إِنَّ شَرَّ الْأَبْنَاءِ مَنْ دَعَاهُ التَّقْصِيرُ إلَى الْعُقُوقِ ، وَشَرَّ الْآبَاءِ مَنْ دَعَاهُ الْبِرُّ إلَى الْإِفْرَاطِ .
وَالْأُمَّهَاتُ أَكْثَرُ إشْفَاقًا وَأَوْفَرُ حُبًّا لِمَا بَاشَرْنَ مِنْ الْوِلَادَةِ وَعَانَيْنَ مِنْ التَّرْبِيَةِ فَإِنَّهُنَّ أَرَقُّ قُلُوبًا وَأَلْيَنُ نُفُوسًا .
وَبِحَسَبِ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّعَطُّفُ عَلَيْهِنَّ أَوْفَرَ جَزَاءٍ لِفِعْلِهِنَّ ، وَكِفَاءً لِحَقِّهِنَّ ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَشْرَكَ بَيْنَهُمَا فِي الْبِرِّ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ ، فَقَالَ تَعَالَى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدِيهِ حُسْنًا } .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ { رَجُلًا أَتَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ لِي أُمًّا أَنَا مُطِيعُهَا أُقْعِدُهَا عَلَى ظَهْرِي ، وَلَا أَصْرِفُ عَنْهَا وَجْهِي ، وَأَرُدُّ إلَيْهَا كَسْبِي ، فَهَلْ جَزَيْتهَا ؟ قَالَ لَا وَلَا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ .
قَالَ : وَلِمَ ؟ قَالَ : لِأَنَّهَا كَانَتْ تَخْدُمُك وَهِيَ تُحِبُّ حَيَاتَك ، وَأَنْتَ تَخْدُمُهَا وَتُحِبُّ مَوْتَهَا } .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : حَقُّ الْوَالِدِ أَعْظَمُ ، وَبِرُّ الْوَالِدِ أَلْزَمُ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَنْهَاكُمْ عَنْ عُقُوقِ الْأُمَّهَاتِ ، وَوَأْدِ الْبَنَاتِ ، وَمَنْعٍ وَهَاتِ } .
وَرَوَى خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ عَنْ الْمِقْدَامِ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ } .
وَأَمَّا الْمَوْلُودُونَ فَهُمْ الْأَوْلَادُ وَأَوْلَادُ الْأَوْلَادِ .
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي وَلَدَ الْوَلَدِ الصَّفْوَةَ .
وَهُمْ مُخْتَصُّونَ مَعَ سَلَامَةِ أَحْوَالِهِمْ بِخُلُقَيْنِ : أَحَدُهُمَا لَازِمٌ ، وَالْآخَرُ مُنْتَقِلٌ .
فَأَمَّا اللَّازِمُ فَهُوَ الْأَنَفَةُ لِلْآبَاءِ مِنْ تَهَضُّمٍ أَوْ خُمُولٍ .
وَالْأَنَفَةُ فِي الْأَبْنَاءِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِشْفَاقِ فِي الْآبَاءِ .
وَقَدْ لَحَظَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ هَذَا الْمَعْنَى فِي شَعْرِهِ فَقَالَ : فَأَصْبَحْت يَلْقَانِي الزَّمَانُ لِأَجْلِهِ بِإِعْظَامِ مَوْلُودٍ وَإِشْفَاقِ وَالِدِ فَأَمَّا الْمُنْتَقِلُ فَهُوَ الْإِدْلَالُ ، وَهُوَ أَوَّلُ حَالِ الْوَلَدِ ، وَالْإِدْلَالُ فِي الْأَبْنَاءِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَحَبَّةِ فِي الْآبَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ بِالْآبَاءِ أَخَصُّ ، وَالْإِدْلَالَ بِالْأَبْنَاءِ أَمَسُّ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُنَا نَرِقُّ عَلَى أَوْلَادِنَا وَلَا يَرِقُّونَ عَلَيْنَا ؟ قَالَ : لِأَنَّا وَلَدْنَاهُمْ وَلَمْ يَلِدُونَا } .
ثُمَّ الْإِدْلَالُ فِي الْأَبْنَاءِ قَدْ يَنْتَقِلُ مَعَ الْكِبَرِ إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا الْبِرُّ وَالْإِعْظَامُ ، وَإِمَّا إلَى الْجَفَاءِ وَالْعُقُوقِ .
فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ رَشِيدًا أَوْ كَانَ الْأَبُ بَرًّا عَطُوفًا صَارَ الْإِدْلَالُ بِرًّا وَإِعْظَامًا .
وَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ عَامِرِ بْنِ شَرَاحِيلَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : { إنَّ حَقَّ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ أَنْ يَخْشَعَ لَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ ، وَيُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ النَّصَبِ وَالسَّغَبِ .
فَإِنَّ الْمُكَافِئَ لَيْسَ بِالْوَاصِلِ وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ مَنْ إذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا } .
وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ غَاوِيًا أَوْ كَانَ الْوَالِدُ جَافِيًا صَارَ الْإِدْلَالُ قَطِيعَةً وَعُقُوقًا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ } .
وَبُشِّرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَوْلُودٍ فَقَالَ : رَيْحَانَةٌ أَشُمُّهَا ثُمَّ هُوَ عَنْ قَرِيبٍ وَلَدٌ بَارٌّ أَوْ عَدُوٌّ ضَارٌّ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْعُقُوقُ ثَكْلُ مَنْ لَمْ يُثْكَلْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : ابْنُك رَيْحَانُك سَبْعًا ، وَخَادِمُك سَبْعًا وَوَزِيرُك سَبْعًا ، ثُمَّ هُوَ صِدِّيقٌ أَوْ عَدُوٌّ .
وَأَمَّا الْمُنَاسِبُونَ فَهُمْ مِنْ عَدَا الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ مِمَّنْ يَرْجِعُ بِتَعْصِيبٍ أَوْ رَحِمٍ .
وَاَلَّذِي يَخْتَصُّونَ بِهِ الْحَمِيَّةُ الْبَاعِثَةُ عَلَى النُّصْرَةِ ، وَهِيَ أَدْنَى رُتْبَةِ الْأَنَفَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَنَفَةَ تَمْنَعُ مِنْ التَّهَضُّمِ وَالْخُمُولِ مَعًا ، وَالْحَمِيَّةُ تَمْنَعُ مِنْ التَّهَضُّمِ وَلَيْسَ لَهَا فِي كَرَاهَةِ الْخُمُولِ نَصِيبٌ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يَبْعَثُ عَلَى الْأُلْفَةِ .
وَحَمِيَّةُ الْمُنَاسِبِينَ إنَّمَا تَدْعُو إلَى النُّصْرَةِ عَلَى الْبُعَدَاءِ وَالْأَجَانِبِ ، وَهِيَ مُعَرَّضَةٌ لِحَسَدِ الْأَدَانِي وَالْأَقَارِبِ ، مَوْكُولَةٌ إلَى مُنَافَسَةِ الصَّاحِبِ بِالصَّاحِبِ ، فَإِنْ حُرِسَتْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّلَاطُفِ تَأَكَّدَتْ أَسْبَابُهَا وَاقْتَرَنَ بِحَمِيَّةِ النَّسَبِ مُصَافَاةُ الْمَوَدَّةِ ، وَذَلِكَ أَوْكَدُ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ .
وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ قُرَيْشٍ : أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك أَخُوك أَوْ صَدِيقُك ؟ قَالَ : أَخِي إذَا كَانَ صَدِيقًا .
وَقَالَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ : الْعَيْشُ فِي ثَلَاثٍ : سَعَةُ الْمَنْزِلِ ، وَكَثْرَةُ الْخَدَمِ ، وَمُوَافَقَةُ الْأَهْلِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْبَعِيدُ قَرِيبٌ بِمَوَدَّتِهِ ، وَالْقَرِيبُ بَعِيدٌ بِعَدَاوَتِهِ .
وَإِنْ أُهْمِلَتْ الْحَالُ بَيْنَ الْمُتَنَاسِبِينَ ثِقَةً بِلُحْمَةِ النَّسَبِ ، وَاعْتِمَادًا عَلَى حَمِيَّةٍ الْقَرَابَةِ ، غَلَبَ عَلَيْهَا مَقْتُ الْحَسَدِ وَمُنَازَعَةُ التَّنَافُسِ ، فَصَارَتْ الْمُنَاسَبَةُ عَدَاوَةً وَالْقَرَابَةُ بُعْدًا .
وَقَالَ الْكِنْدِيُّ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ : الْأَبُ رَبٌّ ، وَالْوَلَدُ كَمَدٌ وَالْأَخُ فَخٌّ ، وَالْعَمُّ غَمٌّ وَالْخَالُ وَبَالٌ ، وَالْأَقَارِبُ عَقَارِبُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ : لُحُومُهُمْ لَحْمِي وَهُمْ يَأْكُلُونَهُ وَمَا دَاهِيَاتُ الْمَرْءِ إلَّا أَقَارِبُهُ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ ، وَأَثْنَى
عَلَى وَاصِلِهَا فَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } .
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : هِيَ الرَّحِمُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهَا ، وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فِي قَطْعِهَا ، وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ فِي الْمُعَاقَبَةِ عَلَيْهَا .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ اشْتَقَقْتُ لَهَا مِنْ اسْمِي اسْمًا فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { صِلَةُ الرَّحِمِ مَنْمَاةٌ لَلْعَدَدِ ، مَثْرَاةٌ لِلْمَالِ ، مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ ، مَنْسَأَةٌ فِي الْأَجَلِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بُلُّوا أَرْحَامَكُمْ بِالْحُقُوقِ ، وَلَا تَجْفُوهَا بِالْعُقُوقِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : صِلُوا أَرْحَامَكُمْ فَإِنَّهَا لَا تُبْلَى عَلَيْهَا أُصُولُكُمْ ، وَلَا تُهْضَمُ عَلَيْهَا فُرُوعُكُمْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ لَمْ يَصْلُحْ لِأَهْلِهِ لَمْ يَصْلُحْ لَك ، وَمَنْ لَمْ يَذُبَّ عَنْهُمْ لَمْ يَذُبَّ عَنْك .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ : مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللَّهُ وَرَحِمَهُ ، وَمَنْ أَجَارَ جَارَهُ أَعَانَهُ اللَّهُ وَجَارَهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيُّ : وَحَسْبُك مِنْ ذُلٍّ وَسُوءِ صَنِيعَةٍ مُنَاوَاةُ ذِي الْقُرْبَى وَإِنْ قِيلَ قَاطِعُ وَلَكِنْ أُوَاسِيهِ وَأَنْسَى ذُنُوبَهُ لِتُرْجِعَهُ يَوْمًا إلَيَّ الرَّوَاجِعُ وَلَا يَسْتَوِي فِي الْحُكْمِ عَبْدَانِ : وَاصِلٌ وَعَبْدٌ لِأَرْحَامِ الْقَرَابَةِ قَاطِعُ
وَأَمَّا الْمُصَاهَرَةُ : وَهِيَ الثَّالِثُ مِنْ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ فَلِأَنَّهَا اسْتِحْدَاثُ مُوَاصَلَةٍ ، وَتَمَازُجُ مُنَاسَبَةٍ ، صَدَرَا عَنْ رَغْبَةٍ وَاخْتِيَارٍ ، انْعَقَدَا عَلَى خَيْرٍ وَإِيثَارٍ ، فَاجْتَمَعَ فِيهَا أَسْبَابُ الْأُلْفَةِ وَمَوَادُّ الْمُظَاهَرَةِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } يَعْنِي بِالْمَوَدَّةِ الْمَحَبَّةَ ، وَبِالرَّحْمَةِ الْحُنُوَّ وَالشَّفَقَةَ ، وَهُمَا مِنْ أَوْكَدِ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ .
وَفِيهَا تَأْوِيلٌ آخَرُ قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ الْمَوَدَّةَ النِّكَاحُ ، وَالرَّحْمَةَ الْوَلَدُ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً } .
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْحَفَدَةِ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : هُمْ أَخْتَانُ الرَّجُلِ عَلَى بَنَاتِهِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : هُمْ وَلَدُ الرَّجُلِ وَوَلَدُ وَلَدِهِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمْ بَنُو امْرَأَةِ الرَّجُلِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَسُمُّوا حَفَدَةً لِتَحَفُّدِهِمْ فِي الْخِدْمَةِ وَسُرْعَتِهِمْ فِي الْعَمَلِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْقُنُوتِ ، وَإِلَيْك نَسْعَى ، وَنَحْفِدُ أَيْ نُسْرِعُ إلَى الْعَمَلِ بِطَاعَتِك .
وَلَمْ تَزَلْ الْعَرَبُ تَجْتَذِبُ الْبُعَدَاءَ ، وَتَتَأَلَّفُ الْأَعْدَاءَ بِالْمُصَاهَرَةِ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُنَافِرُ مُؤَانِسًا ، وَيَصِيرَ الْعَدُوُّ مُوَالِيًا ، وَقَدْ يَصِيرُ لِلصِّهْرِ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ أُلْفَةٌ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ وَمُوَالَاةٌ بَيْنَ الْعَشِيرَتَيْنِ .
حُكِيَ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ أَبْغَضُ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَيَّ آلَ الزُّبَيْرِ حَتَّى تَزَوَّجْت مِنْهُمْ أَرْمَلَةً فَصَارُوا أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَيَّ .
وَفِيهَا يَقُولُ : أُحِبُّ بَنِي الْعَوَّامِ طُرًّا لِأَجْلِهَا وَمِنْ أَجْلِهَا أَحْبَبْت أَخْوَالَهَا كَلْبَا فَإِنْ تُسْلِمِي نُسْلِمْ وَإِنْ تَتَنَصَّرِي يَحُطُّ رِجَالٌ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ صُلْبَا وَلِذَلِكَ قِيلَ : الْمَرْءُ عَلَى دَيْنِ زَوْجَتِهِ ، لِمَا يَسْتَنْزِلُهُ الْمَيْلُ إلَيْهَا مِنْ الْمُتَابَعَةِ ، وَيَجْتَذِبُهُ الْحُبُّ لَهَا مِنْ الْمُوَافَقَةِ ، فَلَا يَجِدُ إلَى الْمُخَالَفَةِ سَبِيلًا ، وَلَا إلَى الْمُبَايَنَةِ وَالْمُشَاقَّةِ طَرِيقًا .
وَإِذَا كَانَتْ الْمُصَاهَرَةُ لِلنِّكَاحِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنْ الْأُلْفَةِ فَقَدْ يَنْبَغِي لِعَقْدِهَا أَحَدُ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ وَهِيَ : الْمَالُ وَالْجَمَالُ وَالدِّينُ وَالْأُلْفَةُ وَالتَّعَفُّفُ .
وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ : لِمَالِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِدِينِهَا ، فَعَلَيْك بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك } .
فَإِنْ كَانَ عَقْدُ النِّكَاحِ لِأَجْلِ الْمَالِ وَكَانَ أَقْوَى الدَّوَاعِي إلَيْهِ ، فَالْمَالُ إذًا هُوَ الْمَنْكُوحُ فَإِنْ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ أَحَدُ الْأَسْبَابِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الِائْتِلَافِ جَازَ أَنْ يَلْبَثَ الْعَقْدُ وَتَدُومَ الْأُلْفَةُ فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ وَعَرِيَ عَمَّا سِوَاهُ مِنْ الْمَوَادِّ فَأَخْلِقْ بِالْعَقْدِ أَنْ يَنْحَلَّ وَبِالْأُلْفَةِ أَنْ تَزُولَ ، لَا سِيَّمَا إذَا غَلَبَ الطَّمَعُ وَقَلَّ الْوَفَاءُ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ إنْ وُصِلَ إلَيْهِ فَقَدْ يَنْقَضِي سَبَبُ الْأُلْفَةِ بِهِ .
فَقَدْ قِيلَ : مَنْ وَدَكَّ لِشَيْءٍ تَوَلَّى مَعَ انْقِضَائِهِ .
وَإِنْ أَعْوَزَ الْوُصُولُ إلَيْهِ وَتَعَذَّرَتْ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ أَعْقَبَ ذَلِكَ اسْتِهَانَةَ الْآيِسِ بَعْدَ شِدَّةِ الْأَمَلِ فَحَدَثَتْ مِنْهُ عَدَاوَةُ الْخَائِبِ بَعْدَ اسْتِحْكَامِ الطَّمَعِ ، فَصَارَتْ الْوَصْلَةُ فُرْقَةً وَالْأُلْفَةُ عَدَاوَةً .
وَقَدْ قِيلَ : مَنْ وَدَكَّ طَمَعًا فِيك أَبْغَضَك إذَا أَيِسَ مِنْك .
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : مَنْ عَظَّمَك لِإِكْثَارِك اسْتَقَلَّك عِنْدَ إقْلَالِك .
فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ رَغْبَةً فِي الْجَمَالِ ، فَذَلِكَ أَدْوَمُ لِلْأُلْفَةِ مِنْ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ ، وَالْمَالَ صِفَةٌ زَائِلَةٌ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : حُسْنُ الصُّورَةِ أَوَّلُ السَّعَادَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَحْسَنُهُنَّ وَجْهًا وَأَقَلُّهُنَّ مَهْرًا } .
فَإِنْ سَلِمَتْ الْحَالُ مِنْ الْإِدْلَالِ الْمُفْضِي إلَى الْمَلَالِ اسْتَدَامَتْ الْأُلْفَةُ وَاسْتَحْكَمَتْ الْوَصْلَةُ .
وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْجَمَالَ الْبَارِعَ إمَّا لِمَا يَحْدُثُ عَنْهُ مِنْ شِدَّةِ الْإِدْلَالِ وَقَدْ قِيلَ : مَنْ بَسَطَهُ الْإِدْلَالُ قَبَضَهُ الْإِذْلَالُ وَإِمَّا لِمَا يُخَافُ مِنْ مِحْنَةِ الرَّغْبَةِ ، وَبَلْوَى الْمُنَازَعَةِ .
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا شَاوَرَ حَكِيمًا فِي التَّزَوُّجِ فَقَالَ لَهُ : افْعَلْ وَإِيَّاكَ وَالْجَمَالَ الْبَارِعَ ، فَإِنَّهُ مَرْعًى أَنِيقٌ .
فَقَالَ الرَّجُلُ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ : وَلَنْ تُصَادِفَ مَرْعًى مُمْرَعًا أَبَدًا إلَّا وَجَدْت بِهِ آثَارَ مُنْتَجِعِ وَإِمَّا لِمَا يَخَافُهُ اللَّبِيبُ مِنْ شِدَّةِ الصَّبْوَةِ ، وَيَتَوَقَّاهُ الْحَازِمُ مِنْ سُوءِ عَوَاقِبِ الْفِتْنَةِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إيَّاكَ وَمُخَالَطَةَ النِّسَاءِ فَإِنَّ لَحْظَ الْمَرْأَةِ سَهْمٌ ، وَلَفْظَهَا سُمٌّ .
وَرَأَى بَعْضُ الْحُكَمَاءِ صَيَّادًا يُكَلِّمُ امْرَأَةً فَقَالَ : يَا صَيَّادُ ، احْذَرْ أَنْ تُصَادَ .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، لِابْنِهِ : امْشِ وَرَاءَ الْأَسَدِ وَلَا تَمْشِ وَرَاءَ الْمَرْأَةِ .
وَسَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ امْرَأَةً تَقُولُ هَذَا الْبَيْتَ : إنَّ النِّسَاءَ رَيَاحِينُ خُلِقْنَ لَكُمْ وَكُلُّكُمْ يَشْتَهِي شَمَّ الرَّيَاحِينِ فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ النِّسَاءَ شَيَاطِينُ خُلِقْنَ لَنَا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ الشَّيَاطِينِ وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ رَغْبَةً فِي الدِّينِ فَهُوَ أَوْثَقُ الْعُقُودِ حَالًا وَأَدْوَمُهَا أُلْفَةً وَأَحْمَدُهَا بَدْءًا وَعَاقِبَةً ؛ لِأَنَّ طَالِبَ الدِّينِ مُتَّبِعٌ لَهُ وَمَنْ اتَّبَعَ الدِّينَ انْقَادَ لَهُ ، فَاسْتَقَامَتْ لَهُ حَالُهُ ، وَأَمِنَ زَلَلَهُ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَاظْفَرْبِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك } وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَرِبَتْ يَدَاك إنْ لَمْ تَظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا كَلِمَةٌ تُذْكَرُ لِلْمُبَالَغَةِ وَلَا يُرَادُ بِهَا سُوءٌ ، كَقَوْلِهِمْ : مَا أَشْجَعَهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ .
وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ رَغْبَةً فِي الْأُلْفَةِ فَهَذَا يَكُونُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ .
إمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ الْمُكَاثَرَةُ بِاجْتِمَاعِ الْفَرِيقَيْنِ ، وَالْمُظَافَرَةُ بِتَنَاصُرِ الْفِئَتَيْنِ ، وَإِمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ تَأَلُّفُ أَعْدَاءٍ مُتَسَلِّطِينَ اسْتِكْفَاءً لِعَادِيَتِهِمْ ، وَتَسْكِينًا لِصَوْلَتِهِمْ .
وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ قَدْ يَكُونَانِ فِي الْأَمَاثِلِ وَأَهْلِ الْمَنَازِلِ .
وَدَاعِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ هُوَ الرَّغْبَةُ ، وَدَاعِي الْوَجْهِ الثَّانِي هُوَ الرَّهْبَةُ ، وَهُمَا سَبَبَانِ فِي غَيْرِ الْمُتَنَاكِحَيْنِ ، فَإِنْ اسْتَدَامَ السَّبَبُ دَامَتْ الْأُلْفَةُ ، وَإِنْ زَالَ السَّبَبُ بِزَوَالِ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ ، خِيفَ زَوَالُ الْأُلْفَةِ .
إلَّا أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا أَحَدُ الْأَسْبَابِ الْبَاعِثَةِ عَلَيْهَا ، وَالْمُقَرَّبَةِ لَهَا .
وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ رَغْبَةً فِي التَّعَفُّفِ فَهُوَ الْوَجْهُ الْحَقِيقِيُّ الْمُبْتَغَى بِعَقْدِ النِّكَاحِ ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَأَسْبَابٌ مُعَلَّقَةٌ عَلَيْهِ وَمُضَافَةٌ إلَيْهِ وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاس اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خُلِقَ الرَّجُلُ مِنْ التُّرَابِ فَهَمُّهُ فِي التُّرَابِ ، وَخُلِقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الرَّجُلِ فَهَمُّهَا فِي الرَّجُلِ } .
وَرَوَى عَطِيَّةُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ عَكَّافِ بْنِ رِفَاعَةَ الْهِلَالِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : { يَا عَكَّافُ أَلَكَ زَوْجَةٌ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : فَأَنْتَ إذًا مِنْ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ ، إنْ كُنْتَ مِنْ رُهْبَانِ النَّصَارَى فَالْحَقْ بِهِمْ ، وَإِنْ كُنْت مِنَّا فَمِنْ سُنَّتِنَا النِّكَاحُ } .
فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ حَثًّا عَلَى تَرْكِ الْفَسَادِ وَبَاعِثًا عَلَى التَّكَاثُرِ بِالْأَوْلَادِ .
وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِلْقَفَّالِ مِنْ غَزْوِهِمْ : { إذَا أَفْضَيْتُمْ إلَى نِسَائِكُمْ فَالْكَيْسَ الْكَيْسَ } .
يَعْنِي فِي طَلَبِ الْوَلَدِ .
فَلَزِمَ حِينَئِذٍ فِي عَقْدِ التَّعَفُّفِ تَحَكُّمُ الِاخْتِيَارِ فِيهِ وَالْتِمَاسُ الْأَدْوَمِ مِنْ دَوَاعِيهِ .
وَهِيَ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يُمْكِنُ حَصْرُ شُرُوطِهِ ، وَنَوْعٌ لَا يُمْكِنُ لِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهِ وَتَغَايُرِ شُرُوطِهِ .
فَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمَحْصُورَةُ فِيهِ فَثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : الدِّينُ الْمُفْضِي إلَى السِّتْرِ وَالْعَفَافِ ، وَالْمُؤَدِّي إلَى الْقَنَاعَةِ وَالْكَفَافِ .
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا يَعْذِلُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً ، إنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا خُلُقًا .
وَخَطَبَ رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَتِيمَةً كَانَتْ عِنْدَهُ فَقَالَ : لَا أَرْضَاهَا لَك .
قَالَ : وَلِمَ وَفِي دَارِك نَشَأَتْ ؟ قَالَ : إنَّهَا تَتَشَرَّفُ .
قَالَ : لَا أُبَالِي .
فَقَالَ : الْآنَ لَا أَرْضَاك لَهَا .
وَفِي مَعْنَى هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ : مَنْ رَضِيَ بِصُحْبَةِ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ لَمْ يَرْضَ بِصُحْبَتِهِ مَنْ فِيهِ خَيْرٌ .
وَالشَّرْطُ الثَّانِي : الْعَقْلُ الْبَاعِثُ عَلَى حُسْنِ التَّقْدِيرِ ، الْآمِرُ بِصَوَابِ التَّدْبِيرِ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْعَقْلُ حَيْثُ كَانَ أَلُوفٌ وَمَأْلُوفٌ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَلَيْكُمْ بِالْوَدُودِ الْوَلُودِ وَلَا تَنْكِحُوا الْحَمْقَاءَ فَإِنَّ صُحْبَتَهَا بَلَاءٌ وَوَلَدَهَا ضِيَاعٌ } .
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : الْأَكْفَاءُ الَّذِينَ يَنْتَفِي بِهِمْ الْعَارُ وَيَحْصُلُ بِهِمْ الِاسْتِكْثَارُ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَخَيَّرُوا لَنُطَفِكُمْ وَلَا تَضَعُوهَا إلَّا فِي الْأَكْفَاءِ } .
وَرُوِيَ أَنَّ أَكْثَمَ بْنَ صَيْفِيٍّ قَالَ لِوَلَدِهِ : يَا بُنَيَّ لَا يَحْمِلَنَّكُمْ جَمَالُ النِّسَاءِ عَنْ صَرَاحَةِ النَّسَبِ ، فَإِنَّ الْمَنَاكِحَ الْكَرِيمَةَ مَدْرَجَةٌ لِلشَّرَفِ .
وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ لِبَنِيهِ : قَدْ أَحْسَنْت إلَيْكُمْ صِغَارًا وَكِبَارًا وَقَبْلَ أَنْ تُولَدُوا .
قَالُوا : وَكَيْفَ أَحْسَنْتَ إلَيْنَا قَبْلَ أَنْ نُولَدَ ؟ قَالَ : اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْ الْأُمَّهَاتِ مَنْ لَا تُسَبُّونَ بِهَا .
وَأَنْشَدَ الرِّيَاشِيُّ : فَأَوَّلُ إحْسَانِي إلَيْكُمْ تَخَيُّرِي لِمَاجِدَةِ الْأَعْرَاقِ بَادٍ عَفَافُهَا وَقَدْ تَنْضَمُّ إلَى هَذِهِ الشُّرُوطِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَأَحْوَالِ النَّفْسِ مَا يَلْزَمُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ لِبُعْدِ الْخَيْرِ عَنْهُ ، وَقِلَّةِ الرُّشْدِ فِيهِ ، فَإِنَّ كَوَامِنَ الْأَخْلَاقِ بَادِيَةٌ فِي الصُّوَرِ وَالْأَشْكَالِ ، كَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ : أَتَزَوَّجَتْ يَا زَيْدُ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : تَزَوَّجْ تَسْتَعْفِفْ مَعَ عِفَّتِك ، وَلَا تَتَزَوَّجْ مِنْ النِّسَاءِ خَمْسًا .
قَالَ : وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : لَا تَتَزَوَّجْ شَهْبَرَةَ وَلَا لَهْبَرَةً وَلَا نَهْبَرَةً وَلَا هَبْذَرَةَ وَلَا لَفُوتًا .
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَا أَعْرِفُ مِمَّا قُلْت شَيْئًا .
قَالَ : أَمَّا الشَّهْبَرَةُ فَالزَّرْقَاءُ الْبَذِيَّةُ ، وَأَمَّا اللَّهْبَرَةُ فَالطَّوِيلَةُ الْمَهْزُولَةُ ، وَأَمَّا النَّهْبَرَةُ فَالْعَجُوزُ الْمُدْبِرَةُ ، وَأَمَّا الْهَبْذَرَةُ فَالْقَصِيرَةُ الدَّمِيمَةُ ، وَأَمَّا اللَّفُوتُ فَذَاتُ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِك } .
وَقَالَ شَيْخٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ إيَّاكَ وَالرَّقُوبَ الْغَضُوبَ الْقَطُوبَ .
الرَّقُوبُ الَّتِي تُرَاقِبُهُ أَنْ يَمُوتَ فَتَأْخُذَ مَالَهُ .
وَأَوْصَى بَعْضُ الْأَعْرَابِ ابْنَهُ فِي التَّزَوُّجِ فَقَالَ : إيَّاكَ وَالْحَنَّانَةَ وَالْمَنَّانَةَ وَالْأَنَّانَةَ .
فَالْحَنَّانَةُ الَّتِي تَحِنُّ لِزَوْجٍ كَانَ لَهَا ، وَالْمَنَّانَةُ الَّتِي تَمُنُّ عَلَى زَوْجِهَا بِمَالِهَا ، وَالْأَنَّانَةُ الَّتِي تَئِنُّ كَسَلًا وَتَمَارُضًا .
وَقَالَ أَوْفَى بْنُ دَلْهَمٍ : النِّسَاءُ أَرْبَعٌ : فَمِنْهُنَّ مَقْمَعٌ لَهَا سِنُّهَا
أَجْمَعُ ، وَمِنْهُنَّ مَمْنَعٌ تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ ، وَمِنْهُنَّ مِصْدَعٌ تُفَرِّقُ وَلَا تَجْمَعُ ، وَمِنْهُنَّ غَيْثٌ وَقَعَ بِبَلَدٍ فَأَمْرَعَ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : أَرَى صَاحِبَ النِّسْوَانِ يَحْسَبُ أَنَّهَا سُوءٌ وَبَوْنٌ بَيْنَهُنَّ بَعِيدُ فَمِنْهُنَّ جَنَّاتٌ يَفِيءُ ظِلَالُهَا وَمِنْهُنَّ نِيرَانٌ لَهُنَّ وَقُودُ وَأَنْشَدَ أَبُو الْعَيْنَاءِ عَنْ أَبِي زَيْدٍ : إنَّ النِّسَاءَ كَأَشْجَارٍ نَبَتْنَ مَعًا مِنْهُنَّ مُرٌّ وَبَعْضُ الْمَرِّ مَأْكُولُ إنَّ النِّسَاءَ وَلَوْ صُوِّرْنَ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِنَّ مِنْ هَفَوَاتِ الْجَهْلِ تَخْيِيلُ إنَّ النِّسَاءَ مَتَى يُنْهَيْنَ عَنْ خُلُقٍ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ لَا بُدَّ مَفْعُولُ وَمَا وَعَدْنَك مِنْ شَرٍّ وَفَيْنَ بِهِ وَمَا وَعَدْنَك مِنْ خَيْرٍ فَمَمْطُولُ فَأَمَّا النَّوْعُ الْآخَرُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَصْرُ شُرُوطِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ ، وَيَنْتَقِلُ بِتَنَقُّلِ الْإِنْسَانِ وَالْأَزْمَانِ ، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ مُوَافَقَةِ النَّفْسِ وَمُتَابَعَةِ الشَّهْوَةِ ؛ لِيَكُونَ أَدْوَمَ لِحَالِ الْأُلْفَةِ وَأَمَدَّ لِأَسْبَابِ الْوَصْلَةِ .
فَإِنَّ الرَّأْيَ الْمَعْلُولَ لَا يَبْقَى عَلَى حَالِهِ ، وَالْمَيْلَ الْمَدْخُولَ لَا يَدُومُ عَلَى دَخَلِهِ .
فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى إحْدَى حَالَتَيْنِ : إمَّا إلَى الزِّيَادَةِ وَالْكَمَالِ ، وَإِمَّا إلَى النُّقْصَانِ وَالزَّوَالِ .
حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : إنِّي أُحِبُّك وَأُحِبُّ مُعَاوِيَةَ .
فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا الْآنَ فَأَنْتَ أَعْوَرُ ، فَإِمَّا أَنْ تَبْرَأَ وَإِمَّا أَنْ تَعْمَى .
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَلَا بُدَّ مِنْ كَشْفِ السَّبَبِ الْبَاعِثِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ لِطَلَبِ الْوَلَدِ .
وَالْأَحْمَدُ فِيهِ الْتِمَاسُ الْحَدَاثَةِ وَالْبَكَارَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَخَصُّ بِالْوِلَادَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا وَأَنْتَقُ أَرْحَامًا وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ .} وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَنْتَقُ أَرْحَامًا أَيْ أَكْثَرُ أَوْلَادًا .
المصادر :
راسخون 2018