
إنَّ تقوى الله تعالى عامل مهمٌّ لتزكية النفس وتهذيبها، ويترتّب عليها آثار مهمّة في الدنيا والآخرة، يقول تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ .(1)
وقبل أن نتوسَّع في الحديث عن التقوى، لا بدّ أن نوضّح مفهوم التقوى ومعناها.
تعريف التقوى
يمكن تعريف التقوى بأنَّها: قوّة داخليّة وقدرة نفسيّة تمتلك من خلالها النفسُ القدرةَ على إطاعة الأوامر الإلهيّة، وعلى مقاومة ميولها وأهوائها.
ومنشؤها: الخوف من الله، وأثرها: تجنّب معصيته وسخطه، وهي تساعد الإنسان على تجنُّب حبائل الشيطان وإغراءات الدنيا.
يقول الإمام عليّ عليه السلام: "اعلموا عباد الله أنَّ التقوى دار حصن عزيز، والفجورُ دارُ حصنٍ ذليل، لا يمنع أهله، ولا يُحْرِزُ من لجأ إليه، ألا وبالتقوى تقطع حُمَةُ الخطايا" .(2)
أهميّة التقوى
1- هدف تشريع الأحكام: يستفاد من القرآن الكريم أنَّ لتقوى الله عزَّ وجلّ قيمة أخلاقيَّة أصيلة، وأنَّها الهدف لتشريع الأحكام، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ .(3)
فالهدف من عبادة الله تعالى الوصول إلى التقوى، كما أنَّ العبادة يمكن أن تكون تعبيراً عن هذه التقوى، وفي آية أخرى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (4)، حيث بيّنت أنَّ الهدف من القصاص هو التقوى.
2- تورث البصيرة: يُستفاد من عدّة آيات وروايات أنَّ تقوى الله تمنح الإنسان بصيرة تمكّنه من معرفة الحقّ لاتّباعه، يقول تعالى: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾ .(5)
إنَّ التقوى تداوي القلب وتهبه البصيرة، والبصيرة هي ملكة تمكّن الإنسان من تشخيص سبيل سعادته، وتجنّب سبل المهالك، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "فإنَّ تقوى الله دواء داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم" .(6)
3- أثر الابتعاد عن الذنوب وتركها: إنَّ أهواء النفس يمكن أن تشوّش على العقل رؤيته للسبيل المنجي وسبب السعادة الذي خلق للوصول إليه وهو كماله في القرب الإلهي، ومن هنا يأتي دور التقوى في علاج ذلك الخلل، فالتقوى هي من يكبح جماح الشهوات فيستعيد العقل قدرته على هذه الرؤية.
4- طريق التقوى والحريَّة: إنَّ الإسلام لا يرى في التقوى تقييداً للحريّة، بل على العكس من ذلك، يرى أنَّها هي التي تمنح الإنسان حريَّته من شهواته وغرائزه، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "فإنَّ تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كلّ ملكة، ونجاة من كلّ هلكة" .
جزاء التقوى في الآخرة
للتقوى نتائج أخرويّة جليلة جدَّاً:
منها: الأجر العظيم، قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ .
ومنها: إنَّ من يتَّقي الله لا يتسرَّب الحزن إلى قلبه في الآخرة ولا يخاف عليه، قال تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ .
ومنها: أنَّ التقوى جزاؤها الجنّة وهي دليل الفوز، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾ .
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "شرف كلّ عمل بالتقوى، وفاز من فاز من المتّقين، قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾ " .
آثار التقوى في الدنيا
إنَّ لتقوى الله تعالى نتائج عديدة في الدنيا، من المفيد أن نشير إلى بعضها:
منها: أنَّها تحفّز الإنسان على الأخلاق الحسنة، ولا شكّ أنَّ الأخلاق لها أثرها في الدنيا كما في الآخرة. عن الإمام عليّ عليه السلام: "التقوى رئيس الأخلاق" .
ومنها: أنَّ التقوى تبعث الرزق، وتمكّن الإنسان من تجاوز العقبات والأزمات، والتغلّب على مشاكل الحياة، يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ ، ويقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ .
وورد عن أمير المؤمنين عليه السلام ما يوضّح ذلك: "فمن أخذ بالتقوى عَزَبَتْ عنه الشدائدُ بعد دنوِّها، وَاحلَوْلَت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وأَسْهَلَتْ له الصعاب بعد إنْصَابِهَا" .
ومنها: صحّة البدن، فقد ثبت وجود علاقة بين نفس الإنسان وبدنه، وأنَّ كلاً منهما يؤثّر بنحو ما على الآخر، ولهذا فإنَّ بعض الأمراض البدنيّة والنفسيّة قد تنشأ من الأخلاق السيّئة، كالحسد، والحقد، والغضب، والطمع، والتكبّر، وحبّ الذات، والغرور.. فالتقوى واجتناب الأمور السيّئة لها تأثير مهمّ وأساس في علاج الأمراض الجسديّة والنفسيّة، وهي تساعد على تأمين سلامة الإنسان من هذه الأمراض.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "فإنَّ تقوى الله... شفاء مرض أجسادكم وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم" .
الخلاصة
- التقوى حالة روحيّة وقدرة داخليّة نفسانيّة، يستطيع الإنسان من خلالها إطاعة الله واجتناب معاصيه.
- تبرز أهميّة التقوى بملاحظة الأمور التالية:
أ- الهدف من تشريع الأحكام.
ب- تورث البصيرة.
ج- طريق للحريّة.
- للتقوى ثمار أخرويّة كثيرة منها: الأجر العظيم وعدم الحزن والنعيم.
- للتقوى ثمار دنيويّة عديدة، كالرزق وقدرة الإنسان على تجاوز مشاكله، وصحّة البدن.
الشاب المتيقّن
ذهب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد ليؤدّي صلاة الفجر، فلّما أتمّ الصلاة بالناس، كان الظلام قد سحب أثوابه خوفاً من أن يحرقها وهج الصباح، ولمَّا أوشك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على مغادرة المسجد، إذا بشابّ مصفرِّ اللون قد ضعف جسمه ونحف، وغارت عيناه في رأسه.فسأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف أصبحت يا فلان؟
فأجاب الشاب: أصبحت موقناً يا رسول الله.
فتعجّب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من قوله وقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنَّ لكلّ يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟
فقال الشاب النحيل: إنَّ يقيني يا رسول الله هو الّذي أحزنني، وأسهر ليلي، وأظمأ نهاري، فزهدت نفسي في الدنيا وما فيها، فكأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد نصب للحساب، وحشر الخلائق لذلك، وأنا فيهم وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتمتّعون في الجنّة، ويتعافون على الآرائك متّكئون، وكأنِّي أنظر إلى أهل النَّار وهم فيها معذّبون مستغيثون، وكأنّي الآن أسمع زفير النَّار يدور في مسامعي.
فالتفت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه وقال: هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان. ثمَّ أوصى الشاب قائلاً: التزم ما أنت عليه.
فقال الشاب: اُدع الله لي يا رسول الله أن أرزق الشهادة معك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يلبث أن خرج في إحدى غزوات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فاستشهد بعد تسعة أشخاص فكان هو العاشر.(7)
المصادر :
المصادر :
1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- نهج البلاغة، خطبة 157.
3- سورة البقرة، الآية: 21.
4- سورة البقرة، الآية: 179.
5- سورة الأنفال، الآية: 29.
6- نهج البلاغة، خطبة 198.
7- قصص الأبرار للشهيد مطهّري قدس سره