هذا عن عائشة قالت: من الناس من يقول: كان أبو بكر المقدّم بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الصف، ومنهم من يقول: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو المقدّم.
قال ابن حجر: ورواه مسلم بن إبراهيم عن شعبة بلفظ أن النبي (صلى الله عليه وآله) صلّى خلف أبي بكر. أخرجه ابن المنذر، وهذا عكس رواية أبي موسى، وهو اختلاف شديد! ووقع في رواية مسروق عنها أيضاً اختلاف، فأخرجه ابن حيّان من رواية عاصم عن شقيق عنه بلفظ: كان أبو بكر يصلّي بصلاته والناس يصلّون بصلاة أبي بكر، وأخرجه الترمذي والنسائي وابن خزيمة من رواية شعبة عن نعيم بن أبي هند عن شقيق بلفظ: أن النبي (صلى الله عليه وآله) صلّى خلف أبي بكر، وظاهر رواية محمد بن بشار أن عائشة لم تشاهد الهيئة المذكورة، ولكن تظافرت الروايات عنها بالجزم بما يدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان هو الإمام في تلك الصلاة...(2)
وأما عن عدد الأيام التي صلّى فيها أبو بكر بالمسلمين، فيقول ابن كثير رأيه فيها مستنبطاً ذلك من الروايات التي ذكرت الأمر، فيقول:
ذكر البيهقي عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وآله) صلّى خلف أبي بكر في ثوب واحد مخالفاً بين طرفيه، فلما أراد أن يقوم، قال: "اُدع لي اُسامة بن زيد" فجاء، فأسند ظهره الى نمره، فكانت آخر صلاة صلاّها. قال البيهقي: ففي هذا دلالة أن هذه الصلاة كانت صلاة الصبح من يوم الاثنين يوم الوفاة، لأنها آخر صلاة صلاّها لما ثبت أنه توفي ضحى يوم الاثنين، وهذا الذي قال البيهقي أخذه مسلّماً من مغازي موسى بن عقبة فانه كذلك ذكر. وكذا روى أبو الأسود عن عروة -وذلك ضعيف- بل هذه آخر صلاة صلاّها مع القوم كما تقدّم تقييده في الرواية الاُخرى، والحديث واحد، فيُحمل مطلقه على مقيّده، ثم لا يجوز أن تكون هذه صلاة الصبح من يوم الاثنين يوم الوفاة، لأن تلك لم يصلّها مع الجماعة، بل في بيته لما به من الضعف (صلى الله عليه وآله)، والدليل على ذلك ما قال البخاري عن أنس بن مالك -وكان تبع النبي(صلی الله عليه وآله وسلم ) وخدمه وصحبه- أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع النبي (صلى الله عليه وآله) الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة، فكشف النبي (صلى الله عليه وآله) ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف تبسّم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي (صلى الله عليه وآله)، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النبي (صلى الله عليه وآله) خارج الى الصلاة، فأشار إلينا (صلى الله عليه وآله) أن أتموا صلاتكم وأرخى الستر وتوفي في يومه (صلى الله عليه وآله). وقد رواه مسلم عن أنس، ثم قال البخاري عن أنس بن مالك: لم يخرج النبي (صلى الله عليه وآله) ثلاثاً، فاُقيمت الصلاة، فذهب أبو بكر يتقدّم فقال نبي الله: "عليكم بالحجاب" فرفعه، فلما وضح وجه النبي (صلى الله عليه وآله) ما نظرنا منظراً كان أعجب إلينا من وجه النبي (صلى الله عليه وآله) حين وضح لنا; فاومأ (صلى الله عليه وآله) بيده الى أبي بكر أن يتقدّم وأرخى النبي (صلى الله عليه وآله) الحجاب، فلم يُقدر عليه حتى مات (صلى الله عليه وآله). ورواه مسلم من حديث عبدالصمد بن عبدالوارث عن أبيه، فهذا أوضح دليل على أنه (عليه السلام) لم يصلّ يوم الاثنين صلاة الصبح مع الناس، وأنه كان قد انقطع عنهم لم يخرج إليهم ثلاثاً، قلنا: فعلى هذا يكون آخر صلاة صلاّها معهم الظهر كما جاء مصرّحاً به في حديث عائشة المتقدّم، ويكون ذلك يوم الخميس لا يوم السبت ولا يوم الأحد كما حكاه البيهقي عن مغازي موسى بن عقبة وهو ضعيف، ولما قدّمنا من خطبته بعدها، ولأنه انقطع عنهم يوم الجمعة والسبت والأحد! وهذه ثلاثة أيام كوامل...(3)
هكذا بنى ابن كثير استنتاجه من خلال الروايات المتضاربة، مدّعياً بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد انقطع عن الصلاة بالمسلمين في مسجده الشريف ثلاثة أيام من بينها يوم الجمعة! وهنا يحق لنا أن نتساءل: من الذي صلّى يوم الجمعة صلاتها وألقى خطبتها؟ فاذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد أوكل أمر إمامة الصلاة الى أبي بكر، فينبغي أن يكون أبو بكر هو الذي صلاّها وألقى خطبتها، فلماذا لم يصلنا هذا الخبر المهم، ولماذا لم تسمع اُذن الدنيا كلمة من الخطبة التي ألقاها أبو بكر في تلك الجمعة، مع أنها أول صلاة جمعة لا يحضرها النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو حدث تأريخي مهم حقيق بالمسلمين أن يحفظوه لأبي بكر - الذي حفظوا له أقوالا وخطباً كثيرة- فما بالهم لا يلتفتون الى هذه المسألة التي تشكل دعامة مهمة في استخلافه!
إن الاستنتاج الذي نخرج به من كل ذلك هو أن المتعصبين قد تلاعبوا بهذا الموضوع كما تلاعبوا بكل شيء يمت الى تراثنا، وزيّفوا الحقائق ووضعوا الروايات المتكاثرة نصرة للنظرة المتعصبة الضيّقة، لذا نجد هذه الروايات المتناقضة التي حيّرت الشرّاح وهم يعتصرون أدمغتهم في محاولة الجمع بينها، كما أوقعت بعض هذه الروايات الفقهاء أيضاً في تناقضات كثيرة، سنذكر مثالا لها بعد قليل. ولنستمع أولا الى ما يقوله ابن أبي الحديد المعتزلي حول موضوع صلاة أبي بكر، نقلا عن شيخه أبي يعقوب:
... ومن حديث الصلاة بالناس ما عُرف، فنسب علي (عليه السلام) الى عائشة أنها أمرت بلالا مولى أبيها أن يأمره فليصلّ بالناس، لأن رسول الله كما رُوي قال: "ليصلّ بهم أحدهم"، ولم يعيّن -وكانت صلاة الصبح- فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو في آخر رمق يتهادى بين علي والفضل بن العباس، حتى قام في المحراب كما ورد في الخبر، ثم دخل فمات ارتفاع الضحى، فجعل يوم صلاته حجّة في صرف الأمر إليه، وقال: أيكم يطيب نفساً أن يتقدّم قدمين قدّمهما رسول الله في الصلاة! ولم يحملوا خروج رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى الصلاة لصرفه عنها، بل لمحافظته على الصلاة ما أمكن، فبويع على هذه النكتة التي اتهمها علي (عليه السلام) على أنها ابتدأت منها، وكان علي (عليه السلام) يذكر هذا لأصحابه في خلواته كثيراً، ويقول: إنه لم يقل (صلى الله عليه وآله): "إنكن لصويحبات يوسف" إلاّ إنكاراً لهذه الحال وغضباً منها، لأنها وحفصة تبادرتا الى تعيين أبويهما، وأنه استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب، فلم يُجدِ ذلك ولا أثّر، مع قوة الداعي الذي كان يدعو الى أبي بكر ويمهّد له قاعدة الأمر...، فقلت له - رحمه الله- أفتقول أنت ان عائشة عيّنت أباها للصلاة ورسول الله لم يعيّنه؟!
فقال: أما أنا فلا أقول ذلك، ولكن علياً كان يقوله، وتكليفي غير تكليفه، كان حاضراً ولم أكن حاضراً، فأنا محجوج بالأخبار التي اتصلت بي، وهي تتضمن تعيين النبي (صلى الله عليه وآله) لأبي بكر في الصلاة، وهو محجوج بما كان قد علمه أو يغلب على ظنه من الحال التي كان حاضرها...، هذه خلاصة كلام الشيخ أبي يعقوب(رحمه الله)، ولم يكن يتشيّع، وكان شديداً في الاعتزال، إلاّ أنه في التفضيل كان بغدادياً(4).
فشيخ المعتزلي يعتقد بأن أبا بكر قد صلّى بالمسلمين صلاة واحدة وذلك فجر يوم الاثنين الذي توفي فيه النبي (صلى الله عليه وآله)، وأن النبي قد تدارك الأمر، وخرج الى الصلاة - في حالة يرثى لها من الاعياء- وصرف أبا بكر عن إمامة المصلّين.
في الحقيقة أن الشواهد تشير الى صحة رأي المعتزلي، فبعض الروايات تذكر أن النبي لم يعيّن أحداً للإمامة، بينما تدعي الروايات الاُخرى أنه عيّن أبا بكر لها، إلاّ أن نفس الروايات التي تدّعي تعيين أبي بكر بالاسم -ومعظمها عن عائشة- تعود فتعترف بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد خرج (يهادي بين رجلين ورجلاه تخطان من الوجع)، مدّعية بأنه خرج بعد أن وجد خفة! فأي خفة هذه وهو لا يستطيع أن يرفع رجليه عن الأرض؟! إن خروج النبي (صلى الله عليه وآله) بهذه الصورة المؤلمة وجلوسه الى يسار أبي بكر -لصرفه عن الإمامة- ما يقوّي الظن بأنه لم يكن راضياً عن تولي إمامة أبي بكر للصلاة، وأن عائشة هي التي دعت أباها ليؤم المصلّين -ولهذا نجدها تنفي أن تكون راغبة في تولي أبيها إمامة الصلاة باعذار واهية، من باب (يكاد المريب يقول خذوني) -ولقد أحس النبي بتآمرها هذا، فجبهها بتلك العبارة الخشنة "إنكن لصويحبات يوسف" لأنها وكما اعترف ابن حجر قد أضمرت غير ما تكشف، وقد حاول النبي (صلى الله عليه وآله) تدارك الأمر رغم صعوبة ذلك عليه، ولقد ذُهل أبو بكر بخروج النبي (صلى الله عليه وآله) على غير توقع، فنسي أن يقعد هو الآخر -كما فعل النبي- وبقي يصلّي واقفاً خلافاً للأحاديث التي تأمر بالائتمام بالإمام قياماً وجلوساً، الأمر الذي أوقع الفقهاء في إشكال عويص، ورغم ان الموضوع خارج قليلا عما نحن بصدده، إلا أننا أحببنا أن نعطي القارئ فكرة عما تسببه تزييف التراث من مشاكل للمسلمين.
صلاة القاعد
بعد أن استعرض ابن كثير الروايات المتكاثرة عن صلاة أبي بكر، وخرج منها بالاستنتاج الذي إرتآه، تطرق الى موضوع صلاة القاعد، استكمالا للمبحث، فقال تحت عنوان (فائدة):
استدل مالك والشافعي وجماعة من العلماء ومنهم البخاري بصلاته (عليه السلام) قاعداً وأبو بكر مقتدياً به قائماً والناس بأبي بكر على نسخ قوله (عليه السلام) في الحديث المتفق عليه حين صلّى ببعض أصحابه قاعداً، وقد وقع عن فرس فجحش شقّه، فصلّوا وراءه قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: "كذلك والذي نفسي بيده تفعلون كفعل فارس والروم، يقومون على عظمائهم وهم جلوس".
وقال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فاذا كبّر فكبّروا وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلّى جالساً فصلّوا جلوساً أجمعون".
قالوا: ثم إنه (عليه السلام) أمّهم قاعداً وهم قيام في مرض الموت، فدلّ على نسخ ما تقدم والله أعلم...(5)
ثم ذكر اختلاف الناس في ذلك، إلاّ أن ادعاء نسخ الحكم السابق بالاقتداء بالإمام إذا قعد لا دليل عليه، فالحديث المتفق عليه -كما قال ابن كثير- يدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد اعترض على أصحابه لوقوفهم وهو قاعد في الصلاة لأن عملهم يشبه عمل الفرس والروم في تعظيم كبرائهم، فهل تغيّرت عادة الفرس والروم حتى ينسخ الحكم تبعاً لذلك؟!
واستعرض ابن حجر آراء بعض العلماء واختلافهم في هذه المسألة، قال:
وحكى عياض عن بعض مشايخهم أن الحديث المذكور يدل على نسخ أمره المتقدم لهم بالجلوس لما صلّوا خلفه قياماً، وتعقّب بأن ذلك يحتاج -لو صحّ- الى تاريخ، وهو لا يصح، لكنه زعم أنه تقوّى بأن الخلفاء الراشدين لم يفعله أحد منهم، قال: والنسخ لا يثبت بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، لكن مواظبتهم على ترك ذلك تشهد لصحة الحديث المذكور... فالقاضي عياض يؤكد على استمرار الخلفاء الراشدين على العمل بالحديث الذي يأمر المأمومين بالاقتداء بالإمام في حال قعوده، مما يثبت أنهم قد علموا أن الحديث لم ينسخ!
ثم ينقل ابن حجر رأي القاضي ابن العربي، فقال ما ملخّصه:
واستدل على نسخ الأمر بصلاة المأموم قاعداً إذا صلّى الإمام قاعداً لكونه (صلى الله عليه وآله) أقرّ الصحابة على القيام خلفه وهو قاعد، هكذا قرره الشافعي، وكذا نقله المصنف في آخر الباب عن شيخه الحميدي، وهو تلميذ الشافعي، وبذلك يقول أبو حنيفة وأبو يوسف والأوزاعي، وحكاه الوليد بن مسلم عن مالك، وأنكر أهل النسخ الأمر المذكور بذلك، وجمع بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين:
إحداهما: إذا ابتدأ الإمام الراتب الصلاة قاعداً لمرض يُرجى برؤه فحينئذ يصلون خلفه قعوداً.
ثانيتهما: إذا ابتدأ الإمام الراتب قائماً لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياماً، سواءً طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعداً أم لا، كما في الأحاديث التي في مرض موت النبي (صلى الله عليه وآله)، فإن تقريره لهم على القيام دلّ على أنه لا يلزمهم الجلوس في تلك الحالة، لأن أبا بكر ابتدأ الصلاة بهم قائماً وصلّوا معه قياماً، بخلاف الحالة الاُولى فانه (صلى الله عليه وآله) ابتدأ الصلاة جالساً فلما صلّوا خلفه قياماً أنكر عليهم، ويقوّي هذا الجمع أن الأصل عدم النسخ، لا سيما وهو في هذه الحالة يستلزم دعوى النسخ مرّتين... وأبعد منه ما تقدم في نقل عياض، فانه يقتضي وقوع النسخ ثلاث مرات!
لقد فات هؤلاء الفقهاء أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يعترض على وقوف أبي بكر والمصلين من بعده -رغم أنه أمّهم قاعداً- لأن النبي في هذه المرّة كان على حال من المرض والألم تجعله غير متفرغ لإرشادهم الى الجلوس -كما فعل في مرة سابقة- لأن أمره لهم في المرة السابقة كان كافياً ليدلهم على الحكم ولم تكن هناك حاجة للتكرار، كما وأن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يخرج الى تلك الصلاة ليعلمهم صلاة القاعد والواقف، بل خرج -في تلك الحالة المؤلمة- متحاملا على نفسه لشدة مرضه، من أجل أن يصرف أبا بكر عن إمامة الصلاة ليس إلاّ، وليزيل ما قد يعلق بأذهان الناس من أن إمامة أبي بكر للمصلين قد تكون بأمر النبي نفسه، إلاّ أن الفقهاء وشراح الأحاديث لم يلتفتوا الى هذه النقطة المهمة، فراحوا يبنون أحكامهم على ما قد ترسخ في أذهانهم -بفعل التزييف- من أن النبي قد عيّن أبا بكر لإمامة المصلين لكي يُفهم الناس رضاه بإمامته وخلافته من بعده، وهذا هو عكس الواقع فعلا.
إن بعض الفقهاء وشرّاح الأحاديث يعترفون بالحقيقة من حيث لا يشعرون، حيث ينقل ابن حجر آراء بعض المحدّثين والفقهاء حول أحاديث الباب، فيقول: وقد قال بقول أحمد جماعة من محدّثي الشافعية كابن خزيمة وابن المنذر وابن حبّان، وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة اُخرى، منها قول ابن خزيمة: إن الأحاديث التي وردت بأمر المأموم أن يصلي قاعداً تبعاً لإمامه، لم يُختلف في صحتها ولا في سياقها! وأمّا صلاته (صلى الله عليه وآله) قاعداً، فاختلف فيها، هل كان إماماً أو مأموماً؟ قال:وما لم يُختلف فيه لا ينبغي تركه لمختلف فيه، واُجيبَ بدفع الاختلاف والحمل على أنه كان إماماً مرة ومأموماً اُخرى، ومنها أن بعضهم جمع بين القصّتين بأن الأمر بالجلوس كان للندب وتقريرهم قيامهم خلفه كان لبيان الجواز.
لا يخفى ما في محاولة الجمع من خلل، لأن الإدعاء بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد صلّى إماماً لأبي بكر مرة ومأموماً له مرة اُخرى، إنما هو إدعاء صحيح لو صحّت الأحاديث التي تذكر تعدّد الواقعة، وأن أبا بكر قد صلى بالمسلمين عدة أيام، ولكن ذلك الاضطراب والتعارض بين الروايات قد جاء بسبب كذب الرواة الذين لفّقوها، إذ أن القوم وجدوا أن صلاة أبي بكر الوحيدة بالمسلمين، وخروج النبي وصرفه عن الإمامة لا تثبت في مقام الاحتجاج بالنص على أبي بكر، فاختلقوا روايات اُخرى تدعي تكرّر صلاة أبي بكر، واضطربت أقوالهم بين كون النبي إماماً أو مأموماً، ومن المضحك حقاً أن هؤلاء لا يلتفتون الى مسألة مهمة، ألا وهي: ما معنى أن يأمر النبي (صلى الله عليه وآله) أبا بكر للصلاة بالمسلمين -بسبب مرض النبي الشديد- ثم يعود النبي فيخرج في كل مرة ليؤم المسلمين ويصرف أبا بكر عن إمامتهم، ويأتم مرة اُخرى بأبي بكر! فاذا كان النبي قد أراد تعيين أبي بكر لخلافته في إمامة الصلاة وإمامة الاُمة، فلماذا يوقع اُمّته في هذه الحيرة! ولا شك أن الأعذار التي اختلقها القوم -برغبة النبي في المحافظة على شهود صلاة الجماعة- إنما هو محاولة فاشلة اُخرى لتبرير هذا الاضطراب في الروايات.
ونعود مرة اُخرى لنستكمل ما تبقى من كلام ابن حجر في هذا الموضوع، فنصل ما انقطع منه، قال: فعلى هذا الأمر، من أمَّ قاعداً اعذر تخيّر من صلّى خلفه بين القعود والقيام! والقعود أولى لثبوت الأمر بالإئتمام والاتباع! وكثرة الأحاديث الواردة في ذلك، وأجاب ابن خزيمة عن استبعاد من استبعد ذلك بأن الأمر قد صدر من النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك، واستمر عليه عمل الصحابة في حياته وبعده، فروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن قيس بن فهد الأنصاري: أن إماماً لهم اشتكى لهم على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: فكان يؤمنا وهو جالس ونحن جلوس، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن اُسيد بن حضير أنه كان يؤم قومه، فاشتكى، فخرج إليهم بعد شكواه، فأمروه أن يصلي بهم، فقال: إني لا أستطيع أن اُصلي قائماً فاقعدوا، فصلى بهم قاعداً وهم قعود، وروى أبو داود من وجه آخر عن اُسيد بن حضير أنه قال: يا رسول الله، إمامنا مريض، قال: "إذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً"، وفي إسناده انقطاع، وروى إبن أبي شيبة بإسناد صحيح عن جابر: أنه اشتكى فحضرت الصلاة، فصلى بهم جالساً وصلوا معه جلوساً، وعن أبي هريرة أنه أفتى بذلك وإسناده صحيح أيضاً(6).
فهذه الاستشهادات ما هي في الحقيقة إلاّ اعتراف بصحة ما نذهب إليه، وبه تبين أن الصحابة جميعاً قد فهموا الأمر بأنه غير منسوخ واستمر عملهم عليه في حياة النبي وبعد وفاته أيضاً.
المصادر :
1- البداية والنهاية 5: 231 - 237.
2- فتح الباري 2: 120 - 124.
3- فتح الباري 2: 120 ـ 124.
4- يقصد أنه من القائلين بتفضيل علي بن أبي طالب. شرح نهج البلاغة: 9 ـ 197.
5- البداية والنهاية 5: 231.
6- فتح الباري 2: 120 - 124.
وقد أفاض ابن كثير في هذا الموضوع، فأورد جميع الروايات التي تحدثت عن صلاة أبي بكر من مصادرها المختلفة، وقام بمناقشتها مبدياً رأيه في الأمر كله، ليخرج بالنتيجة التي ظنّها صحيحة ومرضية. وأول تناقض في الروايات نجده فيما ذكره ابن كثير، من أن الإمام أحمد أخرج عن عبدالله بن زمعة، قال: لما استعزّ برسول الله (صلى الله عليه وآله) -وأنا عنده في نفر من المسلمين- دعا بلال للصلاة فقال: "مروا من يصلي بالناس"، فخرجت فاذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائباً، فقلت: قم يا عمر فصل بالناس، فقام، فلما كبّر عمر، سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) صوته -وكان عمر رجلا مجهراً- فقال رسول الله: فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون (مرتين)! فبعث الى أبي بكر فجاء بعدما صلّى عمر تلك الصلاة فصلّى بالناس. وقال عبدالله بن زمعة: قال لي عمر: ويحك ماذا صنعت يا ابن زمعة، والله ما ظننت حين أمرتني إلاّ أن رسول الله أمرني بذلك، ولولا ذلك ما صليت. قلت: والله ما أمرني رسول الله، ولكن حين لم أرَ أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة...
وقال أبو داود، عن عبدالله بن عتبة، أن عبدالله بن زمعة أخبره، قال: لما سمع النبي(صلی الله عليه وآله وسلم ) صوت عمر، قال ابن زمعة: خرج النبي (صلى الله عليه وآله) حتى أطلع رأسه من حجرته ثم قال: "لا، لا، لا يصلي للناس إلاّ إبن أبي قحافة"، يقول ذلك مغضباً!
لا أدري ما سبب غضب النبي وهو لم يعين في بداية الأمر اسم الشخص الذي يريده أن يصلي بالناس، ولا أدري أيضاً كيف عرف ابن زمعة أن النبي كان يعني أبا بكر، فلما لم يجده اختار عمر، وفي هذه الرواية ما يوحي بالنص ليس على أبي بكر فحسب، بل وعلى عمر أيضاً من بعده!
لكن الروايات الاُخرى - وأكثرها عن عائشة- تذكر أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد حدّد الشخص المطلوب للصلاة، وهو أبو بكر، وأن عائشة هي التي كانت تحاول صرفه عن ذلك حتى أغضبته، فقد أورد ابن كثير فيما أخرج البخاري عن عائشة قالت:
لما مرض النبي (صلى الله عليه وآله) مرضه الذي مات فيه، فحضرت الصلاة فأذّن بلال، فقال: "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"، فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلّي بالناس، وأعاد فأعادوا له فأعاد الثالثة، فقال: "إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"، فخرج أبو بكر، فوجد النبي (صلى الله عليه وآله) في نفسه خفة فخرج يهادي بين رجلين، كأني أنظر الى رجليه تخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي (صلى الله عليه وآله) أن مكانك، ثم أتى به حتى جلس الى جنبه، قيل للأعمش: فكان النبي (صلى الله عليه وآله) يصلّي وأبو بكر يصلّي بصلاته، والناس يصلّون بصلاة أبي بكر؟ فقال برأسه: نعم!
قال ابن حجر:
هي العشاء، كما في رواية موسى بن أبي عائشة (قوله: فأعاد الثالثة فقال إنكن صواحب يوسف).. وفيه أيضاً: فمرّ عمر فقال: مه، إنكن لأنتن صواحب يوسف; وصواحب جمع صاحبة، والمراد إنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن، ثم إن هذا الخطاب وإن كان بلفظ الجمع، فالمراد به واحد وهي عائشة... وإن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المؤتمّين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك وهو أن لا يتشاءم الناس به...
وأورد ابن حجر ما في رواية موسى ابن أبي عائشة أن أبا بكر قال: يا عمر صلِّ بالناس، فقال له عمر: أنت أحق بذلك.
قال في شرحه: وقول أبي بكر هذا لم يرد به ما أرادت عائشة، قال النووي: تأوله بعضهم على أنه قاله تواضعاً، وليس كذلك، بل قاله للعذر المذكور، وهو كونه رقيق القلب كثير البكاء، فخشي أن لا يسمع الناس.
قال ابن حجر: ويحتمل أن يكون(رضي الله عنه) فهم من الإمامة الصغرى الإمامة العظمى، وعلم ما في تحملها من الخطر، وعلم قوة عمر على ذلك فاختاره...
وهذا في الحقيقة إيحاء آخر -من ابن حجر هذه المرة- بأن إمامة الصلاة إنما هي نص على الإمامة الكبرى أي الخلافة.
وحول خروج النبي (صلى الله عليه وآله) يتهادى بين رجلين والاختلاف فيهما حسب الروايات يقول ابن حجر:
(قوله بين رجلين): في الحديث الثاني من حديثي الباب أنهما العباس بن عبدالمطلب وعلي بن أبي طالب، ومثله في رواية موسى بن أبي عائشة، و وقع في رواية عاصم المذكورة: وجد خفّة من نفسه فخرج بين بريرة ونُويّة، ويُجمع كما قال النووي بأنه خرج من البيت الى المسجد بين هذين، ومن ثم الى مقام الصلاة بين العباس وعلي، أو يحمل على التعدد، ويدل عليه ما في رواية الدارقطني أنه خرج بين اُسامة بن زيد والفضل بن العباس، وأما ما في مسلم: أنه خرج بين الفضل بن العباس وعلي، فذاك في مجيئه الى بيت عائشة...
إن الحمل على التعدد قد يكون صحيحاً إذا صحّ المطلب نفسه، أي إذا تكررت حادثة خروج النبي (صلى الله عليه وآله) الى الصلاة في المسجد بعد شروع أبي بكر في الصلاة، إلاّ أن ذلك لا يمكن إثباته، إذ أن جلّ الروايات توحي بعدم تكرر ذلك الحادث، أما التبريرات الاُخرى حول اختلاف أسماء الأشخاص، فلا يخفى على اللبيب أنها مصطنعة، ولقد أشار ابن حجر الى ذلك إشارة غامضة فقال: ودعوى وجود العباس في كل مرة والذي يتبدل غيره مردودة...
وعن كيفية جلوس النبي (صلى الله عليه وآله) بعد خروجه الى المسجد -وحينما كان أبو بكر قد شرع في الصلاة- اضطربت الروايات واختلفت، وأورد ابن كثير روايات متعددة في ذلك، إذ أورد فيما أخرج أحمد عن ابن عباس قال: لما مرض النبي (صلى الله عليه وآله)، أمر أبا بكر أن يصلّي بالناس، ثم وجد خفة فخرج، فلما أحس به أبو بكر أراد أن ينكص، فأومأ إليه النبي (صلى الله عليه وآله) فجلس إلى جنب أبي بكر عن يساره، واستفتح من الآية التي انتهى إليها أبو بكر(رضي الله عنه).
قال ابن كثير: ثم رواه أيضاً عن وكيع، عن ابن عباس بأطول من هذا، وقال وكيع مرة: فكان أبو بكر يأتم بالنبي (صلى الله عليه وآله)، والناس يأتمون بأبي بكر...، وقد قال الإمام أحمد عن مسروق عن عائشة قالت:
صلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) خلف أبي بكر قاعداً في مرضه الذي مات فيه! وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث شعبة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال أحمد، عن مسروق عن عائشة: إن أبا بكر صلّى بالناس ورسول الله (صلى الله عليه وآله) في الصف!
وقال البيهقي، عن عائشة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلّى خلف أبي بكر! وهذا إسناد جيد ولم يخرجوه.
قال البيهقي: عن أنس بن مالك: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج وأبو بكر يصلّي بالناس فجلس الى جنبه... فصلّى بصلاته!
قال البيهقي (عن أنس): آخر صلاة صلاّها رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع القوم في ثوب ملتحفاً به خلف أبي بكر! قلت: وهذا اسناد جيد على شرط الصحيح ولم يخرجوه.
وهذا التقيد جيد بأنها آخر صلاة صلاّها مع الناس (صلى الله عليه وآله) (1).
فنلاحظ أن بعض الروايات تقول: إن النبي جلس إلى يسار أبي بكر، واُخرى تقول إنه جلس خلفه، واُخرى تقول إنه كان في الصف.
وفوق هذا وذاك نجد اُم المؤمنين عائشة -وهي راوية عدد كبير من أحاديث الصلاة هذه- تعود فتذكر اختلاف الناس في هذه القضية، حيث يذكر ابن حجر عن ابن خزيمة في صحيحه عن محمد بن بشار عن أبي داود بسنده هذا عن عائشة قالت: من الناس من يقول: كان أبو بكر المقدّم بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الصف، ومنهم من يقول: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو المقدّم.
قال ابن حجر: ورواه مسلم بن إبراهيم عن شعبة بلفظ أن النبي (صلى الله عليه وآله) صلّى خلف أبي بكر. أخرجه ابن المنذر، وهذا عكس رواية أبي موسى، وهو اختلاف شديد! ووقع في رواية مسروق عنها أيضاً اختلاف، فأخرجه ابن حيّان من رواية عاصم عن شقيق عنه بلفظ: كان أبو بكر يصلّي بصلاته والناس يصلّون بصلاة أبي بكر، وأخرجه الترمذي والنسائي وابن خزيمة من رواية شعبة عن نعيم بن أبي هند عن شقيق بلفظ: أن النبي (صلى الله عليه وآله) صلّى خلف أبي بكر، وظاهر رواية محمد بن بشار أن عائشة لم تشاهد الهيئة المذكورة، ولكن تظافرت الروايات عنها بالجزم بما يدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان هو الإمام في تلك الصلاة...(2)
وأما عن عدد الأيام التي صلّى فيها أبو بكر بالمسلمين، فيقول ابن كثير رأيه فيها مستنبطاً ذلك من الروايات التي ذكرت الأمر، فيقول:
ذكر البيهقي عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وآله) صلّى خلف أبي بكر في ثوب واحد مخالفاً بين طرفيه، فلما أراد أن يقوم، قال: "اُدع لي اُسامة بن زيد" فجاء، فأسند ظهره الى نمره، فكانت آخر صلاة صلاّها. قال البيهقي: ففي هذا دلالة أن هذه الصلاة كانت صلاة الصبح من يوم الاثنين يوم الوفاة، لأنها آخر صلاة صلاّها لما ثبت أنه توفي ضحى يوم الاثنين، وهذا الذي قال البيهقي أخذه مسلّماً من مغازي موسى بن عقبة فانه كذلك ذكر. وكذا روى أبو الأسود عن عروة -وذلك ضعيف- بل هذه آخر صلاة صلاّها مع القوم كما تقدّم تقييده في الرواية الاُخرى، والحديث واحد، فيُحمل مطلقه على مقيّده، ثم لا يجوز أن تكون هذه صلاة الصبح من يوم الاثنين يوم الوفاة، لأن تلك لم يصلّها مع الجماعة، بل في بيته لما به من الضعف (صلى الله عليه وآله)، والدليل على ذلك ما قال البخاري عن أنس بن مالك -وكان تبع النبي(صلی الله عليه وآله وسلم ) وخدمه وصحبه- أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع النبي (صلى الله عليه وآله) الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة، فكشف النبي (صلى الله عليه وآله) ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف تبسّم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي (صلى الله عليه وآله)، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النبي (صلى الله عليه وآله) خارج الى الصلاة، فأشار إلينا (صلى الله عليه وآله) أن أتموا صلاتكم وأرخى الستر وتوفي في يومه (صلى الله عليه وآله). وقد رواه مسلم عن أنس، ثم قال البخاري عن أنس بن مالك: لم يخرج النبي (صلى الله عليه وآله) ثلاثاً، فاُقيمت الصلاة، فذهب أبو بكر يتقدّم فقال نبي الله: "عليكم بالحجاب" فرفعه، فلما وضح وجه النبي (صلى الله عليه وآله) ما نظرنا منظراً كان أعجب إلينا من وجه النبي (صلى الله عليه وآله) حين وضح لنا; فاومأ (صلى الله عليه وآله) بيده الى أبي بكر أن يتقدّم وأرخى النبي (صلى الله عليه وآله) الحجاب، فلم يُقدر عليه حتى مات (صلى الله عليه وآله). ورواه مسلم من حديث عبدالصمد بن عبدالوارث عن أبيه، فهذا أوضح دليل على أنه (عليه السلام) لم يصلّ يوم الاثنين صلاة الصبح مع الناس، وأنه كان قد انقطع عنهم لم يخرج إليهم ثلاثاً، قلنا: فعلى هذا يكون آخر صلاة صلاّها معهم الظهر كما جاء مصرّحاً به في حديث عائشة المتقدّم، ويكون ذلك يوم الخميس لا يوم السبت ولا يوم الأحد كما حكاه البيهقي عن مغازي موسى بن عقبة وهو ضعيف، ولما قدّمنا من خطبته بعدها، ولأنه انقطع عنهم يوم الجمعة والسبت والأحد! وهذه ثلاثة أيام كوامل...(3)
هكذا بنى ابن كثير استنتاجه من خلال الروايات المتضاربة، مدّعياً بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد انقطع عن الصلاة بالمسلمين في مسجده الشريف ثلاثة أيام من بينها يوم الجمعة! وهنا يحق لنا أن نتساءل: من الذي صلّى يوم الجمعة صلاتها وألقى خطبتها؟ فاذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد أوكل أمر إمامة الصلاة الى أبي بكر، فينبغي أن يكون أبو بكر هو الذي صلاّها وألقى خطبتها، فلماذا لم يصلنا هذا الخبر المهم، ولماذا لم تسمع اُذن الدنيا كلمة من الخطبة التي ألقاها أبو بكر في تلك الجمعة، مع أنها أول صلاة جمعة لا يحضرها النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو حدث تأريخي مهم حقيق بالمسلمين أن يحفظوه لأبي بكر - الذي حفظوا له أقوالا وخطباً كثيرة- فما بالهم لا يلتفتون الى هذه المسألة التي تشكل دعامة مهمة في استخلافه!
إن الاستنتاج الذي نخرج به من كل ذلك هو أن المتعصبين قد تلاعبوا بهذا الموضوع كما تلاعبوا بكل شيء يمت الى تراثنا، وزيّفوا الحقائق ووضعوا الروايات المتكاثرة نصرة للنظرة المتعصبة الضيّقة، لذا نجد هذه الروايات المتناقضة التي حيّرت الشرّاح وهم يعتصرون أدمغتهم في محاولة الجمع بينها، كما أوقعت بعض هذه الروايات الفقهاء أيضاً في تناقضات كثيرة، سنذكر مثالا لها بعد قليل. ولنستمع أولا الى ما يقوله ابن أبي الحديد المعتزلي حول موضوع صلاة أبي بكر، نقلا عن شيخه أبي يعقوب:
... ومن حديث الصلاة بالناس ما عُرف، فنسب علي (عليه السلام) الى عائشة أنها أمرت بلالا مولى أبيها أن يأمره فليصلّ بالناس، لأن رسول الله كما رُوي قال: "ليصلّ بهم أحدهم"، ولم يعيّن -وكانت صلاة الصبح- فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو في آخر رمق يتهادى بين علي والفضل بن العباس، حتى قام في المحراب كما ورد في الخبر، ثم دخل فمات ارتفاع الضحى، فجعل يوم صلاته حجّة في صرف الأمر إليه، وقال: أيكم يطيب نفساً أن يتقدّم قدمين قدّمهما رسول الله في الصلاة! ولم يحملوا خروج رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى الصلاة لصرفه عنها، بل لمحافظته على الصلاة ما أمكن، فبويع على هذه النكتة التي اتهمها علي (عليه السلام) على أنها ابتدأت منها، وكان علي (عليه السلام) يذكر هذا لأصحابه في خلواته كثيراً، ويقول: إنه لم يقل (صلى الله عليه وآله): "إنكن لصويحبات يوسف" إلاّ إنكاراً لهذه الحال وغضباً منها، لأنها وحفصة تبادرتا الى تعيين أبويهما، وأنه استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب، فلم يُجدِ ذلك ولا أثّر، مع قوة الداعي الذي كان يدعو الى أبي بكر ويمهّد له قاعدة الأمر...، فقلت له - رحمه الله- أفتقول أنت ان عائشة عيّنت أباها للصلاة ورسول الله لم يعيّنه؟!
فقال: أما أنا فلا أقول ذلك، ولكن علياً كان يقوله، وتكليفي غير تكليفه، كان حاضراً ولم أكن حاضراً، فأنا محجوج بالأخبار التي اتصلت بي، وهي تتضمن تعيين النبي (صلى الله عليه وآله) لأبي بكر في الصلاة، وهو محجوج بما كان قد علمه أو يغلب على ظنه من الحال التي كان حاضرها...، هذه خلاصة كلام الشيخ أبي يعقوب(رحمه الله)، ولم يكن يتشيّع، وكان شديداً في الاعتزال، إلاّ أنه في التفضيل كان بغدادياً(4).
فشيخ المعتزلي يعتقد بأن أبا بكر قد صلّى بالمسلمين صلاة واحدة وذلك فجر يوم الاثنين الذي توفي فيه النبي (صلى الله عليه وآله)، وأن النبي قد تدارك الأمر، وخرج الى الصلاة - في حالة يرثى لها من الاعياء- وصرف أبا بكر عن إمامة المصلّين.
في الحقيقة أن الشواهد تشير الى صحة رأي المعتزلي، فبعض الروايات تذكر أن النبي لم يعيّن أحداً للإمامة، بينما تدعي الروايات الاُخرى أنه عيّن أبا بكر لها، إلاّ أن نفس الروايات التي تدّعي تعيين أبي بكر بالاسم -ومعظمها عن عائشة- تعود فتعترف بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد خرج (يهادي بين رجلين ورجلاه تخطان من الوجع)، مدّعية بأنه خرج بعد أن وجد خفة! فأي خفة هذه وهو لا يستطيع أن يرفع رجليه عن الأرض؟! إن خروج النبي (صلى الله عليه وآله) بهذه الصورة المؤلمة وجلوسه الى يسار أبي بكر -لصرفه عن الإمامة- ما يقوّي الظن بأنه لم يكن راضياً عن تولي إمامة أبي بكر للصلاة، وأن عائشة هي التي دعت أباها ليؤم المصلّين -ولهذا نجدها تنفي أن تكون راغبة في تولي أبيها إمامة الصلاة باعذار واهية، من باب (يكاد المريب يقول خذوني) -ولقد أحس النبي بتآمرها هذا، فجبهها بتلك العبارة الخشنة "إنكن لصويحبات يوسف" لأنها وكما اعترف ابن حجر قد أضمرت غير ما تكشف، وقد حاول النبي (صلى الله عليه وآله) تدارك الأمر رغم صعوبة ذلك عليه، ولقد ذُهل أبو بكر بخروج النبي (صلى الله عليه وآله) على غير توقع، فنسي أن يقعد هو الآخر -كما فعل النبي- وبقي يصلّي واقفاً خلافاً للأحاديث التي تأمر بالائتمام بالإمام قياماً وجلوساً، الأمر الذي أوقع الفقهاء في إشكال عويص، ورغم ان الموضوع خارج قليلا عما نحن بصدده، إلا أننا أحببنا أن نعطي القارئ فكرة عما تسببه تزييف التراث من مشاكل للمسلمين.
صلاة القاعد
بعد أن استعرض ابن كثير الروايات المتكاثرة عن صلاة أبي بكر، وخرج منها بالاستنتاج الذي إرتآه، تطرق الى موضوع صلاة القاعد، استكمالا للمبحث، فقال تحت عنوان (فائدة):
استدل مالك والشافعي وجماعة من العلماء ومنهم البخاري بصلاته (عليه السلام) قاعداً وأبو بكر مقتدياً به قائماً والناس بأبي بكر على نسخ قوله (عليه السلام) في الحديث المتفق عليه حين صلّى ببعض أصحابه قاعداً، وقد وقع عن فرس فجحش شقّه، فصلّوا وراءه قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: "كذلك والذي نفسي بيده تفعلون كفعل فارس والروم، يقومون على عظمائهم وهم جلوس".
وقال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فاذا كبّر فكبّروا وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلّى جالساً فصلّوا جلوساً أجمعون".
قالوا: ثم إنه (عليه السلام) أمّهم قاعداً وهم قيام في مرض الموت، فدلّ على نسخ ما تقدم والله أعلم...(5)
ثم ذكر اختلاف الناس في ذلك، إلاّ أن ادعاء نسخ الحكم السابق بالاقتداء بالإمام إذا قعد لا دليل عليه، فالحديث المتفق عليه -كما قال ابن كثير- يدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد اعترض على أصحابه لوقوفهم وهو قاعد في الصلاة لأن عملهم يشبه عمل الفرس والروم في تعظيم كبرائهم، فهل تغيّرت عادة الفرس والروم حتى ينسخ الحكم تبعاً لذلك؟!
واستعرض ابن حجر آراء بعض العلماء واختلافهم في هذه المسألة، قال:
وحكى عياض عن بعض مشايخهم أن الحديث المذكور يدل على نسخ أمره المتقدم لهم بالجلوس لما صلّوا خلفه قياماً، وتعقّب بأن ذلك يحتاج -لو صحّ- الى تاريخ، وهو لا يصح، لكنه زعم أنه تقوّى بأن الخلفاء الراشدين لم يفعله أحد منهم، قال: والنسخ لا يثبت بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، لكن مواظبتهم على ترك ذلك تشهد لصحة الحديث المذكور... فالقاضي عياض يؤكد على استمرار الخلفاء الراشدين على العمل بالحديث الذي يأمر المأمومين بالاقتداء بالإمام في حال قعوده، مما يثبت أنهم قد علموا أن الحديث لم ينسخ!
ثم ينقل ابن حجر رأي القاضي ابن العربي، فقال ما ملخّصه:
واستدل على نسخ الأمر بصلاة المأموم قاعداً إذا صلّى الإمام قاعداً لكونه (صلى الله عليه وآله) أقرّ الصحابة على القيام خلفه وهو قاعد، هكذا قرره الشافعي، وكذا نقله المصنف في آخر الباب عن شيخه الحميدي، وهو تلميذ الشافعي، وبذلك يقول أبو حنيفة وأبو يوسف والأوزاعي، وحكاه الوليد بن مسلم عن مالك، وأنكر أهل النسخ الأمر المذكور بذلك، وجمع بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين:
إحداهما: إذا ابتدأ الإمام الراتب الصلاة قاعداً لمرض يُرجى برؤه فحينئذ يصلون خلفه قعوداً.
ثانيتهما: إذا ابتدأ الإمام الراتب قائماً لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياماً، سواءً طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعداً أم لا، كما في الأحاديث التي في مرض موت النبي (صلى الله عليه وآله)، فإن تقريره لهم على القيام دلّ على أنه لا يلزمهم الجلوس في تلك الحالة، لأن أبا بكر ابتدأ الصلاة بهم قائماً وصلّوا معه قياماً، بخلاف الحالة الاُولى فانه (صلى الله عليه وآله) ابتدأ الصلاة جالساً فلما صلّوا خلفه قياماً أنكر عليهم، ويقوّي هذا الجمع أن الأصل عدم النسخ، لا سيما وهو في هذه الحالة يستلزم دعوى النسخ مرّتين... وأبعد منه ما تقدم في نقل عياض، فانه يقتضي وقوع النسخ ثلاث مرات!
لقد فات هؤلاء الفقهاء أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يعترض على وقوف أبي بكر والمصلين من بعده -رغم أنه أمّهم قاعداً- لأن النبي في هذه المرّة كان على حال من المرض والألم تجعله غير متفرغ لإرشادهم الى الجلوس -كما فعل في مرة سابقة- لأن أمره لهم في المرة السابقة كان كافياً ليدلهم على الحكم ولم تكن هناك حاجة للتكرار، كما وأن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يخرج الى تلك الصلاة ليعلمهم صلاة القاعد والواقف، بل خرج -في تلك الحالة المؤلمة- متحاملا على نفسه لشدة مرضه، من أجل أن يصرف أبا بكر عن إمامة الصلاة ليس إلاّ، وليزيل ما قد يعلق بأذهان الناس من أن إمامة أبي بكر للمصلين قد تكون بأمر النبي نفسه، إلاّ أن الفقهاء وشراح الأحاديث لم يلتفتوا الى هذه النقطة المهمة، فراحوا يبنون أحكامهم على ما قد ترسخ في أذهانهم -بفعل التزييف- من أن النبي قد عيّن أبا بكر لإمامة المصلين لكي يُفهم الناس رضاه بإمامته وخلافته من بعده، وهذا هو عكس الواقع فعلا.
إن بعض الفقهاء وشرّاح الأحاديث يعترفون بالحقيقة من حيث لا يشعرون، حيث ينقل ابن حجر آراء بعض المحدّثين والفقهاء حول أحاديث الباب، فيقول: وقد قال بقول أحمد جماعة من محدّثي الشافعية كابن خزيمة وابن المنذر وابن حبّان، وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة اُخرى، منها قول ابن خزيمة: إن الأحاديث التي وردت بأمر المأموم أن يصلي قاعداً تبعاً لإمامه، لم يُختلف في صحتها ولا في سياقها! وأمّا صلاته (صلى الله عليه وآله) قاعداً، فاختلف فيها، هل كان إماماً أو مأموماً؟ قال:وما لم يُختلف فيه لا ينبغي تركه لمختلف فيه، واُجيبَ بدفع الاختلاف والحمل على أنه كان إماماً مرة ومأموماً اُخرى، ومنها أن بعضهم جمع بين القصّتين بأن الأمر بالجلوس كان للندب وتقريرهم قيامهم خلفه كان لبيان الجواز.
لا يخفى ما في محاولة الجمع من خلل، لأن الإدعاء بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد صلّى إماماً لأبي بكر مرة ومأموماً له مرة اُخرى، إنما هو إدعاء صحيح لو صحّت الأحاديث التي تذكر تعدّد الواقعة، وأن أبا بكر قد صلى بالمسلمين عدة أيام، ولكن ذلك الاضطراب والتعارض بين الروايات قد جاء بسبب كذب الرواة الذين لفّقوها، إذ أن القوم وجدوا أن صلاة أبي بكر الوحيدة بالمسلمين، وخروج النبي وصرفه عن الإمامة لا تثبت في مقام الاحتجاج بالنص على أبي بكر، فاختلقوا روايات اُخرى تدعي تكرّر صلاة أبي بكر، واضطربت أقوالهم بين كون النبي إماماً أو مأموماً، ومن المضحك حقاً أن هؤلاء لا يلتفتون الى مسألة مهمة، ألا وهي: ما معنى أن يأمر النبي (صلى الله عليه وآله) أبا بكر للصلاة بالمسلمين -بسبب مرض النبي الشديد- ثم يعود النبي فيخرج في كل مرة ليؤم المسلمين ويصرف أبا بكر عن إمامتهم، ويأتم مرة اُخرى بأبي بكر! فاذا كان النبي قد أراد تعيين أبي بكر لخلافته في إمامة الصلاة وإمامة الاُمة، فلماذا يوقع اُمّته في هذه الحيرة! ولا شك أن الأعذار التي اختلقها القوم -برغبة النبي في المحافظة على شهود صلاة الجماعة- إنما هو محاولة فاشلة اُخرى لتبرير هذا الاضطراب في الروايات.
ونعود مرة اُخرى لنستكمل ما تبقى من كلام ابن حجر في هذا الموضوع، فنصل ما انقطع منه، قال: فعلى هذا الأمر، من أمَّ قاعداً اعذر تخيّر من صلّى خلفه بين القعود والقيام! والقعود أولى لثبوت الأمر بالإئتمام والاتباع! وكثرة الأحاديث الواردة في ذلك، وأجاب ابن خزيمة عن استبعاد من استبعد ذلك بأن الأمر قد صدر من النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك، واستمر عليه عمل الصحابة في حياته وبعده، فروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن قيس بن فهد الأنصاري: أن إماماً لهم اشتكى لهم على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: فكان يؤمنا وهو جالس ونحن جلوس، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن اُسيد بن حضير أنه كان يؤم قومه، فاشتكى، فخرج إليهم بعد شكواه، فأمروه أن يصلي بهم، فقال: إني لا أستطيع أن اُصلي قائماً فاقعدوا، فصلى بهم قاعداً وهم قعود، وروى أبو داود من وجه آخر عن اُسيد بن حضير أنه قال: يا رسول الله، إمامنا مريض، قال: "إذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً"، وفي إسناده انقطاع، وروى إبن أبي شيبة بإسناد صحيح عن جابر: أنه اشتكى فحضرت الصلاة، فصلى بهم جالساً وصلوا معه جلوساً، وعن أبي هريرة أنه أفتى بذلك وإسناده صحيح أيضاً(6).
فهذه الاستشهادات ما هي في الحقيقة إلاّ اعتراف بصحة ما نذهب إليه، وبه تبين أن الصحابة جميعاً قد فهموا الأمر بأنه غير منسوخ واستمر عملهم عليه في حياة النبي وبعد وفاته أيضاً.
المصادر :
1- البداية والنهاية 5: 231 - 237.
2- فتح الباري 2: 120 - 124.
3- فتح الباري 2: 120 ـ 124.
4- يقصد أنه من القائلين بتفضيل علي بن أبي طالب. شرح نهج البلاغة: 9 ـ 197.
5- البداية والنهاية 5: 231.
6- فتح الباري 2: 120 - 124.