إنّ من أهمّ الأمور التي ينبغي الالتفات لها في عمليّة تهذيب النفس، هي العصبيّة، حيث قد يتحلّى الإنسان المؤمن بكثير من الصفات الحسنة والممدوحة، وتبقى هذه الصفة وهي العصبيّة كامنة في باطنه قبل أن تثيرها الأحداث والمناسبات، فعلى الإنسان المؤمن أن يستثير هذه الصفة، ويلتفت إلى الموقف الذي ينبغي أن يتّخذه فيما لو ابتلى بمورد تتحرّك فيه المشاعر التي قد تؤدّي إلى العصبيّة، فما هي العصبيّة؟ وما هي آثارها؟ وما هو موقف الإسلام منها؟
تعريف العصبيّة
إنَّ العصبيّة صفة سيّئة، تمنع صاحبها من القرب الإلهيّ، وتحجبه عن رؤية الحقّ، وقد تلقي به في نار جهنّم، وهي الدفاع عن جهة أو شخص، بحيث يرى باطلها حقّاً، وإن كانوا على باطل، ويرى من يقف في مقابلهم على باطل وإن كانوا محقّين.
العصبيّة في الرؤية الإسلاميّة
حذَّر القرآن الكريم من العصبيّة، وجعلها من أوصاف الكافرين، يقول تعالى: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ ، ولذا كان من يتّصف بها كأنَّه يتّصف بصفة الكفر، وتترتّب عليه آثار الكفر يوم القيامة.
عن الإمام الباقر عليه السلام: "من كان في قلبه حبّة من خردل من عصبيّة بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهليّة" .
وتفسير هذه الصفة الواردة في الرواية, من حشره مع أعراب الجاهلية, لأنَّ هذا المقدار من العصبيّة حتّى لو كان قليلاً إلى هذا الحدّ(حبّة من خردل) لكنَّه من الممكن أن يودِيَ بصاحبه إلى جهنّم، وأن يخرجه عن الصراط المستقيم، وهو ليس كلاماً على ورق، بل قد حصل ويحصل، وممّن حصل معهم إبليس - لعنه الله - إمام المتعصّبين: إنَّ إبليس هو أوّل من تعصَّب، وهو إمام المتعصّبين، يستفزّهم في الدنيا ويقودهم في الآخرة إلى نار جهنّم.
إبليس رأس العصبيّة
إنَّ من يتعصَّب فليعلم أنَّ إبليس قد نفخ في أوداجه، لأنّ العصبيّة هي ريح إبليس، بغضِّ النظر عمَّن يتعصّب له، إذ أنَّ المتعصِّب قد يتعصَّب لعائلته، أو منطقته، أو عشيرته، أو غير ذلك، وكلّه من العصبيّة التي مصيرها النار وغضب الجبَّار، فإنَّ إبليس قد تعصَّب لأصله كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "... فافتخر على آدم بخلقه وتعصَّب عليه لأصله، فعدوّ الله إمام المتعصّبين وسلف المستكبرين الذي وضع أساس العصبيّة.." .
ويقول عليه السلام: "اعتَرَتْهُ (إبليس) الحميَّة وغلبت عليه الشِّقْوَة، وتعزّز بخلقة النار، واستوهن خلق الصَّلصَالِ" .
وهنا يشير إلى تعصُّب إبليس لخلقته الناريّة، في مقابل خلقة آدم الطينيّة، حيث نظر إليها بعين التوهين والاحتقار. ويوضّح عليه السلام ذلك فيقول في مورد آخر من نهج البلاغة: "ولقد نظرت فما وجدت أحداً من العالمين يتعصَّب لشيءٍ من الأشياء، إلَّا عن علَّة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجَّة تليط بعقول السفهاء غيركم، فإنَّكم تتعصَّبون لأمر ما يعرف له سبب ولا علَّة، أمَّا إبليس فتعصَّب على آدم لأصله، وطعن عليه في خلقته، فقال: أنا ناريّ وأنت طينيّ، وأمَّا الأغنياء من مترفة الأمم فتعصّبوا لآثار مواقع النّعم، فقالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذّبين" .
العصبيّة المذمومة
إنَّ هذا التعصُّب المذموم في الرؤية الإسلاميّة, هو التعصُّب الذي يُخرج المرء عن جادّة الصواب، ويتمسّك بعصبيّة حتّى لو كان في ذلك نصرة للباطل وانتهاكاً للحرام وتجاوزاً للشرع، وإلَّا فإنَّ مودَّة الرجل لأهله وأبناء قومه ليست عصبيّة.فعن الإمام زين العابدين عليه السلام بعد أن سئل عن العصبيّة قال: "العصبيّة التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبيّة أن يحبّ الرجل قومه، ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظلم" .
العصبيّة الممدوحة
نلحظ في كلام المعصومين عليهم السلام إشارة إلى تعصُّب غير مذموم، لكنَّه في الواقع ليس تعصُّباً، بل هو تمسّك بالدين، وبأخلاق سيّد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما نراه واضحاً في حديث أمير المؤمنين عليه السلام: "فإن كان لا بدَّ من العصبيَّة فليكن تعصّبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور، التي تفاضلت فيها المُجداء والنُّجداء من بيوتات العرب، ويعاسيب القبائل، بالأخلاق الرغيبة والأحلام العظيمة، والأخطار الجليلة، والآثار المحمودة. فتعصَّبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبرّ، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكفّ عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض" .العلاقة مع الأخوة المؤمنين:
حثّ الإسلام على مساعدة المؤمنين بعضهم بعضاً، ولكن ليست المساعدة العمياء التي توصل إلى العصبية المذمومة, فإذا كان أخي المؤمن على خطأ فكيف أساعده؟ هل أدخل معه في نزاعه وأساعده على ظلمه؟
عندها سأكون شريكاً له في الظلم والحل ما رسمه ونهجه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم حين قالوا له عن مبدأ العرب في الجاهلية انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فأجاب صلى الله عليه وآله وسلم: "ترده عن ظلمه فذلك نصرك إياه" .
النتيجة:
لذا يجب أن نلتفت إلى هذا المرض الخطير والداء الكبير، فإذا أردنا أن نسعى لمقام القرب، وأن نزكّي أنفسنا، فلا بدَّّ من استئصاله حتّى لا نقع في شرك إبليس ونكون من جنوده وأعوانه.
الخلاصة
- العصبيّة هي أن ينتصر المرء لشخص أو جماعة وإن كانوا على باطل.
- للعصبيّة أكثر من منشأ كالعرق والعشيرة والأهل والمنطقة والبلد.
- إنَّ إبليس إمام المتعصّبين، فهو أوّل من تعصَّب حين فضَّل نفسه على آدم عليه السلام.
- إنَّ مودّة الرجل لبني قومه ليست من العصبيّة.
- إنَّ التعصّب لمكارم الأخلاق هو في الواقع تعصّب للدين وليس من العصبيّة المذمومة بشيء.
لا تغضب
أتى المدينة رجل من البادية وذهب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يستنصحه فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تغضب".وعندما رجع إلى قبيلته أُخبر بأنَّ بعض صبيانها سرقوا مالاً من قبيلة أخرى فعوملوا بالمثل، فأسفرت النتيجة باصطفاف القبيلتين للقتال وإشعال نار الحرب، فلمّا سمع الأعرابيُّ بهذا الخبر اضطرمت نار الغضب في داخله، فقام وطلب سرجه والتحق بصف قومه. وبينما هو كذلك إذا بشريط الذكريات يتوالى في ذهنه، فتذكَّر أنَّه ذهب إلى المدينة وطلب من النبيّ أن ينصحه، وكانت نصيحة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم له: "لا تغضب".
ساعتئذٍ ثاب الأعرابيُّ إلى رشده ورجع إليه عقله، ففكّر في نفسه: "فيم الانفعال؟ ما هذا الاستعداد للحرب والقتال؟ وفيمَ الغضب من غير سبب"؟ وإذا بنصيحة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تدعوه إلى نصح زعماء أعدائه فناداهم قائلاً: يا قوم علام هذا النزاع؟ إن كان لكم من جراحة أو قتل أو ضرب ليس فيه أثر، فعليّ في مالي أنا أوفيكموه، فليس هنالك من سبب للقتال وسفك الدماء.
فلمّا سمع زعماء القوم كلامه تحرّكت في نفوسهم الغيرة والشهامة وقالوا: "فما كان فهو لكم، ونحن أولى بذلك منكم" فتصالح الطرفان ورجع الصفّان كلّ إلى قبيلته.(1)
المصادر :
الشهيد العلامة الشيخ مرتضى مطهري، قصص الأبرار، القصّة 13 ص23.