قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الذَّنْبُ لَا يُنْسَى وَالْبِرُّ لَا يَبْلَى ، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ ، فَكُنْ كَمَا شِئْت ، وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ } .
وَقَدْ قِيلَ : كُلٌّ يَحْصُدُ مَا يَزْرَعُ ، وَيُجْزَى بِمَا يَصْنَعُ .
بَلْ قَالُوا : زَرْعُ يَوْمِك حَصَادُ غَدِك .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيُقْدِمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي ، وَهِيَ أَخْبَثُ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ .
فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ اللَّاهِي عَنْ فِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ ، وَعَذَابَ الْمُجْتَرِئِ عَلَى مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنْ مَعَاصِيهِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : عَجِبْت لِمَنْ يَحْتَمِي مِنْ الطَّيِّبَاتِ مَخَافَةَ الدَّاءِ ، كَيْفَ لَا يَحْتَمِي مِنْ الْمَعَاصِي مَخَافَةَ النَّارِ .
فَأَخَذَ ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ : جِسْمُك قَدْ أَفْنَيْته بِالْحِمَى دَهْرًا مِنْ الْبَارِدِ وَالْحَارِّ وَكَانَ أَوْلَى بِك أَنْ تَحْتَمِي مِنْ الْمَعَاصِي حَذَرَ النَّارِ وَقَالَ ابْنُ صَبَاوَةَ : إنَّا نَظَرْنَا فَوَجَدْنَا الصَّبْرَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَهْوَنَ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ آخَرُ : اصْبِرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَلَى عَمَلٍ لَا غِنَى بِكُمْ عَنْ ثَوَابِهِ ، وَاصْبِرُوا عَنْ عَمَلٍ لَا صَبْرَ لَكُمْ عَلَى عِقَابِهِ .
وَقِيلَ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْك .
فَقَالَ : كَيْفَ يَرْضَى عَنِّي وَلَمْ أُرْضِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَجِيبُ إلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيُقْدِمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي .
فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ الْمُجْتَرِئِ ؛ لِأَنَّهُ تَوَرَّطَ بِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَإِنْ سَلِمَ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي فِعْلِ الطَّاعَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَقْلِعُوا عَنْ الْمَعَاصِي قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَكُمْ اللَّهُ هَتًّا بَتًّا } : الْهَتُّ الْكَسْرُ وَالْبَتُّ الْقَطْعُ .
وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : أَفْضَلُ النَّاسِ مَنْ لَمْ تُفْسِدْ الشَّهْوَةُ دِينَهُ ، وَلَمْ تَتْرُكْ الشُّبْهَةُ يَقِينَهُ .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ : عَجِبْت لِمَنْ يَحْتَمِي مِنْ الْأَطْعِمَةِ لِمَضَرَّاتِهَا ، كَيْفَ لَا يَحْتَمِي مِنْ الذُّنُوبِ لِمَعَرَّاتِهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الصُّلَحَاءِ : أَهْلُ الذُّنُوبِ مَرْضَى الْقُلُوبِ وَقِيلَ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَا أَعْجَبُ الْأَشْيَاءِ ؟ فَقَالَ : قَلْبٌ عَرَفَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ عَصَاهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأَلِبَّاءِ : يُدِلُّ بِالطَّاعَةِ الْعَاصِي وَيَنْسَى عَظِيمَ الْمَعَاصِي .
وَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك رَجُلٌ قَلِيلُ الذُّنُوبِ قَلِيلُ الْعَمَلِ ، أَوْ رَجُلٌ كَثِيرُ الذُّنُوبِ كَثِيرُ الْعَمَلِ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا أَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ : مَا تَقُولُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ ؟ فَقَالَ : خَفْ اللَّهَ بِالنَّهَارِ وَنَمْ بِاللَّيْلِ .
وَسَمِعَ بَعْضُ الزُّهَّادِ رَجُلًا يَقُولُ لِقَوْمٍ : أَهْلَكَكُمْ النَّوْمُ .
فَقَالَ : بَلْ أَهْلَكَتْكُمْ الْيَقِظَةُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ ، وَيَكُفُّ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ اللَّاهِي عَنْ دِينِهِ ، الْمُنْذَرِ بِقِلَّةِ يَقِينِهِ .
وَرَوَى أَبُو إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - كُلُّهَا عِبَرًا .
عَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ ثُمَّ يَضْحَكُ ، وَعَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ يَتْعَبُ ، وَعَجِبْت لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا ثُمَّ يَطْمَئِنُّ إلَيْهَا ، وَعَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ ثُمَّ يَفْرَحُ ، وَعَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غَدًا ثُمَّ لَا يَعْمَلُ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اجْتَهَدُوا فِي الْعَمَلِ فَإِنْ قَصَرَ بِكُمْ ضَعْفٌ فَكُفُّوا عَنْ الْمَعَاصِي } .
وَهَذَا وَاضِحُ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ عَنْ الْمَعَاصِي تَرْكٌ وَهُوَ أَسْهَلُ ، وَعَمَلَ الطَّاعَاتِ فِعْلٌ وَهُوَ أَثْقَلُ .
وَلِذَلِكَ لَمْ يُبِحْ اللَّهُ تَعَالَى ارْتِكَابَ الْمَعْصِيَةِ بِعُذْرٍ وَلَا بِغَيْرِ عُذْرٍ ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ وَالتَّرْكُ لَا يَعْجَزُ الْمَعْذُورُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ تَرْكَ الْأَعْمَالِ بِالْأَعْذَارِ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ يَعْجَزُ الْمَعْذُورُ عَنْهُ .
وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً كَانَ قَوِيًّا فَأَعْمَلَ قُوَّتَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ كَانَ ضَعِيفًا فَكَفَّ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشَّامِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْعُمْرُ يَنْقُصُ وَالذُّنُوبُ تَزِيدُ وَتُقَالُ عَثَرَاتُ الْفَتَى فَيَعُودُ هَلْ يَسْتَطِيعُ جُحُودَ ذَنْبٍ وَاحِدٍ رَجُلٌ جَوَارِحُهُ عَلَيْهِ شُهُودُ وَالْمَرْءُ يُسْأَلُ عَنْ سِنِيهِ فَيَشْتَهِي تَقْلِيلَهَا وَعَنْ الْمَمَاتِ يَحِيدُ وَاعْلَمْ أَنَّ لِأَعْمَالِ الطَّاعَاتِ وَمُجَانَبَةِ الْمَعَاصِي آفَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا تُكْسِبُ الْوِزْرَ وَالْأُخْرَى تُوهِنُ الْأَجْرَ .
فَأَمَّا الْمُكْسِبَةُ لِلْوِزْرِ
فَإِعْجَابٌ بِمَا سَلَفَ مِنْ عَمَلِهِ ، وَقَدَّمَ مِنْ طَاعَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِعْجَابَ بِهِ يُفْضِي إلَى حَالَتَيْنِ مَذْمُومَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّ الْمُعْجَبَ بِعَمَلِهِ مُمْتَنٌّ بِهِ وَالْمُمْتَنُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى جَاحِدٌ لِنِعَمِهِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ : أَمَّا زُهْدُك فِي الدُّنْيَا فَقَدْ اسْتَعْجَلْت بِهِ الرَّاحَةَ ، وَأَمَّا انْقِطَاعُك إلَيَّ فَهُوَ عِزٌّ لَك ، فَهَذَانِ لَك وَبَقِيَتْ أَنَا .
وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْمُعْجَبَ بِعَمَلِهِ مُدِلٌّ بِهِ وَالْمُدِلُّ بِعَمَلِهِ مُجْتَرِئٌ ، وَالْمُجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ عَاصٍ .
وَقَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ : خَيْرٌ مِنْ الْعُجْبِ بِالطَّاعَةِ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِطَاعَةٍ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : ضَاحِكٌ مُعْتَرِفٌ بِذَنْبِهِ ، خَيْرٌ مِنْ بَاكٍ مُدِلٍّ عَلَى رَبِّهِ ، وَبَاكٍ نَادِمٌ عَلَى ذَنْبِهِ خَيْرٌ مِنْ ضَاحِكٍ مُعْتَرِفٍ بِلَهْوِهِ .
وَأَمَّا الْمُوهِنَةُ لِلْأَجْرِ فَالثِّقَةُ بِمَا أَسْلَفَ وَالرُّكُونُ إلَى مَا قَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الثِّقَةَ تَئُولُ إلَى أَمْرَيْنِ شَيْنَيْنِ : أَحَدُهُمَا يُحْدِثُ اتِّكَالًا عَلَى مَا مَضَى وَتَقْصِيرًا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ .
وَمَنْ قَصَّرَ وَاتَّكَلَ لَمْ يَرْجُ أَجْرًا وَلَمْ يُؤَدِّ شُكْرًا .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَاثِقَ آمِنٌ .
وَالْآمِنُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ خَائِفٍ ، وَمَنْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ تَعَالَى هَانَتْ عَلَيْهِ أَوَامِرُهُ ، وَسَهُلَتْ عَلَيْهِ زَوَاجِرُهُ .
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ : رَهْبَةُ الْمَرْءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ : لَأَنْ أَبِيتَ نَائِمًا وَأُصْبِحَ نَادِمًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَبِيتَ قَائِمًا وَأُصْبِحَ نَاعِمًا .
وَقَالَ الْحُكَمَاءُ : مَا بَيْنَك وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيك خَيْرٌ إلَّا أَنْ تَرَى أَنَّ فِيك خَيْرًا .
وَقِيلَ لِرَابِعَةَ الْعَدَوِيَّةِ - رَحِمَهَا اللَّهُ - : هَلْ عَمِلْت عَمَلًا قَطُّ تَرَيْنَ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْك ؟ قَالَتْ : إنْ كَانَ شَيْءٌ فَخَوْفِي أَنْ يُرَدَّ عَلَيَّ عَمَلِي .
وَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ -
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - : إنَّا لِلَّهِ فِيمَا مَضَى مَا أَعْظَمَ فِيهِ الْخَطَرُ ، وَإِنَّا لِلَّهِ فِيمَا بَقِيَ مَا أَقَلَّ مِنْهُ الْحَذَرُ .
وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الزُّهَّادِ وَقَفَ عَلَى جَمْعٍ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ : يَا مَعْشَرَ الْأَغْنِيَاءِ لَكُمْ أَقُولُ : اسْتَكْثِرُوا مِنْ الْحَسَنَاتِ فَإِنَّ ذُنُوبَكُمْ كَثِيرَةٌ ، وَيَا مَعْشَرَ الْفُقَرَاءِ لَكُمْ أَقُولُ : أَقِلُّوا مِنْ الذُّنُوبِ فَإِنَّ حَسَنَاتِكُمْ قَلِيلَةٌ .
فَيَنْبَغِي - أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْك بِالتَّوْفِيقِ - أَنْ لَا تُضَيِّعَ صِحَّةَ جِسْمِك وَفَرَاغَ وَقْتِك بِالتَّقْصِيرِ فِي طَاعَةِ رَبِّك ، وَالثِّقَةِ بِسَالِفِ عَمَلِك .
فَاجْعَلْ الِاجْتِهَادَ غَنِيمَةَ صِحَّتِك ، وَالْعَمَلَ فُرْصَةَ فَرَاغِك ، فَلَيْسَ كُلُّ الزَّمَانِ مُسْتَسْعَدًا وَلَا مَا فَاتَ مُسْتَدْرَكًا ، وَلِلْفَرَاغِ زَيْغٌ أَوْ نَدَمٌ ، وَلِلْخَلْوَةِ مَيْلٌ أَوْ أَسَفٌ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : الرَّاحَةُ لِلرِّجَالِ غَفْلَةٌ وَلِلنِّسَاءِ غُلْمَةٌ .
وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرُ : إنْ يَكُنْ الشُّغْلُ مَجْهَدَةً ، فَالْفَرَاغُ مَفْسَدَةٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إيَّاكُمْ وَالْخَلَوَاتِ فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الْعُقُولَ ، وَتُعَقِّدُ الْمَحْلُولَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لَا تُمْضِ يَوْمَك فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ ، وَلَا تُضِعْ مَالَك فِي غَيْرِ صَنْعَةٍ .
فَالْعُمُرُ أَقْصَرُ مِنْ أَنْ يَنْفَدَ فِي غَيْرِ الْمَنَافِعِ ، وَالْمَالُ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُصْرَفَ فِي غَيْرِ الصَّنَائِعِ .
وَالْعَاقِلُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَفِنِي أَيَّامَهُ فِيمَا لَا يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُهُ وَخَيْرُهُ ، وَيُنْفِقَ أَمْوَالَهُ فِيمَا لَا يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُهُ وَأَجْرُهُ .
وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - : الْبِرُّ ثَلَاثَةٌ : الْمَنْطِقُ وَالنَّظَرُ وَالصَّمْتُ .
فَمَنْ كَانَ مَنْطِقُهُ فِي غَيْرِ ذِكْرٍ فَقَدْ لَغَا ، وَمَنْ كَانَ نَظَرُهُ فِي غَيْرِ اعْتِبَارٍ فَقَدْ سَهَا ، وَمَنْ كَانَ صَمْتُهُ فِي غَيْرِ فِكْرٍ فَقَدْ لَهَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ فِيمَا كُلِّفَ مِنْ عِبَادَاتِهِ ثَلَاثَ أَحْوَالٍ : إحْدَاهَا أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ فِيهَا وَلَا زِيَادَةٍ عَلَيْهَا .
وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يُقَصِّرَ فِيهَا .
وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا .
فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى : فَهِيَ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى حَالِ الْكَمَالِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِيهَا ، وَلَا زِيَادَةِ تَطَوُّعٍ عَلَى رَاتِبَتِهَا .
فَهِيَ أَوْسَطُ الْأَحْوَالِ وَأَعْدَلُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فَيُذَمُّ ، وَلَا تَكْثِيرٌ فَيَعْجَزُ .
وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَيَسُرُّوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ } .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : عَلَيْك بِأَوْسَاطِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا نَجَاةٌ وَلَا تَرْكَبْ ذَلُولًا وَلَا صَعْبًا
وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يُقَصِّرَ فِيهَا .
فَلَا يَخْلُو حَالَ تَقْصِيرِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : إحْدَاهُنَّ : أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ أَعْجَزَهُ عَنْهُ ، أَوْ مَرَضٍ أَضْعَفَهُ عَنْ أَدَاءِ مَا كُلِّفَ بِهِ .
فَهَذَا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الْمُقَصِّرِينَ ، وَيَلْحَقُ بِأَحْوَالِ الْعَامِلِينَ ، لِاسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ عَلَى سُقُوطِ مَا دَخَلَ تَحْتَ الْعَجْزِ .
وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ عَامِلٍ كَانَ يَعْمَلُ عَمَلًا فَيَقْطَعُهُ عَنْهُ مَرَضٌ إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَنْ يَكْتُبُ لَهُ ثَوَابَ عَمَلِهِ .} وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ تَقْصِيرُهُ فِيهِ اغْتِرَارًا بِالْمُسَامَحَةِ فِيهِ ، وَرَجَاءَ الْعَفْوِ عَنْهُ .
فَهَذَا مَخْدُوعُ الْعَقْلِ مَغْرُورٌ بِالْجَهْلِ ، فَقَدْ جَعَلَ الظَّنَّ ذُخْرًا وَالرَّجَاءَ عُدَّةٌ .
فَهُوَ كَمَنْ قَطَعَ سَفَرًا بِغَيْرِ زَادٍ ظَنًّا بِأَنَّهُ سَيَجِدُهُ فِي الْمَفَاوِزِ الْجَدْبَةِ فَيُفْضِي بِهِ الظَّنُّ إلَى الْهَلَكَةِ ، وَهَلَّا كَانَ الْحَذَرُ أَغْلَبَ عَلَيْهِ وَقَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ.
وَحُكِيَ أَنَّ إسْرَائِيلَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي قَالَ : لَقِيَنِي مَجْنُونٌ كَانَ فِي الْخَرَابَاتِ فَقَالَ : يَا إسْرَائِيلُ خَفْ اللَّهَ خَوْفًا يَشْغَلُك عَنْ الرَّجَاءِ فَإِنَّ الرَّجَاءَ يَشْغَلُك عَنْ الْخَوْفِ ، وَفِرَّ إلَى اللَّهِ وَلَا تَفِرَّ مِنْهُ .
وَقِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَلَا تَبْكِي ؟ فَقَالَ : تِلْكَ حِلْيَةُ الْآمَنِينَ .
وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا حَازِمٍ الْأَعْرَجَ أَخْبَرَ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بِوَعِيدِ اللَّهِ لِلْمُذْنِبَيْنِ ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ : أَيْنَ رَحْمَةُ اللَّهِ ؟ قَالَ : قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : مَا انْتَفَعْت وَلَا اتَّعَظْت بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ كِتَابٍ كَتَبَهُ إلَيَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَسُرُّهُ دَرَكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ وَيَسُوءُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ ، فَلَا تَكُنْ بِمَا نِلْته مِنْ دُنْيَاك فَرِحًا ، وَلَا لِمَا فَاتَك مِنْهَا تَرِحًا ، وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الْآخِرَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ ، وَيُؤَخِّرُ التَّوْبَةَ بِطُولِ الْأَمَلِ ، فَكَأَنْ قَدْ وَالسَّلَامُ .
وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَخَافُ عَلَى الْمُحْسِنِ الْمُتَّقِي وَأَرْجُو لِذِي الْهَفَوَاتِ اُلْمُسِي فَذَلِكَ خَوْفِي عَلَى مُحْسِنٍ فَكَيْفَ عَلَى الظَّالِمِ الْمُعْتَدِي عَلَى أَنَّ ذَا الزَّيْغِ قَدْ يَسْتَفِيقُ وَيَسْتَأْنِفُ الزَّيْغَ قَلْبُ التَّقِيّ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ تَقْصِيرُهُ فِيهِ لِيَسْتَوْفِيَ مَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ بَعْدُ فَيَبْدَأُ بِالسَّيِّئَةِ فِي التَّقْصِيرِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ فِي الِاسْتِيفَاءِ اغْتِرَارًا بِالْأَمَلِ فِي إمْهَالِهِ ، وَرَجَاءً لِتَلَافِي مَا أَسْلَفَ مِنْ تَقْصِيرِهِ وَإِخْلَالِهِ ، فَلَا يَنْتَهِي بِهِ الْأَمَلُ إلَى غَايَةٍ ، وَلَا يُفْضِي بِهِ إلَى نِهَايَةٍ ؛ لِأَنَّ الْأَمَلَ هُوَ فِي ثَانِي حَالٍ ، كَهُوَ فِي أَوَّلِ حَالٍ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ يُؤَمِّلُ أَنْ يَعِيشَ غَدًا ، فَإِنَّهُ يُؤَمِّلُ أَنْ يَعِيشَ أَبَدًا } .
وَلَعَمْرِي إنَّ هَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ غَدًا .
فَإِذًا يُفْضِي بِهِ الْأَمَلُ إلَى الْفَوْتِ مِنْ غَيْرِ دَرَكٍ ، وَيُؤَدِّيهِ الرَّجَاءُ إلَى الْإِهْمَالِ مِنْ غَيْرِ تَلَافٍ ، فَيَصِيرُ الْأَمَلُ خَيْبَةً وَالرَّجَاءُ إيَاسًا .
وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَوَّلُ صَلَاحِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ ، وَفَسَادُهَا بِالْبُخْلِ وَالْأَمَلِ } .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَا أَطَالَ عَبْدٌ الْأَمَلَ ، إلَّا أَسَاءَ الْعَمَلَ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ بِالْبَصْرَةِ : أَلَكَ حَاجَةٌ بِبَغْدَادَ ؟ قَالَ : مَا أُحِبُّ أَنْ أَبْسُطَ أَمَلِي إلَى أَنْ تَذْهَبَ إلَى بَغْدَادَ وَتَجِيءَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْجَاهِلُ يَعْتَمِدُ عَلَى أَمَلِهِ ، وَالْعَاقِلُ يَعْتَمِدُ عَلَى عَمَلِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْأَمَلُ كَالسَّرَابِ غَرَّ مَنْ رَآهُ ، وَخَابَ مَنْ رَجَاهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزْدَانَ : دَخَلْت عَلَى الْمَأْمُونِ وَكُنْت يَوْمَئِذٍ وَزِيرَهُ فَرَأَيْته قَائِمًا وَبِيَدِهِ رُقْعَةٌ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَقْرَأْت مَا فِيهَا ؟ فَقُلْت : هِيَ فِي يَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ .
فَرَمَى بِهَا إلَيَّ فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ : إنَّك فِي دَارٍ لَهَا مُدَّةٌ يُقْبَلُ فِيهَا عَمَلُ الْعَامِلِ أَمَا تَرَى الْمَوْتَ مُحِيطًا بِهَا قَطَعَ فِيهَا أَمَلَ الْآمِلِ تَعْجَلُ بِالذَّنْبِ لِمَا تَشْتَهِي وَتَأْمُلُ التَّوْبَةَ مِنْ قَابِلِ وَالْمَوْتُ يَأْتِي بَعْدَ ذَا بَغْتَةً مَا ذَاكَ فِعْلُ الْحَازِمِ الْعَاقِلِ فَلَمَّا قَرَأْتهَا قَالَ الْمَأْمُونُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : هَذَا مِنْ أَحْكَمِ شَعْرٍ قَرَأْته .
وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ الْأَعْرَجُ : نَحْنُ لَا نُرِيدُ أَنْ نَمُوتَ حَتَّى نَتُوبَ ، وَنَحْنُ لَا نَتُوبُ حَتَّى نَمُوتَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : زَائِدُ الْإِمْهَالِ رَائِدُ الْإِهْمَالِ .
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ تَقْصِيرُهُ فِيهِ اسْتِثْقَالًا لِلِاسْتِيفَاءِ ، وَزُهْدًا فِي التَّمَامِ ،
وَاقْتِصَارًا عَلَى مَا سَنَحَ ، وَقِلَّةَ اكْتِرَاثٍ فِيمَا بَقِيَ .
فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مَا أَخَلَّ بِهِ وَقَصَّرَ فِيهِ غَيْرَ قَادِحٍ فِي فَرْضٍ ، وَلَا مَانِعٍ مِنْ عِبَادَةٍ ، كَمَنْ اقْتَصَرَ فِي الْعِبَادَةِ عَلَى فِعْلِ وَاجِبَاتِهَا ، وَعَمَلِ مُفْتَرَضَاتِهَا ، وَأَخَلَّ بِمَسْنُونَاتِهَا وَهَيْئَاتِهَا .
فَهَذَا مُسِيءٌ فِيمَا تَرَكَ إسَاءَةَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ وَعِيدًا وَلَا يَسْتَوْجِبُ عِتَابًا ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ يُسْقِطُ عَنْهُ الْعِقَابَ ، وَإِخْلَالَهُ بِالْمَسْنُونِ يَمْنَعُ مِنْ إكْمَالِ الثَّوَابِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ تَهَاوَنَ بِالدِّينِ هَانَ ، وَمَنْ غَالَبَ الْحَقَّ لَانَ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَيَصُونُ تَوْبَتَهُ وَيَتْرُكُ غَيْرَ ذَلِكَ لَا يَصُونُهْ وَأَحَقُّ مَا صَانَ الْفَتَى وَرَعَى أَمَانَتُهُ وَدِينُهْ وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ مَفْرُوضِ عِبَادَتِهِ ، لَكِنْ لَا يَقْدَحُ تَرْكُ مَا بَقِيَ فِيمَا مَضَى كَمَنْ أَكْمَلَ عِبَادَاتٍ وَأَخَلَّ بِغَيْرِهَا .
فَهَذَا أَسْوَأُ حَالًا مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ لِمَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ الْوَعِيدِ وَاسْتَوْجَبَهُ مِنْ الْعِقَابِ .
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ مَفْرُوضِ عِبَادَتِهِ وَهُوَ قَادِحٌ فِيمَا عَمِلَ مِنْهَا كَالْعِبَادَةِ الَّتِي يَرْتَبِطُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ، فَيَكُونُ الْمُقَصِّرُ فِي بَعْضِهَا تَارِكًا لِجَمِيعِهَا فَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ مَا عَمِلَ لِإِخْلَالِهِ بِمَا بَقِيَ .
فَهَذَا أَسْوَأُ أَحْوَالِ الْمُقَصِّرِينَ وَحَالُهُ لَاحِقَةٌ بِأَحْوَالِ التَّارِكِينَ ، بَلْ قَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا يُسْقِطُ فَرْضًا وَلَا يُؤَدِّي حَقًّا .
فَقَدْ سَاوَى التَّارِكِينَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوَعِيدِ ، وَزَادَ عَلَيْهِمْ فِي تَكَلُّفِ مَا لَا يُفِيدُ .
فَصَارَ مِنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ .
ثُمَّ لَعَلَّهُ لَا يَفْطِنُ لِشَأْنِهِ ، وَلَا يَشْعُرُ بِخُسْرَانِهِ ، وَقَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ، وَيَفْطِنُ لِلْيَسِيرِ مِنْ مَالِهِ إنْ وَهَى وَاخْتَلَّ .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : أَبُنَيَّ إنَّ مِنْ الرِّجَالِ بَهِيمَةً فِي صُورَةِ الرَّجُلِ السَّمِيعِ الْمُبْصِرِ فَطِنٌ بِكُلِّ مُصِيبَةٍ فِي مَالِهِ وَإِذَا يُصَابُ بِدِينِهِ لَمْ يَشْعُرْ
وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِيمَا كُلِّفَ .
فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ رِيَاءً لِلنَّاظِرِينَ ، وَتَصَنُّعًا لِلْمَخْلُوقَيْنِ ، حَتَّى يَسْتَعْطِفَ بِهِ الْقُلُوبَ النَّافِرَةَ ، وَيَخْدَعَ بِهِ الْعُقُولَ الْوَاهِيَةَ ، فَيَتَبَهْرَجَ بِالصُّلَحَاءِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ ، وَيَتَدَلَّسَ فِي الْأَخْيَارِ وَهُوَ ضِدُّهُمْ .
وَقَدْ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُرَائِي بِعَمَلِهِ مَثَلًا فَقَالَ : { الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَا يَمْلِكُ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ } .
يُرِيدُ بِالْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَا يَمْلِكُ الْمُتَزَيِّنَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ هُوَ الَّذِي يَلْبَسُ ثِيَابَ الصُّلَحَاءِ ، فَهُوَ بِرِيَائِهِ مَحْرُومُ الْأَجْرِ ، مَذْمُومُ الذِّكْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُؤْجَرَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَخْفَى رِيَاؤُهُ عَلَى النَّاسِ فَيُحْمَدَ بِهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } .
قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ : مَعْنَى قَوْلِهِ { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } أَيْ لَا يُرَائِي بِعَمَلِهِ أَحَدًا ، فَجَعَلَ الرِّيَاءَ شِرْكًا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَا يُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى مَقْصُودًا بِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك وَلَا تُخَافِتْ بِهَا } .
قَالَ : لَا تَجْهَرْ بِهَا رِيَاءً ، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا حَيَاءً .
وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} .
أَنَّ الْعَدْلَ اسْتِوَاءُ السَّرِيرَةِ وَالْعَلَانِيَةِ فِي الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَالْإِحْسَانَ أَنْ تَكُونَ سَرِيرَتُهُ أَحْسَنَ مِنْ عَلَانِيَتِهِ ، وَالْفَحْشَاءَ وَالْمُنْكَرَ أَنْ تَكُونَ عَلَانِيَتُهُ أَحْسَنَ مِنْ سَرِيرَتِهِ .
وَكَانَ غَيْرُهُ يَقُولُ : الْعَدْلُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَالْإِحْسَانُ الصَّبْرُ عَلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَطَاعَةُ اللَّهِ فِي سِرِّهِ وَجَهْرِهِ ، وَإِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى صِلَةُ الْأَرْحَامِ ، وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ يَعْنِي الزِّنَا ، وَالْمُنْكَرِ الْقَبَائِحَ ، وَالْبَغْيِ الْكِبْرَ وَالظُّلْمِ .
وَلَيْسَ يَخْرُجُ الرِّيَاءُ بِالْأَعْمَالِ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْقَبَائِحِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الرِّيَاءُ الظَّاهِرُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَرَى أَنَّ فِيهِ خَيْرًا وَلَا خَيْرَ فِيهِ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام : لَا تَعْمَلْ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ رِيَاءً وَلَا تَتْرُكْهُ حَيَاءً .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : كُلُّ حَسَنَةٍ لَمْ يُرَدْ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى فِعْلَتُهَا قُبْحُ الرِّيَاءِ ، وَثَمَرَتُهَا سُوءُ الْجَزَاءِ .
وَقَدْ يُفْضِي الرِّيَاءُ بِصَاحِبِهِ إلَى اسْتِهْزَاءِ النَّاسِ بِهِ كَمَا حُكِيَ أَنَّ طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيِّ : مُنْذُ كَمْ صِرْت إلَى الْعِرَاقِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؟ قَالَ : دَخَلْت الْعِرَاقَ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً وَأَنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً صَائِمٌ .
فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، سَأَلْتُك عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَبْت عَنْ مَسْأَلَتَيْنِ .
وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا صَلَّى فَأَطَالَ وَإِلَى جَانِبِهِ قَوْمٌ فَقَالُوا : مَا أَحْسَنَ صَلَاتَك ، فَقَالَ : وَأَنَا مَعَ ذَلِكَ صَائِمٌ : صَلَّى فَأَعْجَبَنِي وَصَامَ فَرَابَنِي نَحِّ الْقَلُوصَ عَنْ الْمُصَلِّي الصَّائِمِ فَانْظُرْ إلَى هَذَا الرِّيَاءِ ، مَعَ قُبْحِهِ ، مَا أَدَلَّهُ عَلَى سُخْفِ عَقْلِ صَاحِبِهِ .
وَرُبَّمَا سَاعَدَ النَّاسَ مَعَ ظُهُورِ رِيَائِهِ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِنَفْسِهِ ، كَاَلَّذِي حُكِيَ أَنَّ زَاهِدًا نَظَرَ إلَى رَجُلٍ فِي وَجْهِهِ
سَجَّادَةٌ كَبِيرَةٌ وَاقِفًا عَلَى بَابِ السُّلْطَانِ فَقَالَ : مِثْلُ هَذَا الدِّرْهَمِ بَيْنَ عَيْنَيْك وَأَنْتَ وَاقِفٌ هَهُنَا ؟ فَقَالَ : إنَّهُ ضُرِبَ عَلَى غَيْرِ السِّكَّةِ .
وَهَذَا مِنْ أَجْوِبَةِ الْخَلَاعَةِ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا تَهْجِينَ الْمَذَمَّةَ .
وَلَقَدْ اسْتَحْسَنَ النَّاسُ مِنْ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ قَوْلَهُ ، وَقَدْ خَفَّفَ صَلَاتَهُ مَرَّةً ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ : خَفَّفْت صَلَاتَك جِدًّا .
فَقَالَ : إنَّهُ لَمْ يُخَالِطْهَا رِيَاءٌ .
فَتَخَلَّصَ مِنْ تَنْقِيصِهِمْ بِنَفْيِ الرِّيَاءِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَرَفْعِ التَّصَنُّعِ فِي صَلَاتِهِ .
وَقَدْ كَانَ النِّكَارُ لَوْلَا ذَلِكَ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ وَاللُّوَّمُ لَاحِقًا بِهِ .
وَمَرَّ أَبُو أُمَامَةَ بِبَعْضِ الْمَسَاجِدِ فَإِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي وَهُوَ يَبْكِي فَقَالَ لَهُ : أَنْتَ أَنْتَ لَوْ كَانَ هَذَا فِي بَيْتِك .
فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ مِنْهُ حَسَنًا ؛ لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُ بِالرِّيَاءِ ، وَلَعَلَّهُ كَانَ بَرِيئًا مِنْهُ ، فَكَيْفَ بِمَنْ صَارَ الرِّيَاءُ أَغْلَبَ صِفَاتِهِ ، وَأَشْهَرَ سِمَاتِهِ ، مَعَ أَنَّهُ آثِمٌ فِيمَا عَمِلَ ، أَنَمُّ مِنْ هُبُوبِ النَّسِيمِ بِمَا حَمَلَ .
وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : أَفْضَلُ الزُّهْدِ إخْفَاءُ الزُّهْدِ .
وَرُبَّمَا أَحَسَّ ذُو الْفَضْلِ مِنْ نَفْسِهِ مَيْلًا إلَى الْمُرَاءَاةِ ، فَبَعَثَهُ الْفَضْلُ عَلَى هَتْكِ مَا نَازَعَتْهُ النَّفْسُ مِنْ الْمُرَاءَاةِ فَكَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي فَضْلِهِ ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ زَجْرًا لِنَفْسِهِ لِتَكُفَّ عَنْ نِزَاعِهَا إلَى مِثْلِهِ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ : عِظْنِي فَقَالَ : لَا أَرْضَى نَفْسِي لَك وَاعِظًا ؛ لِأَنِّي أَجْلِسُ
بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فَأَمِيلُ عَلَى الْفَقِيرِ وَأُوَسِّعُ لِلْغَنِيِّ ، وَلِأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَمَلِ لِوَجْهِهِ لَا لِغَيْرِهِ .
وَحُكِيَ أَنَّ قَوْمًا أَرَادُوا سَفَرًا فَحَادُوا عَنْ الطَّرِيقِ ، فَانْتَهَوْا إلَى رَاهِبٍ فَقَالُوا : قَدْ ضَلَلْنَا ، فَكَيْفَ الطَّرِيقُ ؟ فَقَالَ : هَهُنَا وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إلَى السَّمَاءِ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَفْعَلَ الزِّيَادَةَ اقْتِدَاءً بِغَيْرِهِ .
وَهَذَا قَدْ تُثْمِرُهُ مُجَالَسَةُ الْأَخْيَارِ الْأَفَاضِلِ ، وَتُحْدِثُهُ مُكَاثَرَةُ الْأَتْقِيَاءِ الْأَمَاثِلِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ } .
فَإِذَا كَاثَرَهُمْ الْمُجَالِسَ ، وَطَاوَلَهُمْ الْمُؤَانِسَ ، أَحَبَّ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي أَفْعَالِهِمْ ، وَيَتَأَسَّى بِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ ، وَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يُقَصِّرَ عَنْهُمْ ، وَلَا أَنْ يَكُونَ فِي الْخَيْرِ دُونَهُمْ ، فَتَبْعَثُهُ الْمُنَافَسَةُ عَلَى مُسَاوَاتِهِمْ ، وَرُبَمَا دَعَتْهُ الْحَمِيَّةُ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ وَالْمُكَاثَرَةِ لَهُمْ فَيَصِيرُوا سَبَبًا لِسَعَادَتِهِ ، وَبَاعِثًا عَلَى اسْتِزَادَتِهِ .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ : لَوْلَا الْوِئَامُ لَهَلَكَ الْأَنَامُ .
أَيْ لَوْلَا أَنَّ النَّاسَ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيَقْتَدِي بِهِمْ فِي الْخَيْرِ لَهَلَكُوا .
وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ خَيْرِ الِاخْتِيَارِ صُحْبَةُ الْأَخْيَارِ ، وَمِنْ شَرِّ الِاخْتِيَارِ مَوَدَّةُ الْأَشْرَارِ .
وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ لِلْمُصَاحَبَةِ تَأْثِيرًا فِي اكْتِسَابِ الْأَخْلَاقِ ، فَتَصْلُحُ أَخْلَاقُ الْمَرْءِ بِمُصَاحَبَةِ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَتَفْسُدُ بِمُصَاحَبَةِ أَهْلِ الْفَسَادِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ : رَأَيْت صَلَاحَ الْمَرْءِ يُصْلِحُ أَهْلَهُ وَيُعْدِيهِمْ عِنْدَ الْفَسَادِ إذَا فَسَدْ يُعَظَّمُ فِي الدُّنْيَا بِفَضْلِ صَلَاحِهِ وَيُحْفَظُ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي الْأَهْلِ وَالْوَلَدْ وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِأَبِي بَكْرٍ الْخُوَارِزْمِيِّ : لَا تَصْحَبْ الْكَسْلَانَ فِي حَالَاتِهِ كَمْ صَالِحٍ
بِفَسَادِ آخَرَ يَفْسُدُ عَدْوَى الْبَلِيدِ إلَى الْجَلِيدِ سَرِيعَةٌ وَالْجَمْرُ يُوضَعُ فِي الرُّمَاعِ فَيَخْمُدُ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَفْعَلَ الزِّيَادَةَ ابْتِدَاءً مِنْ نَفْسِهِ الْتِمَاسًا لِثَوَابِهَا وَرَغْبَةً فِي الزُّلْفَةِ بِهَا .
فَهَذَا مِنْ نَتَائِجِ النَّفْسِ الزَّاكِيَةِ ، وَدَوَاعِي الرَّغْبَةِ الْوَافِيَةِ ، الدَّالَيْنِ عَلَى خُلُوصِ الدِّينِ ، وَصِحَّةِ الْيَقِينِ ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ أَحْوَالِ الْعَامِلِينَ ، وَأَعْلَى مَنَازِلِ الْعَابِدِينَ .
وَقَدْ قِيلَ : النَّاسُ فِي الْخَيْرِ أَرْبَعَةٌ : مِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهُ ابْتِدَاءً ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهُ اقْتِدَاءً ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُهُ اسْتِحْسَانًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُهُ حِرْمَانًا .
فَمَنْ فَعَلَهُ ابْتِدَاءً فَهُوَ كَرِيمٌ ، وَمَنْ فَعَلَهُ اقْتِدَاءً فَهُوَ حَكِيمٌ ، وَمَنْ تَرَكَهُ اسْتِحْسَانًا فَهُوَ رَدِيءٌ ، وَمَنْ تَرَكَهُ حِرْمَانًا فَهُوَ شَقِيٌّ .
ثُمَّ لِمَا يَفْعَلُهُ مِنْ الزِّيَادَةِ حَالَتَانِ : إحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُقْتَصِدًا فِيهَا ، وَقَادِرًا عَلَى الدَّوَامِ عَلَيْهَا .
فَهِيَ أَفْضَلُ الْحَالَتَيْنِ ، وَأَعْلَى الْمَنْزِلَتَيْنِ .
عَلَيْهَا انْقَرَضَ أَخْيَارُ السَّلَفِ ، وَتَتَبَّعَهُمْ فِيهَا فُضَلَاءُ الْخَلَفِ .
وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَيُّهَا النَّاسُ افْعَلُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ مِنْ الثَّوَابِ حَتَّى تَمَلُّوا مِنْ الْعَمَلِ ، وَخَيْرُ الْأَعْمَالِ مَا دِيمَ عَلَيْهِ } .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ : الْقَصْدُ وَالدَّوَامُ وَأَنْتَ السَّابِقُ الْجَوَادُ .
وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ صَحِيحَ الرَّغْبَةِ فِي ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسَرَّةٌ إلَّا فِي طَاعَتِهِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : قُلْت لِرَاهِبٍ : مَتَى عِيدُكُمْ ؟ قَالَ : كُلُّ يَوْمٍ لَا أَعْصِي اللَّهَ فِيهِ فَهُوَ يَوْمُ عِيدٍ .
اُنْظُرْ إلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَقَاصِدِ الطَّاعَةِ مَا أَبْلَغَهُ فِي حُبِّ الطَّاعَةِ ، وَأَحَثَّهُ عَلَى بَذْلِ الِاسْتِطَاعَةِ .
المصادر :
راسخون 2018
وَقَدْ قِيلَ : كُلٌّ يَحْصُدُ مَا يَزْرَعُ ، وَيُجْزَى بِمَا يَصْنَعُ .
بَلْ قَالُوا : زَرْعُ يَوْمِك حَصَادُ غَدِك .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيُقْدِمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي ، وَهِيَ أَخْبَثُ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ .
فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ اللَّاهِي عَنْ فِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ ، وَعَذَابَ الْمُجْتَرِئِ عَلَى مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنْ مَعَاصِيهِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : عَجِبْت لِمَنْ يَحْتَمِي مِنْ الطَّيِّبَاتِ مَخَافَةَ الدَّاءِ ، كَيْفَ لَا يَحْتَمِي مِنْ الْمَعَاصِي مَخَافَةَ النَّارِ .
فَأَخَذَ ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ : جِسْمُك قَدْ أَفْنَيْته بِالْحِمَى دَهْرًا مِنْ الْبَارِدِ وَالْحَارِّ وَكَانَ أَوْلَى بِك أَنْ تَحْتَمِي مِنْ الْمَعَاصِي حَذَرَ النَّارِ وَقَالَ ابْنُ صَبَاوَةَ : إنَّا نَظَرْنَا فَوَجَدْنَا الصَّبْرَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَهْوَنَ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ آخَرُ : اصْبِرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَلَى عَمَلٍ لَا غِنَى بِكُمْ عَنْ ثَوَابِهِ ، وَاصْبِرُوا عَنْ عَمَلٍ لَا صَبْرَ لَكُمْ عَلَى عِقَابِهِ .
وَقِيلَ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْك .
فَقَالَ : كَيْفَ يَرْضَى عَنِّي وَلَمْ أُرْضِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَجِيبُ إلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيُقْدِمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي .
فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ الْمُجْتَرِئِ ؛ لِأَنَّهُ تَوَرَّطَ بِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَإِنْ سَلِمَ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي فِعْلِ الطَّاعَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَقْلِعُوا عَنْ الْمَعَاصِي قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَكُمْ اللَّهُ هَتًّا بَتًّا } : الْهَتُّ الْكَسْرُ وَالْبَتُّ الْقَطْعُ .
وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : أَفْضَلُ النَّاسِ مَنْ لَمْ تُفْسِدْ الشَّهْوَةُ دِينَهُ ، وَلَمْ تَتْرُكْ الشُّبْهَةُ يَقِينَهُ .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ : عَجِبْت لِمَنْ يَحْتَمِي مِنْ الْأَطْعِمَةِ لِمَضَرَّاتِهَا ، كَيْفَ لَا يَحْتَمِي مِنْ الذُّنُوبِ لِمَعَرَّاتِهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الصُّلَحَاءِ : أَهْلُ الذُّنُوبِ مَرْضَى الْقُلُوبِ وَقِيلَ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَا أَعْجَبُ الْأَشْيَاءِ ؟ فَقَالَ : قَلْبٌ عَرَفَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ عَصَاهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأَلِبَّاءِ : يُدِلُّ بِالطَّاعَةِ الْعَاصِي وَيَنْسَى عَظِيمَ الْمَعَاصِي .
وَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك رَجُلٌ قَلِيلُ الذُّنُوبِ قَلِيلُ الْعَمَلِ ، أَوْ رَجُلٌ كَثِيرُ الذُّنُوبِ كَثِيرُ الْعَمَلِ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا أَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ : مَا تَقُولُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ ؟ فَقَالَ : خَفْ اللَّهَ بِالنَّهَارِ وَنَمْ بِاللَّيْلِ .
وَسَمِعَ بَعْضُ الزُّهَّادِ رَجُلًا يَقُولُ لِقَوْمٍ : أَهْلَكَكُمْ النَّوْمُ .
فَقَالَ : بَلْ أَهْلَكَتْكُمْ الْيَقِظَةُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ ، وَيَكُفُّ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ اللَّاهِي عَنْ دِينِهِ ، الْمُنْذَرِ بِقِلَّةِ يَقِينِهِ .
وَرَوَى أَبُو إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - كُلُّهَا عِبَرًا .
عَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ ثُمَّ يَضْحَكُ ، وَعَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ يَتْعَبُ ، وَعَجِبْت لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا ثُمَّ يَطْمَئِنُّ إلَيْهَا ، وَعَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ ثُمَّ يَفْرَحُ ، وَعَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غَدًا ثُمَّ لَا يَعْمَلُ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اجْتَهَدُوا فِي الْعَمَلِ فَإِنْ قَصَرَ بِكُمْ ضَعْفٌ فَكُفُّوا عَنْ الْمَعَاصِي } .
وَهَذَا وَاضِحُ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ عَنْ الْمَعَاصِي تَرْكٌ وَهُوَ أَسْهَلُ ، وَعَمَلَ الطَّاعَاتِ فِعْلٌ وَهُوَ أَثْقَلُ .
وَلِذَلِكَ لَمْ يُبِحْ اللَّهُ تَعَالَى ارْتِكَابَ الْمَعْصِيَةِ بِعُذْرٍ وَلَا بِغَيْرِ عُذْرٍ ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ وَالتَّرْكُ لَا يَعْجَزُ الْمَعْذُورُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ تَرْكَ الْأَعْمَالِ بِالْأَعْذَارِ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ يَعْجَزُ الْمَعْذُورُ عَنْهُ .
وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً كَانَ قَوِيًّا فَأَعْمَلَ قُوَّتَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ كَانَ ضَعِيفًا فَكَفَّ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشَّامِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْعُمْرُ يَنْقُصُ وَالذُّنُوبُ تَزِيدُ وَتُقَالُ عَثَرَاتُ الْفَتَى فَيَعُودُ هَلْ يَسْتَطِيعُ جُحُودَ ذَنْبٍ وَاحِدٍ رَجُلٌ جَوَارِحُهُ عَلَيْهِ شُهُودُ وَالْمَرْءُ يُسْأَلُ عَنْ سِنِيهِ فَيَشْتَهِي تَقْلِيلَهَا وَعَنْ الْمَمَاتِ يَحِيدُ وَاعْلَمْ أَنَّ لِأَعْمَالِ الطَّاعَاتِ وَمُجَانَبَةِ الْمَعَاصِي آفَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا تُكْسِبُ الْوِزْرَ وَالْأُخْرَى تُوهِنُ الْأَجْرَ .
فَأَمَّا الْمُكْسِبَةُ لِلْوِزْرِ
فَإِعْجَابٌ بِمَا سَلَفَ مِنْ عَمَلِهِ ، وَقَدَّمَ مِنْ طَاعَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِعْجَابَ بِهِ يُفْضِي إلَى حَالَتَيْنِ مَذْمُومَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّ الْمُعْجَبَ بِعَمَلِهِ مُمْتَنٌّ بِهِ وَالْمُمْتَنُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى جَاحِدٌ لِنِعَمِهِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ : أَمَّا زُهْدُك فِي الدُّنْيَا فَقَدْ اسْتَعْجَلْت بِهِ الرَّاحَةَ ، وَأَمَّا انْقِطَاعُك إلَيَّ فَهُوَ عِزٌّ لَك ، فَهَذَانِ لَك وَبَقِيَتْ أَنَا .
وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْمُعْجَبَ بِعَمَلِهِ مُدِلٌّ بِهِ وَالْمُدِلُّ بِعَمَلِهِ مُجْتَرِئٌ ، وَالْمُجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ عَاصٍ .
وَقَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ : خَيْرٌ مِنْ الْعُجْبِ بِالطَّاعَةِ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِطَاعَةٍ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : ضَاحِكٌ مُعْتَرِفٌ بِذَنْبِهِ ، خَيْرٌ مِنْ بَاكٍ مُدِلٍّ عَلَى رَبِّهِ ، وَبَاكٍ نَادِمٌ عَلَى ذَنْبِهِ خَيْرٌ مِنْ ضَاحِكٍ مُعْتَرِفٍ بِلَهْوِهِ .
وَأَمَّا الْمُوهِنَةُ لِلْأَجْرِ فَالثِّقَةُ بِمَا أَسْلَفَ وَالرُّكُونُ إلَى مَا قَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الثِّقَةَ تَئُولُ إلَى أَمْرَيْنِ شَيْنَيْنِ : أَحَدُهُمَا يُحْدِثُ اتِّكَالًا عَلَى مَا مَضَى وَتَقْصِيرًا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ .
وَمَنْ قَصَّرَ وَاتَّكَلَ لَمْ يَرْجُ أَجْرًا وَلَمْ يُؤَدِّ شُكْرًا .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَاثِقَ آمِنٌ .
وَالْآمِنُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ خَائِفٍ ، وَمَنْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ تَعَالَى هَانَتْ عَلَيْهِ أَوَامِرُهُ ، وَسَهُلَتْ عَلَيْهِ زَوَاجِرُهُ .
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ : رَهْبَةُ الْمَرْءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ : لَأَنْ أَبِيتَ نَائِمًا وَأُصْبِحَ نَادِمًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَبِيتَ قَائِمًا وَأُصْبِحَ نَاعِمًا .
وَقَالَ الْحُكَمَاءُ : مَا بَيْنَك وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيك خَيْرٌ إلَّا أَنْ تَرَى أَنَّ فِيك خَيْرًا .
وَقِيلَ لِرَابِعَةَ الْعَدَوِيَّةِ - رَحِمَهَا اللَّهُ - : هَلْ عَمِلْت عَمَلًا قَطُّ تَرَيْنَ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْك ؟ قَالَتْ : إنْ كَانَ شَيْءٌ فَخَوْفِي أَنْ يُرَدَّ عَلَيَّ عَمَلِي .
وَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ -
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - : إنَّا لِلَّهِ فِيمَا مَضَى مَا أَعْظَمَ فِيهِ الْخَطَرُ ، وَإِنَّا لِلَّهِ فِيمَا بَقِيَ مَا أَقَلَّ مِنْهُ الْحَذَرُ .
وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الزُّهَّادِ وَقَفَ عَلَى جَمْعٍ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ : يَا مَعْشَرَ الْأَغْنِيَاءِ لَكُمْ أَقُولُ : اسْتَكْثِرُوا مِنْ الْحَسَنَاتِ فَإِنَّ ذُنُوبَكُمْ كَثِيرَةٌ ، وَيَا مَعْشَرَ الْفُقَرَاءِ لَكُمْ أَقُولُ : أَقِلُّوا مِنْ الذُّنُوبِ فَإِنَّ حَسَنَاتِكُمْ قَلِيلَةٌ .
فَيَنْبَغِي - أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْك بِالتَّوْفِيقِ - أَنْ لَا تُضَيِّعَ صِحَّةَ جِسْمِك وَفَرَاغَ وَقْتِك بِالتَّقْصِيرِ فِي طَاعَةِ رَبِّك ، وَالثِّقَةِ بِسَالِفِ عَمَلِك .
فَاجْعَلْ الِاجْتِهَادَ غَنِيمَةَ صِحَّتِك ، وَالْعَمَلَ فُرْصَةَ فَرَاغِك ، فَلَيْسَ كُلُّ الزَّمَانِ مُسْتَسْعَدًا وَلَا مَا فَاتَ مُسْتَدْرَكًا ، وَلِلْفَرَاغِ زَيْغٌ أَوْ نَدَمٌ ، وَلِلْخَلْوَةِ مَيْلٌ أَوْ أَسَفٌ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : الرَّاحَةُ لِلرِّجَالِ غَفْلَةٌ وَلِلنِّسَاءِ غُلْمَةٌ .
وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرُ : إنْ يَكُنْ الشُّغْلُ مَجْهَدَةً ، فَالْفَرَاغُ مَفْسَدَةٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إيَّاكُمْ وَالْخَلَوَاتِ فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الْعُقُولَ ، وَتُعَقِّدُ الْمَحْلُولَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لَا تُمْضِ يَوْمَك فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ ، وَلَا تُضِعْ مَالَك فِي غَيْرِ صَنْعَةٍ .
فَالْعُمُرُ أَقْصَرُ مِنْ أَنْ يَنْفَدَ فِي غَيْرِ الْمَنَافِعِ ، وَالْمَالُ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُصْرَفَ فِي غَيْرِ الصَّنَائِعِ .
وَالْعَاقِلُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَفِنِي أَيَّامَهُ فِيمَا لَا يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُهُ وَخَيْرُهُ ، وَيُنْفِقَ أَمْوَالَهُ فِيمَا لَا يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُهُ وَأَجْرُهُ .
وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - : الْبِرُّ ثَلَاثَةٌ : الْمَنْطِقُ وَالنَّظَرُ وَالصَّمْتُ .
فَمَنْ كَانَ مَنْطِقُهُ فِي غَيْرِ ذِكْرٍ فَقَدْ لَغَا ، وَمَنْ كَانَ نَظَرُهُ فِي غَيْرِ اعْتِبَارٍ فَقَدْ سَهَا ، وَمَنْ كَانَ صَمْتُهُ فِي غَيْرِ فِكْرٍ فَقَدْ لَهَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ فِيمَا كُلِّفَ مِنْ عِبَادَاتِهِ ثَلَاثَ أَحْوَالٍ : إحْدَاهَا أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ فِيهَا وَلَا زِيَادَةٍ عَلَيْهَا .
وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يُقَصِّرَ فِيهَا .
وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا .
فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى : فَهِيَ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى حَالِ الْكَمَالِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِيهَا ، وَلَا زِيَادَةِ تَطَوُّعٍ عَلَى رَاتِبَتِهَا .
فَهِيَ أَوْسَطُ الْأَحْوَالِ وَأَعْدَلُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فَيُذَمُّ ، وَلَا تَكْثِيرٌ فَيَعْجَزُ .
وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَيَسُرُّوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ } .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : عَلَيْك بِأَوْسَاطِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا نَجَاةٌ وَلَا تَرْكَبْ ذَلُولًا وَلَا صَعْبًا
وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يُقَصِّرَ فِيهَا .
فَلَا يَخْلُو حَالَ تَقْصِيرِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : إحْدَاهُنَّ : أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ أَعْجَزَهُ عَنْهُ ، أَوْ مَرَضٍ أَضْعَفَهُ عَنْ أَدَاءِ مَا كُلِّفَ بِهِ .
فَهَذَا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الْمُقَصِّرِينَ ، وَيَلْحَقُ بِأَحْوَالِ الْعَامِلِينَ ، لِاسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ عَلَى سُقُوطِ مَا دَخَلَ تَحْتَ الْعَجْزِ .
وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ عَامِلٍ كَانَ يَعْمَلُ عَمَلًا فَيَقْطَعُهُ عَنْهُ مَرَضٌ إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَنْ يَكْتُبُ لَهُ ثَوَابَ عَمَلِهِ .} وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ تَقْصِيرُهُ فِيهِ اغْتِرَارًا بِالْمُسَامَحَةِ فِيهِ ، وَرَجَاءَ الْعَفْوِ عَنْهُ .
فَهَذَا مَخْدُوعُ الْعَقْلِ مَغْرُورٌ بِالْجَهْلِ ، فَقَدْ جَعَلَ الظَّنَّ ذُخْرًا وَالرَّجَاءَ عُدَّةٌ .
فَهُوَ كَمَنْ قَطَعَ سَفَرًا بِغَيْرِ زَادٍ ظَنًّا بِأَنَّهُ سَيَجِدُهُ فِي الْمَفَاوِزِ الْجَدْبَةِ فَيُفْضِي بِهِ الظَّنُّ إلَى الْهَلَكَةِ ، وَهَلَّا كَانَ الْحَذَرُ أَغْلَبَ عَلَيْهِ وَقَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ.
وَحُكِيَ أَنَّ إسْرَائِيلَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي قَالَ : لَقِيَنِي مَجْنُونٌ كَانَ فِي الْخَرَابَاتِ فَقَالَ : يَا إسْرَائِيلُ خَفْ اللَّهَ خَوْفًا يَشْغَلُك عَنْ الرَّجَاءِ فَإِنَّ الرَّجَاءَ يَشْغَلُك عَنْ الْخَوْفِ ، وَفِرَّ إلَى اللَّهِ وَلَا تَفِرَّ مِنْهُ .
وَقِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَلَا تَبْكِي ؟ فَقَالَ : تِلْكَ حِلْيَةُ الْآمَنِينَ .
وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا حَازِمٍ الْأَعْرَجَ أَخْبَرَ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بِوَعِيدِ اللَّهِ لِلْمُذْنِبَيْنِ ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ : أَيْنَ رَحْمَةُ اللَّهِ ؟ قَالَ : قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : مَا انْتَفَعْت وَلَا اتَّعَظْت بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ كِتَابٍ كَتَبَهُ إلَيَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَسُرُّهُ دَرَكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ وَيَسُوءُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ ، فَلَا تَكُنْ بِمَا نِلْته مِنْ دُنْيَاك فَرِحًا ، وَلَا لِمَا فَاتَك مِنْهَا تَرِحًا ، وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الْآخِرَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ ، وَيُؤَخِّرُ التَّوْبَةَ بِطُولِ الْأَمَلِ ، فَكَأَنْ قَدْ وَالسَّلَامُ .
وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَخَافُ عَلَى الْمُحْسِنِ الْمُتَّقِي وَأَرْجُو لِذِي الْهَفَوَاتِ اُلْمُسِي فَذَلِكَ خَوْفِي عَلَى مُحْسِنٍ فَكَيْفَ عَلَى الظَّالِمِ الْمُعْتَدِي عَلَى أَنَّ ذَا الزَّيْغِ قَدْ يَسْتَفِيقُ وَيَسْتَأْنِفُ الزَّيْغَ قَلْبُ التَّقِيّ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ تَقْصِيرُهُ فِيهِ لِيَسْتَوْفِيَ مَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ بَعْدُ فَيَبْدَأُ بِالسَّيِّئَةِ فِي التَّقْصِيرِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ فِي الِاسْتِيفَاءِ اغْتِرَارًا بِالْأَمَلِ فِي إمْهَالِهِ ، وَرَجَاءً لِتَلَافِي مَا أَسْلَفَ مِنْ تَقْصِيرِهِ وَإِخْلَالِهِ ، فَلَا يَنْتَهِي بِهِ الْأَمَلُ إلَى غَايَةٍ ، وَلَا يُفْضِي بِهِ إلَى نِهَايَةٍ ؛ لِأَنَّ الْأَمَلَ هُوَ فِي ثَانِي حَالٍ ، كَهُوَ فِي أَوَّلِ حَالٍ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ يُؤَمِّلُ أَنْ يَعِيشَ غَدًا ، فَإِنَّهُ يُؤَمِّلُ أَنْ يَعِيشَ أَبَدًا } .
وَلَعَمْرِي إنَّ هَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ غَدًا .
فَإِذًا يُفْضِي بِهِ الْأَمَلُ إلَى الْفَوْتِ مِنْ غَيْرِ دَرَكٍ ، وَيُؤَدِّيهِ الرَّجَاءُ إلَى الْإِهْمَالِ مِنْ غَيْرِ تَلَافٍ ، فَيَصِيرُ الْأَمَلُ خَيْبَةً وَالرَّجَاءُ إيَاسًا .
وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَوَّلُ صَلَاحِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ ، وَفَسَادُهَا بِالْبُخْلِ وَالْأَمَلِ } .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَا أَطَالَ عَبْدٌ الْأَمَلَ ، إلَّا أَسَاءَ الْعَمَلَ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ بِالْبَصْرَةِ : أَلَكَ حَاجَةٌ بِبَغْدَادَ ؟ قَالَ : مَا أُحِبُّ أَنْ أَبْسُطَ أَمَلِي إلَى أَنْ تَذْهَبَ إلَى بَغْدَادَ وَتَجِيءَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْجَاهِلُ يَعْتَمِدُ عَلَى أَمَلِهِ ، وَالْعَاقِلُ يَعْتَمِدُ عَلَى عَمَلِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْأَمَلُ كَالسَّرَابِ غَرَّ مَنْ رَآهُ ، وَخَابَ مَنْ رَجَاهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزْدَانَ : دَخَلْت عَلَى الْمَأْمُونِ وَكُنْت يَوْمَئِذٍ وَزِيرَهُ فَرَأَيْته قَائِمًا وَبِيَدِهِ رُقْعَةٌ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَقْرَأْت مَا فِيهَا ؟ فَقُلْت : هِيَ فِي يَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ .
فَرَمَى بِهَا إلَيَّ فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ : إنَّك فِي دَارٍ لَهَا مُدَّةٌ يُقْبَلُ فِيهَا عَمَلُ الْعَامِلِ أَمَا تَرَى الْمَوْتَ مُحِيطًا بِهَا قَطَعَ فِيهَا أَمَلَ الْآمِلِ تَعْجَلُ بِالذَّنْبِ لِمَا تَشْتَهِي وَتَأْمُلُ التَّوْبَةَ مِنْ قَابِلِ وَالْمَوْتُ يَأْتِي بَعْدَ ذَا بَغْتَةً مَا ذَاكَ فِعْلُ الْحَازِمِ الْعَاقِلِ فَلَمَّا قَرَأْتهَا قَالَ الْمَأْمُونُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : هَذَا مِنْ أَحْكَمِ شَعْرٍ قَرَأْته .
وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ الْأَعْرَجُ : نَحْنُ لَا نُرِيدُ أَنْ نَمُوتَ حَتَّى نَتُوبَ ، وَنَحْنُ لَا نَتُوبُ حَتَّى نَمُوتَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : زَائِدُ الْإِمْهَالِ رَائِدُ الْإِهْمَالِ .
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ تَقْصِيرُهُ فِيهِ اسْتِثْقَالًا لِلِاسْتِيفَاءِ ، وَزُهْدًا فِي التَّمَامِ ،
وَاقْتِصَارًا عَلَى مَا سَنَحَ ، وَقِلَّةَ اكْتِرَاثٍ فِيمَا بَقِيَ .
فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مَا أَخَلَّ بِهِ وَقَصَّرَ فِيهِ غَيْرَ قَادِحٍ فِي فَرْضٍ ، وَلَا مَانِعٍ مِنْ عِبَادَةٍ ، كَمَنْ اقْتَصَرَ فِي الْعِبَادَةِ عَلَى فِعْلِ وَاجِبَاتِهَا ، وَعَمَلِ مُفْتَرَضَاتِهَا ، وَأَخَلَّ بِمَسْنُونَاتِهَا وَهَيْئَاتِهَا .
فَهَذَا مُسِيءٌ فِيمَا تَرَكَ إسَاءَةَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ وَعِيدًا وَلَا يَسْتَوْجِبُ عِتَابًا ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ يُسْقِطُ عَنْهُ الْعِقَابَ ، وَإِخْلَالَهُ بِالْمَسْنُونِ يَمْنَعُ مِنْ إكْمَالِ الثَّوَابِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ تَهَاوَنَ بِالدِّينِ هَانَ ، وَمَنْ غَالَبَ الْحَقَّ لَانَ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَيَصُونُ تَوْبَتَهُ وَيَتْرُكُ غَيْرَ ذَلِكَ لَا يَصُونُهْ وَأَحَقُّ مَا صَانَ الْفَتَى وَرَعَى أَمَانَتُهُ وَدِينُهْ وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ مَفْرُوضِ عِبَادَتِهِ ، لَكِنْ لَا يَقْدَحُ تَرْكُ مَا بَقِيَ فِيمَا مَضَى كَمَنْ أَكْمَلَ عِبَادَاتٍ وَأَخَلَّ بِغَيْرِهَا .
فَهَذَا أَسْوَأُ حَالًا مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ لِمَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ الْوَعِيدِ وَاسْتَوْجَبَهُ مِنْ الْعِقَابِ .
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ مَفْرُوضِ عِبَادَتِهِ وَهُوَ قَادِحٌ فِيمَا عَمِلَ مِنْهَا كَالْعِبَادَةِ الَّتِي يَرْتَبِطُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ، فَيَكُونُ الْمُقَصِّرُ فِي بَعْضِهَا تَارِكًا لِجَمِيعِهَا فَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ مَا عَمِلَ لِإِخْلَالِهِ بِمَا بَقِيَ .
فَهَذَا أَسْوَأُ أَحْوَالِ الْمُقَصِّرِينَ وَحَالُهُ لَاحِقَةٌ بِأَحْوَالِ التَّارِكِينَ ، بَلْ قَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا يُسْقِطُ فَرْضًا وَلَا يُؤَدِّي حَقًّا .
فَقَدْ سَاوَى التَّارِكِينَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوَعِيدِ ، وَزَادَ عَلَيْهِمْ فِي تَكَلُّفِ مَا لَا يُفِيدُ .
فَصَارَ مِنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ .
ثُمَّ لَعَلَّهُ لَا يَفْطِنُ لِشَأْنِهِ ، وَلَا يَشْعُرُ بِخُسْرَانِهِ ، وَقَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ، وَيَفْطِنُ لِلْيَسِيرِ مِنْ مَالِهِ إنْ وَهَى وَاخْتَلَّ .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : أَبُنَيَّ إنَّ مِنْ الرِّجَالِ بَهِيمَةً فِي صُورَةِ الرَّجُلِ السَّمِيعِ الْمُبْصِرِ فَطِنٌ بِكُلِّ مُصِيبَةٍ فِي مَالِهِ وَإِذَا يُصَابُ بِدِينِهِ لَمْ يَشْعُرْ
وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِيمَا كُلِّفَ .
فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ رِيَاءً لِلنَّاظِرِينَ ، وَتَصَنُّعًا لِلْمَخْلُوقَيْنِ ، حَتَّى يَسْتَعْطِفَ بِهِ الْقُلُوبَ النَّافِرَةَ ، وَيَخْدَعَ بِهِ الْعُقُولَ الْوَاهِيَةَ ، فَيَتَبَهْرَجَ بِالصُّلَحَاءِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ ، وَيَتَدَلَّسَ فِي الْأَخْيَارِ وَهُوَ ضِدُّهُمْ .
وَقَدْ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُرَائِي بِعَمَلِهِ مَثَلًا فَقَالَ : { الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَا يَمْلِكُ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ } .
يُرِيدُ بِالْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَا يَمْلِكُ الْمُتَزَيِّنَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ هُوَ الَّذِي يَلْبَسُ ثِيَابَ الصُّلَحَاءِ ، فَهُوَ بِرِيَائِهِ مَحْرُومُ الْأَجْرِ ، مَذْمُومُ الذِّكْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُؤْجَرَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَخْفَى رِيَاؤُهُ عَلَى النَّاسِ فَيُحْمَدَ بِهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } .
قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ : مَعْنَى قَوْلِهِ { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } أَيْ لَا يُرَائِي بِعَمَلِهِ أَحَدًا ، فَجَعَلَ الرِّيَاءَ شِرْكًا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَا يُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى مَقْصُودًا بِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك وَلَا تُخَافِتْ بِهَا } .
قَالَ : لَا تَجْهَرْ بِهَا رِيَاءً ، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا حَيَاءً .
وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} .
أَنَّ الْعَدْلَ اسْتِوَاءُ السَّرِيرَةِ وَالْعَلَانِيَةِ فِي الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَالْإِحْسَانَ أَنْ تَكُونَ سَرِيرَتُهُ أَحْسَنَ مِنْ عَلَانِيَتِهِ ، وَالْفَحْشَاءَ وَالْمُنْكَرَ أَنْ تَكُونَ عَلَانِيَتُهُ أَحْسَنَ مِنْ سَرِيرَتِهِ .
وَكَانَ غَيْرُهُ يَقُولُ : الْعَدْلُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَالْإِحْسَانُ الصَّبْرُ عَلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَطَاعَةُ اللَّهِ فِي سِرِّهِ وَجَهْرِهِ ، وَإِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى صِلَةُ الْأَرْحَامِ ، وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ يَعْنِي الزِّنَا ، وَالْمُنْكَرِ الْقَبَائِحَ ، وَالْبَغْيِ الْكِبْرَ وَالظُّلْمِ .
وَلَيْسَ يَخْرُجُ الرِّيَاءُ بِالْأَعْمَالِ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْقَبَائِحِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الرِّيَاءُ الظَّاهِرُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَرَى أَنَّ فِيهِ خَيْرًا وَلَا خَيْرَ فِيهِ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام : لَا تَعْمَلْ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ رِيَاءً وَلَا تَتْرُكْهُ حَيَاءً .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : كُلُّ حَسَنَةٍ لَمْ يُرَدْ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى فِعْلَتُهَا قُبْحُ الرِّيَاءِ ، وَثَمَرَتُهَا سُوءُ الْجَزَاءِ .
وَقَدْ يُفْضِي الرِّيَاءُ بِصَاحِبِهِ إلَى اسْتِهْزَاءِ النَّاسِ بِهِ كَمَا حُكِيَ أَنَّ طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيِّ : مُنْذُ كَمْ صِرْت إلَى الْعِرَاقِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؟ قَالَ : دَخَلْت الْعِرَاقَ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً وَأَنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً صَائِمٌ .
فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، سَأَلْتُك عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَبْت عَنْ مَسْأَلَتَيْنِ .
وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا صَلَّى فَأَطَالَ وَإِلَى جَانِبِهِ قَوْمٌ فَقَالُوا : مَا أَحْسَنَ صَلَاتَك ، فَقَالَ : وَأَنَا مَعَ ذَلِكَ صَائِمٌ : صَلَّى فَأَعْجَبَنِي وَصَامَ فَرَابَنِي نَحِّ الْقَلُوصَ عَنْ الْمُصَلِّي الصَّائِمِ فَانْظُرْ إلَى هَذَا الرِّيَاءِ ، مَعَ قُبْحِهِ ، مَا أَدَلَّهُ عَلَى سُخْفِ عَقْلِ صَاحِبِهِ .
وَرُبَّمَا سَاعَدَ النَّاسَ مَعَ ظُهُورِ رِيَائِهِ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِنَفْسِهِ ، كَاَلَّذِي حُكِيَ أَنَّ زَاهِدًا نَظَرَ إلَى رَجُلٍ فِي وَجْهِهِ
سَجَّادَةٌ كَبِيرَةٌ وَاقِفًا عَلَى بَابِ السُّلْطَانِ فَقَالَ : مِثْلُ هَذَا الدِّرْهَمِ بَيْنَ عَيْنَيْك وَأَنْتَ وَاقِفٌ هَهُنَا ؟ فَقَالَ : إنَّهُ ضُرِبَ عَلَى غَيْرِ السِّكَّةِ .
وَهَذَا مِنْ أَجْوِبَةِ الْخَلَاعَةِ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا تَهْجِينَ الْمَذَمَّةَ .
وَلَقَدْ اسْتَحْسَنَ النَّاسُ مِنْ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ قَوْلَهُ ، وَقَدْ خَفَّفَ صَلَاتَهُ مَرَّةً ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ : خَفَّفْت صَلَاتَك جِدًّا .
فَقَالَ : إنَّهُ لَمْ يُخَالِطْهَا رِيَاءٌ .
فَتَخَلَّصَ مِنْ تَنْقِيصِهِمْ بِنَفْيِ الرِّيَاءِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَرَفْعِ التَّصَنُّعِ فِي صَلَاتِهِ .
وَقَدْ كَانَ النِّكَارُ لَوْلَا ذَلِكَ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ وَاللُّوَّمُ لَاحِقًا بِهِ .
وَمَرَّ أَبُو أُمَامَةَ بِبَعْضِ الْمَسَاجِدِ فَإِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي وَهُوَ يَبْكِي فَقَالَ لَهُ : أَنْتَ أَنْتَ لَوْ كَانَ هَذَا فِي بَيْتِك .
فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ مِنْهُ حَسَنًا ؛ لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُ بِالرِّيَاءِ ، وَلَعَلَّهُ كَانَ بَرِيئًا مِنْهُ ، فَكَيْفَ بِمَنْ صَارَ الرِّيَاءُ أَغْلَبَ صِفَاتِهِ ، وَأَشْهَرَ سِمَاتِهِ ، مَعَ أَنَّهُ آثِمٌ فِيمَا عَمِلَ ، أَنَمُّ مِنْ هُبُوبِ النَّسِيمِ بِمَا حَمَلَ .
وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : أَفْضَلُ الزُّهْدِ إخْفَاءُ الزُّهْدِ .
وَرُبَّمَا أَحَسَّ ذُو الْفَضْلِ مِنْ نَفْسِهِ مَيْلًا إلَى الْمُرَاءَاةِ ، فَبَعَثَهُ الْفَضْلُ عَلَى هَتْكِ مَا نَازَعَتْهُ النَّفْسُ مِنْ الْمُرَاءَاةِ فَكَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي فَضْلِهِ ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ زَجْرًا لِنَفْسِهِ لِتَكُفَّ عَنْ نِزَاعِهَا إلَى مِثْلِهِ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ : عِظْنِي فَقَالَ : لَا أَرْضَى نَفْسِي لَك وَاعِظًا ؛ لِأَنِّي أَجْلِسُ
بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فَأَمِيلُ عَلَى الْفَقِيرِ وَأُوَسِّعُ لِلْغَنِيِّ ، وَلِأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَمَلِ لِوَجْهِهِ لَا لِغَيْرِهِ .
وَحُكِيَ أَنَّ قَوْمًا أَرَادُوا سَفَرًا فَحَادُوا عَنْ الطَّرِيقِ ، فَانْتَهَوْا إلَى رَاهِبٍ فَقَالُوا : قَدْ ضَلَلْنَا ، فَكَيْفَ الطَّرِيقُ ؟ فَقَالَ : هَهُنَا وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إلَى السَّمَاءِ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَفْعَلَ الزِّيَادَةَ اقْتِدَاءً بِغَيْرِهِ .
وَهَذَا قَدْ تُثْمِرُهُ مُجَالَسَةُ الْأَخْيَارِ الْأَفَاضِلِ ، وَتُحْدِثُهُ مُكَاثَرَةُ الْأَتْقِيَاءِ الْأَمَاثِلِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ } .
فَإِذَا كَاثَرَهُمْ الْمُجَالِسَ ، وَطَاوَلَهُمْ الْمُؤَانِسَ ، أَحَبَّ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي أَفْعَالِهِمْ ، وَيَتَأَسَّى بِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ ، وَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يُقَصِّرَ عَنْهُمْ ، وَلَا أَنْ يَكُونَ فِي الْخَيْرِ دُونَهُمْ ، فَتَبْعَثُهُ الْمُنَافَسَةُ عَلَى مُسَاوَاتِهِمْ ، وَرُبَمَا دَعَتْهُ الْحَمِيَّةُ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ وَالْمُكَاثَرَةِ لَهُمْ فَيَصِيرُوا سَبَبًا لِسَعَادَتِهِ ، وَبَاعِثًا عَلَى اسْتِزَادَتِهِ .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ : لَوْلَا الْوِئَامُ لَهَلَكَ الْأَنَامُ .
أَيْ لَوْلَا أَنَّ النَّاسَ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيَقْتَدِي بِهِمْ فِي الْخَيْرِ لَهَلَكُوا .
وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ خَيْرِ الِاخْتِيَارِ صُحْبَةُ الْأَخْيَارِ ، وَمِنْ شَرِّ الِاخْتِيَارِ مَوَدَّةُ الْأَشْرَارِ .
وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ لِلْمُصَاحَبَةِ تَأْثِيرًا فِي اكْتِسَابِ الْأَخْلَاقِ ، فَتَصْلُحُ أَخْلَاقُ الْمَرْءِ بِمُصَاحَبَةِ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَتَفْسُدُ بِمُصَاحَبَةِ أَهْلِ الْفَسَادِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ : رَأَيْت صَلَاحَ الْمَرْءِ يُصْلِحُ أَهْلَهُ وَيُعْدِيهِمْ عِنْدَ الْفَسَادِ إذَا فَسَدْ يُعَظَّمُ فِي الدُّنْيَا بِفَضْلِ صَلَاحِهِ وَيُحْفَظُ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي الْأَهْلِ وَالْوَلَدْ وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِأَبِي بَكْرٍ الْخُوَارِزْمِيِّ : لَا تَصْحَبْ الْكَسْلَانَ فِي حَالَاتِهِ كَمْ صَالِحٍ
بِفَسَادِ آخَرَ يَفْسُدُ عَدْوَى الْبَلِيدِ إلَى الْجَلِيدِ سَرِيعَةٌ وَالْجَمْرُ يُوضَعُ فِي الرُّمَاعِ فَيَخْمُدُ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَفْعَلَ الزِّيَادَةَ ابْتِدَاءً مِنْ نَفْسِهِ الْتِمَاسًا لِثَوَابِهَا وَرَغْبَةً فِي الزُّلْفَةِ بِهَا .
فَهَذَا مِنْ نَتَائِجِ النَّفْسِ الزَّاكِيَةِ ، وَدَوَاعِي الرَّغْبَةِ الْوَافِيَةِ ، الدَّالَيْنِ عَلَى خُلُوصِ الدِّينِ ، وَصِحَّةِ الْيَقِينِ ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ أَحْوَالِ الْعَامِلِينَ ، وَأَعْلَى مَنَازِلِ الْعَابِدِينَ .
وَقَدْ قِيلَ : النَّاسُ فِي الْخَيْرِ أَرْبَعَةٌ : مِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهُ ابْتِدَاءً ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهُ اقْتِدَاءً ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُهُ اسْتِحْسَانًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُهُ حِرْمَانًا .
فَمَنْ فَعَلَهُ ابْتِدَاءً فَهُوَ كَرِيمٌ ، وَمَنْ فَعَلَهُ اقْتِدَاءً فَهُوَ حَكِيمٌ ، وَمَنْ تَرَكَهُ اسْتِحْسَانًا فَهُوَ رَدِيءٌ ، وَمَنْ تَرَكَهُ حِرْمَانًا فَهُوَ شَقِيٌّ .
ثُمَّ لِمَا يَفْعَلُهُ مِنْ الزِّيَادَةِ حَالَتَانِ : إحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُقْتَصِدًا فِيهَا ، وَقَادِرًا عَلَى الدَّوَامِ عَلَيْهَا .
فَهِيَ أَفْضَلُ الْحَالَتَيْنِ ، وَأَعْلَى الْمَنْزِلَتَيْنِ .
عَلَيْهَا انْقَرَضَ أَخْيَارُ السَّلَفِ ، وَتَتَبَّعَهُمْ فِيهَا فُضَلَاءُ الْخَلَفِ .
وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَيُّهَا النَّاسُ افْعَلُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ مِنْ الثَّوَابِ حَتَّى تَمَلُّوا مِنْ الْعَمَلِ ، وَخَيْرُ الْأَعْمَالِ مَا دِيمَ عَلَيْهِ } .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ : الْقَصْدُ وَالدَّوَامُ وَأَنْتَ السَّابِقُ الْجَوَادُ .
وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ صَحِيحَ الرَّغْبَةِ فِي ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسَرَّةٌ إلَّا فِي طَاعَتِهِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : قُلْت لِرَاهِبٍ : مَتَى عِيدُكُمْ ؟ قَالَ : كُلُّ يَوْمٍ لَا أَعْصِي اللَّهَ فِيهِ فَهُوَ يَوْمُ عِيدٍ .
اُنْظُرْ إلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَقَاصِدِ الطَّاعَةِ مَا أَبْلَغَهُ فِي حُبِّ الطَّاعَةِ ، وَأَحَثَّهُ عَلَى بَذْلِ الِاسْتِطَاعَةِ .
المصادر :
راسخون 2018