![الوصيّـة الوصيّـة](https://rasekhoon.net/_files/thumb_images700/article_ar/%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B5%D9%8A%D9%91%D9%80%D8%A9.jpg)
يذكر الطبري الوصية على أنها مقولة ابتدعها عبدالله بن سبأ اليهودي المتظاهر بالإسلام، والتي يدعي فيها بأن لكل نبي وصياً، وأن علي بن أبي طالب هو وصي النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله)، باعتبار أن هذه المقولة إنما كانت من اختراع هذا اليهودي الذي لم يسبق الى القول بمثلها أحد من الناس من الصحابة وغيرهم، وأن هدفه كان تأليب الناس على عثمان بن عفان - كيداً للإسلام ومحاولة لتحطيم الدولة الإسلامية - وأن الكثير من الناس -وفيهم بعض الصحابة- قد انخدعوا بمقولة هذا اليهودي وتابعوه عليها.
ولقد أصبحت رواية الطبري هذه عن سيف هي المدار الذي دارت عليه معظم كتابات المؤلفين - قديماً وحديثاً - عند التعرض لموضوع الفتنة التي حدثت في زمن عثمان، ومن ثم أصبحت الأساس الذي بنى عليه المؤلفون في الفرق والمذاهب، وصار نشوء فرقة الشيعة مرتبطاً بمقولة هذا اليهودي، حتى صارت قضية التشنيع على الشيعة واتهامهم بأنهم قد تلقوا عقائدهم من اليهود أمراً يكاد يُجمع عليه كافة المؤلفين في الفرق، وقد لعب المستشرقون دوراً أساسياً في ترسيخ هذه الفكرة عند المسلمين. لذا نجد المؤلفين - قديماً وحديثاً- ينكرون موضوع الوصية إنكاراً باتاً، بل ويستشهدون بروايات منسوبة الى علي بن أبي طالب نفسه في إنكار موضوع الوصية، باعتبارها مقولة لم تكن على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) ولا خليفتيه، وإنما ظهرت في زمن عثمان، والتف الشيعة على هذه المقولة ولهجوا بها في عهد علي بن أبي طالب، مما دفعه الى إنكارها، وفي ذلك يقول محمد أبو زهو: ويظهر أن أمر الوصية من النبي لعلي بالخلافة كان شائعاً على ألسنة هؤلاء القوم في زمن علي بن أبي طالب، يدلنا على ذلك سؤال بعض الصحابة له عن ذلك وسؤال غيرهم أيضاً، وجواب علي كرم الله وجهه بأنه لم يكن من النبي (صلى الله عليه وآله) شيء من ذلك، فقد روى البخاري في كتاب العلم عن أبي جحيفة الصحابي، أنه قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلاّ كتاب الله، أو فهم اُعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يُقتل مسلم بكافر.
فأنت ترى أبا جحيفة يسأل علياً عن شيء خصهم به رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أسرار الوحي، وما سأل هذا السؤال إلاّ لأنه سمع لغطاً من الشيعة حول الوصية والخلافة التي يدّعونها لعلي، فنفى ذلك علي نفياً باتاً، وأقسم على ذلك.
ثم استثنى أشياء لاتمت الى معتقدات الشيعة بصلة، وقد جاء هذا الحديث بروايات عدة في بعضها زيادات، وليس فيها أن النبي (صلى الله عليه وآله) أوصى لعلي بشيء أو خصّه من أسرار الوحي بشيء مما تزعمه الشيعة(1).
على الرغم من أن الرواية التي أخرجها البخاري واستشهد بها أبو زهو على الأدلة التي لاتمت في اعتقادي الى موضوع الوصية بشيء، إلاّ أننا سنفترض ذلك، ولو أن أبا زهو كان قد حقق في الأمر جيداً، لوجد أن البخاري وغيره قد أخرجوا روايات اُخرى أكثر وضوحاً في ردّ الوصية، فقد أخرجوا - واللفظ للبخاري- عن الأسود، قال: ذكروا عند عائشة أن علياً رضي الله عنهما كان وصيّاً! فقالت: متى أوصى إليه؟ وقد كنت مسندته الى صدري -أو قالت حجري- فدعا بالطست، فلقد انخنث في حجري، فما شعرت أنه قد مات، فمتى أوصى إليه؟!(2).
فهذه الروايات التي أخرجها أئمة المحدثين، تنقل عن عائشة القول بنفي وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي بن أبي طالب، وهذا يفترض أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يوص لعلي قُبيل وفاته، لذا قال ابن كثير الدمشقي: وأما ما يغترّ به كثير من جهلة الشيعة والقصاص الاغبياء، من أنه أوصى الى علي بالخلافة، فكذب وبهت وافتراء، يلزم منه خطأ كبير من تخوين الصحابة وممالأتهم بعده على ترك إنفاذ وصيّته..(3)
ولكن الأخبار حول موضوع الوصية قد ذاع وانتشر، ولم يكن الشيعة هم الذين اخترعوا هذه المفردة، حتى دخلت هذه اللفظة في معاجم اللغة كلقب لعلي بن أبي طالب، فقد قال ابن منظور: وقيل لعلي (عليه السلام) وصي، لاتصال نسبه وسببه وسمته بنسب سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) (4).
وقال الزبيدي: والوصي كغني، لقب الامام علي(عليه السلام)(5).
فعلي بن أبي طالب كان يلقّب بالوصي إذاً، وقد بلغ من شهرة هذا اللقب أنه دخل في المعاجم اللغوية، ولا يعقل أن يحدث ذلك بفعل مقولة الشيعة أو عبدالله بن سبأ اليهودي، فلابدّ وأن يكون للمسألة جذور أعمق من ذلك، ويمكننا تبيّن ذلك من خلال مطالعة النصوص التي جاءت عن طريق الصحابة والتابعين، وأوردها المؤرخون والمحدّثون في مجاميعهم الكبيرة، رغم تنكرهم لها أحياناً، ومحاولة بعضهم تزييفها أحياناً اُخرى، وهذا ما سوف نكتشفه فيما يأتي: الإشارة الاُولى للوصيّة
ذكرنا في فصل سابق أن الملاّ علي القاري أورد حديثاً عن النبي (صلى الله عليه وآله) - مدعياً أنه موضوع- على أنه الحديث الذي نطق به النبي (صلى الله عليه وآله) في يوم الغدير، وأوضحنا وقتها أن ذلك خطأ - عن سهو أو عمد- من الملاّ علي القاري، لأن ذلك الحديث لا علاقة له بحادثة الغدير، وإنما هو حديث آخر، ولنبدأ أولا برواية ابن كثير الدمشقي لذلك الحديث وتحليله له، حيث ذكر في (باب أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) بابلاغ الرسالة) الى الخاص والعام.
فأخرج عدة روايات في تفسير قوله تعالى (وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ الأَقربينَ)(6).
عن ابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة، في بيان سبب نزول الآية، ثم أورد ما أخرجه الحافظ البيهقي عن علي بن أبي طالب، قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "عرفت أني إن بادأت بها قومي رأيت منهم ما أكره، فصمتُّ، فجاءني جبريل (عليه السلام) فقال: يا محمد، إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك بالنار".
قال: فدعاني فقال: "يا علي، إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام، وأعدّ لنا عس لبن، ثم اجمع لي بني عبدالمطلب". ففعلت، فاجتمعوا له يومئذ وهم أربعون رجلا يزيدون أو ينقصون، فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب الكافر الخبيث، فقدمت إليهم تلك الجفنة، فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) منها حذية فشقّها بأسنانه، ثم رمى بها في نواحيها وقال: "كلوا باسم الله"، فأكل القوم حتى نهلوا منه، ما نرى إلاّ آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل ليأكل مثلها. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "اسقهم يا علي"، فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعاً، وأيم الله إن كان الرجل ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يكلمهم، بدره أبو لهب لعنه الله، فقال: لهدّ ما سحركم صاحبكم، فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله). فلما كان من الغد، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "عُدّ لنا مثل الذي كنت صنعت بالأمس من الطعام والشراب، فان هذا الرجل قد بدر الى ما سمعت قبل أن اُكلم القوم". ففعلت (ثلاث مرات)، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "يا بني عبدالمطلب: إني والله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة"..
قال ابن كثير: وقد رواه أبو جعفر بن جرير... عن ابن عباس عن علي، فذكر مثله، وزاد بعد قوله: "وإني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي وكذا وكذا"! قال: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي فقال: "إن هذا أخي وكذا وكذا، فاسمعوا له وأطيعوا". قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع! تفرّد به عبدالغفار بن القاسم، أبو مريم، وهو كذاب شيعي، إتهمه علي بن المديني وغيره بوضع الحديث، وضعّفه الباقون(7).
ويحق لنا أن نسال ابن كثير: إذا كانت الرواية قد جاءت عن أبي مريم، وهو كذاب، فلماذا هذا الحرج من ذكر بعض ألفاظها واستبدالها بكذا وكذا؟
أما الحلبي فقد أورد الرواية وفيها قول النبي (صلى الله عليه وآله): " يا بني عبد المطلب إن الله قد بعثني الى الخلق كافة، وبعثني إليكم خاصة، فقال (وأنذر عشيرتك الأقربين)، وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان، ثقيلتين في الميزان، شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأني رسول الله، فمن يجيبني الى هذا الأمر ويؤازرني -أي يعاونني- على القيام به"؟ قال علي: أنا يا رسول الله، وأنا أحدثهم سنّاً، وسكت القوم.
قال الحلبي: زاد بعضهم في الرواية "يكن أخي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي"! فلم يجبه أحد منهم، فقام علي وقال: أنا يا رسول الله، قال: "اجلس". ثم أعاد القول على القوم ثانياً فصمتوا، فقام علي وقال: أنا يا رسول الله. فقال: "اجلس"، ثم أعاد القول على القوم ثالثاً، فلم يجبه أحد منهم، فقام علي فقال: أنا يا رسول الله. فقال: "اجلس فأنت أخي ووزيري ووصيي ووارثي وخليفتي من بعدي"!
قال الحلبي: قال الإمام أبو العباس ابن تيمية - أي في الزيادة المذكورة- إنها كذب وحديث موضوع، من له أدنى معرفة في الحديث يعلم ذلك.
وقد رواه - أي الحديث- مع زيادته المذكورة: ابن جرير، والبغوي بإسناد فيه أبو مريم الكوفي، وهو مجمع على تركه(8).
أما أبو جعفر الإسكافي فيصف الخبر - كما ورد في الطبري- بأنه صحيح، قال: وقد روي في الخبر الصحيح أنه كلفه في مبدأ الدعوة قبل ظهور كلمة الإسلام وانتشارها بمكة أن يصنع له طعاماً، (ثم يورد القصة الى أن يقول): ثم ضمن لمن يؤازره منهم وينصره على قوله، أن يجعله أخاه في الدين، ووصيه بعد موته، وخليفته من بعده، فأمسكوا كلهم وأجابه هو وحده، وقال: أنا أنصرك على ما جئت به، واُوازرك واُبايعك، فقال لهم لما رأى منهم الخذلان ومنه النصر، وشاهد منهم المعصية ومنه الطاعة، وعاين منهم الإباء ومنه الإجابة: "هذا أخي ووصيي وخليفتي من بعدي". فقاموا يسخرون ويضحكون...(9)
فلفظة الوصي كانت من بين الألفاظ، أو هي اللفظة التي أفزعت ابن كثير الدمشقي، ومن قبله الطبري الذي أورد صيغة الحديث كاملة في موسوعته التاريخية، لكنه عاد فحذفها في تفسيره وأبدل ألفاظها بكذا وكذا! كما أورد الطبري أبياتاً للفضل بن العباس منها:
ألا أن خير الناس بعد محمد وصيّ النبي المصطفى عند ذي الذكر(10)
كما وأورد الطبري خطبة الحسين بن علي بن أبي طالب يوم عاشوراء، ومنها قوله: أما بعد، فانسبوني فانظروا من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم (صلى الله عليه وآله) وابن وصيّه...الخ(11)
وقد أورد ابن كثير الخطبة أيضاً - نقلا عن الطبري- ولكنه تصرف فيها وحذف منها لفظة الوصي!(12)
ومن المؤرخين الذين أوردوا لفظة الوصي، اليعقوبي الذي ذكر خبر بيعة علي بن أبي طالب، وقال: ثم قام مالك بن الحارث الأشتر فقال: أيها الناس، هذا وصي الأوصياء، ووارث علم الأنبياء...(13)
وأورد المسعودي اللفظة في قول ابن عباس الذي قال عندما سمع بوفاة الحسن بن علي وشماتة معاوية بذلك: ولئن اُصبنا به، فقد اُصبنا قبله بسيّد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين، ثم بعده بسيّد الأوصياء..(14)
وقبل هؤلاء أورد نصر بن مزاحم لفظة الوصي في كتاب معاوية بن أبي سفيان لمحمد بن أبي بكر جواباً على كتاب الأخير، وقد أشار الطبري الى الكتابين دون إيرادهما، حيث قال بإسناده إلى يزيد بن ظبيان: إن محمد بن أبي بكر كتب الى معاوية بن أبي سفيان لما ولّي، فذكر مكاتبات جرت بينهما كرهت ذكرها لما فيه مما لا يحتمل سماعها العامة...!(15)
وذكرها ابن مزاحم وفيها قول محمد بن أبي بكر لمعاوية: فكيف يا لك الويل تعدل نفسك بعلي، وهو وارث رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووصيّه وأبو ولده، وأول الناس له اتباعاً، وآخرهم به عهداً، يخبره بسرّه ويشركه في أمره!(16).
أما ابن الأثير، فترسّم خطى الطبري فيما أورد وما حذف.
وأورد ابن أبي الحديد لفظة الوصي في أكثر من موضع من كتابه، وأورد مجموعة من الأشعار التي قيلت وتضمنت كلمة الوصي، حيث قال: ومما رويناه من الشعر المقول في صدر الإسلام المتضمن كونه (عليه السلام) وصي رسول الله، قول عبدالله بن أبي سفيان:
وصي النبي المصطفى وابن عمه / فمن ذا يدانيه ومن يقاربه!
وقال عبد الرحمان بن جعيل:
لعمري لقد بايعتم ذا حفيظة / على الدين معروف العفاف موفقا
علياً وصي المصطفى وابن عمه / وأوّل من صلّى أخا الدين والتقى
وقال أبو الهيثم بن التيهان -وكان بدرياً-:
إنّ الوصي إمامنا وولينا / برح الخفاء وباحت الأسرار
وقال رجل من الأزد يوم الجمل:
هذا عليٌّ وهو الوصي / آخاه يوم النجوة النبي
وقال هذا بعدي الولي دعاه داع ونسي الشقي
وقال خزيمة بن ثابت الأنصاري - ذا الشهادتين- وكان بدرياً، في يوم الجمل:
يا وصي النبي قد أحلت الحر بُ الأعادي وسارت الاظعان
وقال أيضاً:
وصي رسول الله من دون أهله وأنت على ما كان من ذاك شاهده
ومن أغرب ما قيل في حرب الجمل، ما رواه المعتزلي من خروج غلام من بني ضبّة، شاب معلم من عسكر عائشة، وهو يقول:
نحن بنو ضبّة أعداء علي / ذاك الذي يعرف قدماً بالوصي!
فحتى مخالفو علي في حرب الجمل من جند عائشة، كانوا يعلمون أن لفظة الوصي هي لقب لعلي بن أبي طالب قديم، وليس مستحدثاً في زمن عثمان، كما يُدّعى! وبعد أن يورد ابن أبي الحديد مجموعة كبيرة من الأشعار، التي تتضمن لفظة الوصي، قيلت في حرب صفين أيضاً، يخلص الى القول: والأشعار التي تتضمن هذه اللفظة كثيرة جداً، ولكنا ذكرنا منها هاهنا بعض ما قيل في هذين الحربين، فأما ما عداهما فانه يجلّ عن الحصر، ويعظم عن الإحصاء والعد! ولولا خوف الملالة والإضجار، لذكرنا من ذلك ما يملأ أوراقاً كثيرة!(17).
من القائل بالوصية؟
بعد أن استعرضنا ما أورده المؤرخون من الأخبار التي تتضمن لفظة الوصية، والتي كانت ذائعة في الناس، ويتغنى بها الشعراء في أسفارهم، مما يثبت عدم صحة الادعاء بأن ابن سبأ هو مخترعها، نعود لنبحث عن جذور هذه القضية في الحديث النبوي الشريف، بعد أن تبين لنا أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد ذكرها في وقت مبكر جداً في أوائل الدعوة الاسلامية، ثم كرّر التذكير بها في أكثر من مناسبة، فقد جاء عن بريدة قال: قال النبي: "لكل نبي وصي ووارث، وإن علياً وصيّي ووارثي"!(18).
وذكر البيهقي أن جبرائيل جاء بهديّة من الله ليهديها الرسول (صلى الله عليه وآله) الى ابن عمه ووصيّه علي بن أبي طالب(19).
وعن سلمان، قال: قلت: يا رسول الله، إن لكل نبي وصياً، فمن وصيّك؟ فسكت عني، فلما كان بعد، رآني فقال: "يا سلمان"، فأسرعت إليه، قلت: لبيك. قال: "تعلم من وصي موسى"؟ قال: نعم، يوشع بن نون. قال: "لم"؟ قلت: لأنه كان أعلمهم يومئذ. قال: "فان وصيي وموضع سري، وخير من أترك بعدي وينجز عدتي ويقضي ديني: علي بن أبي طالب"!(20).
وعن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: "إن وصيّي وموضع سرّي وخير من أترك بعدي وينجز عدتي ويقضي ديني: علي بن أبي طالب"(21).
وعن أنس بن مالك، أن الرسول توضأ وصلى ركعتين، ثم قال: "يا أنس أوّل من يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وقائد الغر المحجلين، وخاتم الوصيّين". قال أنس: قلت اللهم اجعله رجلا من الأنصار وكتمته. إذ جاء علي فقال: "من هذا يا أنس"؟ فقلت: علي. فقام مستبشراً فاعتنقه ثم جعل يمسح عرق وجهه بوجهه، ويمسح عرق علي بوجهه(22).
وعن أبي أيوب، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال لابنته فاطمة: "أما علمت أن الله عزّوجل اطلع على أهل الأرض فاختار منهم أباك فبعثه نبياً، ثم اطلع الثانية فاختار بعلك، فأوحى إلي فأنكحته واتخذته وصياً"(23).
فمن هنا يتبين لنا أن لفظة الوصي قد جاءت عن النبي (صلى الله عليه وآله) في حق علي بن أبي طالب، ولهج بها الصحابة الذين رووا تلك الأحاديث، ولكن الجمهور الذي يرى في النصوص التي تتضمن كلمة الوصي معنىً خطيراً يستدعي حذفه أحياناً، لم يرضخ للأمر بسهولة، فتعرضت النصوص التي تضمنت هذه اللفظة الى حملة شعواء استهدفته سنداً ومتناً، وكما سوف يتبين فيما يأتي.
تزييف النصّ
لقد تعرض حديث الوصاية -كما حدث لحديث الغدير- الى حملة استهدفت الطعن في متنه بالتأويل، وفي سنده بالتضعيف لبعض رواته، واتهامهم بالكذب والوضع، وأخيراً الى وضع نصوص في مقابلته. ففيما يتعلق بسند الحديث، فقد مرّ بنا اتهام ابن كثير لأبي مريم بالتشيع والكذب، وادعاء ابن تيمية بالوضع والزيادة في الحديث كما ذكر الحلبي، لذا فاننا عندما نراجع ترجمة أبي مريم نجد فيها ما يلي:
قال أحمد: كان أبو مريم يحدّث ببلايا في عثمان!
وقال أيضاً: كان أبو عبيدة إذا حدثنا عن أبي مريم يصيح الناس، يقولون: لا نريده!(24).
فالسبب الرئيسي في اتهام عبدالغفار يعود إلى أنه يروي ما يخالف معتقداتهم التي قد تسالموا عليها، ويدل على ذلك من رفض الناس الاستماع الى مروياته، وهذا خطأ كبير وخلل فادح في موازين النقد، إذ أن تجريح الراوي وتعديله كان محكوماً في كثير من الأحيان بموقفه من العقيدة السائدة لدى الجمهور، وليس من حيث شخصية الراوي نفسه، وما عرف به من صلاح وصدق أم لا. وعلى كل حال، فان ابن مريم ليس هو الراوي الوحيد لهذه الرواية التي تتضمن لفظة الوصي، فقد أورد ابن عساكر مجموعة روايات في هذا المعنى وليس في إسنادها أبو مريم، منها عن عباد بن عبدالله، عن المنهال بن عمرو، عن الأعمش، عن علي بن أبي طالب، وفيها: "أيكم يقضي ديني ويكون خليفتي ووصيي من بعدي"(25).
وكذلك تعرض الحارث الهمداني الى الطعن رغم إننا ذكرنا في ترجمته ما يثبت صلاحه، إلاّ أن الشعبي اتهمه بالكذب، وردّ ابن عبدالبر بأن الحارث لم يبن منه كذب، وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي وتفضيله له على غيره، ومن هاهنا والله أعلم كذّبه الشعبي، لأن الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر، والى أنه أوّل من أسلم(26).
وكانت رواية الحارث لهذا الحديث المتضمن لفظة الوصية هو السبب الأوّل في الطعن عليه، رغم كونه من كبار التابعين، وكما ذكرنا في قول ابن حجر، وادعاؤه أن الحارث هو من بين من فيهم مقال منهم!
أما متن الرواية فقد تعرض للتشويه والتبديل والزيادة والنقصان والتأويل، ففي مسند أحمد: "من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة، ويكون خليفتي في أهلي"!(27)
وفي رواية اُخرى: "فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي"(28).
أما البيهقي فقد حذف الجزء الأخير منها كله، ففي دلائل النبوة: "يا بني عبدالمطلب، إني والله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة... الخ"(29)
وفي الطبقات الكبرى: "من يؤازرني على ما أنا عليه ويجيبني على أن يكون أخي وله الجنة"(30).
وفي الخصائص: "فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي ووزيري"(31).
وتأويل الطبراني معنى الوصاية، بأنه أوصاه بأهله لا بالخلافة!(32).
كما تأولها ابن أبي الحديد المعتزلي فقال: أما الوصية، فلا ريب عندنا أن علياً (عليه السلام) كان وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) - وإن خالف في ذلك من هو منسوب عندنا الى العناد- ولسنا نعني بالوصية النص على الخلافة، ولكن اُموراً اُخرى لعلها إذا لمحت أشرف وأجلّ!.
أما المحاولة الأخيرة، فقد تلخصت بمقابلة النص بنصوص اُخرى، ففي تفسير الآية المذكورة من سورة الشعراء، أورد ابن كثير عدة روايات فيها، منها:
1 - عن ابن عباس: لما أنزل الله (وأنذر عشيرتك الأقربين)، أتى النبي (صلى الله عليه وآله) الصفا، فصعد عليه ثم نادى "يا صباحاه"، فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني كعب، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، صدقتموني"؟ قالوا: نعم. قال: "فاني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، فقال أب لهب - لعنه الله- تباً لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلاّ لهذا؟ وأنزل الله عزّوجل (تَبَّتْ يَدا أبي لَهب وَتبَّ).
2 - عن أبي هريرة، قال: لمانزلت هذه الآية.. دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) قريشاً فعم وخص، فقال: "يا معشر قريش، انقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب انقدوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد انقذي نفسك من النار، فاني والله لا أملك لكم من الله شيئاً، إلاّ أن لكم رحماً سابلها ببلالها".
3 - عن عائشة (رض) قالت: لما نزلت (وأنذر...) الآية. قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: "يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبدالمطلب، يا بني عبدالمطلب، لا أملك لكم من الله شيئاً، سلوني من مالي ما شئتم"(33).
إلاّ أننا لو أنصفنا، لوجدنا أن هذه الروايات لا يمكن القبول بها، رغم أنها هي التي اعتمدها بعض المحدّثين كالبخاري ومسلم، ودخلت هذه الروايات في الصحاح، على أنها من نتاج نزول الآية المذكورة، ولكن من المعلوم أن الآية قد نزلت في بدايات الدعوة الاسلامية - قيل في السنة الثالثة من البعثة -، ولم يكن ابن عباس ولا عائشة قد ولدا بعد،كما أن أبا هريرة كان يرعى أغنام أهله في أرض دوس من اليمن، فأيا منهم لم يكن شاهد عيان لما حدث، كما أن اُسلوب خروج النبي (صلى الله عليه وآله) وندائه على جبل الصفا لا يتناسب مع مدلول الآية في الإنذار لعشيرته الأقربين والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا أدري كيف يوجّه النبي خطابه الى ابنته فاطمة، التي كانت في أبعد التقديرات لسنة مولدها ما تزال طفلة صغيرة لا تميّز، وكذلك خطابه الى عمّته، وكأن هؤلاء هم فعلا عشيرته الأقربين، وبشكل يتنافى مع ماهو معلوم من حكمة النبي وتعقله.
إن نظرة فاحصة الى النص الأوّل الذي جاء عن علي بن أبي طالب يثبت صحته ومعقوليته، فدعوة النبي (صلى الله عليه وآله) لأفراد عشيرته الأقربين - وهم المعوّل عليهم في نصرته وتأييد دعوته- ودعوتهم الى الطعام مما يتناسب مع أخلاق النبي (صلى الله عليه وآله) وكرمه المعروف، وعادات العرب، فضلا عن أن ذلك يجعل المدعوين أكثر تعاطفاً وتفهماً للموضوع المطروح للمناقشة، ويعطيهم وقتاً أكثر للتفكير وتبادل الآراء، إضافة لما يتركه من أثر إيجابي في النفوس، مما يرجح هذه الرواية على الروايات الاُخرى قطعاً. إلاّ أن تلك الروايات هي التي دخلت الصحاح، وليس ذلك غريباً، فالبخاري ومسلم يبادران الى كل ما ينفي الإشارة الى النص على علي، لذا نجد البخاري يكرر رواية عائشة التي تدعي فيها أن النبي مات بين سحرها ونحرها أو بين حاقنتها وذاقنتها في أكثر من موضع، وقد تفردت عائشة بذلك، بينما تثبت الروايات الاُخرى المتكاثرة عدم صحة ذلك، فقد مرّ فيما سبق قول محمد بن أبي بكر عن علي وصفه بأنه كان آخر الناس عهداً بالنبي (صلى الله عليه وآله)، والشواهد كلها تثبت ذلك، فعن اُم سلمة(رض)، قالت: والذي أحلف به، إن كان علي لأقرب الناس عهداً برسول الله (صلى الله عليه وآله)، عدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) غداة وهو يقول: جاء علي، جاء علي؟ مراراً، فقالت فاطمة(عليها السلام): كأنك بعثته في حاجة؟ قالت: فجاء بعد، قالت اُم سلمة: فظننت أن له إليه حاجة، فخرجنا من البيت، فقعدنا عند الباب، وكنت من ادناهم الى الباب، فأكب عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وجعل يساره ويناجيه، ثم قُبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) من يومه، فكان علي أقرب الناس عهداً(34).
وأخرج ابن سعد عن جابر بن عبدالله الأنصاري: أن كعب الأحبار قام زمن عمر، فقال ونحن جلوس عند عمر أمير المؤمنين: ما كان آخر ما تكلم به رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال عمر: سل علياً. قال: أين هو؟ قال: هاهنا. فسأله، فقال علي: اسندته إلى صدري. فوضع رأسه على منكبي، فقال "الصلاة الصلاة". فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء، وبه اُمروا، وعليه يُبعثون. قال: فمن غسله يا أمير المؤمنين؟ قال: سل علياً! قال: فسأله فقال: كنت أنا اُغسله. وكان ابن عباس جالساً، وكان اُسامة وشقران يختلفان إليَّ بالماء.
وروى عبدالله بن محمد بإسناده الى علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مرضه: "اُدعوا لي أخي"، قال: فدعي له علي، فقال: "اُدن مني"، فدنوت منه، فاستند إلي، فلم يزل مستنداً إلي وأنه ليكلمني، حتى إن بعض ريق النبي (صلى الله عليه وآله) ليصيبنى، ثم نزل برسول الله (صلى الله عليه وآله)، وثقل في حجري، فصحت يا عباس أدركني فاني هالك، فجاء العباس، فكان جهدهما جميعاً أن اضجعاه.
وروي عن علي بن الحسين، قال: قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورأسه في حجر علي.
وروي عن الشعبي، قال: توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورأسه في حجر علي، وغسله علي والفضل محتضنه واُسامة يناول الفضل الماء.
وروي عن أبي غطفان، قال: سألت ابن عباس: أرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) توفي ورأسه في حجر أحد؟ قال: توفي وهو لمستند إلى صدر علي. قلت: فان عروة حدثني عن عائشة أنها قالت: توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين سحري ونحري! فقال ابن عباس: أتعقل! والله لتوفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإنه لمستند الى صدر علي، وهو الذي غسله وأخي الفضل بن عباس، وأبى أبي أن يحضر وقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يأمرنا أن نستتر، فكان عند الستر(35).
فنحن نجد هذه الروايات المتكاثرة التي جاءت عن عدد من الصحابة لتثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد توفي في حجر علي بن أبي طالب، ولكن وسائل الإعلام الاُموية، والتي كان عروة بن الزبير أحد أبواقها حرّفت هذه الحقيقة ونسبت الى عائشة الادعاء بأنه مات في حجرها، وأنا لا أشك في أن عائشة لم تدع ذلك، بل المتهم في ذلك هو عروة دون سواه، مما جعل ابن عباس يستنكر على أبي غطفان تصديقه رواية عروة!
1- الحديث والمحدثون: 94، عن فتح الباري 1: 182 باب كتابة العلم.
2- صحيح البخاري 4: 3 كتاب الوصايا، باب الوصايا، 6: 18 كتاب النبي(ص) الى كسرى وقيصر، باب: مرض النبي(ص) ووفاته، صحيح مسلم 5: 75 طبعة دار الفكر ـ بيروت كتاب الوصية، مسند أحمد 6: 32.
3- البداية والنهاية 7: 224.
4- لسان العرب 15: 394.
5- تاج العروس 10: 392.
6- الشعراء: 214.
7- البداية والنهاية 3: 38.
8- السيرة الحلبية 1: 286، والرواية في تاريخ الطبري 2: 320، وفي معالم التنزيل للبغوي 4: 278،
9- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13: 244.
10- تاريخ الطبري 4: 426.
11- تاريخ الطبري 5: 424.
12- البداية والنهاية 8: 179.
13- تاريخ اليعقوبي 2: 179.
14- مروج الذهب 2: 430.
15- تاريخ الطبري 4: 557.
16- وقعة صفين: 118، وسوف نذكر الكتاب وجواب معاوية عليه في وقته.
17- شرح نهج البلاغة 1: 143 - 150.
18- تاريخ دمشق لابن عساكر 42: 49، الرياض النضرة 2: 178.
19- المحاسن والمساوئ.
20- مجمع الزوائد 9: 113 عن الطبراني.
21- كنز العمال كتاب الفضائل، فضائل علي بن أبي طالب.
22- حلية الأولياء 1: 63.
23- مجمع الزوائد 8: 253.
24- لسان الميزان 4: 413.
25- تاريخ دمشق 42: 47 - 50.
26- جامع بيان العلم 2: 189، باب حكم العلماء بعضهم على بعض.
27- مسند أحمد 1: 111، و 159.
28- مسند أحمد 1: 111، و 159.
29- دلائل النبوة 2: 180.
30- الطبقات الكبرى 1: 187.
31- خصائص علي بن أبي طالب للنسائي: 84.
32- مجمع الزوائد 9: 113 - 114.
33- البداية والنهاية 3: 38 - 40.
34- المستدرك 3: 139 وصححه ووافقه الذهبي.
35- الطبقات الكبرى ذكر من قال توفي رسول الله(ص) في حجر علي بن أبي طالب.