قال ابن أبي الحديد المعتزلي: ومعاوية مطعون في دينه عند شيوخنا رحمهم الله، يرمى بالزندقة(1).
وقال أيضاً:
وقد طعن كثير من أصحابنا في دين معاوية، ولم يقتصروا على تفسيقه، وقالوا عنه إنه كان ملحداً لا يعتقد بالنبوة، ونقلوا عنه في فلتات كلامه وسقطات ألفاظه ما يدل على ذلك.
وروى الزبير بن بكار في (الموفقيات) -وهو غير متهم على معاوية، ولا منسوب الى اعتقاد الشيعة، لما هو معلوم من حاله من مجانبة علي (عليه السلام)، والانحراف عنه-: قال المطرّف بن المغيرة بن شعبة: دخلت مع أبي على معاوية، وكان أبي يأتيه فيتحدث معه ثم ينصرف إلي، فيذكر معاوية وعقله، ويُعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتماً فانتظرته ساعة، وظننت أنه لأمر حدث فينا، فقلت: ما لي أراك مغتماً منذ الليلة؟ فقال: يا بني جئتُ من عند أكفر الناس وأخبثهم قلت: وما ذاك؟! قال: قلت له وقد خلوت به: إنك قد بلغت سناً يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلا وبسطت خيراً، فإنك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شي تخافه، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه. فقال: هيهات هيهات، أي ذكر أرجو بقاءه! مَلكَ أخو تيم فعدل، وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل: أبو بكر، ثم ملك أخو عدي، فاجتهد وشمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل: عمر، وإن ابن أبي كبشة ليُصاح به كل يوم خمس مرات "أشهد أن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأيُّ عمل يبقى وأيُّ ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك، لا والله إلاّ دفناً دفناً!!"(2).
وأما أفعاله المجانبة للعدالة الظاهرة، من لبسه الحرير وشربه في آنية الذهب والفضة، حتى أنكر عليه أبو الدرداء، فقال له: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "إن الشارب فيهما ليجرجر في جوفه نار جهنم"، وقال معاوية: أما أنا فلا أرى بذلك بأساً فقال أبو الدرداء: من عذيري من معاوية أنا اُخبره عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وهو يخبرني عن رأيه لا اُساكنك بأرض أبداً.
نقل هذا الخبر المحدّثون والفقهاء في كتبهم(3) في باب الاحتجاج على أن خبر الواحد معمول به في الشرع، وهذا الخبر يقدح في عدالته، كما يقدح أيضاً في عقيدته، لأن من قال في مقابلة خبر قد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أما أنا فلا أرى بأساً فيما حرّمه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ليس بصحيح العقيدة، ومن المعلوم أيضاً من حالة استئثاره بمال الفيء، وضربه من لا حدّ عليه، واسقاط الحد عمن يستحق إقامة الحد عليه، وحكمه برأيه في الرعية وفي دين الله، واستلحاقه زياداً وهو يعلم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، وقتله حجر ابن عدي وأصحابه ولم يجب عليهم القتل، ومهانته لأبي ذر الغفاري وجبهه وشتمه وإشخاصه الى المدينة على قتب بغير وطاء لإنكاره عليه، ولعنه علياً وحسناً وحسيناً وعبدالله بن عباس على منابر الإسلام، وعهده بالخلافة إلى ابنه يزيد مع ظهور فسقه وشربه المسكر جهاراً، ولعبه بالنرد، ونومه بين القيان المغنيات واصطحابه معهن، ولعبه بالطنبور بينهن، وتطريقه بني اُمية للوثوب على مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وخلافته حتى أفضت الى يزيد بن عبدالملك، والوليد ابن يزيد المفتضحين الفاسقين، صاحب حبّابة وسلاّمة، والآخر رامي المصحف بالسّهام، وصاحب الأشعار في الزندقة والالحاد..(4)
ليس ثمة شك في أن بعض المتأثرين بأقوال المؤلفين من أصحاب الاتجاه المحافظ يعتقدون أن في كلام ابن أبي الحديد، أو الزبير بن بكّار مبالغة دعا إليها التعصب المذهبي أو الخلاف العقدي، وأن الزبير بن بكار قد أورد تلك الرواية - وما فيها من أقوال لمعاوية تثبت زندقته وإلحاده- تقرباً الى الخلفاء العباسيين الذين يسرّهم الطعن في معاوية وبني اُمية، بسبب العداء المستحكم بين الطرفين، ولكن الذي يحقق في التاريخ الاسلامي جيداً سوف يعلم أن هذا الادعاء ليس صحيحاً البتة، وأن موقف العباسيين من معاوية لم يكن كما يظن هؤلاء، ولسوف أذكر موقف العباسيين من معاوية بشكل أكثر تفصيلا في أواخر هذا الفصل، بعد أن نتحقق من كلام ابن أبي الحديد وما أورده من أخبار عن معاوية معتمدين على أقوال العلماء والمحدّثين الذين يعتدّ برأيهم وهم قطعاً ليسوا متّهمين على معاوية، بل على العكس فسوف يتبين لنا أن معظم اُولئك العلماء، ورغم اعترافهم بتلك الحقائق التي لا يجدون مناصاً من إثباتها، فإن البعض منهم يحاول تأويلها أو حتى تحريفها - بكل أسف- حفاظاً على كرامة معاوية الصحابي، فأخبار اُولئك العلماء تناقض آراءهم في معاوية، ولكنهم يوردونها معتقدين صحتها مع محاولة التملص منها أو توجيهها وجهة تحفظ لمعاوية ماء وجهه، وهيهات من سبيل الى ذلك.
1 - لبس الحرير وجلود السباع
لا خلاف بين الفقهاء في أن لبس الحرير وجلود السباع محرّم على المسلمين، وقد أخرج المحدّثون العديد من الأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) في النهي عن ذلك، وعلم بذلك الصحابة، ورأوا معاوية يخالف النهي النبوي، فوعظوه رغم علمهم بأنه يعلم حرمة ذلك، مما يدل على مدى استهتار معاوية بأقوال النبي (صلى الله عليه وآله) ونواهيه، فقد أخرج المحدثون عن خالد، قال:
وفد المقدام بن معديكرب وعمرو بن الأسود ورجل من بني أسد من أهل قنسرين الى معاوية ابن أبي سفيان، فقال معاوية للمقدام: أعلمت أن الحسن بن علي توفي؟ قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فرجّع المقدام، فقال له فلان: أتعدّها مصيبة؟ فقال له: ولم لا أراها مصيبة وقد وضعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجره فقال: "هذا منّي وحسين من علي"، فقال الاسدي: جمرة أطفأها الله، فقال المقدام: أما أنا فلا أبرح اليوم حتى اُغيظك واُسمعك ما تكره، ثم قال: يا معاوية، إن أنا صدقتُ فصدقني، وإن أنا كذبتُ فكذّبني، قال: أفعل. قال: فأنشدك بالله، هل سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينهي عن لبس الذهب، قال: نعم، قال: فاُنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن لبس الحرير؟ قال: نعم. قال:
فأنشدك بالله، هل تعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن لبس جلود السباع والركوب عليها؟ قال: نعم. قال: فوالله لقد رأيت هذا كله في بيتك يا معاوية فقال معاوية: قد علمتُ أني لن أنجو منك يا مقدام..(5)
2 - الاستئثار بمال الفيء
جرت العادة منذ عهد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يؤخذ من الغنائم التي يحصل عليها المسلمون في الحرب خمسها لتوزع على الأوجه التي أمر الله سبحانه وتعالى بها، وأما الأربعة أخماس المتبقية فهي حق المقاتلين المسلمين، حيث كانت توزع عليهم. ولكن معاوية خالف أمر الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) في ذلك، عندما أراد أن يستصفي الذهب والفضة من تلك الغنائم لنفسه بغير وجه حق، فقد أخرج الحاكم النيسابوري وغيره من الحفاظ والمؤرخين، عن الحسن، قال: بعث زياد بن الحكم بن عمرو الغفاري على خراسان، فأصابوا غنائم كثيرة، فكتب إليه زياد: أما بعد، فإن أمير المؤمنين كتب أن يصطفى له البيضاء والصفراء،ولا تقسم بين المسلمين ذهباً ولا فضة.
فكتب اليه الحكم: أما بعد، فإنك كتبت تذكر كتاب أمير المؤمنين، وإني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين، وإني أُقسم بالله لو كانت السماوات والأرض رتقاً على عبد، فاتقى الله، لجعل له من بينهم مخرجاً، والسلام.
أمر الحكم منادياً فنادى: أن اغدوا على فيئكم، فقسمه بينهم، وإن معاوية لما فعل الحكم في قسمة الفيء ما فعل، وجّه إليه من قيّده وحبسه، فمات في قيوده ودُفن فيها، وقال: إني مخاصم(6).
فمعاوية يريد أن يصطفي كل الذهب والفضة من أموال الغنائم التي هي حق للمقاتلين الذين أصابوها برماحهم وسيوفهم وبذلوا فيها دماءهم، مع العلم أن الخليفة - لو افترضنا صحة خلافته- ليس له الحق في التحكم في غير الخمس، وهذا الخمس ليس حقاً خالصاً له، بل هو لبيت المال، ولإنفاقه على مصالح المسلمين، وكذلك كانت سيرة النبي (صلى الله عليه وآله)، فعن عبدالله بن شقيق، عن رجل من بلقين (عندما سأل رسول الله عن بعض الاُمور حتى قال): قلت: فما تقول في الغنيمة؟ قال: "لله خمسها، وأربعة أخماسها للجيش". قلت: فما أحد أولى به من أحد؟ قال: لا، ولا السهم تستخرجه من جنبك أحق به من أخيك المسلم(7).
فأخذ شيء من أموال الفيء بغير وجه حق يعدّ من الغلول، وقد شدّد النبي (صلى الله عليه وآله) على تحريم ذلك مهما كان هذا الشيء الذي يغلّه المرء بسيطاً، وأن الشهيد الذي يغلّ شيئاً من الغنم لا يعدّ شهيداً، ويدخل النار بسبب ذلك وقد استفاضت الأحاديث النبوية التي تؤكد ذلك، فعن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم خيبر، فلم يغنم ذهباً ولا فضة، إلاّ الأموال والثياب والمتاع، فأهدى رجل من بني الضّيب، يقال له رفاعة بن زيد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) غلاماً يقال له مِدعَم. فوجّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى وادي القرى، حتى إذا كان بوادي القرى، بينما مدعم يحط رحلا لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، إذا سهم عائر فقتله، فقال الناس: هنيئاً له الجنة. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم، لم تُصبها المقاسم، لتشتعل عليه ناراً"، فلما سمع ذلك الناس، جاء رجل بشراك أو شراكين الى النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال: "شراك من نار، أو شراكان من نار"(8).
وعن خالد الجهني، قال: توفي رجل يوم حنين، وإنهم ذكروه لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فزعم زيد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "صلّوا على صاحبكم" فتغيرت وجوه الناس لذلك، فزعم زيد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "إن صاحبكم قد غلَّ في سبيل الله"، قال: ففتحنا متاعه فوجدنا خرزات من خرز يهود، ما تساوي درهمين(9).
ومن المعلوم أن النبي (صلى الله عليه وآله) نهي عن الصلاة على المنافقين، فالذي يغل- وإن قتل بعد ذلك في سبيل الله- يصبح في زمرة المنافقين، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار.
قال النووي: إن الغلول يمنع من إطلاق اسم الشهادة على من غل(10).
كما جاء عن عمرو بن شعيب، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين صدر من حُنين وهو يريد الجعرانة، سأله الناس حتى دنت ناقته من شجرة فتشبكت بردائه حتى نزعته عن ظهره، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "ردّوا علي ردائي، أتخافون أن لا أُقسم بينكم ما أفاء الله عليكم والذي نفسي بيده لو أفاء الله عليكم سمر تهامة نَعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا جباناً ولا كذاباً". فلما نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قام في الناس فقال
"أدوا الخياط والمخيط، فإن الغلول عارٌ ونارٌ وشنار على أهله يوم القيامة". ثم تناول من الأرض وبرة من بعير أو شيئاً ثم قال: "والذي نفسي بيده، مالي مما أفاء الله عليكم ولا مثل هذه إلاّ الخمس، والخمس مردود عليكم"(11).
فهذه هي سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) في الفيء، وهذه هي تحذيراته الشديدة من الغلول مهما كان بسيطاً، ورغم ذلك فإن معاوية يضرب بهذه السيرة وهذه النواهي عرض الحائط، ويريد أن يغل ذهب المغنم وفضته كله!
3 - اسقاط الحد
روى ابن كثير عن القاضي الماوردي في (الأحكام السلطانية) قال: وحكي أن معاوية اُتي بلصوص فقطعهم، حتى بقي واحد من بينهم فقال:
يميني أمير المؤمنين أعيذها/بعفوك أن تلقى مكاناً يشينها
يدي كانت الحسناء لو تم سترها ولا تقدم الحسناء عيباً يشينها
فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة إذا ما شمالي فارقتها يمينها
فقال معاوية: كيف أصنع بك؟ قد قطعنا أصحابك، فقالت اُم السارق: يا أمير المؤمنين، اجعلها في ذنوبك التي تتوب منها فخلى سبيله، فكان أول حدّ تُرك في الاسلام(12).
لا شك أن التهاون في إقامة حدود الله يعدّ بادرة خطيرة تؤدي الى تفشّي الفساد في أوصال المجتمع، لأنه يجرّيء الأشقياء على ارتكاب الجرائم دون خوف من عقاب، فينشأ من ذلك اختلال الأمن في المجتمع، ولهذا شدّد النبي (صلى الله عليه وآله) على هذا الأمر، فعن عائشةأن قريشاً أهمّتهم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن يجترئ عليه إلاّ اُسامة حبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: "أتشفع في حدّ من حدود الله". ثم قام فخطب، قال: "إنما ضلّ من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها"(13).
ولكن معاوية أعطى لنفسه هذا الحق، وبعد قول الله تعالى (ومن يتعدّ حدود الله فاُولئك هم الظالمون)(14).
4 - إستلحاق زياد
أورد الطبري خبر استلحاق معاوية زياداً ضمن أحداث سنة أربع وأربعين، قال: حدثني عمر بن شبة قال: زعموا أن رجلا من عبدالقيس كان مع زياد لما وفد على معاوية فقال لزياد: إن لابن عامر عندي يداً، فإن أذنت لي أتيته، قال: على أن تحدثني ما يجري بينك وبينه قال: نعم، فأذن له فأتاه، فقال له ابن عامر: هيه هيه وابن سمية يقبّح آثاري ويعرّض بعمالي لقد هممت أن آتي بقسامة من قريش يحلفون أن أبا سفيان لم ير سمية، قال: فلما رجع سأله زياد، فأبى أن يخبره، فلم يدعه حتى أخبره. فأخبر ذلك زياد معاوية، فقال معاوية لحاجبه: إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب. ففعل ذلك به، فأتى ابن عامر يزيد، فشكا إليه ذلك فقال له: هل ذكرت زياداً؟ قال: نعم. فركب معه يزيد حتى أدخله، فلما نظر إليه معاوية قام فدخل، فقال يزيد لابن عامر: إجلس فكم عسى أن تقعد في البيت عن مجلسه فلما أطالا، خرج
معاوية وفي يده قضيب يضرب به الأبواب ويتمثل:
لنا سياقٌ ولكم سياق قد علمت ذلكم الرفاق
ثم قعد فقال: يابن عامر، أنت القائل في زياد ما قلت! أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزّها في الجاهلية، وأن الإسلام لم يزدني الاّ عزاً، وأني لم أتكثر بزياد من قلة، ولم أتعزّز به من ذلة، ولكن عرفت حقاً له فوضعته موضعه، فقال: يا أمير المؤمنين، نرجع الى ما يحب زياد، قال: إذاً نرجع الى ما تحب، فخرج ابن عامر الى زياد فترضّاه.
كما ونقل الطبري عن أحمد بن زهير بسنده قال: إن زياداً لما قدم الكوفة قال: قد جئتكم في أمر ما طلبته إلاّ اليكم. قالوا: ادعنا الى ما شئت. قال: تُلحقون نسبي بمعاوية قالوا: أما بشهادة الزور، فلا. فأتى البصرة فشهد له رجل(15).
هذه هي قصة الاستلحاق برواية شيخ المؤرخين الطبري، ولا يخفى على القارئ اللبيب أن الطبري قد بتر القصة كلها، ولم يذكر منها إلاّ ذيلها، مما هو مشهور بين المؤرخين والمحدثين والعلماء والفقهاء قاطبة، والذين أخرجوا قصة الاستلحاق بتمامها في كتبهم، وقد أنكر ابن الأثير على الطبري إكتفاءه بهذا القدر من القصة، فقال -بعد أن أوردها-:
هذا جميع ما ذكره أبو جعفر في استلحاق معاوية نسب زياد، ولم يذكر حقيقة الحال في ذلك وكيفيته، فإنه من الاُمور المشهورة الكبيرة في الإسلام لا ينبغي اهمالها. وكان ابتداء حاله أن سمية اُم زياد كانت لدهقان زندورد بكسكر، فمرض الدهقان، فدعا الحارث بن كلدة الطبيب الثقفي، فعالجه فبرأ، فوهبه سميّة، فولدت عند الحارث أبا بكرة، واسمه نفيع، فلم يُقرّ به، ثم ولدت
نافعاً، فلم يُقرّ به أيضاً، فلما نزل أبو بكرة الى النبي (صلى الله عليه وآله) حين حصر الطائف، قال الحارث لنافع: أنت ولدي، وكان قد زوّج سميّة من غلام له إسمه عبيد، وهو رومي، فولدت له زياداً.
وكان أبو سفيان بن حرب سار في الجاهلية الى الطائف، فنزل على خمّار يقال له أبو مريم السّلولي - وأسلم أبو مريم بعد ذلك وصحب النبي (صلى الله عليه وآله) - فقال أبو سفيان لأبي مريم: قد اشتهيت النساء فالتمس لي بغيّاً. فقال له: هل لك في سمية؟ فقال: هاتها على طول ثدييها وذفر بطنها، فأتاه بها، فوقع عليها فعلقت بزياد، ثم وضعته في السنة الاولى من الهجرة، فلما كبر ونشأ استكتبه أبو موسى الأشعري لما ولي البصرة، ثم إن عمر بن الخطاب استكفى زياداً أمراً، فقام فيه مقاماً مرضياً، فلما عاد إليه حضر، وعند عمر المهاجرون والأنصار، فخطب خطبة لم يسمعوا بمثلها، فقال عمرو بن العاص: لله هذا الغلام، لو كان أبوه من قريش لساق العرب بعصاه. فقال أبو سفيان -وهو حاضر-: والله إني لأعرف أباه ومن وضعه في رحم اُمه فقال علي: يا أبا سفيان، اسكت، فإنك لتعلم أن عمر لو سمع هذا القول منك لكان إليك سريعاً.
فلما ولي علي الخلافة استعمل زياداً على فارس، فضبطها، وحمى قلاعها، واتصل الخبر بمعاوية فساءه ذلك، وكتب الى زياد يتهدده ويعرّض له بولادة أبي سفيان إياه، فلما قرأ زياد كتابه قام في الناس وقال: العجب كل العجب من ابن آكلة الأكباد ورأس النفاق يخوّفني بقصده إياي وبيني وبينه ابنا عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المهاجرين والأنصار أما والله لو أذن لي في لقائه لوجدني أضمر مخشيّاً ضرّاباً بالسيف.
وبلغ ذلك علياً فكتب إليه: إني وليتك وأنا أراك له أهلا، وقد كانت من أبي سفيان فلتة من أماني الباطل وكذب النفس لا توجب له ميراثاً ولا تحلّ له نسباً، وإن معاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فاحذر ثم احذر والسلام.(16)
فلما قُتل علي، وكان من أمر زياد ومصالحته معاوية ما ذكرناه، واضع زياد مصقلة بن هبيرة الشيباني وضمن له عشرين ألف درهم ليقول لمعاوية إن زياداً قد أكل فارس براً وبحراً وصالحك على ألفي ألف درهم، والله ما أرى الذي يقال إلاّ حقاً، فإذا قال لك: وما يقال؟ فقل: يقال إنه ابن أبي سفيان.
ففعل مصقلة ذلك، ورأى معاوية أن يستميل زياداً، واستصفى مودته بالتحاقه، فاتفقا على ذلك، وأحضر الناس وحضر من يشهد لزياد، وكان فيمن حضر: أبو مريم السلولي، فقال له معاوية: بم تشهد يا أبا مريم؟ فقال: أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغياً، فقلت له: ليس عندي إلاّ سمية، فقال: ايتني بها على قذرها ووضرها، فأتيته بها، فخلا معها، ثم خرجت من عنده وإن اسكيتها لتقطران منياً. فقال له زياد: مهلا أبا مريم، إنما بعثت شاهداً ولم تبعث شاتماًفاستلحقه معاوية، وكان استلحاقه أول ما رُدّت أحكام الشريعة علانية، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قضى بالولد للفراش وللعاهر الحجر.
وكتب زياد الى عائشة: من زياد بن أبي سفيان، وهو يريد أن يكتب له: الى زياد بن أبي سفيان، فيحتج بذلك، فكتبت: من عائشة اُم المؤمنين الى ابنها زيادوعظم ذلك على المسلمين عامة وعلى بني اُمية خاصة، وجرى بذلك أقاصيص يطول ذكرها...
ثم قال ابن الاثير: ومن اعتذر لمعاوية قال: إنما استلحق معاوية زياداً لأن أنكحة الجاهلية كانت انواعاً لا حاجة الى ذكر جميعها، وكان منها أن الجماعة يجامعون البغي فإذا حملت وولدت ألحقت الولد لمن شاءت منهم فيلحقه، فلما جاء الاسلام حرّم هذا النكاح، إلاّ أنه أقرّ كل ولد كان ينسب الى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرق بين شيء منها، فتوهم معاوية أن ذلك جائز له، ولم يفرّق بين استلحاق في الجاهلية والاسلام، وهذا مردود لاتفاق المسلمين على انكاره، ولأنه لم يستحلق أحد في الاسلام مثله ليكون به حجة(17).
وقال ابن عبد البر: فلما بلغ أبا بكرة أن معاوية استلحقه وأنه رضي بذلك، آلى يميناً لا يكلمه أبداً، وقال: هذا زنّى اُمه وانتفى من أبيه، لا والله ما علمت سمية رأت أبا سفيان قط، ويله ما يصنع باُم حبيبة زوج النبي (صلى الله عليه وآله)، أيريد أن يراها، فإن حجبته فضحته، وإن رآها فيالها مصيبة يهتك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) حرمة عظيمة!
وحج زياد في زمن معاوية ودخل المدينة، فأراد الدخول على اُم حبيبة، ثم ذكر قول أبي بكرة فانصرف عن ذلك.
وقيل: إن اُم حبيبة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) حجبته ولم تأذن له في الدخول عليها، وقيل: انه حج ولم يزر من أجل قول أبي بكرة وقال: جزى الله أبا بكرة خيراً، فما يدع النصيحة على حال(18).
وقال ابن كثير:
قال ابن جرير، وفي هذه السنة استلحق معاوية زياد بن أبيه فألحقه بأبي سفيان، وذلك أن رجلا شهد على إقرار أبي سفيان أنه عاهر بسمية اُم زياد في الجاهلية وأنها حملت بزياد هذا منه، فلما استلحقه معاوية قيل له: زياد بن أبي سفيان، وقد كان الحسن البصري ينكر هذا الاستلحاق ويقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "الولد للفراش وللعاهر الحجر"(19).
هذه هي قصة الاستلحاق كما ذكرها الأئمة الأعلام، ومن المؤسف أن تجد من يعتذر لمعاوية عن هذا العمل الشنيع الذي استنكره ابن الأثير وكفانا مؤونة الرد على المعتذرين لمعاوية، ولكن أسفاً على الاسلام أن يتصدى بعض الفقهاء والعلماء لتبرير مثل هذه الجرائم التي تقصم ظهر الاسلام والمسلمين، إلاّ أن ذلك ليس غريباً على من يبيع آخرته بدنيا غيره، فإن سياسة الترغيب والترهيب التي اتّبعها معاوية قد أوجدت طبقات من المتكسّبين الذين يبيعون دينهم بالدرهم.
قال عبدالرحمن الشرقاوي: "وكان بعض المنتسبين الى الفقه والثقافة وعلوم الدين قد صانعوا حكام بني اُمية وزيّنوا لهم الاستبداد، وأفتوا لهم بأنهم ظل الله في الأرض، وأنهم لا يُسألون عما يفعلون.. وفي الحق أن الحكام الاُمويين كانوا يحسنون مكافأة هؤلاء المتملقين فيجزلون لهم العطاء، ويولّون بعضهم"(20).
لكن الذي يبعث على الاستغراب أكثر من ذلك، أن يتصدى بعض العلماء لتبرير أعمال معاوية وبني اُمية بعد انقضاء دولتهم بقرون متطاولة -كما يفعل ابن العربي مثلا- فإذا كان اُولئك العلماء العملاء قد باعوا دينهم مقابل ثمن قبضوه من معاوية وبني اُمية، فممن يرتجي هؤلاء الجزاء؟! وكيف ينسون المواقف الشجاعة التي وقفها بعض الفقهاء الأتقياء الذين ندّدوا بعمل معاوية علانية رغم أنهم كانوا في ملكه ودولته، ومن هؤلاء: الحسن البصري الذي قال: أربع خصال كنّ في معاوية، لو لم يكن فيه منهنّ إلاّ واحدة، لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الاُمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادّعاؤه زياداً وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجراً، ويلا له من حجر وأصحاب حجر، ويلا له من حجر وأصحاب حجر"(21).
وعن ابن حرملة قال: ما سمعت سعيد بن المسيب سبَّ أحداً من الائمة قط، إلاّ أني سمعته يقول: قاتل الله فلاناً (يعني معاوية) كان أول من غيّر قضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): "الولد للفراش وللعاهر الحجر"(22).
المصادر :
1- شرح نهج البلاغة 1: 340.
2- الموفقيات: 577.
3- 2صحيح مسلم: كتاب الأشربة، فتح الباري 9: 456، صحيح ابن حبان 12: 161، اصلاح غلط المحدثين للخطابي البستي: 161، الفايق في غريب الحديث للزمخشري 1: 175، فيض القدير للمناوي 6: 411، فتح العزيز لعبدالكريم الرافعي 1: 301.
4- شرح نهج البلاغة 5: 129.
5- سنن أبي داود: ح 4131 باب في جلود النمور والسباع، سنن النسائي ح 2465 مختصراً، مسند أحمد 4: 132 وفيه: فقال له معاوية: أتراها مصيبة!
6- المستدرك 3: 442، تاريخ الطبري حوادث سنة 50، الكامل في التاريخ 2: 487 حوادث سنة 50، البداية والنهاية 8: 47، تهذيب التهذيب 2: 392، الاستيعاب 1: 412 ترجمة الحكم، اسد الغابة 1: 51 ترجمة الحكم.
7- سنن النسائي: كتاب قسم الفي والغنيمة.
8- صحيح البخاري 8: 179 كتاب الايمان والنذور، باب هل يدخل في الايمان والنذور الأرض والغنم والزروع والامتعة، الموطأ 2: 459 كتاب الجهاد، باب ما جاء في الغلول، صحيح مسلم 1: 148 كتاب الايمان، باب غلظ تحريم الغلول.
9- الموطأ 2: 458، سنن ابي داود: كتاب الجهاد، باب في تعظيم الغلول، سنن النسائي: كتاب الجنائز، باب الصلاة على من غل، سن ابن ماجة: كتاب الجهاد باب الغلول ح 2848.
10- شرح صحيح مسلم 2: 489.
11- الموطأ 2: 457 باب ما جاء في الغلول، سنن النسائي: كتاب قسم الفيء.
12- البداية والنهاية 8: 136، الأحكام السلطانية، للماوردي 2: 228.
13- صحيح البخاري 8: 199 باب كراهية الشفاعة في الحد.
14- البقرة: 229.
15- تاريخ الطبري 5: 214.
16- (وفي رواية ابن عبد البر عن ابن عباس قال: فلما قرأ زياد الكتاب قال: شهد لي أبو الحسن وربّ الكعبة) الاستيعاب 2: 99.
17- الكامل في التاريخ 3: 441.
18- الاستيعاب 2: 99، وانظر اسد الغابة 2: 336، تاريخ ابن عساكر 5: 406، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 187، تاريخ اليعقوبي 2: 19، مروج الذهب 3: 15 وغيرها من المصادر.
19- البداية والنهاية 8:
20- أئمة الفقه التسعة: 43.
21- الطبري 5: 279، الكامل في التاريخ 3: 487، تاريخ ابن عساكر 2: 381، البداية والنهاية 8: 139، النجوم الزاهرة 1: 141 وغيرها.
22- حلية الاولياء 2: 167، والحديث في صحيح البخاري 8: 191 كتاب الفرائض، باب الولد للفراش، حرة كانت أو أمة، صحيح مسلم كتاب الرضاع، سنن الترمذي 3: 463 ح 1157، سنن النسائي: 3: 378 ح 5676، سنن أبي داود 2: 282 ح 2273.