بداية يمكننا الاستناد إلى بعض التحديدات للارتكاز عليها على غرار مفهوم الهوية دفعاً للالتباسات التي قد تنشأ في هذا المجال قبل عرض هذه الآراء حول هوية لبنان. ذلك أنه من الضروري تحديد وجهة البحث ومركوزاته المفاهيمية احترازاً من الوقوع في التعميم الذي يغيِّب إمكانية القبض على زمام المشكلة.
الهوية تعني اللغة، إن الشيء هو نفسه بوصفه متميزاً عن غيره أو مشتركاً مع شيء آخر بالصفات والخصائص عينها. وثمة تعريف للمفكر الفرنسي "ميكشيللي "(1)
ينطلق من معطيات نفسية واجتماعية ومعنوية، ما يعني أن الهوية هي وحدة من العناصر المادية والنفسية المتكاملة التي تجعل الشخص يتمايز عن سواه ويشعر بوحدته الذاتية.
غير أن الهوية ليست فقط ما تشكله من عناصر فعلية مشتركة بين عناصرها، بل هي أيضاً تمثل ما يطمح إليه أعضاؤها، وما يعتقدون بوجوب بلوغه، ولذلك فهي تشكل دافعاً رئيسياً للعمل من أجل تحقيقها والدفاع عنها والاحتفاظ بها.
ما يمكن استخلاصه من التعريفات الواردة على سبيل المثال - لا الحصر - يبين أن ثمة وجهين للهوية الأول ما يتصل بحالة الكينونة التي تعيشها جماعة أو أمة أو شعب يشد أفرادها بعضهم إلى بعضهم صفات مشتركة تشعرهم بنوع من الوحدة الاندماجية التي تصير فيها الجماعة ذاتاً واحدة.
والوجه الآخر يتصل بالصيرورة أو يتصل بغاية تسعى إليها الجماعة وهي بلوغ غاية الهوية بمعنى أن ثمة هوية تحظى بالوجود العيني ولكن هذا الوجود يحتاج إلى وعيه من قبل الأفراد أو إزالة ما يمكن أن يحصل من الالتباسات التي تثار حوله من ناحية التفكير النظري.
معالم الذات الجماعية لأمة حزب الله
لا بد لأي حركة أو تنظيم إرادي كان أو فطري، من وجود عناصر مشتركة ومتوالفة تؤدي إلى تكوين ذات جماعية تشد أفرادها بعضهم إلى بعض وترسم معالم التفارق عن الذوات الأخرى التي تشذ عنها، أو تكاد تقترب منها من خلال التشارك في بعض العناصر المشتركة لكن دون أن تضوي إليها أو تتدامج معها لتصبح ذاتاً واحدةتلك هي الذات التي تعني الهوية مقابل الذوات المتغايرة التي تعني الآخر.
عناصر التشارك في الذات قد ترتكز على التراث أو اللغة أو العقيدة والأيديولوجيا أو المصلحة المسنودة إلى الواقع المعيشي، أو غيرها من عناصر التشارك التي تنسج وشائج ضامرة وبارزة لدى الأفراد في إطار من الوحدة النفسية والشعورية ووحدة التصور لأنفسهم أولاً،
ومن ثم للآخرين على أنهم ذوات متغايرة. فالهوية تعبر في آن معاً عن خصوصية وفرادة ومماثلة في إطار النحن الجماعية.
فمن نحن ؟
ما هي أهدافنا؟
ماذا ننشد؟
وما هي منطلقاتنا؟
تجد جواباً لهذه الأسئلة في أي حركة منظمة أو انتظام حزبي بالاستناد إلى السلوكات الجماعية الهادفة أو من خلال الخطاب الذي يفصح بطريقة علنية عن هذه الذات تعريفاً بها لأفرادها وللآخرين.
وبخصوص حزب الله تتحدد هذه الذات أو الهوية، انطلاقاً من العودة إلى الأدبيات المنشورة أو إلى الخطاب الخاص بتحديد الأهداف والمنطلقات.
وهي بأي حال لا تشير إلى ندرة بادية بقدر ما تشير إلى دلالات عميقة الأثر في الإفصاح عن الهوية. علماً بأن خطاب حزب الله ما زال في طور الاكتمال التدريجي لكون حلقاته ما زالت ترتسم معالمها مع معطيات الواقع اللبناني المتغاير وغير المنسجم، في حركة تعبر عن سيرورة تواصلية، في مجتمع يحفل بالكثير من التناقضات المفتوحة على أطر التجاذبات الداخلية والخارجية والتي هي من سنخية المجتمع اللبناني المتعايش والمتنافر في آن معاً.
على هذا النحو، يمكن الارتكاز على عينة من خطاب حزب الله وهي الرسالة المفتوحة التي وجهها إلى اللبنانيين والعالم، والتي تفصح عن هذه الذات أو عن الهوية، على أنها تشكل حقلاً تحليلياً لشبكة مفرداتها والحقل الدلالي لمعانيها مع الأخذ بعين الاعتبار كيفية تعاطي هذه الهوية مع الواقع الذي لا بد أن تتفاعل معه عبر آليات من العمل والسلوكات الهادفة، فضلاً عن استكشاف أبعاد الهوية المختزنة في منطويات المفردات أو الخطاب المكتوب.
ففي الرسالة مفردات ركنت في صفحات قليلة على غرار أمة حزب الله، الأمة الإسلامية، المستضعفين، المستكبرين، الأصدقاء.... وولاية الفقيه، تشكل معاً توليفة بين العام والخاص.
فالخاص يقع في مفردة وحيدة هي ولاية الفقيه فيما يسري العام على سائر المكونات المفهومية. الخاص هو بمثابة المحور الأساس في شبكة المفردات لكونه يرسم ملامح الذات المتغايرة مع الآخر من جهة ويحدد أطر العلاقة بين هذه الذات والآخر من جهة أخرى.
أ- الدائرة الولائية
لا بد للذات الجماعية من الانطلاق نحو الفعل الذي يشكل أحد الحلقات التواصلية بين المنطلقات والغايات.
فالذات الجماعية ليست جامدة بمعنى أنها ليست ذاتاً لذاتها، إنما هي ذات حركية، في حين أن حركتها لا تعبر عن سيرورة الذات نفسها في حركة تحيلها إلى ذات أخرى تتبدل بحسب ظروف الواقع، بقدر ما تعبر عن انطلاقها نحو غاياتها.
وانطلاقاً من حركة الفعل نحو تحقيق الأهداف، لا بد من ارتكاز الفعل على قاعدة وظيفية تؤدي بطبيعة الحال إلى تمحور الذات الجماعية في صنفين من الأفراد، ليس من منطلق الولاء وإنما من منطلق حركة الفعل. هذان الصنفان هما النخبة الولائية التي تنضوي إلى التنظيم الحزبي وجمهور الناس من الولائيين.
يطلق على الصنف الأول النخبة (العلماء، أفراد المستويات التنظيمية المختلفة والتعبئة العامة) في حين أن أدراجها في إطار النخبة الحزبية ليس إدراجاً تراتبياً من الناحية الولائية وإنما لاستيفائها الشروط المحددة التي تسمح بهذا التوصيف وغالباً ما تحدد هذه الشروط بالسن، ودرجة الالتزام والاستعداد لتحمل الصعاب، والوعي العقدي.
وهذه الشروط تعبر عن انتخاب ذوي المؤهلات التي تعينهم على الفعل والحركة، فهذه النخبة هي الأكثر تحملاً للصعاب ومشقات العمل، وهي الأكثر وعياً للمنطلقات والأهداف وأكثر إدراكاً للواقع في حركته وتناقضاته، وأفضلها قدرة على تمثل العقيدة واختلالات الحاضر، في نقلها إلى وعي الجمهور الولائي.
تشكل قاعدة الالتزام بولاية الفقيه مرتكزاً أساسياً ومحدداً نوعياً يرسم هذه الهوية لا بمعنى الملامح، بل بمعنى الجوهر الذي لا تنفصل عراه عن الذات الجماعية، والذي يعمل على تعضيد الأفراد وتصليب الوشائج التضامنية بينهم، وهكذا فإن انتساب حزب الله إلى الولي الفقيه، والذي يفصح عن هويته الخاصة، كان حريصاً على الإحاطة بما يترتب عليها من إشكالات تطعن في كيفية التوفيق بين هويته الخاصة والهوية الوطنية.
ويقدم الحزب أدلة على التزامه الوطني بالاستعداد للتضحية بالنفس وبمجاهدي المقاومة الإسلامية وشهدائها في سبيل تحرير الأرض الوطنية في مقابل تخلي الآخرين عن واجبهم الوطني في الدفاع عن الأرض والوطن. أما فيما يتصل بالشعور بالهوية كانتماء فيرى حزب الله أن هناك تشاركاً ثقافياً بين اللبنانيين بمختلف مكوناتهم وهذا الرابط لا يقوم على الجغرافيا فحسب وإنما على التاريخ واللغة وبهذا المعنى يقول الشيخ نعيم قاسم "إن حس القرابة الذي يشعر به التابع لحزب الله تجاه مواطنه لا يتأثر بانتمائه الديني".
وهكذا على الرغم من الرابط الفكري القوي بين الشيعي اللبناني والشيعي الإيراني أو الشيعي العراقي فإن التقاليد والأعراف والقواعد المشتركة بين الشيعي اللبناني والمسيحي اللبناني تجعله مختلفاً ثقافياً عن الشيعي الإيراني أو العراقي. ويلاحظ د. علي فياض أن الأمر نفسه يصحّ بالنسبة إلى إيران، فالحدود المعينة بينها وبين العراق تنم عن انتماءات شعبها وولاءاته القومية المتميزة(2)
ب- الدائرة الانتمائية
الذات الانتمائية هي الذات التي تدخل في دائرة الهوية، غير أنها انتمائية وليست ولائية بالمطلق، للاختلاف الحاصل بين حالة الانتماء وحالة الولاء في بعض الجوانب. إذ ليس كل انتماء يعبر عن الولاء. فالانتماءات تبقى بطبيعة الحال منفتحة على دوائر عدة كانتماء الإنسان إلى أسرة أو عشيرة أو طائفة أو حزب أو جمعية أو لمكان العمل أو القرية أو المدينة أو الوطن في آن معاً.
ولكن بحال حصول التجاذب في الموقف بين الانصياع لخدمة هدفين في دائرتي الانتماء فيكون الترجيح لأحدهما بمثابة حالة ولائية. على هذا النحو، فثمة دوائر انتماء تدخل ضمن مكونات الهوية ينطلق بمساحات تتسع وتضيق في آن معاً،ولكنها تمتلك إمكانية التحول إلى ذات ولائية مقرونة بالفعل الذي تتفاوت درجة حدوثه أو الاستعداد للقيام به، إلى التزام يزاوج بين الإيمان بمجمل الأهداف والإيمان ببعضها حيث يقتضي هذا الإيمان الانطلاق في حركة منسجمة نحو هذه الأهداف.
فإحدى دوائر الانتماء تحيل في تشاركها مع الذات الجماعية من منظور التشارك في الانتماء للدين وللتراث الشيعي المستحضر دوماً في البنية الذهنية للأفراد. وهذه الدائرة تكون في العادة مستدمجة لأهداف الذات الولائية (مقاومة مشاركة سياسية) ولكنها لا تتحرك باتجاه التعبير عنها في الميدان العملي لنأيها بنفسها عن المشاركة في الحالات الجهادية أو العملية الأخرى وباقتصارها على إعلان الإيمان بالأهداف من الناحية النظرية بمعزل عن انبثاقها واستلهامها ودورانها في فلك ولاية الفقيه.
وعندما تصل هذه الدائرة إلى حد تجاوز الانتماء إلى حالة ولائية، فإنما تتحرك بفعل طبيعة الأهداف نفسها دون الارتداد إلى منطلقاتها العائدة إلى الفهم الخاص لمبدأ الولي الفقيه.
وقد تسبغ على هذه الأهداف طابعاً أخلاقياً أو دينياً نابعاً من التراث الشيعي نفسه. وليس إدراجه في هذا التصنيف، على أن الذات الإنتمائية هي بطبيعتها جمهور متلقٍّ أو قاصر عن الوعي ويشذ عنه، وإنما يملك تصوراً للأهداف وللمنطلقات، مع فارق عدم تمكنه من الاحتكاك اليومي بالواقع وإهمال أموره الحياتية لينضوي في إطار النخبة الولائية التي تقع في دائرة الصنف الأول.
وعلى هذا النحو يغدو التصنيف مرتداً إلى الدور والوظيفة، وليس تصنيفاً يخرج الذات عن تمحورها وفق الهوية أو يجعل منها كياناً متراتباً بين ذات عليا وأخرى تهبط إلى ما دون العلو والرفعة.
ج- الدائرة الانتمائية العامة
وهي الدائرة التي تعبر عن الوحدة الشعورية بين الأفراد على أساس العقيدة الدينية في خطوطها العامة، حيث يتشارك المسلمون الاعتقاد في وحدانية الله والنبوة والمعاد. ولكن اندراجها ضمن أمة حزب الله ينطلق من حركية أفراد هذه الدائرة باتجاه هموم العالم الإسلامي لرفعها عن كاهل الأمة.
وقد جرى تشخيص تلك الهموم بالإشارة الصريحة إلى زوال إسرائيل ومجاهدة الاستكبار العالمي، وغيرهما من العناوين العريضة المتضمنة في الرسالة المفتوحة لرفع الحيف والظلم عن الأمة.
فلا بد لدائرة الانتماء الإسلامي العام من إبراز هذا الانتماء في حالة ولائية عامة تتحرك باتجاه أهداف تخدم عامة المسلمين من منطلقات إسلامية عامة دون الدخول في تفاصيل هذه المنطلقات، لأن التفاصيل تحيل إلى انفكاك الأمة إلى دوائر خاصة تنطلق في خصوصيات هذه الدوائر في تنوع فهمها لمبدأ الحاكمية، وفهم التراث، ولتباينات التفسير والتأويل.
فحين يتوجه خطاب حزب الله للمسلمين، فهو يتحرك باتجاه الأبعاد الانتمائية العامة المتجسدة في واقع الحال، دون أن يهدف إلى استيعابها في الدائرة الولائية الخاصة التي تتحرك في إطار ولاية الفقيه، بل باتجاه حض المسلمين على إحباط المؤامرات الإمبريالية التي تسعى إلى زرع الشقاق في الأمة الإسلامية.
ليس في دعوة حزب الله ما يشير إلى أسلمة الأنظمة وفق رؤية ولاية الفقيه بقدر ما يتطلع إلى تشكيل رابطة أخوة إسلامية ووحدة إسلامية بين السنة والشيعة وتكوين أمة حقيقية متآلفة فيما بينها ومتوحدة على قاعدة العداء لإسرائيل والغرب المهيمن. والأمة، بهذا المعنى، ليست مجتمع المؤمنين الذين يلتزمون القرآن ويؤدون الشعائر الدينية وإنما هي مجتمع سياسي من النشطاء الإسلاميين في مواجهة أعداء الأمة.
إن الأمة وفق هذا الإدراك هادفة في جوهرها، في حين أن وحدتها هي المطرقة التي تحطم مؤامرات الظالمين، وعلى رأسهم إسرائيل التي ينبغي للمسلمين أن يتوحدوا لمقاتلتها صفاً واحداً لا كيانات إقليمية منفصلة، ويقوم هذا الحث على أن على المسلم واجباً شرعياً تجاه أخيه في الإيمان بصرف النظر عن موقعه الجغرافي.
وفق هذا المعيار يبدي حزب الله الكثير من العطف على المسلمينالذين يعانون من الظلم في الفيليبين وبورما والبوسنة والصومال وآذربيجان والشيشان حيث تناضل الأقليات لرفع الظلم عنها. (3)
ورغم أن الإسلام رسالة كونية تشمل جميع الهويات القومية، ورغم تفوق الهوية الإسلامية في خطاب حزب الله فإنه لا يتجاوز وجود أمة عربية تتميز بخصوصية داخل الهوية الإسلامية دون أن تعلو عليها، ونجد ذلك في انكباب حزب الله على تصوير قضية القدس قضية إسلامية عربية بصفة خاصة، وبوصف القدس أرضاً إسلامية عربية، كان على جميع المسلمين والعرب تأكيد حقهم فيها بمن فيهم المسيحيون الفلسطينيون الذين لهم حق في الأرض من الناحيتين الوطنية والدينية.
ولذلك يرى حزب الله الصراع مع إسرائيل صراعاً عربياً – إسرائيلياً، وصراعاً إسلامياً - إسرائيلياً. ويتعزز هذا التصنيف من واقع أن أراضي أخرى تحتلها إسرائيل كجنوب لبنان، ومرتفعات الجولان بالإضافة إلى فلسطين بكاملها هي أرض عربية.
أما لناحية الفكرة القومية كانتماء وهوية ومدى تعارضها مع الهوية الإسلامية فيرى حزب الله أنه لا يمكن اعتبار القومية - كتعبير عن هوية المرء الاجتماعية والسياسية - لا يمكن اعتبارها معارضة للإسلام، فهي لا تنافس انتماء المسلم الفكري إلى الإسلام إلا عندما تصبح هوية فكرية إلى حد يمكن اعتبارها معه عصبية، وبالتالي متناقضة مع الإسلام(4).
المصادر :
1- الهوية، ترجمة علي وطفة، دار الوسيم، دمشق 1993.
2- أمل سعد، حزب الله الدين والسياسة، م. س، ص 100.
3- انظر الرسالة المفتوحة، مصدر سابق.
4- أمل سعد، حزب الله الدين والسياسة، مرجع سابق، ص 101.