قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَكْثَرُ حُبًّا وَأَقَلُّ خَنًا .
وَهَذَا الْحَالُ هِيَ أَوْلَى الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مَوْضُوعٌ لَهَا ، وَالشَّرْعُ وَارِدٌ بِهَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { سَوْدَاءُ وَلُودٌ خَيْرٌ مِنْ حَسْنَاءَ عَاقِرٍ } .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ : مَنْ لَا يَلِدُ لَا وُلِدَ .
وَقَدْ كَانُوا يَخْتَارُونَ لِمِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ إنْكَاحَ الْبُعَدَاءِ الْأَجَانِبِ ، وَيَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ أَنْجَبُ لِلْوَلَدِ وَأَبْهَى لِلْخِلْقَةِ ، وَيَجْتَنِبُونَ إنْكَاحَ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ ، وَيَرَوْنَهُ مُضِرًّا بِخَلْقِ الْوَلَدِ بَعِيدًا مِنْ نَجَابَتِهِ .
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اغْتَرِبُوا وَلَا تُضْوُوا } .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يَا بَنِي السَّائِبِ قَدْ ضُوِيتُمْ فَانْكِحُوا فِي الْغَرَائِبِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : تَجَاوَزْتُ بِنْتَ الْعَمِّ وَهِيَ حَبِيبَةٌ مَخَافَةَ أَنْ يُضْوَى عَلَيَّ سَلِيلِي وَكَانَتْ حُكَمَاءُ الْمُتَقَدِّمِينَ يَرَوْنَ أَنَّ أَنْجَبَ الْأَوْلَادِ خَلْقًا وَخُلُقًا مَنْ كَانَتْ سِنُّ أُمِّهِ بَيْنَ الْعِشْرِينَ وَالثَّلَاثِينَ وَسِنُّ أَبِيهِ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ وَالْخَمْسِينَ وَالْعَرَبُ تَقُولُ : إنَّ وَلَدَ الْغَيْرَى لَا يُنْجِبُ ، وَإِنَّ أَنْجَبَ النِّسَاءِ الْفَرُوكُ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَغْلِبُهَا عَلَى الشَّبَقِ لِزُهْدِهَا فِي الرِّجَالِ .
وَقَالُوا : إنَّ الرَّجُلَ إذَا أَكْرَهَ الْمَرْأَةَ وَهِيَ مَذْعُورَةٌ ثُمَّ أَذُكِرَتْ أَنْجَبَتْ .
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْقِيَامَ بِمَا يَتَوَلَّاهُ النِّسَاءُ مِنْ تَدْبِيرِ الْمَنَازِلِ .
فَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِمُعَانَاةِ النِّسَاءِ فَلَيْسَ بِأَلْزَمَ حَالَتَيْ الزَّوْجَاتِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعَانِيَهُ غَيْرُهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ .
وَلِذَلِكَ ، قِيلَ : الْمَرْأَةُ رَيْحَانَةٌ وَلَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ .
وَلَيْسَ فِي هَذَا الْقَصْدِ تَأْثِيرٌ فِي دِينٍ وَلَا قَدَحٌ فِي مُرُوءَةٍ .
وَالْأَحْمَدُ فِي مِثْلِ هَذَا الْتِمَاسُ ذَوَاتِ الْأَسْنَانِ وَالْحُنْكَةِ مِمَّنْ قَدْ خَبَرْنَ تَدْبِيرَ الْمَنَازِلِ وَعَرَفْنَ عَادَاتِ الرِّجَالِ ، فَإِنَّهُنَّ أَقُومُ بِهَذَا الْحَالِ .
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودَ بِهِ الِاسْتِمْتَاعُ وَهِيَ أَذَمُّ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ وَأَوْهَنُهَا لِلْمُرُوءَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْقَادُ فِيهِ لِأَخْلَاقِهِ الْبَهِيمِيَّةِ ، وَيُتَابِعُ شَهْوَتَهُ الذَّمِيمَةَ .
وَقَدْ قَالَ الْحَارِثُ بْنُ النَّضْرِ الْأَزْدِيُّ : شَرُّ النِّكَاحِ نِكَاحُ الْغُلْمَةِ إلَّا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِكَسْرِ الشَّهْوَةِ وَقَهْرِهَا بِالْإِضْعَافِ لَهَا عِنْدَ الْغَلَبَةِ ، أَوْ تَسْكِينِ النَّفْسِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ ، حَتَّى لَا تَطْمَحَ لَهُ عَيْنٌ لِرِيبَةٍ وَلَا تُنَازِعَهُ نَفْسٌ إلَى فُجُورٍ ، وَلَا يَلْحَقَهُ فِي ذَلِكَ ذَمٌّ ، وَلَا يَنَالَهُ وَصْمٌ ، وَهُوَ بِالْحَمْدِ أَجْدَرُ وَبِالثَّنَاءِ أَحَقُّ .
وَلَوْ تَنَزَّهَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ عَنْ اسْتِبْذَالِ الْحَرَائِرِ إلَى الْإِمَاءِ كَانَ أَكْمَلَ لِمُرُوءَتِهِ ، وَأَبْلَغَ فِي صِيَانَتِهِ .
وَهَذِهِ الْحَالُ تَقِفُ عَلَى شَهَوَاتِ النُّفُوسِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَجَّحَ فِيهَا أَوْلَى الْأُمُورِ وَهِيَ أَخْطَرُ الْأَحْوَالِ بِالْمَنْكُوحَةِ ؛ لِأَنَّ لِلشَّهَوَاتِ غَايَاتٍ مُتَنَاهِيَةٍ يَزُولُ بِزَوَالِهَا مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهَا ، فَتَصِيرُ الشَّهْوَةُ فِي الِابْتِدَاءِ ، كَرَاهِيَةً فِي الِانْتِهَاءِ .
وَلِذَلِكَ كَرِهَتْ الْعَرَبُ الْبَنَاتِ وَوَأَدَتْهُنَّ إشْفَاقًا عَلَيْهِنَّ وَحَمِيَّةً لَهُنَّ مِنْ أَنْ يَتَبَذَّلَهُنَّ اللِّئَامُ بِهَذِهِ الْحَالِ .
وَكَانَ مَنْ تَحَوَّبَ مِنْ قَتْلِ الْبَنَاتِ لِرِقَّةٍ وَمَحَبَّةٍ كَانَ مَوْتُهُنَّ أَحَبَّ إلَيْهِ وَآثَرَ عِنْدَهُ .
وَلَمَّا خُطِبَ إلَى عَقِيلِ بْنِ عَلْقَمَةَ ابْنَتُهُ الْحِرْبَاءُ قَالَ : إنِّي وَإِنْ سَبَقَ إلَيَّ الْمَهْرُ ، أَلْفٌ وَعَبْدَانِ وَذُوَدٌ عَشْرٌ ، أَحَبُّ أَصْهَارِي إلَيَّ الْقَبْرُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ : لِكُلِّ أَبِي بِنْتٍ يُرَاعِي شُئُونَهَا ثَلَاثَةُ أَصْهَارٍ إذَا حُمِدَ الصِّهْرُ فَبَعْلٌ يُرَاعِيهَا وَخِدْرٌ يُكِنُّهَا وَقَبْرٌ يُوَارِيهَا وَأَفْضَلُهَا الْقَبْرُ فَصْلٌ وَأَمَّا الْمُؤَاخَاةُ بِالْمَوَدَّةِ ، وَهِيَ الرَّابِعُ مِنْ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ ؛ لِأَنَّهَا تُكْسِبُ بِصَادِقِ الْمَيْلِ إخْلَاصًا وَمُصَافَاةً ، وَيَحْدُثُ بِخُلُوصِ الْمُصَافَاةِ وَفَاءٌ وَمُحَامَاةٌ .
وَهَذَا أَعْلَى مَرَاتِبِ الْأُلْفَةِ ، وَلِذَلِكَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ ؛ لِتَزِيدَ أُلْفَتُهُمْ ، وَيَقْوَى تَظَافُرُهُمْ .
وَتَنَاصُرُهُمْ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَلَيْكُمْ بِإِخْوَانِ الصَّفَاءِ فَإِنَّهُمْ زِينَةٌ فِي الرَّخَاءِ وَعِصْمَةٌ فِي الْبَلَاءِ } ، وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمَرْءُ كَثِيرٌ بِأَخِيهِ وَلَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لَك مِنْ الْحَقِّ مِثْلَ مَا تَرَى لَهُ } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لِقَاءُ الْإِخْوَانِ جَلَاءُ الْأَحْزَانِ .
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ : إنَّ أَعْجَزَ النَّاسِ مَنْ قَصَّرَ فِي طَلَبِ الْإِخْوَانِ ، وَأَعْجَزَ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ .
وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لِابْنِهِ الْحَسَنِ : يَا بُنَيَّ الْغَرِيبُ مَنْ لَيْسَ لَهُ حَبِيبٌ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ : مَنْ اتَّخَذَ إخْوَانًا كَانُوا لَهُ أَعْوَانًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : أَفْضَلُ الذَّخَائِرِ أَخٌ وَفِيٌّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : صَدِيقٌ مُسَاعِدٌ عَضُدٌ وَسَاعِدٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : هُمُومُ رِجَالٍ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَهَمِّي مِنْ الدُّنْيَا صَدِيقٌ مُسَاعِدُ نَكُونُ كَرُوحٍ بَيْنَ جِسْمَيْنِ قُسِّمَتْ فَجِسْمَاهُمَا جِسْمَانِ وَالرُّوحُ وَاحِدُ وَقِيلَ : إنَّمَا سُمِّيَ الصَّدِيقُ صَدِيقًا لِصِدْقِهِ ، وَالْعَدُوُّ عَدُوًّا لِعَدْوِهِ عَلَيْك .
وَقَالَ ثَعْلَبٌ : إنَّمَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا ؛ لِأَنَّ مَحَبَّتَهُ تَتَخَلَّلُ الْقَلْبَ فَلَا تَدَعُ فِيهِ خَلَلًا إلَّا مَلَأَتْهُ .
وَأَنْشَدَ الرِّيَاشِيُّ قَوْلَ بَشَّارٍ : قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي وَبِهِ سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا .
وَالْمُؤَاخَاةُ فِي النَّاسِ قَدْ تَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أُخُوَّةٌ مُكْتَسَبَةٌ بِالِاتِّفَاقِ الْجَارِي مَجْرَى الِاضْطِرَارِ .
وَالثَّانِيَةُ : مُكْتَسَبَةٌ بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ .
فَأَمَّا الْمُكْتَسَبَةُ بِالِاتِّفَاقِ فَهِيَ أَوْكَدُ حَالًا ؛ لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَنْ أَسْبَابٍ تَعُودُ إلَيْهَا .
وَالْمُكْتَسَبَةُ بِالْقَصْدِ تُعْقَدُ لَهَا أَسْبَابٌ تَنْقَادُ إلَيْهَا .
وَمَا كَانَ جَارِيًا بِالطَّبْعِ فَهُوَ أَلْزَمُ مِمَّا هُوَ حَادِثٌ بِالْقَصْدِ .
وَنَحْنُ نَبْدَأُ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْمُكْتَسَبِ بِالِاتِّفَاقِ ثُمَّ نُعْقِبُهُ بِالْوَجْهِ الثَّانِي الْمُكْتَسَبُ بِالْقَصْدِ .
أَمَّا الْمُكْتَسَبُ بِالِاتِّفَاقِ فَلَهُ أَسْبَابٌ نَبْتَدِئُ بِهَا ثُمَّ نَنْتَقِلُ فِي غَايَةِ أَحْوَالِهِ الْمَحْدُودَةِ إلَى سَبْعِ مَرَاتِبَ رُبَّمَا اسْتَكْمَلْتُهُنَّ وَرُبَّمَا وَقَفْتُ عَلَى بَعْضِهِنَّ وَلِكُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ ذَلِكَ حُكْمٌ خَاصٌّ وَسَبَبٌ مُوجِبٌ .
قَالَ الشَّاعِرُ : مَا هَوَى إلَّا لَهُ سَبَبُ يَبْتَدِي مِنْهُ وَيَنْشَعِبُ فَأَوَّلُ أَسْبَابِ الْإِخَاءِ : التَّجَانُسُ فِي حَالٍ يَجْتَمِعَانِ فِيهَا وَيَأْتَلِفَانِ بِهَا ، فَإِنْ قَوِيَ التَّجَانُسُ قَوِيَ الِائْتِلَافُ بِهِ وَإِنْ ضَعُفَ كَانَ ضَعِيفًا مَا لَمْ تَحْدُثْ عِلَّةٌ أُخْرَى يَقْوَى بِهَا الِائْتِلَافُ .
وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِائْتِلَافَ بِالتَّشَاكُلِ ، وَالتَّشَاكُلُ بِالتَّجَانُسِ ، فَإِذَا عُدِمَ التَّجَانُسُ مِنْ وَجْهٍ انْتَفَى التَّشَاكُلُ مِنْ وَجْهٍ ، وَمَعَ انْتِفَاءِ التَّشَاكُلِ يُعْدَمُ الِائْتِلَافُ .
فَثَبَتَ أَنَّ التَّجَانُسَ ، وَإِنْ تَنَوَّعَ ، أَصْلُ الْإِخَاءِ وَقَاعِدَةُ الِائْتِلَافِ .
وَقَدْ رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ عُمَرَ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ } .
وَهَذَا وَاضِحٌ وَهِيَ بِالتَّجَانُسِ مُتَعَارِفَةٌ ، وَبِفَقْدِهِ مُتَنَاكِرَةٌ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْأَضْدَادُ لَا تَتَّفِقُ ، وَالْأَشْكَالُ لَا تَفْتَرِقُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بِحُسْنِ تُشَاكِلْ الْأَخَوَانِ يَلْبَثُ التَّوَاصُلُ .
وَلِبَعْضِهِمْ : فَلَا تَحْتَقِرْ نَفْسِي وَأَنْتَ خَلِيلُهَا فَكُلُّ امْرِئٍ يَصْبُو إلَى مَنْ يُشَاكِلُ وَقَالَ آخَرُ : فَقُلْتُ : أَخِي قَالُوا : أَخٌ مِنْ قَرَابَةٍ فَقُلْتُ لَهُمْ : إنَّ الشُّكُولَ أَقَارِبُ نَسِيبِي فِي رَأْيِي وَعَزْمِي وَهِمَّتِي وَإِنْ فَرَّقَتْنَا فِي الْأُصُولِ الْمُنَاسِبُ ثُمَّ يَحْدُثُ بِالتَّجَانُسِ الْمُوَاصَلَةُ بَيْنَ الْمُتَجَانِسَيْنِ ، وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الْإِخَاءِ .
وَسَبَبُ الْمُوَاصَلَةِ بَيْنَهُمَا وُجُودُ الِاتِّفَاقِ مِنْهُمَا فَصَارَتْ الْمُوَاصَلَةُ نَتِيجَةَ التَّجَانُسِ ، وَالسَّبَبُ فِيهِ وُجُودُ الِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الِاتِّفَاقِ مُنَفِّرٍ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : النَّاسُ إنْ وَافَقْتهمْ عَذُبُوا أَوْ لَا فَإِنَّ جَنَاهُمْ مُرُّ كَمْ مِنْ رِيَاضٍ لَا أَنِيسَ بِهَا تُرِكَتْ لِأَنَّ طَرِيقَهَا وَعْرُ ثُمَّ يَحْدُثُ عَنْ الْمُوَاصَلَةِ رُتْبَةٌ ثَالِثَةٌ ، وَسَبَبُهَا الِانْبِسَاطُ .
ثُمَّ يَحْدُثُ عَنْ الْمُؤَانَسَةِ رُتْبَةٌ رَابِعَةٌ وَهِيَ الْمُصَافَاةُ ، وَسَبَبُهَا خُلُوصُ النِّيَّةِ .
وَرُتْبَةٌ خَامِسَةٌ وَهِيَ الْمَوَدَّةُ ، وَسَبَبُهَا الثِّقَةُ .
وَهَذِهِ الرُّتْبَةُ هِيَ أَدْنَى الْكَمَالِ فِي أَحْوَالِ الْإِخَاءِ وَمَا قَبْلَهَا أَسْبَابٌ تَعُودُ إلَيْهَا فَإِنْ اقْتَرَنَ بِهَا الْمُعَاضَدَةُ فَهِيَ الصَّدَاقَةُ .
ثُمَّ يَحْدُثُ عَنْ الْمَوَدَّةِ رُتْبَةٌ سَادِسَةٌ ، وَهِيَ الْمَحَبَّةُ ، وَسَبَبُهَا الِاسْتِحْسَانُ .
فَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ لِفَضَائِلِ النَّفْسِ حَدَثَتْ رُتْبَةٌ سَابِعَةٌ ، وَهِيَ الْإِعْظَامُ .
وَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ لِلصُّورَةِ وَالْحَرَكَاتِ حَدَثَتْ رُتْبَةٌ ثَامِنَةٌ ، وَهِيَ الْعِشْقُ وَسَبَبُهُ الطَّمَعُ .
وَقَدْ قَالَ الْمَأْمُونُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : أَوَّلُ الْعِشْقِ مِزَاحٌ وَوَلَعْ ثُمَّ يَزْدَادُ إذَا زَادَ الطَّمَعْ كُلُّ مَنْ يَهْوَى وَإِنْ غَالَتْ بِهِ رُتْبَةُ الْمِلْكِ لِمَنْ يَهْوَى تَبَعْ وَهَذِهِ الرُّتْبَةُ آخِرُ الرُّتَبِ الْمَحْدُودَةِ ، وَلَيْسَ لِمَا جَاوَزَهَا رُتْبَةٌ مُقَدَّرَةٌ ، وَلَا حَالَةٌ مَحْدُودَةٌ ؛
لِأَنَّهَا قَدْ تُؤَدِّي إلَى مُمَازَجَةِ النُّفُوسِ وَإِنْ تَمَيَّزَتْ ذَوَاتُهَا ، وَتُفْضِي إلَى مُخَالَطَةِ الْأَرْوَاحِ وَإِنْ تَفَارَقَتْ أَجْسَادُهَا .
وَهَذِهِ حَالَةٌ لَا يُمْكِنُ حَصْرُ غَايَتِهَا ، وَلَا الْوُقُوفُ عِنْدَ نِهَايَتِهَا .
وَقَدْ قَالَ الْكِنْدِيُّ : الصَّدِيقُ إنْسَانٌ هُوَ أَنْتَ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُك .
وَمِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَقْطَعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ أَرْضًا وَكَتَبَ لَهُ بِهَا كِتَابًا ، وَأَشْهَدَ فِيهِ نَاسًا مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، فَأَتَى طَلْحَةُ بِكِتَابِهِ إلَى عُمَرَ لِيَخْتِمَهُ ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ ، فَرَجَعَ طَلْحَةُ مُغْضَبًا إلَى أَبِي بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي أَنْتَ الْخَلِيفَةُ أَمْ عُمَرُ ؟ فَقَالَ : بَلْ عُمَرُ ، لَكِنَّهُ أَنَا .
وَأَمَّا الْمُكْتَسَبَةُ بِالْقَصْدِ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إلَيْهَا ، وَبَاعِثٍ يَبْعَثُ عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : رَغْبَةٌ وَفَاقَةٌ .
فَأَمَّا الرَّغْبَةُ فَهِيَ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ الْإِنْسَانِ فَضَائِلُ تَبْعَثُ عَلَى إخَائِهِ ، وَيَتَوَسَّمُ بِجَمِيلٍ يَدْعُو إلَى اصْطِفَائِهِ .
وَهَذِهِ الْحَالَةُ أَقْوَى مِنْ الَّتِي بَعْدَهَا لِظُهُورِ الصِّفَاتِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ لِطَلَبِهَا ، وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَيْهَا مِنْ الِاغْتِرَارِ بِالتَّصَنُّعِ لَهَا .
فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْخَيْرَ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَلَا كُلُّ مَنْ تَخَلَّقَ بِالْحُسْنَى كَانَتْ مِنْ طَبْعِهِ .
وَالْمُتَكَلِّفُ لِلشَّيْءِ مُنَافٍ لَهُ إلَّا أَنْ يَدُومَ عَلَيْهِ مُسْتَحْسِنًا لَهُ فِي الْعَقْلِ ، أَوْ مُتَدَيَّنًا بِهِ فِي الشَّرْعِ ، فَيَصِيرَ مُتَطَبِّعًا بِهِ لَا مَطْبُوعًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الْحُكَمَاءِ : لَيْسَ فِي الطَّبْعِ أَنْ يَكُونَ مَا لَيْسَ فِي التَّطَبُّعِ .
ثُمَّ نَقُولُ مِنْ الْمُتَعَذَّرِ أَنْ تَكُونَ أَخْلَاقُ الْفَاضِلِ كَامِلَةً بِالطَّبْعِ ، وَإِنَّمَا الْأَغْلَبُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ فَضَائِلِهِ بِالطَّبْعِ ، وَبَعْضُهَا بِالتَّطَبُّعِ الْجَارِي
بِالْعَادَةِ مَجْرَى الطَّبْعِ ، حَتَّى يَصِيرَ مَا تَطَبَّعَ بِهِ فِي الْعَادَةِ أَغْلَبُ عَلَيْهِ مِمَّا كَانَ مَطْبُوعًا عَلَيْهِ إذْ خَالَفَ الْعَادَةَ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : الْعَادَةُ طَبْعٌ ثَانٍ .
وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَاعْلَمْ بِأَنَّ النَّاسَ مِنْ طِينَةٍ يَصْدُقُ فِي الثَّلْبِ لَهَا الثَّالِبُ لَوْلَا عِلَاجُ النَّاسِ أَخْلَاقَهُمْ إذَنْ لَفَاحَ الْحَمَأُ اللَّازِبُ وَأَمَّا الْفَاقَةُ فَهِيَ أَنْ يَفْتَقِرَ الْإِنْسَانُ ؛ لِوَحْشَةِ انْفِرَادِهِ وَمَهَانَةِ وَحْدَتِهِ ، إلَى اصْطِفَاءِ مَنْ يَأْنِسُ بِمُوَاخَاتِهِ وَيَثِقُ بِنُصْرَتِهِ وَمُوَالَاتِهِ .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : مَنْ لَمْ يَرْغَبْ بِثَلَاثٍ بُلِيَ بِسِتٍّ : مَنْ لَمْ يَرْغَبْ فِي الْإِخْوَانِ بُلِيَ بِالْعَدَاوَةِ وَالْخِذْلَانِ ، وَمَنْ لَمْ يَرْغَبْ فِي السَّلَامَةِ بُلِيَ بِالشَّدَائِدِ وَالِامْتِهَانِ ، وَمِنْ لَمْ يَرْغَبْ فِي الْمَعْرُوفِ بُلِيَ بِالنَّدَامَةِ وَالْخُسْرَانِ .
وَلَعَمْرِي إنَّ إخْوَانَ الصِّدْقِ مِنْ أَنْفَسِ الذَّخَائِرِ وَأَفْضَلِ الْعُدَدِ ؛ لِأَنَّهُمْ سَهْمَاءُ النُّفُوسِ وَأَوْلِيَاءُ النَّوَائِبِ .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ رُبَّ صِدِّيقٍ أَوَدُّ مِنْ شَقِيقٍ .
وَقِيلَ لِمُعَاوِيَةَ : أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك ؟ قَالَ : صَدِيقٌ يُحَبِّبُنِي إلَى النَّاسِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ : الْقَرِيبُ بِعَدَاوَتِهِ بَعِيدٌ ، وَالْبَعِيدُ بِمَوَدَّتِهِ قَرِيبٌ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : لَمَوَدَّةٌ مِمَّنْ يُحِبُّك مُخْلِصًا خَيْرٌ مِنْ الرَّحِمِ الْقَرِيبِ الْكَاشِحِ وَقَالَ آخَرُ : يَخُونُك ذُو الْقُرْبَى مِرَارًا وَرُبَّمَا وَفَّى لَك عِنْدَ الْعَهْدِ مَنْ لَا تُنَاسِبُهْ فَإِذَا عَزَمَ عَلَى اصْطِفَاءِ الْإِخْوَانِ سَبَرَ أَحْوَالَهُمْ قَبْلَ إخَائِهِمْ ، وَكَشَفَ عَنْ أَخْلَاقِهِمْ قَبْلَ اصْطِفَائِهِمْ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْحُكَمَاءِ : أَسْبِرْ تُخْبَرْ .
وَلَا تَبْعَثُهُ الْوَحْدَةُ عَلَى الْإِقْدَامِ قَبْلَ الْخِبْرَةِ ، وَلَا حُسْنُ الظَّنِّ عَلَى الِاغْتِرَارِ بِالتَّصَنُّعِ .
فَإِنَّ الْمَلَقَ مَصَائِدُ الْعُقُولِ ، وَالنِّفَاقَ تَدْلِيسُ الْفِطَنِ ، وَهُمَا سَجِيَّةُ الْمُتَصَنِّعِ .
وَلَيْسَ فِيمَنْ يَكُونُ النِّفَاقُ
وَالْمَلْقُ بَعْضَ سَجَايَاهُ خَيْرٌ يُرْجَى ، وَلَا صَلَاحُ يُؤَمَّلُ .
وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : اعْرِفْ الرَّجُلَ مِنْ فِعْلِهِ لَا مِنْ كَلَامِهِ ، وَاعْرِفْ مَحَبَّتَهُ مِنْ عَيْنِهِ لَا مِنْ لِسَانِهِ .
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ : إنَّمَا أَنْفَقْت عَلَى إخْوَانِي ؛ لِأَنِّي لَمْ أَسْتَعْمِلْ مَعَهُمْ النِّفَاقَ وَلَا قَصَّرْت بِهِمْ عَنْ الِاسْتِحْقَاقِ .
وَقَالَ حَمَّادُ عَجْرَدُ : كَمْ مِنْ أَخٍ لَك لَيْسَ تُنْكِرُهُ مَا دُمْت فِي دُنْيَاك فِي يَسْرِ مُتَصَنِّعٌ لَك فِي مَوَدَّتِهِ يَلْقَاك بِالتَّرْحِيبِ وَالْبِشْرِ فَإِذَا عَدَا وَالدَّهْرُ ذُو غِيَرٍ دَهْرٌ عَلَيْك عَدَا مَعَ الدَّهْرِ فَارْفُضْ بِإِجْمَالٍ مَوَدَّةَ مَنْ يَقْلِي الْمُقِلَّ وَيَعْشَقُ الْمُثْرِي وَعَلَيْك مَنْ حَالَاهُ وَاحِدَةٌ فِي الْعُسْرِ إمَّا كُنْت وَالْيُسْرِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَوْسُومٌ بِسِيمَاءِ مَنْ قَارَبَ ، وَمَنْسُوبٌ إلَيْهِ أَفَاعِيلُ مَنْ صَاحَبَ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الصَّاحِبُ مُنَاسِبٌ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا مِنْ شَيْءٍ أَدَلُّ عَلَى شَيْءٍ وَلَا الدُّخَانِ عَلَى النَّارِ مِنْ الصَّاحِبِ عَلَى الصَّاحِبِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : اعْرِفْ أَخَاك بِأَخِيهِ قَبْلَك .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : يُظَنُّ بِالْمَرْءِ مَا يُظَنُّ بِقَرِينِهِ .
وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ : عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي إذَا كُنْت فِي قَوْمٍ فَصَاحِبْ خِيَارَهُمْ وَلَا تَصْحَبْ الْأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي فَلَزِمَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ دُخَلَاءِ السُّوءِ ، وَيُجَانِبَ أَهْلَ الرِّيَبِ ، لِيَكُونَ مَوْفُورَ الْعَرْضِ سَلِيمَ الْعَيْبِ ، فَلَا يُلَامُ بِمَلَامَةِ غَيْرِهِ .
وَلِهَذَا قِيلَ : التَّثَبُّتُ وَالِارْتِيَاءُ ، وَمُدَاوَمَةُ الِاخْتِيَارِ وَالِابْتِلَاءُ ، مُتَعَذِّرٌ بَلْ مَفْقُودٌ .
وَقَدْ ضَرَبَ ذُو الرُّمَّةِ مَثَلًا بِالْمَاءِ فِيمَنْ حَسُنَ ظَاهِرُهُ ، وَخَبُثَ بَاطِنُهُ ،
فَقَالَ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَاءَ يَخْبُثُ طَعْمُهُ وَإِنْ كَانَ لَوْنُ الْمَاءِ أَبْيَضَ صَافِيَا وَنَظَرَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ إلَى رَجُلِ سُوءٍ حَسَنِ الْوَجْهِ فَقَالَ : أَمَّا الْبَيْتُ فَحَسَنٌ ، وَأَمَّا السَّاكِنُ فَرَدِيءٌ .
فَأَخَذَ جَحْظَةُ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ : رَبِّ مَا أَبْيَنَ التَّبَايُنَ فِيهِ مَنْزِلٌ عَامِرٌ وَعَقْلٌ خَرَابُ وَأَنْشَدَ فِي بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ : لَا تَرْكَنَنَّ إلَى ذِي مَنْظَرٍ حَسَنٍ فَرُبَّ رَائِقَةٍ قَدْ سَاءَ مَخْبَرُهَا مَا كُلُّ أَصْفَرَ دِينَارٌ لِصُفْرَتِهِ صُفْرُ الْعَقَارِبِ أَرْدَاهَا وَأَنْكَرَهَا ثُمَّ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ لَمْ يُقَدِّمْ الِامْتِحَانَ قَبْلَ الثِّقَةِ ، وَالثِّقَةَ قَبْلَ أُنْسٍ ، أَثْمَرَتْ مَوَدَّتُهُ نَدَمًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مُصَارَمَةٌ قَبْلَ اخْتِبَارٍ ، أَفْضَلُ مِنْ مُؤَاخَاةٍ عَلَى اغْتِرَارٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : لَا تَثِقْ بِالصِّدِّيقِ قَبْلَ الْخِبْرَةِ ، وَلَا نَفْعَ بِالْعَدْوِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : لَا تَحْمَدَنَّ امْرَأً حَتَّى تُجَرِّبَهُ وَلَا تَذُمَّنَّهُ مِنْ غَيْرِ تَجْرِيبِ فَحَمْدُك الْمَرْءَ مَا لَمْ تُبْلِهِ خَطَأٌ وَذَمُّهُ بَعْدَ حَمْدٍ شَرُّ تَكْذِيبِ
وَإِذًا قَدْ لَزِمَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ سَبْرُ الْإِخْوَانِ قَبْلَ إخَائِهِمْ ، وَخِبْرَةُ أَخْلَاقِهِمْ قَبْلَ اصْطِفَائِهِمْ .
المصادر : راسخون 2018