
ولّاه معاوية بن أبي سفيان إمارة البصرة سنة 55 للهجرة ، وكان عمره 22 سنة. وكان عبيد الله ، غلاما ، سفيها ، جبانا ، سفاكا للدماء ، وبقي أميرا على البصرة حتّى مات معاوية (1).
ولما سمع يزيد بن معاوية بأن الحسين بن عليّ عليهالسلام قد أرسل ابن عمّه مسلم (2) بن عقيل إلى الكوفة ، أمر عبيد الله بن زياد ، بالتوجّه (حالا) إلى الكوفة لمعالجة الموقف (3). فذهب ابن زياد إلى الكوفة سنة 60 للهجرة ، وقد جمعت له ولاية (المصرين) (4). فتمكن عبيد الله من إلقاء القبض على مسلم بن عقيل (بعد أن تفرّق عنه أصحابه ، ولم يبق معه أحد) (5). وجيء بمسلم بن عقيل إلى قصر الإمارة وأصعدوه إلى أعلى القصر ، فقطعوا رأسه ، ورموه إلى الناس ، ثمّ أتبعوه بجسده ، ثمّ بعث عبيد الله برأس مسلم إلى الشام ، وصلب جسده بالكوفة. فكان مسلم بن عقيل : أوّل قتيل صلبت جثته من بني هاشم ، وأوّل رأس حمل من رؤوسهم إلى الشام (6).
ثمّ قتل هاني بن عروة. وصلب ايضا ، وفي ذلك قال الشاعر (7) :
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري / إلى هاني في السوق وابن عقيل
تري جسدا قد غيّر الموت لونه / ولفح دم قد سال كلّ مسيل
ثم جاء الحسين عليهالسلام إلى كربلاء فحوصر فيها من قبل جيوش عبيد الله بن زياد وكان القائد العام على تلك الجيوش هو : عمر بن سعد بن أبي وقّاص ، وبعد معركة غير متكافئة في العدّة والعدد ، قتل الحسين عليهالسلام مع جميع أصحابه وأولاده وأخوته في تلك المعركة ، والّتي سميت ب (واقعة كربلاء) أو (يوم الطفّ) ، فأهتزّ لها ضمير العالم الأنساني ولا زالت تلك الذكرى خالدة في نفوس المسلمين وغيرهم ، وستبقى خالدة إلى يوم الدين.
أما بنو أمية ومن ساندهم في تلك الواقعة فستبقى وصمة عار في تاريخهم (الأسود) إلى قيام الساعة.
ثم بعد ما قتل الحسين عليهالسلام وجميع أصحابه ، قطعوا رؤوسهم ، وحملوها على الرماح إلى عبيد الله بن زياد في الكوفة ، ومع الرؤوس كان آل بيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سبايا إلى ابن مرجانة يتقدّمهم شمر بن ذي الجوشن (وقيل غيره) فيقول مخاطبا عبيد الله بن زياد (8) :
أوقر ركابي فضة أو ذهبا / إنّي قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أمّا وأبا / وخيرهم إذ ينسبون نسبا
وعند ما أدخلت السبايا والرؤوس إلى عبيد الله بن زياد بالكوفة ، كانت السيدة زينب بنت الأمام عليّ بن أبي طالب عليهالسلام قد جلست متنكرة بين السبايا فقال عبيد الله بن زياد : من هذه الجالسة؟ فلم تكلّمه ، فقال : ثلاثا ، وهي لا تكلّمه ، فقيل له : إنّها زينب بنت فاطمه (9).
فقال عبيد الله بن زياد : الحمد لله الّذي فضحكم ، وقتلكم ، وأكذب أحدوثتكم. فقالت له زينب (عليهاالسلام) : الحمد لله الّذي أكرمنا بمحمّد ، وطهرنا تطهيرا ، لا كما تقول ، وإنّما يفتضح الفاسق ، ويكذب الفاجر.
فقال لها ابن زياد : فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ قالت عليهالسلام : كتب عليهم القتل ، فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم ، فتختصمون عنده ، فغضب ابن زياد وقال : لقد شفى الله غيظي من طاغيتك ، والعصاة المردة من أهل بيتك. فبكت (سلام الله عليها) وقالت : (لعمري لقد قتلت كهلي ، وأبرزت أهلي وقطعت فرعي ، فإن يشفيك هذا فقد اشتفيت.
فقال لها ابن زياد : هذه (شجاعة) لعمري لقد كان أبوك شجاعا. وقيل إنّه قال : هذه (سجّاعة).
فقالت له (عليهاالسلام) : ما للمرأة والسجاعة (10)!!
ثم نظر أبن زياد إلى الإمام عليّ بن الحسين (زين العابدين عليهالسلام) فقال له : ما أسمك؟. قال : عليّ بن الحسين. قال ابن زياد : أولم يقتل عليّ بن الحسين؟. فسكت الإمام عليهالسلام ولم يجبه. فقال له ابن زياد : مالك لا تتكلّم؟
فقال الإمام عليهالسلام : كان لي أخ يقال له أيضا (عليّ) قتله الناس. قال ابن زياد : إنّ الله قتله. فسكت الإمام عليهالسلام ولم يجبه أيضا. فقال له ابن زياد : مالك لا تتكلّم!! فقال الإمام عليهالسلام : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها)(11) ، (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)(12)
فقال ابن زياد : أنت والله منهم. ثمّ أمر بقتله ، فتعلقت به السيدة زينب عليهالسلام وقالت يابن زياد : حسبك منّا ، أما رويت من دمائنا؟! وهل أبقيت منا أحدا؟. ثمّ قالت له : اسألك بالله ، ان كنت مؤمنا ، فاقتلني معه إذا قتلته. فعفا عنه (13). وممّا قيل في رثاء الحسين عليهالسلام نذكر هذه الأبيات (14) :
فإنّ قتيل الطفّ من آل هاشم / أذلّ رقابا من قريش فذلت
فإن يتبعوه عائذ البيت يصبحوا / كعاد تعمت عن هداها فضلت
ألم تر أنّ الأرض أضحت مريضة / بقتل حسين والبلاد اقشعرت
فلا يبعد الله الديار وأهلها / وإن أصبحت منهم برغمي تخلت
وقال مسلم بن قتيبة يرثي الحسين عليهالسلام :
عين جودي بعبرة وعويل / واندبي إن ندبت آل الرسول
واندبي تسعة لصلب عليّ / قد أصيبوا وخمسة لعقيل
وابن عمّ النبيّ عونا أخاهم / ليس بما ينوب بالمخذول
وسمّي النبيّ غودر فيهم / قد علوه بصارم مصقول
واندبي كهلهم فليس إذا ما / عد في الخير كهلهم كالكهول
ولمّا وصل خبر مقتل الحسين عليهالسلام إلى المدينة خرجت بنت لعقيل بن أبي طالب مع نسوة من آل البيت (عليهمالسلام) وهي تقول : (15)
ماذا تقولون إن قال النبيّ لكم / ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي / نصف أسارى ونصف ضرجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم / أن تخلفوني بشر في ذوي رحم
ثم أمر عبيد الله بن زياد بحمل الرؤوس ، وآل بيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سبايا إلى يزيد بن معاوية في الشام ، وعند ما أدخلت عترة آل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سبايا ، وهم مكبّلين بالحبال ، فرح يزيد فرحا شديدا وقال :
ليت أشياخي ببدر شهدوا / جزع الخزرج من وقع الأسل
لعبت هاشم بالملك فلا / ملك جاء ولا وحي نزل
وفي زمن عبيد الله بن زياد ، جاء مرداس (ابو بلال الخارجيّ) ومعه أربعون رجلا ، فأرسل عبيد الله إليهم أسلم بن زرعة الكيلاني ، ومعه ألفي رجل ، فدارت معركة بين الطرفين ، في مكان يقال له (آسك) انهزم فيها أسلم واصحابه. فقال أحد شعراء الخوارج في ذلك (16) :
أألف مؤمن منكم زعمتم / ويقتلهم بآسك أربعونا
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم / ولكن الخوارج مؤمنونا
هم الفئة (17) قد علمتم / على الفئة الكثيرة ينصرونا
وقيل إنّ عبد الله بن مغفل ، قد مرض فعاده عبيد الله بن زياد وقال له : هل توصي شيئا؟
فقال له ابن مغفل : (لا تصلّي عليّ ، ولا تقم على قبري) (18).
ولمّا مات يزيد بن معاوية بن أبي سفيان سنة 64 للهجرة ، وكذلك مات ابنه معاوية «الثاني» بعد أربعين يوما من وفاة أبيه يزيد ، كان عبيد الله ابن زياد في البصرة ، فخطب بالناس وأعلمهم بموت يزيد وابنه ولم يكن بعدهما ولي عهد ، وأنّ الأمر أصبح شورى ، عندها بايعه أهل البصرة.
فكتب عبيد الله بن زياد إلى عمرو بن حريث «خليفته على الكوفة» يطلب منه أن يأمر أهل الكوفة أن يحذوا حذو أهل البصرة ، ولمّا سمع أهل الكوفة بذلك ثاروا وطردوا عمرو بن حريث ، وولّوا عليهم أميرا لحين استتباب الوضع. (19)
وعند ما علم أهل البصرة بثورة أهل الكوفة ، ثاروا هم أيضا ، وعيّنوا أميرا هو (عبد الله بن الحارث) فذهب عبيد الله إلى بيت المال في البصرة ، وأخذ كل ما فيه ، ثمّ ذهب إلى سعد بن الأطول بن عبد الله وطلب منه أن يحميه من أهل البصرة ، فقال له سعد : (عشيرتي ليست بالبصرة ، عشيرتي بالشام). (20) عندها هرب ابن زياد إلى الشام ، تاركا أمّه بالبصرة ، ونجا بنفسه ، فهجاه ابن مفرغ بقصيدة نقتطف منها : (21)
أعبيد هلا كنت أوّل فارس / يوم الهياج دعا بحتفك داع
أسلمت أمك والرماح تنوشها / يا ليتني لك ليلة إلا فزاع
إذ تستغيث وما لنفسك مانع / عبد تردّده بدار ضياع
هلا عجوزك إذ تمدّ بثديها / وتصيح ألا تنزعنّ قناعي
ليس الكريم بمن يخلّف أمه / وقناته في المنزل الجعجاع
كم يا عبيد الله عندك من دم / يسعى ليدركه بقتلك ساع
وقال أيضا :
أقرّ بعيني أنّه عقّ أمّه / دعته فولّاها أسته وهو يهرب
وقال : عليك الصبر كوني سبية / كما كنت أو موتي ، فذلك أقرب
وقد هتفت هند : بماذا أمرتني / ابن لي وحدثني إلى أين أذهب؟
فقال : اقصدي للأزد في عرصاتها / وبكر فما إنّ عنهم متجنب
إلى آخر القصيدة.
ولمّا وصل عبيد الله بن زياد إلى (دمشق) ذهب إلى مروان بن الحكم ، ومعه مائة رجل من الأزد ، وأقنعه بأنه (أي مروان) أولى الناس بالخلافة من ابن الزبير ، ثمّ بايعه ، فجمع مروان الأمويين والمروانيين ، وتمّت له البيعة وذلك في سنة 64للهجرة ، ثمّ سار بجيشه نحو الضحّاك بن قيس الفهريّ ، فدارت معركة بين الطرفين ، قتل فيها الضحّاك ، وتمّت البيعة لمروان بن الحكم في دمشق.
ثم توجه عبيد الله بن زياد إلى العراق في جيش كبير ، فكانت له معركة مع التوابين انتصر فيها عليهم ، وقتل زعيمهم سليمان بن صرد الخزاعي سنة 65 للهجرة ، وسميت تلك المعركة ب (عين الوردة).
وفي سنة 66 للهجرة ، ثار المختار بن عبيد الثقفيّ بالكوفة ، مناديا : يا لثارات الحسين ، فالتف حوله الكثير من المؤيدين والمناصرين ، ومن الناقمين على بني أميّة ، فأرسل إبراهيم بن مالك الأشتر في عشرين ألف لقتال عبيد الله بن زياد ، فالتقت الجيوش في منطقة (الزاب) وحصلت معركة عنيفة بين الطرفين قتل فيها عبيد الله بن زياد ، وأرسل برأسه إلى الإمام عليّ بن الحسين (زين العابدين) عليهالسلام في المدينة ، ولمّا وضع الرأس بين يديه ، كان الإمام عليهالسلام يتغدّى ، فذكر أباه الحسين عليهالسلام وترحّم عليه ، ثمّ قال : (جيء برأس أبي عبد الله إلى ابن زياد وهو يتغدّى ، وأتينا برأس عبيد الله بن زياد ونحن نتغدّى) (22). وقتل مع عبيد الله بن زياد : حصين بن نمير ، وشرحبيل بن ذي الكلاع ، وانهزم الشاميّون شرّ هزيمة ، كان ذلك سنة 67 للهجرة بالخازر.
وبعد ما قتل عبيد الله بن زياد هجاه ابن مفرغ الحميرّيّ فقال : (23)
إنّ الّذي عاش ختارا بذمته / وعاش عبدا قتيل الله بالزاب
العبد للعبد لا أصل ولا طرف / ألوت به ذات أضفار وأنياب
إنّ المنايا إذا ما زرن طاغية / هتكن عنه ستورا بين أبواب
ما شقّ جيب ولا ناحتك نائحة / ولا بكتك جياد عند أسلاب
لا يترك الله أنفا تعطسون به / بني العبيد شهودا غير غياب
أقول بعدا وسحقا عند مصرعه / لأبن الخبيثة وابن الكودن الكابي
المصادر :
1- تاريخ الطبري ج ٥ / ٢٩٩ والذهبي ـ سير أعلام النبلاء ج ٣ / ٥٤٥ وابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق ج ١٥ / ٣١٤.
2- كتب أهل الكوفة إلى الإمام الحسين عليهالسلام يدعوه للمجيء اليهم ومبايعتهم إيّاه أرسله الحسين عليهالسلام إلى الكوفة ليتعرّف على احوالها ، فقتل ، وله مزار كبير بجانب مسجد الكوفة.
3- تاريخ الطبري ج ٥ / ٣٤٨.
4- العسكري ـ الأوائل ص ٢٩٩.
5- قيل إنّ عدد الّذين بايعوا مسلم بن عقيل من اهل الكوفة قد بلغ ثمانية عشر ألف رجل.
6- المسعودي ـ مروج الذهب ج ٣ / ٦٠.
7- ابن سعد ـ الطبقات ج ٤ / ٤٢ وتاريخ الطبري ج ٥ / ٣٥٠.
8- ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد ج ٤ / ٣٨١ ومحسن الأمين العاملي ـ في رحاب أهل البيت ج ٣ / ١٤٤ وابن العماد ـ الشذرات ص ٢٧٤.
9- ابن الأثير ـ الكامل ج ٤ / ٨٢.
10- تاريخ الطبري ج ٥ / ٤٥٧ وابن الأثير ـ الكامل ج ٤ / ٨٢.
11- سورة الزمر ـ الآية : ٤٢
12- سورة آل عمران ـ الآية : ١٤٥
13- ابن الأثير الكامل ج ٤ / ٨٢
14- ابو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيين ص / ١٢٢
15- ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٥ / ٢٤٥. وتاريخ الطبري. ج ٥ / ٤٦٧. والمسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٦٨.
16- أحمد شلبي ـ موسوعة التاريخ الأسلامي ج ٢ / ٢٦٨.
17- الفئة القليلة : تورية ، إشارة إلى الآية الكريمة (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة).
18- الذهبي ـ سيرة أعلام النبلاء ج ٣ / ٥٤٥.
19- تاريخ الطبري. ج ٥ / ٥٠٤.
20- ابن سعد ـ الطبقات. ج ٧ / ٥٧. وتاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ١٣٦.
21- أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٧ / ٢٨٠.
22- ابن سعد ـ الطبقات. ج ٥ / ١٠٠.
23- أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٨ / ٢٨٦.