أَدَبُ الدُّنْيَا

اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لِنَافِذِ قُدْرَتِهِ وَبَالِغِ حِكْمَتِهِ ، خَلَقَ الْخَلْقَ بِتَدْبِيرِهِ وَفَطَرَهُمْ بِتَقْدِيرِهِ ، فَكَانَ مِنْ لَطِيفِ مَا دَبَّرَهُ وَبَدِيعِ مَا قَدَّرَهُ ، أَنَّهُ خَلَقَهُمْ مُحْتَاجِينَ وَفَطَرَهُمْ عَاجِزِينَ ، لِيَكُونَ بِالْغِنَى مُنْفَرِدًا وَبِالْقُدْرَةِ مُخْتَصًّا حَتَّى يُشْعِرَنَا بِقُدْرَتِهِ أَنَّهُ خَالِقٌ ، وَيُعْلِمَنَا بِغِنَاهُ
Sunday, March 18, 2018
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
أَدَبُ الدُّنْيَا
 أَدَبُ الدُّنْيَا


اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لِنَافِذِ قُدْرَتِهِ وَبَالِغِ حِكْمَتِهِ ، خَلَقَ الْخَلْقَ بِتَدْبِيرِهِ وَفَطَرَهُمْ بِتَقْدِيرِهِ ، فَكَانَ مِنْ لَطِيفِ مَا دَبَّرَهُ وَبَدِيعِ مَا قَدَّرَهُ ، أَنَّهُ خَلَقَهُمْ مُحْتَاجِينَ وَفَطَرَهُمْ عَاجِزِينَ ، لِيَكُونَ بِالْغِنَى مُنْفَرِدًا وَبِالْقُدْرَةِ مُخْتَصًّا حَتَّى يُشْعِرَنَا بِقُدْرَتِهِ أَنَّهُ خَالِقٌ ، وَيُعْلِمَنَا بِغِنَاهُ أَنَّهُ رَازِقٌ ، فَنُذْعِنَ بِطَاعَتِهِ رَغْبَةً وَرَهْبَةً وَنُقِرَّ بِنَقَائِصِنَا عَجْزًا وَحَاجَةً .
ثُمَّ جَعَلَ الْإِنْسَانَ أَكْثَرَ حَاجَةً مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْحَيَوَانِ مَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ عَنْ جِنْسِهِ ، وَالْإِنْسَانُ مَطْبُوعٌ عَلَى الِافْتِقَارِ إلَى جِنْسِهِ .
وَاسْتِعَانَتُهُ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِطَبْعِهِ ، وَخِلْقَةٌ قَائِمَةٌ فِي جَوْهَرِهِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } .
يَعْنِي عَنْ الصَّبْرِ عَمَّا هُوَ إلَيْهِ مُفْتَقِرٌ وَاحْتِمَالِ مَا هُوَ عَنْهُ عَاجِزٌ .
وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ حَاجَةً مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ كَانَ أَظْهَرَ عَجْزًا ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الشَّيْءِ افْتِقَارٌ إلَيْهِ ، وَالْمُفْتَقِرُ إلَى الشَّيْءِ عَاجِزٌ بِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ : اسْتِغْنَاؤُك عَنْ الشَّيْءِ خَيْرٌ مِنْ اسْتِغْنَائِك بِهِ .
وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْإِنْسَانَ بِكَثْرَةِ الْحَاجَةِ وَظُهُورِ الْعَجْزِ نِعْمَةً عَلَيْهِ وَلُطْفًا بِهِ ؛ لِيَكُونَ ذُلُّ الْحَاجَةِ وَمُهَانَةُ الْعَجْزِ يَمْنَعَانِهِ مِنْ طُغْيَانِ الْغِنَى وَبَغْيِ الْقُدْرَةِ ؛ لِأَنَّ الطُّغْيَانَ مَرْكُوزٌ فِي طَبْعِهِ إذَا اسْتَغْنَى ، وَالْبَغْيَ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ إذَا قَدَرَ .
وَقَدْ أَنْبَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عَنْهُ فَقَالَ : { كَلًّا إنَّ الْإِنْسَانَ لِيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } .
ثُمَّ لِيَكُونَ أَقْوَى الْأُمُورِ شَاهِدًا عَلَى نَقْصِهِ ، وَأَوْضَحَهَا دَلِيلًا عَلَى عَجْزِهِ .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِابْنِ الرُّومِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَعَيَّرْتَنِي بِالنَّقْصِ وَالنَّقْصُ شَامِلٌ
وَمَنْ ذَا الَّذِي يُعْطَى الْكَمَالَ فَيَكْمُلُ وَأَشْهَدُ أَنِّي نَاقِصٌ غَيْرَ أَنَّنِي إذَا قِيسَ بِي قَوْمٌ كَثِيرٌ تَقَلَّلُوا تَفَاضَلَ هَذَا الْخَلْقُ بِالْفَضْلِ وَالْحِجَا فَفِي أَيِّمَا هَذَيْنِ أَنْتَ مُفَضَّلُ وَلَوْ مَنَحَ اللَّهُ الْكَمَالَ ابْنَ آدَمَ لَخَلَّدَهُ وَاَللَّهُ مَا شَاءَ يَفْعَلُ وَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ مَاسَّ الْحَاجَةِ ظَاهِرَ الْعَجْزِ جَعَلَ لِنَيْلِ حَاجَتِهِ أَسْبَابًا ، وَلِدَفْعِ عَجْزِهِ حِيَلًا دَلَّهُ عَلَيْهَا بِالْعَقْلِ ، وَأَرْشَدَهُ إلَيْهَا بِالْفَطِنَةِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } .
قَالَ مُجَاهِدٌ : قَدَّرَ أَحْوَالَ خَلْقِهِ فَهَدَى إلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } .
يَعْنِي الطَّرِيقَيْنِ : طَرِيقَ الْخَيْرِ وَطَرِيقَ الشَّرِّ .
ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْعَقْلُ دَالًا عَلَى أَسْبَابِ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ ، جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِدْرَاكَ وَالظَّفَرَ مَوْقُوفًا عَلَى مَا قَسَمَ وَقَدَّرَ كَيْ لَا يَعْتَمِدُوا فِي الْأَرْزَاقِ عَلَى عُقُولِهِمْ ، وَفِي الْعَجْزِ عَلَى فِطَنِهِمْ ، لِتَدُومَ لَهُ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ ، وَيَظْهَرَ مِنْهُ الْغِنَى وَالْقُدْرَةُ .
وَرُبَّمَا عَزَبَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى مَنْ سَاءَ ظَنُّهُ بِخَالِقِهِ حَتَّى صَارَ سَبَبًا لِضَلَالِهِ .
كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : سُبْحَانَ مَنْ أَنْزَلَ الْأَيَّامَ مَنْزِلَهَا وَصَيَّرَ النَّاسَ مَرْفُوضًا وَمَرْمُوقَا فَعَاقِلٌ فَطِنٌ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ وَجَاهِلٌ خَرِقٌ تَلْقَاهُ مَرْزُوقَا هَذَا الَّذِي تَرَكَ الْأَلْبَابَ حَائِرَةً وَصَيَّرَ الْعَاقِلَ النِّحْرِيرَ زِنْدِيقَا وَلَوْ حَسُنَ ظَنُّ الْعَاقِلِ فِي صِحَّةِ نَظَرِهِ لَعَلِمَ مِنْ عِلَلِ الْمَصَالِحِ مَا صَارَ بِهِ صِدِّيقًا لَا زِنْدِيقًا ؛ لِأَنَّ مِنْ عِلَلِ الْمَصَالِحِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَامِضٌ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَغِيبُ حِكْمَةٍ اسْتَأْثَرَ بِهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ { حُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ } .
ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ أَسْبَابَ حَاجَاتِهِ وَحِيَلَ
عَجْزِهِ فِي الدُّنْيَا الَّتِي جَعَلَهَا دَارَ تَكْلِيفٍ وَعَمَلٍ ، كَمَا جَعَلَ الْآخِرَةَ دَارَ قَرَارٍ وَجَزَاءٍ ، فَلَزِمَ لِذَلِكَ أَنْ يَصْرِفَ الْإِنْسَانُ إلَى دُنْيَاهُ حَظًّا مِنْ عِنَايَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا غِنَى بِهِ عَنْ التَّزَوُّدِ مِنْهَا لِآخِرَتِهِ ، وَلَا لَهُ بُدٌّ مِنْ سَدِّ الْخَلَّةِ فِيهَا عِنْدَ حَاجَتِهِ .
وَلَيْسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ نَقْضٌ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ تَرْكِ فُضُولِهَا ، وَزَجْرِ النَّفْسِ عَنْ الرَّغْبَةِ فِيهَا .
بَلْ الرَّاغِبُ فِيهَا مَلُومٌ ، وَطَالِبُ فُضُولِهَا مَذْمُومٌ .
وَالرَّغْبَةُ إنَّمَا تَخْتَصُّ بِمَا جَاوَزَ قَدْرَ الْحَاجَةِ ، وَالْفُضُولُ إنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } .
قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ : فَإِذَا فَرَغْت مِنْ أُمُورِ دُنْيَاك فَانْصَبْ فِي عِبَادَةِ رَبِّك .
وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ تَرْغِيبًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا ، وَلَكِنْ نَدَبَهُ إلَى أَخْذِ الْبُلْغَةِ مِنْهَا .
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ خَيْرُكُمْ مَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ وَلَا الْآخِرَةَ لِلدُّنْيَا ، وَلَكِنَّ خَيْرَكُمْ مَنْ أَخَذَ مِنْ هَذِهِ وَهَذِهِ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { نِعْمَ الْمَطِيَّةُ الدُّنْيَا فَارْتَحِلُوهَا تُبَلِّغُكُمْ الْآخِرَةَ } .
وَذَمَّ رَجُلٌ الدُّنْيَا عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا ، وَدَارُ نَجَاةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا ، وَدَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا .
وَحَكَى مُقَاتِلٌ أَنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ : يَا رَبِّ حَتَّى مَتَى أَتَرَدَّدُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا ؟ فَقِيلَ لَهُ : أَمْسِكْ عَنْ هَذَا فَلَيْسَ طَلَبُ الْمَعَاشِ مِنْ طَلَبِ الدُّنْيَا .
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - : مَكْتُوبٌ فِي
التَّوْرَاةِ : إذَا كَانَ فِي الْبَيْتِ بُرٌّ فَتَعَبَّدْ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَاطْلُبْ ، يَا ابْنَ آدَمَ حَرِّكْ يَدَك يُسَبَّبْ لَك رِزْقُك .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَيْسَ مِنْ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا اكْتِسَابُ مَا يَصُونَ الْعِرْضَ فِيهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : لَيْسَ مِنْ الْحِرْصِ اجْتِلَابُ مَا يَقُوتُ الْبَدَنَ .
وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ : لَا تُتْبِعْ الدُّنْيَا وَأَيَّامَهَا ذَمًّا وَإِنْ دَارَتْ بِك الدَّائِرَهْ مِنْ شَرَفِ الدُّنْيَا وَمِنْ فَضْلِهَا أَنَّ بِهَا تُسْتَدْرَكُ الْآخِرَهْ فَإِذًا قَدْ لَزِمَ بِمَا بَيَّنَّاهُ النَّظَرُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا فَوَجَبَ سَتْرُ أَحْوَالِهَا ، وَالْكَشْفُ عَنْ جِهَةِ انْتِظَامِهَا وَاخْتِلَالِهَا ، لِنَعْلَمَ أَسْبَابَ صَلَاحِهَا وَفَسَادِهَا ، وَمَوَادَّ عُمْرَانِهَا وَخَرَابِهَا ، لِتَنْتَفِيَ عَنْ أَهْلِهَا شِبْهُ الْحَيْرَةِ ، وَتَنْجَلِيَ لَهُمْ أَسْبَابُ الْخِيَرَةِ ، فَيَقْصِدُوا الْأُمُورَ مِنْ أَبْوَابِهَا ، وَيَعْتَمِدُوا صَلَاحَ قَوَاعِدِهَا وَأَسْبَابِهَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ صَلَاحَ الدُّنْيَا مُعْتَبَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَوَّلُهُمَا مَا يَنْتَظِمُ بِهِ أُمُورُ جُمْلَتهَا .
وَالثَّانِي : مَا يَصْلُحُ بِهِ حَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا .
فَهُمَا شَيْئَانِ لَا صَلَاحَ لِأَحَدِهِمَا إلَّا بِصَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ مَنْ صَلُحَتْ حَالُهُ مَعَ فَسَادِ الدُّنْيَا وَاخْتِلَالِ أُمُورِهَا لَنْ يَعْدَمَ أَنْ يَتَعَدَّى إلَيْهِ فَسَادُهَا ، وَيَقْدَحَ فِيهِ اخْتِلَالُهَا ؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا يَسْتَمِدُّ ، وَلَهَا يَسْتَعِدُّ .
وَمَنْ فَسَدَتْ حَالُهُ مَعَ صَلَاحِ الدُّنْيَا وَانْتِظَامِ أُمُورِهَا لَمْ يَجِدْ لِصَلَاحِهَا لَذَّةً ، وَلَا لِاسْتِقَامَتِهَا أَثَرًا ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ دُنْيَا نَفْسِهِ ، فَلَيْسَ يَرَى الصَّلَاحَ إلَّا إذَا صَلَحَتْ لَهُ وَلَا يَجِدُ الْفَسَادَ إلَّا إذَا فَسَدَتْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ أَخَصُّ وَحَالَهُ أَمَسُّ .
فَصَارَ نَظَرُهُ إلَى مَا يَخُصُّهُ مَصْرُوفًا ، وَفِكْرُهُ عَلَى مَا يَمَسُّهُ مَوْقُوفًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ قَطُّ لِجَمِيعِ أَهْلِهَا مُسْعِدَةً ، وَلَا عَنْ كَافَّةِ ذَوِيهَا مُعْرِضَةً ؛ لِأَنَّ إعْرَاضَهَا
عَنْ جَمِيعِهِمْ عَطَبٌ وَإِسْعَادُهَا لِكَافَّتِهِمْ فَسَادٌ لِائْتِلَافِهِمْ بِالِاخْتِلَافِ وَالتَّبَايُنِ ، وَاتِّفَاقِهِمْ بِالْمُسَاعَدَةِ وَالتَّعَاوُنِ .
فَإِذَا تَسَاوَى جَمِيعُهُمْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُهُمْ إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ سَبِيلًا ، وَبِهِمْ مِنْ الْحَاجَةِ وَالْعَجْزِ مَا وَصَفْنَا ، فَيَذْهَبُوا ضَيْعَةً وَيَهْلَكُوا عَجْزًا .
وَإِذَا تَبَايَنُوا وَاخْتَلَفُوا صَارُوا مُؤْتَلِفِينَ بِالْمَعُونَةِ مُتَوَاصِلِينَ بِالْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّ ذَا الْحَاجَةِ وُصُولٌ ، وَالْمُحْتَاجَ إلَيْهِ مَوْصُولٌ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } .
قَالَ الْحَسَنُ : مُخْتَلِفِينَ فِي الرِّزْقِ فَهَذَا غَنِيٌّ وَهَذَا فَقِيرٌ ، وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ يَعْنِي لِلِاخْتِلَافِ بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ } .
غَيْرَ أَنَّ الدُّنْيَا إذَا صَلَحَتْ كَانَ إسْعَادُهَا مَوْفُورًا ، وَإِعْرَاضُهَا مَيْسُورًا .
إلَّا أَنَّهَا إذَا مَنَحَتْ هَنَتْ وَأَوْدَعَتْ وَإِذَا اسْتَرَدَّتْ رَفَقَتْ وَأَبْقَتْ .
وَإِذَا فَسَدَتْ الدُّنْيَا كَانَ إسْعَادُهَا مَكْرًا ، وَإِعْرَاضُهَا غَدْرًا ؛ لِأَنَّهَا إذَا مَنَحَتْ كَدَّتْ وَأَتْعَبَتْ ، وَإِذَا اسْتَرَدَّتْ اسْتَأْصَلَتْ وَأَجْحَفَتْ .
وَمَعَ هَذَا فَصَلَاحُ الدُّنْيَا مُصْلِحٌ لِسَائِرِ أَهْلِهَا لِوُفُورِ أَمَانَاتِهِمْ ، وَظُهُورِ دِيَانَاتِهِمْ .
وَفَسَادُهَا مُفْسِدٌ لِسَائِرِ أَهْلِهَا لِقِلَّةِ أَمَانَاتِهِمْ ، وَضَعْفِ دِيَانَاتِهِمْ .
وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي مَشَاهِدِ الْحَالِ تَجْرِبَةً وَعُرْفًا ، كَمَا يَقْتَضِيهِ دَلِيلُ الْحَالِ تَعْلِيلًا وَكَشْفًا ، فَلَا شَيْءَ أَنْفَعُ مِنْ صَلَاحِهَا ، كَمَا لَا شَيْءَ أَضَرُّ مِنْ فَسَادِهَا ؛ لِأَنَّ مَا تَقْوَى بِهِ دِيَانَاتُ النَّاسِ وَتَتَوَفَّرُ أَمَانَاتُهُمْ فَلَا شَيْءَ أَحَقُّ بِهِ نَفْعًا ، كَمَا أَنَّ مَا بِهِ تَضْعُفُ دِيَانَاتُهُمْ وَتَذْهَبُ أَمَانَاتُهُمْ فَلَا شَيْءَ أَجْدَرُ بِهِ ضَرَرًا .
وَأَنْشَدْت لِأَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ : النَّاسُ مِثْلُ زَمَانِهِمْ قَدُّ الْحِذَاءِ عَلَى مِثَالِهْ
وَرِجَالُ دَهْرِك مِثْلُ دَهْرِك فِي تَقَلُّبِهِ وَحَالِهْ وَكَذَا إذَا فَسَدَ الزَّمَانُ جَرَى الْفَسَادُ عَلَى رِجَالِهْ
وَإِذْ قَدْ بَلَغَ بِنَا الْقَوْلُ إلَى ذَلِكَ ، فَسَنَبْدَأُ بِذِكْرِ مَا يُصْلِحُ الدُّنْيَا ، ثُمَّ نَتْلُوهُ بِوَصْفِ مَا يَصْلُحُ بِهِ حَالُ الْإِنْسَانِ فِيهَا .
اعْلَمْ أَنَّ مَا بِهِ تَصْلُحُ الدُّنْيَا حَتَّى تَصِيرَ أَحْوَالُهَا مُنْتَظِمَةً ، وَأُمُورُهَا مُلْتَئِمَةً ، سِتَّةُ أَشْيَاءَ هِيَ قَوَاعِدُهَا ، وَإِنْ تَفَرَّعَتْ ، وَهِيَ : دِينٌ مُتَّبَعٌ وَسُلْطَانٌ قَاهِرٌ وَعَدْلٌ شَامِلٌ وَأَمْنٌ عَامٌّ وَخِصْبٌ دَائِمٌ وَأَمَلٌ فَسِيحٌ .
فَأَمَّا الْقَاعِدَةُ الْأُولَى : فَهِيَ الدِّينُ الْمُتَّبَعُ فَلِأَنَّهُ يَصْرِفُ النُّفُوسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا ، وَيَعْطِفُ الْقُلُوبَ عَنْ إرَادَتِهَا ، حَتَّى يَصِيرَ قَاهِرًا لِلسَّرَائِرِ ، زَاجِرًا لِلضَّمَائِرِ ، رَقِيبًا عَلَى النُّفُوسِ فِي خَلَوَاتِهَا ، نَصُوحًا لَهَا فِي مُلِمَّاتِهَا .
وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُوصَلُ بِغَيْرِ الدِّينِ إلَيْهَا ، وَلَا يَصْلُحُ النَّاسُ إلَّا عَلَيْهَا .
فَكَأَنَّ الدِّينَ أَقْوَى قَاعِدَةٍ فِي صَلَاحِ الدُّنْيَا وَاسْتِقَامَتِهَا ، وَأَجْدَى الْأُمُورَ نَفْعًا فِي انْتِظَامِهَا وَسَلَامَتِهَا .
وَلِذَلِكَ لَمْ يُخْلِ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقَهُ ، مُذْ فَطَرَهُمْ عُقَلَاءَ ، مِنْ تَكْلِيفٍ شَرْعِيٍّ ، وَاعْتِقَادٍ دِينِيٍّ يَنْقَادُونَ لِحُكْمِهِ فَلَا تَخْتَلِفُ بِهِمْ الْآرَاءُ ، وَيَسْتَسْلِمُونَ لِأَمْرِهِ فَلَا تَتَصَرَّفُ بِهِمْ الْأَهْوَاءُ .
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ هَلْ جَاءَا مَجِيئًا وَاحِدًا ، أَمْ سَبَقَ الْعَقْلُ ثُمَّ تَبِعَهُ الشَّرْعُ ؟ .
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : جَاءَ الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ مَعًا مَجِيئًا وَاحِدًا لَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : سَبَقَ الْعَقْلُ ثُمَّ تَبِعَهُ الشَّرْعُ ؛ لِأَنَّ بِكَمَالِ الْعَقْلِ يُسْتَدَلُّ عَلَى صِحَّةِ الشَّرْعِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } .
وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ مِنْهُ إلَّا عِنْدَ كَمَالِ عَقْلِهِ ، فَثَبَتَ أَنَّ الدِّينَ مِنْ أَقْوَى الْقَوَاعِدِ فِي صَلَاحِ الدُّنْيَا ، وَهُوَ الْفَرْدُ الْأَوْحَدُ فِي صَلَاحِ الْآخِرَةِ .
وَمَا كَانَ بِهِ صَلَاحُ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ فَحَقِيقٌ بِالْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ بِهِ مُتَمَسِّكًا وَعَلَيْهِ مُحَافِظًا ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْأَدَبُ أَدَبَانِ : أَدَبُ شَرِيعَةٍ وَأَدَبُ سِيَاسَةٍ .
فَأَدَبُ الشَّرِيعَةِ مَا أَدَّى الْفَرْضَ ، وَأَدَبُ السِّيَاسَةِ مَا عَمَرَ الْأَرْضَ .
وَكِلَاهُمَا يَرْجِعُ إلَى الْعَدْلِ الَّذِي بِهِ سَلَامَةُ السُّلْطَانِ ، وَعِمَارَةُ الْبُلْدَانِ ؛ لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ الْفَرْضَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ، وَمَنْ خَرَّبَ الْأَرْضَ فَقَدْ ظَلَمَ غَيْرَهُ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ : مَا صِحَّةٌ أَبَدًا بِنَافِعَةٍ حَتَّى يَصِحَّ الدِّينُ وَالْخُلُقُ
وَأَمَّا الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ : فَهِيَ سُلْطَانٌ قَاهِرٌ تَتَأَلَّفُ مِنْ رَهْبَتِهِ الْأَهْوَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ ، وَتَجْتَمِعُ لِهَيْبَتِهِ الْقُلُوبُ الْمُتَفَرِّقَةُ ، وَتَكُفُّ بِسَطْوَتِهِ الْأَيْدِي الْمُتَغَالِبَةُ ، وَتَمْتَنِعُ مِنْ خَوْفِهِ النُّفُوسُ الْعَادِيَةُ ؛ لِأَنَّ فِي طِبَاعِ النَّاسِ مِنْ حُبِّ الْمُغَالَبَةِ عَلَى مَا آثَرُوهُ وَالْقَهْرِ لِمَنْ عَانَدُوهُ ، مَا لَا يَنْكَفُّونَ عَنْهُ إلَّا بِمَانِعٍ قَوِيٍّ ، وَرَادِعٍ مَلِيٍّ .
وَقَدْ أَفْصَحَ الْمُتَنَبِّي بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : لَا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ مِنْ الْأَذَى حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدَّمُ وَالظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فَإِنْ تَجِدْ ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لَا يَظْلِمُ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ الْمَانِعَةُ مِنْ الظُّلْمِ لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : إمَّا عَقْلٌ زَاجِرٌ ، أَوْ دِينٌ حَاجِرٌ ، أَوْ سُلْطَانٌ رَادِعٌ ، أَوْ عَجْزٌ صَادٌّ .
فَإِذَا تَأَمَّلْتهَا لَمْ تَجِدْ خَامِسًا يَقْتَرِنُ بِهَا وَرَهْبَةُ السُّلْطَانِ أَبْلَغُهَا ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ وَالدِّينَ رُبَّمَا كَانَا مَضْعُوفَيْنِ ، أَوْ بِدَوَاعِي الْهَوَى مَغْلُوبَيْنِ .
فَتَكُونُ رَهْبَةُ السُّلْطَانِ أَشَدَّ زَجْرًا وَأَقْوَى رَدْعًا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ قَالَ : { السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ يَأْوِي إلَيْهِ كُلُّ مَظْلُومٍ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ أَكْثَرَ مِمَّا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ لِلَّهِ حُرَّاسًا فِي السَّمَاءِ وَحُرَّاسًا فِي الْأَرْضِ ، فَحُرَّاسُهُ فِي السَّمَاءِ الْمَلَائِكَةُ ، وَحُرَّاسُهُ فِي الْأَرْضِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَ أَرْزَاقَهُمْ يَذُبُّونَ عَنْ النَّاسِ .
} وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِمَامُ الْجَائِرُ خَيْرٌ مِنْ الْفِتْنَةِ ، وَكُلٌّ لَا خَيْرَ فِيهِ ، وَفِي بَعْضِ الشَّرِّ خَيْرٌ } .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { سُبَّتْ الْعَجَمُ بَيْنَ يَدَيْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ : لَا تَسُبُّوهَا فَإِنَّهَا عَمَّرَتْ بِلَادَ اللَّهِ تَعَالَى فَعَاشَ فِيهَا عِبَادُ اللَّهِ تَعَالَى } .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : السُّلْطَانُ فِي نَفْسِهِ إمَامٌ مَتْبُوعٌ ، وَفِي سِيرَتِهِ دِينٌ مَشْرُوعٌ ، فَإِنْ ظَلَمَ لَمْ يَعْدِلْ أَحَدٌ فِي حُكْمٍ ، وَإِنْ عَدَلَ لَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ عَلَى ظُلْمٍ .
المصادر :
راسخون 2018
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.