
إن لإمامة الصلاة شروطاً ذكرها النبي (صلى الله عليه وآله) في بعض الأحاديث -ومنها ما استشهد به ابن كثير- وادعى فيها أن النبي قد اختار أبا بكر لإمامة المصلين، لأنه قد استجمع هذه الشروط دون غيره، وذلك نقلا عن أبي الحسن الأشعري، الذي قال: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة، وأقرؤهم، لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:"يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فان كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنّة، فان كانوا في السنّة سواء فأكبرهم سناً، فان كانوا في السن سواء، فأقدمهم مسلماً"... ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصدّيق إلاّ أننا عندما نستعرض هذه الاُمور، ونتتبع الأحاديث والآثار، نجد أن إدعاء ابن كثير -ومن قبله الأشعري- لا أساس له من الصحة بتاتاً! إذ أن أبا بكر لم يجمع ولا شرطاً واحداً من تلك الشروط! وذلك باعتراف المصادر المعتمدة في ذلك ومنها الصحاح، فادعاء ابن كثير يستلزم أولا أن يكون أبو بكر أقرأ الصحابة للقرآن -كما ورد في صدر الحديث- فهو الشرط الأوّل لإمامة الصلاة، إلاّ أننا عندما نتتبع أخبار القرّاء من الصحابة، فاننا نفاجأ بأن أبا بكر لم يذكر فيهم مطلقاً، وقد جعل البخاري باباً بعنوان (القرّاء من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)، أورد فيه عدة روايات تذكر أسماء القرّاء من الصحابة، وليس لأبي بكر ذكر بينهم، فعن مسروق، قال: ذُكر عبدالله(1)
عند عبدالله بن عمر، فقال: ذاك رجل لا أزال أحبّه بعدما سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: "استقرئوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود -فبدأ به- وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ ابن جبل"(2).
وعن شقيق بن سلمة، قال: خطبنا عبدالله فقال: والله لقد أخذت من فِيّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بضعاً وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) أني من أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم، قال شقيق: فجلستُ في الحِلَق أسمع ما يقولون فما سمعت راداً يقول غير ذلك(3).
وعن مسروق، قال: قال عبدالله(رضي الله عنه): والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلاّ أنا أعلم أين نزلت، ولا اُنزلت آية من كتاب الله، إلاّ أنا أعلم فيم اُنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه(4).
وعن قتادة، قال: سألت أنس بن مالك(رضي الله عنه): من جمع القرآن على عهد النبي (صلى الله عليه وآله)؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: اُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد(5).
وعن أنس، قال: مات النبي (صلى الله عليه وآله) ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد، قال: ونحن ورثناه(6).
وعن ابن عباس، قال: قال عمر: اُبي أقرؤنا، وإنّا لندع من لحن اُبي، واُبي يقول: أخذته من فِيّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلا أتركه لشيء... الحديث(7)
فهذه الروايات لا تذكر أبا بكر فيمن جمع القرآن ولا هو من أقرأ الصحابة، فعلى هذا فان ابن مسعود واُبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبا الدرداء ومعاذ بن جبل وغيرهم كانوا أحق منه بإمامة المصلين.
وقال السيوطي:
لا أحفظ عن أبي بكر في التفسير إلاّ آثاراً قليلة جداً لا تكاد تجاوز العشرة، وأما علي فروي عنه الكثير، وقد روى معمر عن وهب بن عبدالله عن أبي الطفيل، قال: شهدت علياً يخطب وهو يقول: سلوني، فوالله لا تسألونني عن شيء إلاّ أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلاّ وأنا أعلم أبليل نزلت أم نهار، أم في سهل أم في جبل.. وأما ابن عباس فهو ترجمان القرآن الذي دعا له النبي (صلى الله عليه وآله): "اللهم فقهه في الدين وعلّمه التأويل"(8).
وقال المناوي: قد علم الأولون والآخرون أن فهم كتاب الله منحصر إلى علم علي...
فأبو بكر لم يكن أعلم الصحابة بكتاب الله ولا بسنّة نبيه -وسوف تأتي الشواهد على ذلك في فصل لاحق- بينما نجد علي بن أبي طالب يؤكد أنهم لا يسألونه عن شيء إلاّ وأخبرهم بجوابه، ولم يحدّد علماً معيناً، بل أطلق الكلام في كل شيء، وفي الحقيقة فان من يراجع خطبه في نهج البلاغة وأقواله المأثورة، فانه سوف يدهش حقاً من علمه الغزير في كل المجالات، وهو فوق هذا يؤكد علمه بكتاب الله كله وأسباب نزوله... الخ، كما أن كون ابن عباس ترجمان القرآن -بعد دعاء النبي له- يؤكد -وكما تؤكد الأخبار أيضاً- أنه كان أعلم من أبي بكر أيضاً. ولأن هذه الروايات تثبت أن أبا بكر لم يكن أقرأ الصحابة، مما أوقع الشرّاح في مشكلة جديدة، فانهم لجأوا -كعادتهم- إلى استنباط آراء وأفكار جديدة تخرجهم من الورطة، فقال ابن حجر:
في حديث أبي مسعود (أقرؤهم): قيل المراد به الأفقه، وقيل هو على ظاهره، وبحسب ذلك اختلف الفقهاء. قال النووي: قال أصحابنا: الأفقه مقدّم على الأقرأ، فإن الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط، والذي يحتاج إليه في الفقه غير مضبوط، فقد يعرض في الصلاة أمر لا يقدر على مراعاة الصلاة فيه إلاّ كامل الفقه، ولهذا قدم النبي (صلى الله عليه وآله) أبا بكر في الصلاة على الباقين، مع أنه(ص) نصّ على أن غيره أقرأ منه، كأنه عنى حديث أقرؤكم اُبي، قال: وأجابوا عن الحديث بأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه! قلت: وهذا الجواب يلزم منه أن من نص النبي (صلى الله عليه وآله) على أنه أقرأ من أبي بكر، كان أفقه من أبي بكر! فيفسد الاحتجاج بأن تقديم أبي بكر كان لأنه الأفقه. ثم قال النووي بعد ذلك: إن قوله في حديث أبي مسعود: "فان كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنّة، فإن كانوا في السنّة سواء فأقدمهم في الهجرة" يدل على تقديم الأقرأ مطلقاً. انتهى. وهو واضح للمغايرة... ولا يخفى أن محل تقديم الأقرأ إنما هو حيث يكون عارفاً بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة، فأما إذا كان جاهلا بذلك فلا يقدم إتفاقاً...(9)
هذه التمحلات واضحة المقصد. ولا أظنها تحتاج الى مناقشة، إلاّ أنني أقول تعليقاً على العبارة الأخيرة بأن تقديم الأقرأ يشترط أن يكون عارفاً بما يتعين من أحوال الصلاة، كان يستلزم تقديم شخص كان أعلمهم بصلاة النبي (صلى الله عليه وآله)، وليس هو أبو بكر، ولكني سأذكره فيما بعد.
الأكبر سنّاً
أما إمامة الأكبر سنّاً، فان من المعلوم قطعاً أن العباس بن عبدالمطلب كان أكبر سناً من أبي بكر، وأن هناك العديد من الصحابة كانوا أكبر منه سناً أيضاً كما يدل على ذلك للمتتبع أخبارهم في كتب تراجم الصحابة. وقد روى ابن أبي الحديد قصة طريفة حول هذا الموضوع، قال: قيل لأبي قحافة يوم ولي الأمر ابنه: قد ولي ابنك الخلافة، فقرأ: (قُل اللهمَّ مالكَ الملكِ تُؤتي المُلكَ مَنْ تشاءٌ وتنزعُ الملكَ مِمَّنْ تَشاءُ)، ثم قال: لمَ ولّوه؟ قالوا: لسنّه. قال: أنا أسنّ منه!(10)
إلاّ أنّنا نجد الكثير من المؤلفين في العصر الحاضر ينساقون وراء هذه الأخبار دون تحقيق، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، ولكني أذكر على سبيل المثال قول ثابت إسماعيل الراوي:
وكان تقديم أبي بكر على غيره أنه كان أكبر المسلمين سناً، وأوّل من أسلم، وهو الذي ضحّى بأمواله في سبيل الله ونشر دينه...(11)
لأوّل إسلاماً
من الاُمور التي طال فيها الجدل بين المسلمين، هو تحديد الأسبق الى الاسلام، ومداره بالدرجة الاُولى على شخصين هما أبو بكر وعلي بن أبي طالب، وهذا أيضاً من افرازات القول بأحقية أحد الرجلين في الخلافة، لأن السبق الى الإسلام يعدّ من الشرائط المعتبرة في ذلك، وقد أورد ابن كثير قول النبي (صلى الله عليه وآله) في الأحق بتولي إمامة الصلاة وذكر منها السبق الى الإسلام، وبما أن الجمهور يعتبر التقديم الى الصلاة إشارة الى النص على الخلافة، لذا نجد الصراع دائراً بين الفريقين حول أوّل الناس إسلاماً، فقد روى الطبري عن الواقدي بسنده، قال: اجتمع أصحابنا على أن أوّل أهل القبلة استجاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خديجة بنت خويلد، ثم اختلف عندنا في ثلاثة نفر: في أبي بكر وعلي وزيد بن حارثة، أيهم أسلم أوّل(12).
ذكر الطبري ذلك، بعد أن أورد ستة عشر رواية في أن أوّل من أسلم هو علي بن أبي طالب، وسبع روايات في أن أوّل من أسلم أبو بكر، ثم أورد روايات اُخرى فيمن أسلم قبل أبي بكر.
ويورد ابن كثير الدمشقي هذه الروايات المتناقضة أيضاً في أوّل من أسلم، ثم يذكر قول أبي حنيفة بالجمع بين هذه الأقوال بأن أوّل من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن الغلمان علي بن أبي طالب...(13)
وبما أن استقصاء هذه الروايات يستغرق صفحات كثيرة، إلاّ أنني أود فقط أن اُشير الى مسألة كانت مدار بحثنا في هذا الكتاب، ألا وهي قضية التزييف في تراثنا الإسلامي لأسباب ذكرنا بعضها وسوف نكشف عما تبقى منها -وهي أهمها- في الفصول القادمة باذن الله تعالى.
فمن أساليب التزييف المتبعة هذه، قول ابن كثير الدمشقي -في فصل عنونه بقوله: في ذكر شيء من فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)- وبعد أن يورد روايات عديدة في فضله يقول:
وقد ورد في أنه أوّل من أسلم من هذه الاُمة أحاديث كثيرة لا يصح منها شيء(14).
ولكي ينجلي الموقف على الحقيقة، فانني ساُورد بعض الروايات الصحيحة الإسناد فى إسلام علي بن أبي طالب وسبقه إليه.
1 - عن معقل بن يسار، قال: وضّأتُ النبي (صلى الله عليه وآله) ذات يوم فقال: "هل لك في فاطمة نعودها"؟ فقلت: نعم. فقام متوكئاً عليَّ فقال: "أما إنه سيحمل ثقلها غيرك ويكون أجرها لك". قال: فكأنه لم يكن علي شيء حتى دخلنا على فاطمة (عليها السلام) فقال لها: "كيف تجدينك"؟ قالت: والله لقد اشتدّ حزني واشتدت فاقتي وطال سقمي. قال أبو عبدالرحمان: وجدت في كتاب أبي بخط يده في هذا الحديث، قال "أما ترضين أني زوّجتك أقدم اُمتي سلماً، وأعظمهم حلماً"؟(15).
2 - عن سلمان(رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أوّلكم وارداً على الحوض، أوّلكم إسلاماً: علي بن أبي طالب"(16).
3 - عن أنس(رضي الله عنه) قال: نُبئ النبي (صلى الله عليه وآله) يوم الاثنين، وأسلم علي يوم الثلاثاء(17).
4 - عن أبي إسحاق، أن علياً لما تزوج فاطمة، قالت للنبي (صلى الله عليه وآله): زوجتنيه اُعيمش عظيم البطن. فقال النبي (صلى الله عليه وآله): "لقد زوجتكه وأنه لأول أصحابي سلماً وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً"(18).
5 - عن سلمان، قال: "أول هذه الاُمة وروداً على نبيها(ص) أولها إسلاماً، علي بن أبي طالب(19).
6 - عن الحسن وغيره، قال: فكان أول من آمن علي بن أبي طالب وهو إبن خمس عشرة أو ست عشرة سنة(20).
7 - عن علي، قال: أنا أول من صلى مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) (21).
8 - عن علي، قال: خطب أبو بكر وعمر فاطمة الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأبى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليهما، فقال عمر: أنت لها يا علي. قال: مالي من شيء إلاّ درعي وسيفي; فتعرّض علي ذات يوم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: "يا علي، هل لك من شيء"؟ قال: جملي ودرعي أرهنهما، فزّوجني رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة، فلما بلغ فاطمة ذلك بكت، فدخل عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: "مالك تبكين يا فاطمة، والله لقد أنكحتك أكثرهم علماً وأفضلهم حلماً وأقدمهم سلماً"(22).
هذه بعض الروايات وأقوال الحفّاظ فيها حول إثبات تقدم إسلام علي بن أبي طالب، أما من أين جاءت الروايات التي تدعي سبق أبي بكر الى الاسلام، فاننا نوّهنا فيما سبق الى عملية المقابلة التي قام بها بعض المتعصّبين في مقام المحاججة بين أدلة التنصيص على الخلافة، وأثبتنا بالأدلة أن الروايات التي تشيد بأبي بكر والتي يُشمّ منها رائحة النص إنما وضعت مقابل الروايات التي يحتج الشيعة بها في الدلالة على النص على علي بن أبي طالب، خلافاً لما توهمه بعض حفّاظ ومتكلمي الجمهور بأن الآية معكوسة، مع العلم أن نظرية الجمهور في الخلافة تقوم أساساً على عدم وجود نص! وقد أورد ابن أبي الحديد المعتزلي مناظرة بين الجاحظ وبين أبي جعفر الإسكافي -وكلاهما معتزليان أيضاً- حول الروايات التي وردت في سبق كل من أبي بكر وعلي بن أبي طالب الى الإسلام، فكان من ردّ الإسكافي على الجاحظ قوله:
فأما ما احتج به الجاحظ بإمامة أبي بكر، بكونه أول الناس إسلاماً، فلو كان هذا صحيحاً، لاحتج به أبو بكر يوم السقيفة، وما رأيناه صنع ذلك لأنه أخذ بيد عمر ويد أبي عبيدة بن الجراح وقال للناس: قد رضيتُ لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا منهما من شئتم، ولو كان هذا احتجاجاً صحيحاً لما قال عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرّها، ولو كان احتجاجاً صحيحاً لادعى واحد من الناس لأبي بكر الإمامة في عصره أو بعد عصره، بكونه سبق الى الإسلام، وما عرفنا أحداً ادعى له ذلك، على أن جمهور المحدّثين لم يذكروا أن أبا بكر أسلم إلاّ بعد عدّة من الرجال، منهم علي بن أبي طالب، وجعفر أخوه، وزيد بن حارثة، وأبو ذر الغفاري، وعمرو بن عنبسة السلمي، وخالد بن سعيد بن العاص، وخبّاب بن الأرت، وإذا تأملنا الروايات الصحيحة، والأسانيد القوية والوثيقة، وجدناها كلها ناطقة بأن علياً (عليه السلام) أوّل من أسلم!(23).
ثم يورد الإسكافي مجموعة كبيرة من الروايات في ذلك بما يدعم قوله.
إمامة الصلاة وإمامة الاُمّة
إن من المؤكد أن الجمهور قد تعلق بمسألة إمامة أبي بكر للمصلّين، واعتبر ذلك أقوى برهان على النص عليه من قبل النبي (صلى الله عليه وآله)، وانساق وراء هذا الادعاء معظم متكلمي الجمهور، حتى صار الأمر في حكم المسلّمات، إلاّ أن معظم اُولئك المتكلمين لم يلتفتوا الى بعض النقاط المهمة، أو ربما تغافلوا عنها في غمرة الاندفاع من أجل إسقاط حجج مخالفيهم في النص على علي، وراح البعض منهم يعبّر عن فرحه الغامر بهذا الدليل حتى تمنى كتابته بماء الذهب. ولكننا لو أمعنا النظر جيداً في الأمر لوجدنا أن هذه الحجة تفتقر الى الدليل العقلي والنقلي في إثباتها، ولقد اعترف بعض متكلمي الجمهور بهذه الحقيقة الساطعة، فقد قال ابن حزم:
وأمّا من ادعى أنه إنما قُدّم قياساً على تقديمه الى الصلاة، فباطل بيقين، لأنه ليس كل من استحق الإمامة في الصلاة يستحق الامامة في الخلافة، إذ يستحق الإمامة في الصلاة اقرأ القوم وإن كان أعجمياً أو عربياً، ولا يستحق الخلافة إلاّ قرشي، فكيف والقياس كله باطل(24).
هذا مع العلم أن ابن حزم من القائلين بالنص على أبي بكر كما تقدم عنه، إلاّ أن عبارته حول إمامة الصلاة وإمامة الاُمّة في غاية الدقة والصواب، والشواهد تؤيدها، فعن ابن عمر: لمّا قدم المهاجرون الأولون العصبة -موضع بقبا- قبل مقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآنا(25).
وعن نافع، أن ابن عمر(رضي الله عنه) أخبره قال: كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) في مسجد قباء، فيهم أبو بكر وعمر وأبو سلمة وزيد وعامر بن ربيعة(26).
وعن المغيرة بن شعبة، قال: تخلّف رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتخلفت معه، فلما قضى حاجته قال: "أمعك ماء"؟ فأتيته بمطهرة. فغسل كفيه ووجهه، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه... ثم ركب وركبت فانتهينا الى القوم وقد قاموا الى الصلاة، يصلي بهم عبدالرحمان بن عوف، وقد ركع بهم ركعة، فلما أحس بالنبي (صلى الله عليه وآله) ذهب ليتأخر، فأومأ إليه فصلى بهم، فلما سلّم، قام النبي (صلى الله عليه وآله) وقمت، فركعنا الركعة التي سبقتنا(27).
وعن سهل بن سعد الساعدي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذهب الى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فجاء المؤذن الى أبي بكر فقال: أتصلي للناس فاُقيم؟ قال: نعم، فصلى أبو بكر; فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فصفّق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس من التصفيق، التفت فرأى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأشار إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ذلك. ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، فتقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فصلى، فلما انصرف قال: "يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك"؟ فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) (28).
كما وذكر أصحاب السير -ومنهم ابن كثير- أن عمرو بن العاص قد صلّى بالناس في غزوة ذات السلاسل، وكان فيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة(29).
فمن هذا يتبيّن أنه لو كانت إمامة الصلاة دليلا على الخلافة لكان سالم مولى أبي حذيفة أو عبدالرحمان بن عوف أو عمرو بن العاص أحق من أبي بكر بها، وبخاصة فان الرواية التي عند مسلم تدل على أن النبي قد ائتم بعبدالرحمان بن عوف، بينما تؤكد رواية البخاري أن أبا بكر قد انسحب من إمامة المصلين وتركها للنبي (صلى الله عليه وآله)، هذا إذا أخذنا بنظر الاعتبار عدم ثبوت إمامة أبي بكر للنبي (صلى الله عليه وآله) في مرضه فمن هذا يتبيّن أن موضوع صلاة أبي بكر قد قلب كثيراً من المفاهيم والحقائق التاريخية، بل وحتى المفاهيم الفقهية، حيث كان لتلاعب المتعصبين في الروايات أكبر الأثر في وقوع المحدّثين والفقهاء ضحية لها، فراح المحدّثون يروونها معتقدين صحتها، بينما راح الفقهاء يفرّعون المسائل عليها، في حين راح المتكلمون يروجونها على أنها دليل قاطع على النص على خلافة أبي بكر.
المصادر :
1- يعني ابن مسعود.
2- صحيح البخاري 6: 229 باب القُرّاء من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) 5: 45 مناقب اُبي بن كعب.
3- صحيح البخاري 6: 229.
4- المصدر السابق 6: 2305- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- - صحيح البخاري: 6/230.
7- الاتقان في علوم القرآن 4: 233.
8- فيض القدير 3: 46.
9- فتح الباري 2: 135 - 136.
10- شرح نهج البلاغة 1: 222.
11- تاريخ الدولة العربية: 7.
12- تاريخ الطبري 2: 317.
13- البداية والنهاية 3: فصل أوّل من أسلم من متقدمي الإسلام والصحابة وغيرهم.
14- البداية والنهاية 7: 334.
15- مسند أحمد 5: 26، مجمع الزوائد 9: 101 وقال: رواه أحمد والطبراني وفيه خالد بن طهمان وثّقه ابو حاتم وغيره، وبقية رجاله ثقات.
16- المستدرك 3: 136 و صححه و وافقه الذهبي.
17- المستدرك 3: 112، قال الذهبي: صحيح.
18- مجمع الزوائد 9: 102 وقال: رواه الطبراني وهو مرسل صحيح الاسناد.
19- المصدر السابق وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
20- المصدر السابق وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
21- مجمع الزوائد 9: 103 وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير حبة العرني وقد وثّق.
22- كنز العمال 13: 114، وقال: أخرجه ابن جرير وصححه، والدولابي في الذرية الطاهرة.
23- شرح نهج البلاغة 13: 224.
24- الفصل في الملل والنحل 4: 109.
25- صحيح البخاري 1: 178 باب إمامة العبد والمولى، وكانت عائشة يؤمها عبدها ذكوان...
26- المصدر السابق 9: 88 كتاب الأحكام، باب استقضاء الموالي واستعمالهم.
27- صحيح مسلم 1: 320 كتاب الطهارة، باب المسح على الناصية والعمامة.
28- صحيح البخاري 1: 174 باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الاول.
29- السيرة النبوية لابن كثير 3: 516.