
أن ابن أبي الحديد اعتبر حديث (لو كنت متخذاً خليلا) قد وضعته البكرية في مقابل حديث الاخاء، فما هو حديث الاخاء، وكيف يمكن استنتاج الصحيح من السقيم!
قال ابن تيمية:
إن أحاديث المؤاخاة لعلي كلها موضوعة، والنبي(صلی الله عليه وآله وسلم ) لم يؤاخِ أحداً، ولا آخى بين مهاجري ومهاجري، ولا بين أبي بكر وعمر، ولا بين أنصاري وأنصاري...(1)
ولم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) قد آخى بين نفسه وبين علي بن أبي طالب، وقد بيّنا رأي ابن تيمية في ذلك وادعاؤه أن الأحاديث الواردة في ذلك موضوعة.
أما ابن حجر العسقلاني فيقول:
قال ابن عبدالبر كانت المؤاخاة مرّتين، مرّة بين المهاجرين خاصّة، وذلك بمكة، ومرة بين المهاجرين والأنصار... وأنكر ابن تيمية في كتاب الرد على ابن المطهر الرافضي في المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصاً مؤاخاة النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي، قال: لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم بعضاً ولتأليف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي (صلى الله عليه وآله) لأحد منهم ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري، وهذا ردّ للنص بالقياس، وإغفال عن حكمة المؤاخاة، لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة والقوى، فآخى بين الأعلى والأدنى ليرتفقن الأدنى بالأعلى، ويستعين الأعلى بالأدنى، وبهذا نظر مؤاخاته (صلى الله عليه وآله) لعلي، لأنه هو الذي كان يقوم به من عهد الصبا من قبل البعثة، واستمر، وكذا مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة، لأن زيداً مولاهم، فقد ثبت أُخوتهما وهما من المهاجرين..
وأخرج الحاكم وابن عبدالبر بسند حسن عن أبي الشعثاء عن ابن عباس: آخى النبي (صلى الله عليه وآله) بين الزبير وابن مسعود من المهاجرين... وأخرجه الضياء في المختارة من المعجم الكبير للطبراني، وابن تيمية يصرّح بأن أحاديث المختارة أصح وأقوى من أحاديث المستدرك، وقصة المؤاخاة الاُولى أخرجها الحاكم من طريق جميع بن عمير عن ابن عمر: آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبدالرحمان بن عوف وعثمان، وذكر جماعة فقال علي: يا رسول الله، إنك آخيت بين أصحابك فمن أخي؟ قال: "أنا أخوك"(2).
وليس ذلك هو الحديث الوحيد الصحيح في الاخاء، فقد أخرج المحدّثون والحفّاظ عن ابن عباس; أن علياً كان يقول في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله عزّوجل يقول: (أَفإنْ ماتَ أَو قُتلَ انقَلبتُمْ على أَعقابِكمْ) والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله تعالى، ولئن مات أو قُتل، لاُقاتلنّ على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لأخوه ووليّه وابن عمه ووارثه فمن أحق به مني(3).
هذه هي إذاً قصة المؤاخاة التي يدّعي ابن تيمية أن الأحاديث فيها موضوعة، وهي التي يقول ابن أبي الحديد أن أحاديث خلّة أبي بكر قد وضعت في مقابلها.
وقال ابن حجر:
حديث ابن عباس أخرجه من طرق ثلاثة: الاُولى (قوله: لو كنت متخذاً خليلا). زاد في حديث أبي سعيد "غير ربي" وفي حديث ابن مسعود عند مسلم "وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا"، وقد تواردت هذه الأحاديث على نفي الخلّة من النبي (صلى الله عليه وآله) لأحد من الناس.
وأما ما روي عن اُبي بن كعب قال: إن أحدث عهدي بنبيكم قبل موته بخمس، دخلت عليه وهو يقول: "إنه لم يكن نبي إلاّ وقد اتخذ من اُمّته خليلا، وإن خليلي أبو بكر، ألا وإن الله اتخذني خليلا كما اتخذ ابراهيم خليلا". أخرجه أبو الحسن الحربي في فوائده، وهذا يعارضه ما في رواية جندب عند مسلم... أنه سمع النبي (صلى الله عليه وآله) يقول قبل أن يموت بخمس: "اني أبرأ الى الله أن يكون لي منكم خليل"! فإن ثبت حديث اُبي، أمكن الجمع بينهما بأنه لما برئ من ذلك تواضعاً لربه وإعظاماً له، أذن الله تعالى له فيه من ذلك اليوم لما رأى تشوّفه إليه، وإكراماً لأبي بكر بذلك، فلا يتنافى الخبران...(4)
لا ندري كيف عرف ابن حجر أن الله تعالى قد أذن لنبيه باتخاذ أبي بكر خليلا لما رأى من تشوّف النبي (صلى الله عليه وآله) لذلك، وما الذي يستدعي أن يتخذ النبي خليلا في الساعات الأخيرة من حياته، أفما كان ذلك قبل الحين أجدر؟!
إن محاولة ابن حجر في التوفيق بين هذه الأحاديث المتناقضة هي من أكثر المحاولات تهافتاً دون شك، وإنّ نَفَس الوضاعين واضح فيه، ولقد كان بعض الصحابة يتباهون بخلّتهم للنبي (صلى الله عليه وآله) غير أبي بكر، فحديث الخلّة في الصحاح ينفي هذه المنقبة لأبي بكر، ولم تصل إلينا مقولة لأبي بكر يدّعي خلّته للنبي (صلى الله عليه وآله)، في حين أثبتها غيره من الصحابة لنفسه، كقول أبي ذرّ الغفاري: أوصاني خليلي (صلى الله عليه وآله) بست: حب المساكين... الخ، الحديث(5).
وعنه أيضاً: أوصاني حبّي بثلاث لا أدعهن إن شاء الله أبداً...(6)
وعن أبي هريرة: أوصاني خليلي (صلى الله عليه وآله) أن لا أنام إلاّ على وتر(7).
وعنه أيضاً: أوصاني خليلي بثلاث: الوتر قبل النوم...الحديث(8)
وعن أبي الأشعث الصنعاني، قال: بعثنا يزيد بن معاوية إلى ابن الزبير، فلما قدمت المدينة دخلت على فلان... فقال: إن الناس قد صنعوا ما صنعوا فما ترى؟ فقال: أوصاني خليلي أبو القاسم (صلى الله عليه وآله)...الخ(9)
وعن أبي هريرة: "إن لكل نبي خليلا من اُمته، وإن خليلي عثمان بن عفان"!(10).
وعنه "لكل نبي خليل في اُمته، وإن خليلي عثمان بن عفان"(11).
و "لكل نبي خليلا، وخليلي سعد بن معاذ"!(12).
ففي الوقت الذي ينفي النبي (صلى الله عليه وآله) أن يكون قد اتخذ خليلا -لأنه خليل الله، لذا لم يتخذ أبا بكر خليلا -نجده يتخذ عثمان بن عفان خليلا، فهل يناقض النبي نفسه، فينفي شيئاً ثم يثبته - حاشاه ـ أم أن في الأمر سرّاً؟
أما الداودي فيعلق على تلك الروايات التي تثبت الخلة لبعض الصحابة - فيما ينقل عنه إبن حجر- قائلا:
لا ينافي هذا قول أبي هريرة وأبي ذر وغيرهما: أخبرني خليلي (صلى الله عليه وآله)، لأن ذلك جائز لهم ولا يجوز للواحد منهم أن يقول: أنا خليل النبي (صلى الله عليه وآله)، ولهذا يقال:
ابراهيم خليل الله، ولا يقال: الله خليل ابراهيم.
قال ابن حجر: ولا يخفى ما فيه!
وينقل ابن حجر عن إبن التين أنه نقل عن بعضهم أن معنى قوله: ولو كنت متخذاً خليلا، لو كنت أخص أحداً بشيء من أمر الدين لخصصت أبا بكر، قال: وفيه دلالة على كذب الشيعة في دعواهم أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان خص علياً بأشياء من القرآن واُمور الدين لم يخص بها غيره.
قال ابن حجر: والاستدلال بذلك متوقف على صحة التأويل المذكور وما أبعدها...!(13)
فنلاحظ أن شراح الأحاديث يتخبطون خبط عشواء ويناقض بعضهم بعضاً وهم يحاولون الخروج من المأزق الذي وضعهم فيه بعض الكذابين بمحاولة التوفيق والجمع بين هذه الأحاديث المتضاربة، ولكن دون جدوى.
المصادر :
1- منهاج السنّة النبوية 3: 96.
2- فتح الباري 7: 216.
3- مجمع الزوائد 9: 134 وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، مستدرك الحاكم 3: 126 وصححه وسكت عنه الذهبي.
4- فتح الباري 7: 10.
5- حلية الأولياء 1: 159.
6- مسند أحمد 5: 173.
7- مسند أحمد 2: 347.
8- حلية الأولياء 6: 200.
9- مسند أحمد 4: 226.
10- تاريخ دمشق لابن عساكر 39: 125، تاريخ بغداد 6: 321.
11- المصدر السابق.
12- كنز العمال 6: 83.
13- فتح الباري 7: 10، 14.